تعدُّد مدارس تاريخ العلم
على الرغم من أن الاهتمام ببحث موضوع المعرفة بعامة، والمعرفة
العلمية بخاصة، باعتبارها ظاهرةً متطورةً تاريخيًّا ليس أمرًا جديدًا،
إلا أن الجديد هو تبايُن وجهات النظر ومناهج البحث، وكذا النشاط
المحموم لدراسة مشكلة تطوُّر المعرفة والظروف الثقافية والاجتماعية
للمعرفة العلمية وإمكانية التفسير الواقعي للمعرفة العلمية وجدوى هذا
التفسير. وزخرَت الأدبيات الفلسفية بآراءٍ شتَّى في محاولة لتحديد عنصر
المعرفة العلمية؛ إذ لا تُوجد فكرةٌ متفقٌ عليها بعامة في مناهج بحث
العلوم عن الوحدات المعيارية للمعرفة. ويُشكِّل هذا الموضوع عقبة
أساسية للمقارنة النقدية بين مختلف مفاهيم مناهج البحث؛ إذ تُصادِفنا
مفاهيم ومصطلحاتٌ عديدة ومتباينة يستخدمها الباحثون للدلالة على وحدات
المعرفة المختلفة؛ النظرية، المفهوم، المخطط، النموذج، البحث، الإطار
الفكري أو النموذج الإرشادي، برنامج البحث، المشكلة العلمية، النظرية
السائدة، مجال المشكلة … إلخ. وقد ظهرَت دراساتٌ تصنيفيةٌ عديدة تُمايز
وتُقارن بين هذه المفاهيم. وتضاعفَت المشكلة تعقيدًا لأن كل مصطلحٍ
مشحونٌ بمحتوًى مغاير لسواه حسب كل باحثٍ على حدة. وعلى نقيضِ ما يمكن
أن نُسمِّيه النظرة الكانطية نجد كل باحثٍ في تاريخ العلم يُحدِّثنا
عمَّا يُسمِّيه الشروط أو الاستعدادات المسبقة، والتي يراها تتغير من
نظريةٍ إلى أخرى أو من تقليدٍ إلى آخر. ويَرونَ أن ما يُمايِز نظريةً
عن أخرى أو تقليدًا عن آخر هو في النهاية مجموع الشروط والاستعدادات
التي تُمثِّل الأساس لها. ويُسمِّي المفكِّرون هذه الاستعدادات والشروط
المسبقة مُسمياتٍ مختلفة؛ يسمِّيها ألكسندر
كويري koyre «الخلفية الفلسفية المؤثِّرة على علوم عصر
بذاته»، ويسمِّيها بالتر paLter
المبادئ الفلسفية التي تُمايز بين النظريات العلمية. ويُسمِّيها
تولمان TouLmin مُثُل النظام
الطبيعي ideals of the natural order
أو النماذج، ويصفها بأنها معايير العقلانية والمعقولية والتي تهيِّئ
لنا أنماطًا أساسية من التوقُّعات نرى العالم من خلالها، حتى إننا لا
ندري على أي نحوٍ يكون شكل العالم بدونها، كما وأنها تُحدِّد لنا
الأسئلة التي سنسألها، كما تعطي معنًى ودلالة للوقائع، بل وتُحدِّد ما
تكون عليه الوقائع بالنسبة لنا. ويرى تولمان أيضًا أن هذه المُثُل
تحدِّد لنا معالم تلك الأحداث التي تجري في العالم حولنا وتستلزم
تفسيرًا منَّا ومقارنتها بالمسار الطبيعي للأحداث؛ أي بالأحداث التي لا
تستلزم تفسيرًا. ويضيف أنْ ليس لنا أن نتأمل في فهم هذه القسمات
الأساسية للعلم عن طريق الشكل المنطقي فحسب، بل يجب أن نفحص وندرُس
محتوى الآراء العلمية المحدَّدة. ويتعيَّن علينا ونحن ندرُس تطوُّر
الأفكار العلمية أن نبحث عن المُثل والنماذج التي يركن إليها الناس لكي
تبدو الطبيعة لهم معقولة ومفهومة. وهي نظرةٌ تُماثل من نواحٍ كثيرة
نظرة توماس كُون التي يعرضها في كتابه «بنية الثورات العلمية».
ويذهب دادلي شابير Dudley shapere
إلى أن النظرة إلى تاريخ العلم قد تغيَّرَت بعد البحث التاريخي الرائد
الذي كتبه بيير دوويم Duheme، وأن نوع
التغيُّر في تاريخ العلم يتمثَّل في أنه لم يعُد مجرَّد عملية تراكُمٍ
معرفي حيث تتألَّف وتتركَّب المعارف في نظرياتٍ أكثر فأكثر شمولًا.
وإنما يرى المؤرِّخون المعاصرون للعلم أن الانتقال من ديناميكا أرسطو
إلى ديناميكا القرن اﻟ «١٧» لم يكن يستلزم اهتمامًا أشد بالوقائع كما
كان يُظهر قدامى المؤرخين، بل استلزم كما قال هربرت بترفيلد H.Butterfield تناوُل نفس حزمة
المعطيات كما كان يحدث سابقًا، ولكن بعد وضعها في نسقٍ جديدٍ من
العلاقات بين بعضها والبعض وإعطائها إطارًا مغايرًا، مما يعني في
النهاية التفكير فيها بصورةٍ مختلفة. ويرى شابير أيضًا أن التحول من
شروطٍ مسبقة سائدة ولها الغلبة إلى شروطٍ واستعداداتٍ مسبقة أخرى هو
محور التغيُّرات في تاريخ العلم، وأن هذه النظرة في رأيه هي الخاصية
الجوهرية المميِّزة للثورة الجديدة في فلسفة العلم. والشروط المسبقة
عنده تعني المبادئ الأساسية التي ينبني على هديها العلم، وهي أكثر
شمولًا من القانون والنظرية.
ويمكن القول إجمالًا إن فلسفة العلم أعادت صياغة نفسها من جديدٍ على
ضوء تاريخ العلم. وتُوجد الآن أربع نظرياتٍ أساسية بشأن عملية التطوُّر
التاريخي للعلم.
(أ) المدرسة الوضعية
تذهب إلى أن التطور التاريخي للعلم هو أحداثٌ متعاقبة لا تخضع
لقاعدةٍ مُطردة يمكن وصفها ولا يمكن أيضًا تفسيرها. وتُعَد جميع
مدارس تاريخ وفلسفة العلم الحديثة جهودًا نافية لهذا الاتجاه.
ويمكن القول إن المدارس الأخرى المعاصرة هي آراءٌ جديدةٌ راديكالية
وتشكِّل تمرُّدًا على النظرة الوضعية بشأن العلم وتطوُّره وبنيته،
بل وأيضًا من حيث تصوُّراتها للطرق الملائمة لحل مشكلات فلسفة
العلم، وبيان ماهية هذه المشكلات ذاتها. والملاحظ أن تراث
التجريبية المنطقية نزع إلى إغفال تاريخ العلم باعتباره غيرَ ذي
صلةٍ بفلسفة العلم، بناءً على الاعتقاد بأنه «لا منطق للاكتشاف»،
وأن عمليات ملاءمة الاكتشاف العلمي والتقدُّم العلمي هي موضوع
دراسة لعلم النفس وعلم الاجتماع وليست عمَل عالِم المنطق. هذا
فضلًا عن أن فلاسفة التجريبية المنطقية اعتادوا النظر إلى تاريخ
العلم باعتباره أساسًا سجلًّا لعمليات إزاحةٍ تدريجيةٍ للخرافة
والهوى وغير ذلك من معوِّقات التقدُّم، ثم إضافاتٍ متزايدة باطراد.
وهذا هو التفسير المألوف لتاريخ العلم، والذي أطلق عليه توماس كُون
مفهوم التطوُّر عن طريق التراكم، بينما يؤكد ﻫ. فيجل H.FeigL وهو من أعلام مدرسة
التحليل المنطقي الوضعية أن فلسفة العلم تستهدف توضيح طبيعة
المعرفة من حيث الشكل المنطقي وتحليل الألفاظ والمصطلحات العلمية؛
أي لغة العلم. ما الذي نعنيه بالدقة حين نقول إن حدثًا ما علةُ
حدثٍ آخر؟ ما هي بنية قانون الطبيعة؟ ما هي طبيعة النظرية العلمية؟
كيف يختلف القانون العلمي عمَّا يُسمَّى بالقوانين الإحصائية التي
يعمل بها علماء الفيزياء والمجتمع … إلخ، وما هو منهج البحث
العلمي؟ ويُنكر فيجل على المدارس الأخرى التي تعترف بتاريخ العلم
حق انتمائها إلى فلسفة العلم. ويقول إن الدراسة الاجتماعية النفسية
للعلم؛ أي دراسة العلم باعتباره نشاطًا وظاهرةً اجتماعية شأنه شأن
أنشطةٍ أخرى، وأثَر نتائج النشاط العلمي على أطوارٍ أخرى للمجتمع،
وأثَر البنية الاجتماعية على المشروع العلمي وعلى اختيار المشكلات
والظروف التي يتمُّ فيها، وهو ما يُسمَّى سوسيولوجيا المعرفة أو
تاريخ الأفكار. كل هذا إنما يُعدُّ نوعًا من الاشتغال بالنشاط
العلمي وليس حديثًا عن هذا النشاط؛ ولذلك فإنه ليس جزءًا من فلسفة
العلم التي هي منطق العلم ومعالجة للشكل المنطقي دون محتوى القضايا
العلمية، والهيكل المنطقي الأمثل لأي نظريةٍ علميةٍ دون
تحديد.
وقد أثيرت اعتراضاتٌ كثيرة ضد نهج المدرسة الوضعية:
- أولًا: حيث إن فلسفة العلم، حسب هذا التصور، لا تعالج
نظرياتٍ علمية بذاتها فإنها تغدو محصنة ضد
تقلُّبات العلم؛ ظهور واندثار نظرياتٍ علمية
محددة؛ ذلك لأن هذه التحولات منصبَّة على محتوى
العلم، بينما فيلسوف العلم مَعنيٌّ بالهيكل أو
البنية التي هي شكلٌ ظاهري، ولا تعنيه نظرياتٌ
محدَّدة، بل الخصائص العامة لأي نظريةٍ ممكنة،
ويعنيه المعنى الإشاري؛ أي معنى كلمة نظرية
ذاتها.
- ثانيًا: إن فيلسوف العلم بهذا المعنى تقتصر مهمته على
تزويدنا بتحليل نهائيٍّ للتعبيرات التي يُحلِّلها،
ويحدِّد لنا سمات كل التفسيرات الممكنة؛ أي إنه
بالأحرى يزوِّدنا بالخصائص الشكلية لكل التفسيرات
الممكنة مستقبلًا.
- ثالثًا: إن التجريبية المنطقية تُحاول حل مشكلات فلسفة
العلم من خلال تطبيق تقنيات المنطق الشكلي
والالتزام بنهجه، وبذلك فقدَت التجريبية المنطقية
كل علاقةٍ وثيقة بالعلم بمعناه الحقيقي في الواقع
النابض بالحياة.
(ب) التعدُّدية والخيارات المفتوحة
التيار الثاني يرى أن عملية التطوُّر التاريخي للعلم تمثِّل
سلسلة من النقلات أو الثورات الكيفية دون رابطةٍ بينها. ومن أهم
أعلام هذا التيار سير كارل ريموند بوبر، وبول فيرابند وإمري
لاكاتوس وغيرهم. ولعل أبرزَهم في هذا المجال وأوضحَهم أثَرًا هو
الفيلسوف البريطاني، والنمساوي المولد، كارل بوبر المولود عام
١٩٠٢م. درَس بوبر في جامعة فيِنَّا، ونشَر أول كتابٍ له، الذي
تُرجم إلى الإنجليزية، في عام ١٩٥٩م، وقد اختار له عنوانًا يُعبِّر
بوضوح عن رفضه لموقف الوضعية وهو «منطق الاكتشاف العلمي». والجدير
بالذكر أن كارل بوبر كان على علاقةٍ وثيقةٍ بكثيرين من فلاسفة
الوضعية المنطقية الأعضاء في حلقة فيِنَّا. إلا أنه اختلف معهم في
أكثر آرائهم خاصةً ما يتعلَّق منها بطبيعة القضية العلمية وإمكانية
التحقُّق منها، وإن كان له نهجه الخاص في ذلك. كما رفض أيضًا نظرية
المعاني التي قال بها الوضعيون. ويؤكِّد أن الفروض العلمية لا
نتوصل إليها عن طريق الاستقراء بل يتمُّ صَوغُها عن طريق خيالٍ
إبداعي. ويختبر الباحث العلمي الفرض العلمي من خلال التماسِ شواهدَ
تُثبِت زيفه، ولكن بعد أكبر قدْرٍ من عمليات الاختبار هذه لا يمكن
اعتبار الفرض أكثر من صادقٍ صدقًا مشروطًا أو مؤقتًا. إن العلم لا
يمكن اعتباره بيانًا احتماليًّا، بل هو على أحسن الفروض مجرد
تخمين. ويؤكِّد بوبر أن كل ما يستطيع أن يفعله العلم هو أن يُثبت
زيف القضايا؛ لذلك فإن البحث عن الحقيقة العلمية قوامه الإلغاء
التدريجي للخطأ، ولكن دون أملٍ في الوصول إلى معرفةٍ صادقة صدقًا
مطلقًا لا تقبل التحدي.
لا ينكر بوبر أن العلماء يضعون قوانينَ عامة، ولا أنهم يختبرون
هذه القوانين في ضوء معطيات المشاهدة، ولكن ما يقوله هو أن الباحث
العلمي حين «يعزِّز» en force
قانونًا عامًّا، فإنه بذلك لا يؤكد أن القانون صادقٌ ولا حتى
محتمل. إن عبارة «لقد عزَّزتُ هذا القانون لدرجةٍ عالية» تعني فقط:
لقد أخضعتُ هذا القانون لمحكَّاتٍ أو اختباراتٍ قاسيةٍ وصمد
أمامها. إن قوانين العلم قابلةٌ لإثبات زيفها وليست قابلةً لإثبات
صدقها falsi fiable not
verifiable.
والمعرفة العلمية عند بوبر هي مشروعٌ يعبِّر عن رغبة في الاقتراب
من الحقيقة، وهي لا تتولَّد ولا تنشأ في فراغٍ. يقول كارل بوبر:
«أعتقد أنه لا يُوجد ما يُسمَّى تعليمات من خارج البنية أو التلقي
السلبي لفيض المعلومات التي تطبع نفسها على حواسِّنا؛ فكل
المشاهدات موسومة بميسم النظرية. وإذا كان فرنسيس بيكون قد استشعر
قلقًا شديدًا إزاء واقع أن نظرياتنا قد تضر مشاهداتنا وتدفعها إلى
التحيُّز. وأفضى به هذا إلى دعوة العلماء إلى ضرورة تجنُّب
التحيُّز والهوى عن طريق تنقية عقولهم من جميع النظريات والأحكام
السابقة … إلا أنه لكي نبلُغ الموضوعية لا يمكن أن نركن إلى عقلٍ
فارغ؛ فالموضوعية ترتكز على النقد وعلى المناقشة النقدية، والدراسة
النقدية للتجارب … إن النظريات شأنها شأن أعضاء الحس.»
١
ويرى بوبر أن المعرفة العلمية تتخذ صورة نظرية لوصف الكون ونظامه
وتناسُقه وقوانينه. والمعرفة النظرية هي فرضٌ مثمر تحدو إليه
الرغبة الصادقة في اكتساب الحقيقة، ولكن المعرفة النظرية لا يمكن
تحقيقها أو القطع بصحتها على الرغم من إخضاعها للاختبارات الدقيقة
المتعدِّدة، بيد أنها وصفٌ خياليٌّ لشيءٍ حقيقي؛ لأنه متى كشف
الباحث عن زيف النظرية كان ذلك دليلًا على أنه لمس جانب
الحقيقة.
ومن خصائص منطق الكشف العلمي أنه يسمح بوجود عدة نظرياتٍ متنافسة
في وقتٍ واحد مع التوقُّف في الحكم عليها، وهو الأمر الذي يزداد
سهولةً مع وجود لغةٍ مُحايدة للملاحظة. وحيث إن النظريات قابلةٌ
للتفنيد فقط ولا يمكن إثبات صحتها قط؛ لذا أمكن وجود كثيرٍ من
النظريات أو الفروض الظنية، وهذا بالضبط هو الذي يُفسر لنا إمكان
التقدُّم العلمي في رأي بوبر.
والمعرفة ليست معصومة من الخطأ بأي حالٍ من الأحوال، سواء أكانت
مُستمدة من الحواس أم من العقل. وقد تكون التجربة حافزًا على
الأحكام النقدية التي تقع في نطاق المعرفة النظرية، ولكن لا يمكن
القول إطلاقًا بأن هذه الأحكام مُستنبطة من التجربة الحسيَّة وأن
ترشيح فرضٍ معيَّن لوظيفة النظرية العلمية لا يمليه العقل المحض،
وإنما يُمليه قرارٌ عشوائي مبني على الاعتقاد أو الأمل؛ لهذا فإن
المعرفة النظرية ذات صبغةٍ مؤقتةٍ دائمًا إلى أن يتم تقييدها أو
إثبات زيفها، وهي تنمو وتتطوَّر من خلال النقد الصارم للنظريات
المتنافسة وتعريضها باستمرارٍ للاختبارات والمحكَّات
الحاسمة.
ولكي تكون النظرية الجديدة اكتشافًا أو خطوة إلى الأمام يتعيَّن
أن تُصارِع سابقتها، أو أن تُفضي على الأقل إلى قدْرٍ من النتائج
المُتصارعة، ولكن هذا يعني منطقيًّا أن تُناقض سابقتها؛ أي أن
تُطيح بها. وبهذا المعنى يكون التقدُّم ثوريًّا. ومع تعدُّد
النظريات واطراد الصراع والتناقُض يظل العلم في حالة ثورةٍ دائمةٍ
على عكس ما ذهب إليه توماس كُون من أن العلم في حالة ثباتٍ
واستقرارٍ تفضي إلى ثورة ثم ثبات واستقرار وهكذا. وإذا كان
التقدُّم في العلم ثوريًّا وليس تراكميًّا إلا أنه بمعنًى من
المعاني محافظًا؛ فأي نظريةٍ جديدةٍ مهما كانت ثوريةً، لا بد وأن
تكون قادرةً على أن تفسِّر بالكامل نجاح سابقتها، وأن تُقدِّم
نتائجَ أفضل منها. ويتفق توماس كُون مع بوبر في ذلك؛ إذ يرى أن
النموذج الإرشادي القديم ممثَّل في العلماء المؤمنين به، ولا
يستسلم في سهولة ويُسر للنموذج الإرشادي الجديد، بل يدور الصراع
بينهما. وهو صراع تغذِّيه مشكلات العلم الملحَّة والمطروحة على
بساط البحث، إلى أن يتم انتصارُ الجديد بفضل رؤيةٍ جديدةٍ تحسم
الكثير من المشكلات المسبِّبة للأزمة، لتنساب حركة العلم يسيرةً
عادية بعد ذلك، ولكن توماس كُون يعزف عن وصف هذه الحركة بالتقدُّم.
أما كارل بوبر فيرى أن تاريخ العلم تاريخ حركةٍ متقدمة باطراد،
ويقول إن العلم فيما يبدو هو المجال الوحيد في سلوك الإنسان الذي
يمكن أن نصفه بذلك. ولكن معنى هذا أن لدينا معيارًا ما للحكم على
نوع أي نظريةٍ بالقياس إلى سابقتها وهو معيار للتقدُّم. ومعنى هذا
أيضًا أن التقدُّم في العلم يمكن تقييمه عقلانيًّا؛ فالثورات
العلمية عقلانية؛ بمعنى أن من الممكن تقرير أمرها من حيث المبدأ
وتحديد ما إذا كانت أي نظريةٍ جديدةٍ أفضل من سابقتها أم لا. وهذا
هو ما أنكره بعض النقاد على توماس كُون.
وإذا كان تعدُّد النظريات وتصارعُها شرطًا لحركة العلم
المتقدِّمة، فإن كارل بوبر يُحدِّد بُعدًا اجتماعيًّا آخر؛ إذ
يوضِّح أن من بين العقبات الأساسية التي تعوق تقدُّم العلم عقباتٍ
ذات طبيعةٍ اجتماعية. ويرى أن بالإمكان تقسيمَها إلى مجموعتَين؛
(أ) عقبات اقتصادية، (ب) عقبات أيديولوجية. ويقول إننا نجد على
الجانب الاقتصادي الفقر والوفرة المترفة؛ إذ كلاهما عقبة في سبيل
تقدُّم العلم وكلاهما خطر على روح العلم. وأشهر العقبات
الأيديولوجية التي تعوق تقدُّم العلم هي التعصُّب أو عدم التسامُح
الأيديولوجي والدين الذي يقترن عادة بالتزمُّت «الأيديولوجي»
والافتقار إلى الخيال. إلا أن قدْرًا قليلًا ومحدودًا من
الدجماطيقية أو المحافظة ضروري للتقدم؛ إذ بدون نضالٍ جادٍّ من أجل
البقاء من جانب النظريات القديمة للدفاع عن نفسها بعنادٍ لن تكشف
أي نظريةٍ جديدةٍ عن معدنها؛ أي قُدرتها على التفسير، وعن محتواها
من الصدق، ولكن الدجماطيقية المتعصِّبة هي إحدى العقبات في سبيل
تقدُّم العلم. ولا يكفي، في رأي بوبر، الاحتفاظ بالنظريات البديلة
على قيد الحياة، بل يساورنا القلق العميق حين لا نجد بدائل مطروحة
أمامنا وقتما تسود نظريةٌ ما، وتكون لها الهيمنة وحدها دون سواها؛
فالخطر الذي يتهدد التقدم العلمي يستفحل إذا ما كان لإحدى النظريات
وضع الاحتكار.
وإذا كانت السمة الأولى المميزة لهذا التيار هي التمرُّد ضد
الجمود وضد التحجُّر في قالب الماضي، والإيمان بالحركة انطلاقًا من
التعدُّدية وفي ظلها لأنها الأمان والضمان؛ فإننا نجد هذه السمة
أكثر وضوحًا عند فيرابند الذي يؤكِّد أن تعدُّد النظريات يفتح
الباب أمام انتشار وازدهار النظريات المتعارضة تعبيرًا عن ثراء
وغنى البحث العلمي في كل العصور، وأن الفوضوية هي أفضل دواء
للإبستمولوجيا ولفلسفة العلم. ويقول في هذا الصدد: «إن تاريخ العلم
في نهاية المطاف لا يتألَّف فحسب من وقائع ونتائجَ مستخلصةٍ من
وقائعَ سابقة، وإنما يشتمل أيضًا على أفكار وتأويلات للوقائع،
ومشكلاتٍ ناجمة عن تأويلاتٍ متناقضة، وأخطاء وما إلى ذلك.» ويبيِّن
من التحليل الدقيق أن العلم لا يعرف «حقائق مجردة» بل إن «الحقائق»
إذ تدخل معرفتنا إنما ننظر إليها على نحوٍ خاص؛ ومن ثَم فهي
بالضرورة فكرية؛ أي مصبوغة بأفكار لدينا ideational أما والحال كذلك فإن تاريخ العلم يصبح
مُركَّبًا عمائيًّا زاخرًا بالأخطاء، وممتعًا بقَدْر ما فيه من
أفكار، وهذه الأفكار بدَورها ستكون مركَّبة وعمائية ومليئة
بالأخطاء وممتعة شأن العقول التي أبدعَتها. وعلى النقيض فإن قليلًا
من غسيل المخ يقطع شوطًا كبيرًا في سبيل جعل تاريخ العلم أكثر
فجاجةً وبساطةً واتسامًا وكذلك أكثر موضوعية، وأيسر للتحكُّم فيه
ومعالجته على ضوء قواعدَ ثابتةٍ صارمة لا تتغير. وهذا ما يفعله
«تعليم العلم» في المدارس كما نعرفه اليوم. إنه يُبسِّط العلم عن
طريق تبسيط المشاركين فيه. وإننا بذلك نفضِّل مجال البحث عن بقية
التاريخ. وحريٌّ بنا هنا أن نذكُر ما قاله توماس كُون في معرض
انتقاده لأسلوب تدريس العلوم الطبيعية في المدارس الذي يُقولِب
أفكار التلاميذ ويُلزِمها بأطرٍ فكريةٍ مرسومة وتقليدية.
إن بالإمكان أن نُبدع تراثًا أو تقليدًا تحكُم بناءه قواعدُ
جامدة ويكون ناجحًا إلى حدٍّ ما. ولكن السؤال هل من المُستصوَب أن
ندعَم مثل هذا التقليد إلى حد استبعاد كل ما سواه؟ يتعيَّن أن
تجعله صاحب الحق الأوحد والوحيد في معالجة المعارف، بحيث إن أي
نتيجة تصل إليها عن طريق منهجٍ آخر نستبعدها تمامًا؟ ويقول فيرابند
ردًّا على هذا السؤال: إجابتي أنْ لا. ويضيف: وعندي سببان لهذه الإجابة:
- أولًا: أن العالم الذي نلتمس اكتشافه كينونةٌ عظيمة
مجهولة لنا؛ لذا يتعيَّن أن ندع خياراتنا مفتوحة
وألا نقيِّد أنفسنا مقدَّمًا.
- ثانيًا: أن التعليم العلمي كما يُمارَس في مدارسنا لا
يمكن التوفيق بينه وبين الموقف الإنساني. إنه
يتعارض مع غرس الفردية التي تستطيع وحدها أن
تُنتِج بشرًا متطورين. إنه يفعل ما يفعله الحذاء
الصيني بقوة الضغط ويقمع كل جزءٍ من الطبيعة
البشرية يحاول البروز … عندي أن الفوضوية تساعدنا
على إنجاز تقدُّم بأي معنًى من المعاني التي
نراها.
وها هنا جعل فيرابند بناء النظرية أمرًا حرًّا طليقًا تمامًا،
على عكس ما يشترطه مبدأ ثبات واتساق النظريات عند أصحاب النزعة
التجريبية، ورفض كذلك مبدأ ثبات المعنى، وقرَّر أن أي معنًى لأي
مصطلحٍ رهنٌ بالسياق النظري الذي يظهر فيه؛ فالكلمات لا تعني شيئًا
له وجوده المستقل، إنما تستمدُّ معناها بكونها جزءًا من نسقٍ نظري.
وبذلك جرَّد قضايا المشاهدة من أي معنًى مستقلٍّ عن الظاهرة،
وجرَّدها أيضًا من أي سلطةٍ للحكم على النظريات، وإنما يجب أن
نُفسِّرها من خلال قراءة المعنى المتضمَّن فيها؛ ومن ثَم نقرأ
النظرية فيها. ولنا الحرية في أن نفسِّرها حسب إرادتنا باعتبارها
غير ذات صلة بالشواهد أو أنها تدعمها، ولكن الجدير بالذكر أنه حين
أعطى التفسير سلطةً غير محدودةٍ وإمكانياتٍ غير محدودة فإنه بذلك
دمَّر، كما يقول دادلي شابير، إمكانية المقارنة بين النظريات على
أساس الرجوع إلى الخبرة والحكم عليها في ضوء الخبرة. وكذلك حين
قرَّر أن المعاني جميعها تختلف باختلاف السياق النظري، ولا سبيل
إلى قياسها ببعضها البعض، فإنه حطَّم كل إمكانية للمقارنة بينها
على أي أساسٍ آخر. وهو هنا يشبه توماس كُون في حديثه عن اللاقياسية
وانقطاع سُبل الترجمة أو الحوار بين أنصار كل نموذجٍ
إرشادي.
ويرى فيرابند أن كل قضيةٍ معرفيةٍ أو نظرية هي بنية لها كيانها
التاريخي المتميز، وأن هذا التمايز التاريخي البنيوي يجعل من
المستحيل المقارنة بينها وبين بعضها البعض؛ إذ يقول: إن الميل
السائد في المناقشات المنهجية أن نتناول مشكلات المعرفة وكأنها
أنواعٌ خالدة؛ فنحن نقارن القضايا ببعضها البعض دون اعتبار
لتاريخها وإلى احتمال أنها قد تنتمي إلى شرائحَ تاريخيةٍ مختلفة …
ونعتبرها كياناتٍ لا زمانية مستقلة عن الأحداث التي أنتجتها … وهذا
النهج يُغفِل أن العلم عمليةٌ تاريخية مركَّبة وغير متجانسة … إن
المادة التي بين يدَي العالم؛ قوانينه ونتائج تجاربه وتقنياته
الرياضية وأهواءه وانحيازاته المعرفية وموقفه إزاء النتائج الباطلة
للنظريات التي يقبلها، جميعها غير نهائيةٍ وغامضة ولا تنفصل أبدًا
عن الخلفية التاريخية. وإن لغة المشاهدة قد ترتبط بجوانبَ قديمة من
التأمُّل الفلسفي التي تؤثِّر على أحدث مناهج البحث. والخطوة
الأولى في نقدنا للمفاهيم الشائعة هي ابتداع معيارٍ أو مقياسٍ
للنقد، شيء ما نقارن به بين هذه المفاهيم … الخطوة الأولى في نقدنا
هي أن نقف خارج الدائرة.
(ﺟ) التطوُّر التراكمي
التيار الثالث وهو على نقيض هذا الرأي الذي عرضنا له نموذجَين في
ب. ويذهب أصحابه إلى القول باتصال المعرفة العلمية واستمراريتها في
صورة تطوُّرٍ تراكمي. وهو أكثر الآراء شيوعًا بين مؤرخي العلم
والعلماء. ويمكن القول إن هذا التيَّار هو الجذر أو البذرة الأولى
لتاريخ العلم الحديث الذي بدأ مع ثلاثينيات القرن الماضي على يد
وليام وهويل Whewell (١٧٩٤–١٨٦٦م)
الذي ألَّف سفرًا ضخمًا يضم عدة مجلداتٍ بعنوان «تاريخ العلوم
الاستقرائية وفلسفة العلوم الاستقرائية». ثم هناك جورج ساراتون saraton الذي أصدر مجلةً
متخصصةً في تاريخ وفلسفة العلم أسماها «إيزيس» صدرت عام ١٩١٣م،
وأصبحت لسان حال جمعية تاريخ العلم عام ١٩٢٤م. وهناك بعد ذلك
بيير موريس دوويم Duheme
(١٩٦١–١٩١٦م) عالم الفيزياء الفرنسي والفيلسوف ومؤرخ العلم. وله
بحثان رائدان في مجال تاريخ العلم عنوانهما «ليونار دافنشي» و«نظام
العالم» صدرا في مطلع هذا القرن، ويعارض فيهما رأي المدرسة الوضعية
المنطقية؛ إذ يؤكِّد أن النظرية العلمية لا تفسِّر فقط بل تربط
وتصف القوانين التجريبية، وأن العلم عمليةٌ متصلة من خلال التراكُم
البطيء للقوانين التجريبية وتطوُّر النظرية.
وهناك أيضًا فرنر هيزنبرج (١٨٠١–١٩٧٩م) الذي يرى تطوُّر العلم
بمثابة تتابع لاكتشافاتٍ بارعةٍ يمكن للعقل أن يكتشف روابطها، وأن
تقدُّم العلم أو تقدُّم المعارف العلمية إنما يتمُّ على حساب
صياغاتٍ سابقة كان لها شأنها العظيم، وأُبدلَت بصياغاتٍ أخرى جديدة
تنطوي على زيادة في المعرفة والفهم بمعنى أن تطوُّر العلم هو
تطوُّر للمفاهيم بفضل زيادة مجال الإدراك وإزاحة الجديد للقديم.
ورأى هيزنبرج أن العلوم إذا نظرنا إليها تاريخيًّا سوف تُفيد
كثيرًا لدفع حركة التطوُّر العلمي. وتضمَّن رأيه اعتقادًا بأن
العلم يتقدَّم من خلال قفزاتٍ أو طفرات في إطار الفكر؛ إذ يقول في
كتابه المشكلات الفلسفية المشار إليه: «إن التقدُّم من الأجزاء
التي اكتملَت إلى تلك التي اكتُشفَت حديثًا أو سيتمُّ بناؤها
حديثًا، يستلزم في كل مرة قفزةً فكرية لا يمكن أن تتحقق من خلال
النمو البسيط للمعارف القائمة بالفعل.»
(د) من التقليد إلى الثورة
وتضمُّ هذه المدرسة تياراتٍ متباينةً ولكنها تتفق جميعها بشأن
فكرةٍ أساسية، وهي أن التطوُّر التاريخي للعلم يسير في تطورٍ
تدريجيٍّ يفضي إلى قفزةٍ كيفية لتكون منطلقًا لمرحلة تراكمٍ كمي
جديدة. ويعنينا هنا الإشارة إلى مدرسة لها نهجٌ متميز، اتخذَت
لمبحثها في مجال فلسفة وتاريخ العلم عنوانًا خاصًّا مُعبِّرًا وهو
«علم العلم»، ولكن قبل أن نتحدَّث عنها نرى ضروريًّا الإشارة إلى
إمام وعمدة تاريخ العلم في العصر الحديث، لجهده المتميِّز وأثَره
العميق الممتد حتى الآن، ونعني به فيلسوف تاريخ العلم الفرنسي
جاستون باشلار BacheLard
(١٨٨٤–١٩٦٢م).
أدرك باشلار طبيعة أزمة الوضعية الجديدة والنزعة الشكلية
المنطقية؛ ومن ثَم حاول استحداث فلسفةٍ جديدةٍ تتسق مع «الروح
العلمي الجديد»؛ أي روح العلم غير الكلاسي، وسمَّى مذهبه الجديد
«العقلانية التطبيقية» و«العقلانية الجدلية» و«العقلانية التقنية».
وتتميز مؤلفاته بقيمتها الكبيرة في تحليل العلم الحديث ودوره في
المجتمع. وقد طُبعَت كتبه أكثر من ثلاثين طبعةً ولا تزال يُعاد
طبعها حتى الآن. ويرى باشلار أن الروح العلمي الجديد نشأ مع ميلاد
الثورتَين العلميتَين الحديثتَين وهما نسبية أينشتين وميكانيكا
الكم عند ماكس بلانك.
رفض جاستون باشلار ما ذهبَت إليه الوضعية ابتداءً من أوجست كُونت
ورأيه عن المراحل الثلاث للتطوُّر، وهو الرأي الذي حاول به كُونت
تفسير تاريخ نُشوء وتطوُّر المعرفة. وبنى رفضه على أساس أن الخاصية
الأساسية لمذهب كُونت هي الاستمرارية، بينما تاريخ العلوم في رأيه
يتطوَّر وفقًا لخاصية الاستمرارية، علاوةً على أنه يخضع كذلك لمبدأ
الانقطاع أو الانفصال coupure بين
المراحل المختلفة التي يمرُّ بها العلم في تطوُّره، وأن العقل
العلمي يرقى ويتطوَّر عَبْر هذه المراحل؛ ولهذا انتقد باشلار الرأي
القائل بأن تاريخ الفكر بشكلٍ عام، وتاريخ العلم بشكلٍ خاص يتسم
بالاستمرارية؛ إذ إن هذا يعني أن العقل يظل هو ذاته عَبْر كل مراحل
تطوُّره؛ ومن ثَم يصبح التاريخ تكرارًا عقيمًا. ويضع باشلار
مفهومَين أساسيَّين يُفسِّر بهما نشأة المعرفة العلمية وتطوُّرها
وهما مفهوم «القطيعة المعرفية» ومفهوم «العقبة المعرفية». ويكوِّن
المفهومان معًا جدل تاريخ العلم عند باشلار. ويُعنى بالعقبة
المعرفية والمكبوتات الفعَّالة ويُناظِر بينها وبين اللاشعور عند
فرويد الذي يؤثِّر في سلوك الإنسان وفي اختيارات وتوجُّهات
الباحث.
وذهب باشلار إلى أن تاريخ المعرفة العلمية يتقدَّم من خلال
التغلُّب على العقبات. مثل الجهل والأخطاء، وهي عقباتٌ تزيد من
غموض المشكلات التي يسعى العقل جاهدًا إلى التغلُّب عليها.