علم العلم
- الأول: ما أسلفنا الحديث عنه فيما يختصُّ بأزمة العلم وما ترتَّب عليها من مشكلاتٍ فلسفية، ثم إنجازات العلوم المختلفة التي أسهمَت في إعادة صوغ وتفسير العديد من المفاهيم، وغيَّرَت من صورة العالم تغييرًا جذريًّا فتجاوزنا عالمنا الأرضي إلى العالم الأصغر والعالم الأكبر.
- والثاني: منطلقٌ اجتماعيٌّ ويختص بدور العلم واتساع سلطانه اجتماعيًّا مما فرض على الإنسان بعامة، والعلماء باعتبارهم أبناء مجتمعاتٍ لها رسالتها وطموحاتها، قضايا من نوعٍ جديدٍ تاريخيًّا يلزم وضع إجابة بشأنها. وأفضى هذا إلى النظر إلى قضية تاريخ وفلسفة العلم من زاويةٍ أخرى وتناولها وفق نهجٍ جديدٍ له خصائصُ مميزة؛ لهذا يتعيَّن أن نعتبر المنطلق التالي الذي سنتحدَّث عنه إضافةً وتكملة لما سبق وليس بديلًا.
لقد تزايد نفوذ العلم ابتداءً من العقد الرابع للقرن الحالي باطِّراد حتى أصبح قوةً إنتاجية تؤثِّر على جميع جوانب الحياة الاجتماعية المعاصرة، كما تزايد أثَر الثورة العلمية التكنولوجية على العمليات الاجتماعية، وهو ما نراه واضحًا في سرعة استخدام الاكتشافات العلمية في مجال الإنتاج، وضيق المسافة إلى حدٍّ قريبٍ من التلاحُم بين الاكتشاف والتطبيق مما يؤثِّر على ظروف معيشة الناس وتكوينهم النفسي، فضلًا عن أن الصراع بين النظم الاجتماعية بات رهنًا بمعدلات تطوُّر العلم والتكنولوجيا وفعالية استخدام إنجازاتها. وإحدى المسلَّمات الآن أن أقدَر النظم على الحياة هي أقدرُها على الإفادة بفرص التنظيم العلمي للمجتمع، وأقدرُها على استيعاب وفهم الروابط بين الدراسة الأساسية والتطبيقية وتطوُّراتها من ناحية، وشروط ضمان أعلى معدلاتٍ في الإنجاز التقني؛ أي البحوث العلمية والتطبيقية والإنتاج.
ومع التسليم بأن العلم أصبح قوةً حافزةً للحضارة في أعلى سلطانها الفكري والاقتصادي والسياسي، وبأن العلم والتكنولوجيا يُغيِّران بقوةٍ كل شيءٍ في العالم، ويغيِّران قواعد التوازن بين القوى، بل غيَّرا، ويغيِّران من النظرة الفكرية العامة لجميع الناس، أقول مع التسليم بهذا نما نشاط زائدٌ ومحموم من أجل التحليل. تُرى هل من سبيل نُخضع به العلم للتحليل؟ هل من سبيل لحل العديد من المشكلات المعقَّدة والمتباينة الصيغ المتعلِّقة ببنية العلم وطابع النشاط العلمي؟ إن عدد العلماء يتضاعف في البلدان الصناعية كل عشر سنوات أو أقل، ومن المتوقع مع مطلع القرن الواحد والعشرين أن يغدو العلم هو المزاج السائد والقوة الحاكمة المهيمنة، وبات مؤكدًا أن سبيل الخلاص وحل المشكلات هو المزيد من فاعلية البحوث العلمية وسرعة تطبيق نتائجها مما يستلزم مستوًى أعلى في تدريب الناس، وصيغًا اجتماعية أفضل في تنظيم النشاط العلمي، بما في ذلك نظام المعلومات العلمية. ومرةً أخرى هل من سبيل إلى فهم هذا المارد؛ تاريخه والأسس الحاكمة لحركته المتطوِّرة، والتحكُّم في مساره. كيف يُحكِم الإنسان قبضته على مسيرة العلم تخطيطًا وتوجيهًا ضمانًا لصواب وسداد تطوُّره، وأن يُصبِح العلم نشاطًا اجتماعيًّا إبداعيًّا واعيًا بذاته. ولن يتأتَّى ذلك إلا بتوفُّر قدرة على التنبؤ بحركة العلم وتوجُّهاته مستقبلًا، وفهم مراحل أطوار نموه. بيد أن هذا التنبؤ لا بد وأن يقوم على أساس معاييرَ موضوعيةٍ تنتفي معها أي أحكامٍ أو نظراتٍ تعسُّفية أو جوانبَ ذاتية؛ ولكي يكون المعيار موضوعيًّا يلزم استكشاف القوانين الحاكمة لتطور ومسار أي عمليةٍ بذاتها، فضلًا عن الإفادة بهذه القوانين في التطبيق العملي.
من هنا برزَت أهمية فهم قوانينِ تطوُّر العلم كعمليةٍ تاريخية ممتدة من زاويتَين؛ زاوية معرفية فلسفية، وزاوية التوجيه العملي لمسار العلم (اتجاهه والتخطيط له وتنظيمه).
وواقع الأمر أن جون برنال لم يكن أول من أدرك أهمية ودلالة الوظيفة الاجتماعية للعلم، ولا أول من عُني بجمع بياناتٍ إحصائية عن العلم؛ فهذا أمرٌ حاولَته من قَبله هيئاتٌ رسمية منذ القرن اﻟ «١٧» لمعرفة موارد وسبل الإنفاق المالي في مجال العلم على سبيل المثال. كما صَدرَت كتبٌ عامة متباعدة منذ عصر التنوير عُنيَت بسياسة البحث العلمي بأقلام فلاسفةٍ وعلماءَ مؤمنين بدَور العلم في سبيل نهضة الأمم نذكُر منها:
-
(١)
كتاب بيكون «أطلانطا الجديدة» عام ١٦٢٧م.
-
(٢)
سبرات، «تاريخ الجمعية الملكية» عام ١٦٦٧م.
-
(٣)
سويفت، «رحلة إلى لابوتا» عام ١٧٢٥م.
-
(٤)
باباج «عن انهيار العلم في إنجلترا» عام ١٨٣١م.
ولم يأتِ انعقاد هذا المؤتمر من فراغ، بل جاء استجابةً لرغبة أكَّدها أعلام هذه الحقبة من العلماء أمثال أينشتين ومندلييف وماكس بلانك وغيرهم، إذ أكَّدوا على الحاجة إلى مبحثٍ علميٍّ خاص يُعنى بدراسة مظاهر اطراد تطوُّر المعرفة العلمية. وأبدَوا اهتمامًا كبيرًا بمنطق العلم وتنظيمه وارتباطه بالمجتمع. وأشاروا إلى أهمية معرفة الجهاز العقلي الذي يتم عن طريقه تحصيل المعرفة العلمية عن هذا العالم. وكان واضحًا أن القوانين العامة الكليَّة لنشاط الإنسان المعرفي لا تكفي وحدها للكشف عن الآليات النوعية الأصيلة في البحث، باعتباره صورةً خاصة للعمل، وأن تسجيل هذه الآليات وتحليلها يستلزم وسائلَ خاصة.
ما هو إذن علم العلم؟ هو جماع مباحثَ وفروعٍ علميةٍ متداخلة تربط بينها وحدة موضوع الدراسة وهدف البحث. مثلما أن البيولوجيا تجمع بين فسيولوجيا النبات والميكروبيولوجيا وفسيولوجيا الحيوان والإيكولوجيا … إلخ. مع احتفاظ كل علم باستقلاله. وعلم العلم ليس مجرد تجميعٍ بسيط لهذه الأفرع، وليس توليفة من المعارف الخاصة بالجوانب المعرفية المنطقية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والتنظيمية البنيوية لتطوُّر العلم، بل إنه علمٌ يدرُس التفاعل بين عناصرَ متباينة، وهو تفاعلٌ يحدِّد تطوُّر العلم كنسقٍ خاصٍّ له قوانينُ خاصة تنظِّم الأداء الوظيفي للعلم وتطوُّره، وتنظِّم بنية وديناميات المعرفة العلمية والنشاط العلمي، وتفاعل العلم مع المؤسسات الاجتماعية الأخرى ومع الحياة المادية والفكرية للمجتمع، معنى هذا أن استخلاص القانون العام لاطِّراد تطوُّر العلم يستلزم دراسةً ذات بُعدَين طولية وعرضية، أو زمانية ومكانية تجمع بين التاريخ وشروط الواقع الراهن لفترة الدراسة؛ ومن ثَم يذهب أصحاب هذه المدرسة إلى أن اتجاه مسار العلم في بلدٍ ما وزمانٍ ما رهنٌ بمظاهر الانتظام الباطنية للعلم، ورهنٌ كذلك بعواملَ اقتصاديةٍ واجتماعية وأيديولوجية وغيرها. ويرون أيضًا ضرورة التركيز على جهد الباحث العلمي وميكانيزم الإبداع والعلاقة المشتركة بين ظاهرة الحدَس وبين العوامل المنطقية المنفصلة في عملية اكتشاف حقائقَ جديدة. وأن نسأل كيف يتم الاكتشاف؟ وما هو منطق وسيكولوجيا الاكتشاف؟ وكيف يتفاعل الوعي واللاوعي في نشاط الباحث العلمي؟
وتعنينا هنا الإشارة إلى مسألة الحافز والإبداع لاتصالها الوثيق بنظرية توماس كُون، التي تُماثِل بين الحافز إلى البحث العلمي وبين حافز حل الألغاز. وبالفعل تحظى مشكلة الإبداع باهتمامٍ كبيرٍ لتفسيرها. وتجري دراستها باعتبارها مشكلةً تستلزم الربط بين مفاهيم ومناهجِ علومٍ مختلفة مثل المنطق وعلم النفس والسيبرناطيقا وعلم الاجتماع والتاريخ. كما يُبدي أصحاب هذه المدرسة اهتمامًا يتناول النشاط المعرفي للفرد والحافز والمشروطية التاريخية للقدرة وغير ذلك مما ييسِّر إجراءَ دراسةٍ موضوعيةٍ للعوامل النفسية للنشاط العلمي وآليات الاكتشاف ومصادر الخطأ والزيف … إلخ، وفي أي مجال يعمل العالم بكفاءةٍ أكبر، وما هي ضمانات نجاح النشاط العلمي. وأشارت دراساتٌ عديدة لأصحاب هذا التيار إلى أن الحافز القوي من أهم السمات المشتركة بين العلماء المبدعين، ومن أهم هذه الحوافز الرغبة في إنجاز نجاحٍ فكريٍّ وأداء بحثٍ خلَّاق، والتصدي لمشكلاتٍ تحمل طابع التحدي والمخاطرة، وأن إعاقة الحركة الحرة لفكر العلماء تصيب قدرة الإبداع بالشلل، وتصيب العقل بالجدب والعقم، أو لا ينتج إلا إنتاجًا نمطيًّا. والمُلاحَظ أن العلماء إذا ما خضعوا لسلطانٍ غير سلطان حرية الفكر فإن جهدهم الفكري يتجه نحو مهامَّ خارجةٍ وغريبةٍ عن الاهتمامات المعرفية، مع رغبة في تجنُّب المخاطرة؛ ولهذا يؤكد أصحاب هذه المدرسة على ضرورة توافر مناخ الاختيار الحر للباحث كي يبدع، وأن أفضل حافزٍ ينبع عندما يكون قرار العالم نابعًا من داخله؛ ذلك لأن الاعتماد على النفس هو جوهر الإبداع.
إن فكرةً جليلةً عظيمة القَدْر قد لا تُشكِّل حافزًا للبحث العلمي؛ إذ لكي تملك قوة حفزٍ فلا بد من توافُر ودعم شروطٍ خاصة بتكوين المعرفة العلمية وطبيعتها والمناخ الاجتماعي والتطوُّر الشخصي للباحث العلمي. وهو ما يعني أن نفهم الإبداع العلمي في ضوء إحداثيات ما هو شخصي وما هو اجتماعي وما هو منطقي (منطق الفكر العلمي)؛ حيث إن العلم له منطق تطوُّرٍ خاص يستحيل أن نفسِّر خارجه التحوُّلات الفكرية التي تجري في ذهن الباحث العلمي والتحوُّلات التي تطرأ على حوافز إبداعه.
وقد يكون الحافز منفصلًا عن العملية الفكرية ويبدو وكأنه تكوينٌ غريبٌ ليس من جنس العمليات الفكرية؛ ولهذا يُمايز بعض الباحثين هنا بين الحافز الباطني والحافز الخارجي. وتعني كلمة خارجي هنا الحافز الذي لا ينبع أساسًا من داخل الذات ومن داخل السياق التاريخي للنشاط العلمي، أو من متطلبات منطق تطوُّره؛ أي ليس واردًا ضمن إطار عملية التطور العلمي؛ فالطموح مثلًا، وحسب هذا التفسير، هو حافزٌ خارجي على الرغم من أنه حافزٌ ذاتي؛ وذلك لأنه يُحفز جهدًا علميًّا يستهدف تحقيق إنجازاتٍ ليست واردةً ضمن إطار عملية التقدُّم العلمي؛ فها هنا يتحدد مفهوم داخلي وخارجي في ضوء علاقة الحفز الفردي بالنسبة لما يفرضه العلم كنسقٍ يتحرك طبقًا لقوانينه الخاصة؛ أي خارجي وداخلي بالنسبة إلى نسق العلم.
ومن الأهمية بمكانٍ هنا دراسة سِيَر حياة العلماء وبحث الحوافز الموضوعية التي حفَّزَت الباحث إلى الاضطلاع بمشكلةٍ بذاتها واعتبارها القضية الرئيسية. وقد يساعد هذا النهج على كشف ميكانيزم التفاعل بين الحاجة الاجتماعية الناجمة عن تطورٍ اجتماعيٍّ وبين وعي العالم الذي يستجيب لتلك الحاجة بوسيلةٍ أو بأخرى؛ ذلك أن العلم لا يمكن أن يوجد خارج الناس أو بدونهم، وتطوُّر العلم هو تقدُّم صوب الحقيقة، ليس عَبْر تفكيرٍ علميٍّ مجرد على نطاق الباحث الفردي، بل من خلال تفكيرٍ جماعي.
ولكن هناك من يعترض على موضوع علم العلم، ويرى أنه غير جديرٍ بأن يكون مبحثًا مستقلًّا ولا علاقة له بفلسفة العلم؛ لأنه دراسة عن موضوعاتٍ متمايزة وظواهرَ مستقلة، وليس دراسةً عن العلم في شموله. إنه مزيجٌ من موضوعاتٍ دراسية خاصة بعلم النفس أو علم الاجتماع … إلخ. وإننا مهما حاولنا ضم هذه المشكلات معًا فإنها ستظل دائمًا إمَّا مشكلات فلسفية خالصة أو علمية تاريخية أو اقتصادية؛ بمعنى أن كُلًّا منها سيظل منتميًا إلى العلم الخاص به. ويردُّ على ذلك أصحابُ مدرسة علم العلم بأن هذا الاعتراض يُغفِل أمورًا هامةً منها مثلًا، مسألة من الذي يضع، وكيف يضع، المبادئ الأساسية النظرية لتنظيم النشاط العلمي وتخطيطه والتحكُّم فيه. وإن الفلسفة ستفقد مكانتها كعلمٍ ما لم نعمل دائمًا على أن يكون محتواها مُتسقًا مع إنجازات العلم، وما لم نعمل دائمًا على إثراء وتطوير مفاهيمها ومقولاتها على أساس وضع القوانين العامة لإنجازات مجالات المعرفة. وهذا هو السبب في أن حركة المعرفة العلمية لا يمكن أن تكُفَّ أبدًا عن أن تكون موضوعًا تدرُسه الفلسفة. إن الفيلسوف لا يقنع بتحديد الأشكال العيانية لتطوُّر فرعٍ من فروع العلم، أو العلم ككل، بل يجاهد لكشف القوانين العامة التي تحكُم حركة المعرفة؛ إذ بهذه الطريقة تخدم الفلسفة العلم أجَلَّ خدمة، وهذه هي السبيل، التي لا سبيل سواها، لسد الهوة الفاصلة الآن بين الفكر الفلسفي وبين المعرفة العلمية، والتي يُعاني منها الفلاسفة والعلماء على السواء، ومن ثَم المجتمع الإنساني بسبب تخلُّف الفكر الفلسفي عن ملاحقة التطور السريع للفكر العلمي.
كذلك فإن مشكلات دراسة القوانين العامة لتطوُّر العلم، والعلاقات المركَّبة بين العلم والمجتمع، ومشكلات بنية الجماعات العلمية والعلاقات المشتركة بينها، وتحسين نظام المعلومات، وبحث إمكانيات وطرق التنبؤ بتطور العلم والتكنولوجيا، ووضع معايير كمية لتقييم معدلات ومستوى التقدم العلمي والتكنولوجي، وتحديد العلاقة الصحيحة بين البحوث الأساسية والتطبيقية والتطورات في كل حقبةٍ على حدة، وإلقاء أضواءٍ جديدة على العلم كنشاطٍ إبداعي معرفي في الحضارات السابقة … إلخ هذه المسائل التي تدخل في إطار علم العلم لا يمكن حلُّها في إطار علمٍ من العلوم القائمة، وإنما يلزم لفهمها في ترابطها استحداث فرعٍ خاصٍّ للمعرفة يكون العلم موضوعًا لدراسته، باعتباره نسقًا متميزًا ونطاقًا خاصًّا للنشاط المعرفي الإبداعي. وهذا هو دور علم العلم.
ويعترض البعض أيضًا بأن المنطق — أو منطق البحث تحديدًا — كفيل بأداء المهمة المنوطة بعلم العلم. ويردُّ على ذلك أصحابُ مدرسة علم العلم قائلين: حقًّا إن موضوع المنطق غير قاصرٍ فقط على مسائل بنية المعرفة العلمية وصياغة المناهج اللازمة لتحصيل معرفةٍ جديدةٍ والبرهنة عليها، ولكنه يشتمل أيضًا على تحليل جميع جوانب المعرفة الاستقرائية والقوانين العامة لبناء وتغيير النظريات العلمية كأنساقٍ نظريةٍ محددة، وأن الحاجة إلى تحديدٍ خاصٍّ لهذه المشكلات أفضت إلى تكوين اتجاهٍ خاص داخل حدود المنطق، وهو منطق البحث. والصحيح كذلك أن القوة الدافعة للعلم هي خلق مناهجِ بحثٍ جديدة، كما وأن تطويرها من أهم المهام المُلقاة على عاتق تاريخ العلم والمنطق. ولا بد أيضًا أن يرتكز علم العلم على نتائج بحوث علماء المنطق، ويستفيد بها (خاصة ذلك الجزء الذي يساعد على تفسير مناهج تحصيل المعارف الجديدة) لتوضيح وتفسير أوجه انتظام تطوُّر العلم.
- (١) التاريخية؛ historicism أي رؤية كل شيءٍ في ارتباطٍ تاريخي وفي تطوُّر وتحوُّل.
- (٢)
معرفة الماضي لاستخلاص نتائجَ صحيحةٍ بُغية معرفة المستقبل.
- (٣)
الحتمية؛ بمعنى البحث عن الأسباب العيانية لأي حدثٍ.
- (٤)
التكاملية؛ بمعنى أن كل حدثٍ في السلسلة العامة للعمليات التاريخية تجري دراسته دراسةً شاملةً في ارتباطه مع غيرها لا مستقلةً منعزلة.
- (٥)
التعدُّدية؛ بمعنى أن ننظر إلى العلم باعتباره مؤسسةً اجتماعية متعددة الجوانب في تداخُل وليست مركَّبةً فقط.
- (٦)
التناقُضية؛ بمعنى أن التباين الأصيل بين الآراء والمفاهيم يفضي إلى إبداع نظريةٍ جديدةٍ تكشف عن وحدة المُتناقِضات.
ولكن كيف تطَّرد حركة المعرفة العلمية، وما هي الإشكاليات أو العوامل التي تمثِّل علة النقلة أو الطفرة الكيفية؟
- (١)
تلك الحلقات الخاصة بالجوانب المادية لتطور العلم الطبيعي، واعتمادها على الممارسة العملية للإنتاج والتكنولوجيا التي هي المصدر والقوة الدافعة لكل تقدُّمٍ علمي.
- (٢)
تلك الحلقات التي تشير إلى المنطق الباطني لتطوُّر المعرفة في العلم الطبيعي، وهو منطقٌ يدخل ضمن لُحمة وسَدى عملية المعرفة ذاتها بغض النظر عن أهدافها المحدَّدة.
ولكن ثمَّة تفاعلٌ يقيني بين النمطَين في التطوُّر العلمي، وهو ما يمثِّل لنا مرشدًا منهجيًّا في سبيل فهمٍ أكثر عِيانية وتحديدًا للأحداث التاريخية العلمية ولأسبابها، وكذا فهم القانون الأساسي لتطور العلم الطبيعي؛ ولهذا يتعيَّن علينا أن نأخذ الجوانب المادية والروحية لتطور العلم الطبيعي باعتبارهما وحدةً واحدة، وكلٌّ منهما يمثِّل شرطًا متداخلًا مع الآخر، ثم يكون التطبيق في النهاية هو العامل المجدِّد للنظرية، ولكن إذا قلنا إن الممارسة العملية — أو الإنتاج الاجتماعي — هو العلة التي تلد العلم، فإنه لا تزال أسئلةٌ يتعيَّن الإجابة عليها وصولًا إلى القانون الأساسي لحركة تطوُّر العلم، وهي: لماذا تنشأ الحاجة إلى العلم أصلًا؟ وعلى أي نحوٍ محدَّدٍ تؤثِّر الحاجات العملية في العلم؟ وما هو ميكانيزم هذا التأثير؟
هنا يُوجِّه أصحابُ علم العلم أنظارنا إلى مسألة الشكل المحدَّد الذي تتخذه جوانبُ كثيرةٌ للبحث العلمي التاريخي؛ أي كيف ولماذا، في فروعٍ معيَّنةٍ من المعرفة وفي فتراتٍ تاريخيةٍ بذاتها، تُظهر ما اصطلحنا على تسميتها المشكلات الرئيسية الحاسمة، والتي يؤدي طرحُها وحلُّها إلى شد اهتمام أكبر عددٍ من العلماء، وتمثِّل في الوقت ذاته منطلقات التطور، وتؤدي إلى ظهور وتولُّد تياراتٍ رائدة في تطوُّر العلم تمتد بأثَرها إلى مجالات البحث العلمي الأخرى. والمقصود بالمشكلات الحاسمة تلك المشكلات التي تُواجه العلم وتحفزُ إليها متطلَّبات الممارسة العملية «التكنولوجيا» والمنطق الباطني لتطوُّر العلم ذاته؛ إذ يلتقي في هذه المشكلات خطأ التطور العلمي — المادي الصناعي والمنطقي المعرفي — ويتقاطعان. وحيث يتقاطع هذان الخطآن تبرز مشكلة ويتوقف على حلِّها كلٌّ من النجاح في تحقيق المهام التي يفرضها التطبيق العملي، ويعقبها صعود العلم إلى مرحلةٍ أرقى؛ ومن ثَم يكون تاريخ أي علمٍ هو تاريخ هذه المشكلات الحاسمة.