علمٌ قديم وعلمٌ جديد
يبدأ توماس كُون كتابه بدعوتنا إلى تغيير نظرتنا إلى التاريخ عامة، وتاريخ العلم بخاصة، وإلى أن ننظر إليه نظرةً جديدةً وليس على أنه مجرد وعاءٍ لأحداثٍ متتابعة زمنيًّا. ويرى أن تغيير النظرة يستتبعه تحوُّلٌ حاسمٌ في صورة العلم التي تملك علينا حواسَّنا ونعيش أسرى لها، فما هي صورة العلم القديمة التي يتمرَّد عليها، وما هي صورة العلم الجديدة التي يدعونا إليها توماس كُون ومن ذهب مذهبه حديثًا؟
- (١)
الواقعية؛ بمعنى أن العلم محاولة لاكتشاف عالمٍ واقعيٍّ واحد ثابت، وأن الصدق مستقل عن فكر الناس.
- (٢)
الفصل؛ أي القول بالتمايُز الحاد بين النظريات العلمية وبين غيرها من أنواع المعتقدات.
- (٣)
التراكمية؛ إن التطوُّر المعرفي هو عملية إضافات؛ حيث معارفُ جديدة تُضاف إلى معارفَ قديمة، على نحوٍ ميكانيكي وكأنها إضافاتٌ عددية، ويكتمل البناء باطِّراد.
- (٤)
التمايُز بين المشاهدة والنظرية.
- (٥)
المشاهدة والتجربة هما أساس الفروض العلمية والنظريات.
- (٦)
النظريات لها بنيةٌ استدلالية.
- (٧)
المفاهيم العلمية دقيقةٌ محدَّدة ذات معنًى اصطلاحيٍّ ثابت.
- (٨)
سياق للتبرير وسياق للاكتشاف؛ أي أنْ تُمايز بين الملابسات النفسية أو الاجتماعية للاكتشافات وبين الأساس المنطقي لتبرير الاعتقاد في الوقائع المكتشفة.
- (٩)
وَحْدة العلم؛ هناك علمٌ واحد عن عالَم واقعيٍّ واحد. والعلوم يمكن ردُّها إلى بعضها، علمٌ خاصٌّ فعامٌّ فأعَم.
- (١)
العلم القياسي والثورة. تقليدٌ قياسي ثم تحوُّلٌ كيفي أو علمٌ قياسي ثم أزمة فثورة ثم علمٌ قياسيٌّ جديد. والعلم القياسي هو اطراد في تطبيق تقنياتٍ ناجحة، أو هو نشاط حل ألغاز ويتسم بأنه محافظٌ، وظهور الشذوذ من شأنه أن يفضي إلى أزمة هي السبيل إلى الثورة.
- (٢)
النماذج الإرشادية. كل علمٍ قياسيٍّ له نموذجٌ إرشاديٌّ يتحرك في إطاره. والنموذج الإرشادي له معنيان؛ الإنجازات العلمية المعترف بها عالميًّا، وتمثل في حقبة من الزمن المشكلات والحلول النموذجية عند مجتمع الباحثين العلميين، أو مجموعة القيم المشتركة والالتزامات بين الباحثين أعضاء مجتمعٍ علمي.
- (٣)
الأزمة. تحدُث الأزمة عند عجز المبحث الدراسي القديم عن حل مظاهرِ شذوذٍ ملحَّة ولا فكاك منها. وتحدُث الثورة لأن إنجازاتٍ جديدةً تعرض سبلًا جديدة للنظر إلى الأشياء، وتخلُق مشكلاتٍ جديدة.
- (٤)
اللاقياسية؛ حيث يتعذَّر قياسُ مفاهيم أو لغةِ نموذجٍ إرشادي قديم على مفاهيم أو لغةِ نموذجٍ إرشادي جديد مرشَّح ليحلَّ محل القديم؛ فالكتلة عند نيوتن غيرها عند أينشتين.
- (٥)
العلم غير تراكمي.
- (٦)
التحوُّل الكلي أو الجشطلتي في صورة الظاهرة أو مجموعة الظواهر والعالم؛ إذ يحدُث مع إبدال النماذج تحوُّلٌ فجائي وشامل إلى طريقةٍ جديدةٍ في النظر إلى العالم.
وهكذا يمكن القولُ إن الاختلاف بين الصورتَين يتركَّز في العلاقة بين المعارف والمفاهيم وبين تاريخها وصورة العالم. فالصورة القديمة لا تاريخية وإنما تستخدم التاريخ فقط لاقتباس أمثلةٍ وشواهد لغاياتٍ منطقية، بينما يرى توماس كُون ومن ذهب مذهبه أن محتوى العلم ومنهجه في الاستدلال وطريقة بحثه ترتبط ارتباطًا عضويًّا بتطوُّره التاريخي. وإذا كانت صورة العلم قديمًا تفصل فصلًا حادًّا بين النظرية والمشاهدة، فإن توماس كُون يُقرِّر بأننا نرى الأشياء أو تتحدَّد صورتها لنا من خلال النظرية؛ فالأشياء التي نلحظها، وطريقة رؤيتنا لها أو وصفها إنما تتحدَّد في ضوء النماذج الإرشادية والمشكلات التي نواجهها، ومع تغيُّر النموذج الإرشادي تتغير صورة العالم. وحسب هذا التصوُّر فإن التطور أو الحركة التطورية للعلم القياسي أو العادي تجري داخل إطار النموذج الإرشادي للعلم، وإبدال هذا الأخير علامة ثورةٍ علمية.
ويضع كُون العلم القياسي والنماذج الإرشادية على طرفَي نقيض أو في وضع تقابُل؛ فالعلم القياسي تقليد يستنُّه باحثون وحَّد بينهم قبولهم لنموذجٍ إرشاديٍّ مُشترك يمثِّل الإطار الفكري لهم. والنموذج الإرشادي هو إطارٌ جماعيٌّ لا فردي مشترك بين أبناء المجتمع العلمي، وينطوي ضمنًا على قدْرٍ من الاعتقاد النظري والمنهجي المتداخل في نسيجٍ واحدٍ ويسمح بالانتقاء والتقييم والنقد. وهو مصدر مناهج البحث وميدان المشكلة ومعايير الحل المقبولة لدى أي مجتمعٍ علميٍّ ناضج في عصرٍ بذاته. وبسبب هذا الاعتماد الشامل على النموذج الإرشادي فإن استقبال نموذجٍ إرشادي جديد غالبًا ما يستلزم إعادة تحديد العلم المناظر. ومع تغيُّر المشكلة يتغير المعيار الذي يُمايز حلًّا علميًّا حقيقيًّا عن تأمُّلٍ نظري أو لعبةٍ رياضية. والثورات العلمية، أو الانتقال من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر، هي أحداثٌ غير تراكميةٍ بل تحوُّلٌ كيفيٌّ كامل.
وبناءً على ذلك يمكن القول إن توماس كُون يرى أن عملية المعرفة تتمُّ في إطار الإجماع بين جمهور العلماء، وفي نطاق رؤيةٍ عالمية ونظرةٍ عامة تُرشِد الباحثين إلى طريقة الكشف عن الحقيقة، وتُجدِّد المعايير الخاصة بقبول النظريات أو رفضها، كما تُحدِّد اللحظة التي يثبت فيها زيف النظرية. وترتكز مقوِّمات الروح العلمية في المجتمع العلمي على النماذج الإرشادية، وعلى ما تحدد من مجموعة الالتزامات المتبادلة والمعتقدات المشتركة والقيم الأدبية التي تجعل من مجتمع العلماء مجتمعًا واحدًا وبِنيةً متماسكة.
وهكذا تجري عملية تطوُّر المعرفة العلمية في شكل طفراتٍ من نموذجٍ إرشادي إلى آخر، وكل نقلة تفضي إلى نتائج إبستمولوجية بعيدة المدى. والمعرفة العلمية تفقد صفتها كعمليةٍ متطورةٍ حية إذا فقدَت هذه الدينامية التي تجعلها تمر بصفةٍ متكررةٍ عَبْر مراحلَ «قياسية»، و«ثورية»، أو تقليد ثم تحولٍ راديكاليٍّ جَذْري بفعل ما تفرضه الحياة العلمية النشطة من مشكلاتٍ جديدة، والتحوُّلُ من القياسية إلى الثورية لا يتم في سهولة ويسر تمامًا مثلما يحدُث في حياة المجتمعات حين تَعرِض للناس مشكلاتٌ جديدةٌ لم يسبق لها مثيلٌ هي وليدة حياتهم ونشاطهم ولا يعرفها التقليد، إلا أنهم يُحجِمون بحكم التكوين النفسي عن التخلِّي عن التقليد ومحاولة تطويع القضايا والمشكلات لما ألِفوه وورِثوه. حتى إذا ما تأزَّم الموقف فلا بد من التغيير وأن يكون تغييرًا جذريًّا ثوريًّا. كذلك في العلم إذا ما عَرضَت تجربةٌ شاذة في مجال النشاط العلمي القياسي يسعى أعضاء المجتمع العلمي أولًا إلى فهمها في إطار القالب النظامي أو النموذج الإرشادي السائد؛ فالعلم القياسي يعيش حياةً تراكمية ولا يهدف إلى إيجاد نظرياتٍ جديدة، بل يعمل وكأنه يقول لا جديد تحت الشمس.
ولكن متى تكاثَرَت مظاهر الشذوذ، وتعذَّرَت حركة المجتمع العلمي بدون حسم الإشكاليات الجديدة، وفشلَت كل محاولات التوفيق والتطويع، هنا يُحاوِل الباحثون أول الأمر إدخال تعديلات على القالب النظامي ذاته. غير أنها تبدو حلولًا مؤقَّتة لا تغني ولا تحظى بقبولٍ جماعي؛ ومن هنا تنشأ أزمة تُمهِّد السبيل لحدوث ثورةٍ علمية. وتؤدي هذه الأزمة إلى انتشار النظريات البديلة المتنافسة، والاجتهادات المتباينة، وتنفصم عن الوفاق بين أعضاء المجتمع العلمي، وتتباين معايير الخطأ والصواب، ويصبح التخلي عن القالب النظامي المشترك هو الحل؛ ومن ثَم تنتقل الثقة من القالب النظامي أو من النموذج الإرشادي القديم إلى الجديد وتكتمل الثورة. وحدوث الثورة يعني إدخال مفاهيم ومفرداتٍ لغويةٍ جديدة لرؤية المجتمع العلمي للعالم ووصفه.