مقدمة
هذا الكتاب هو عرض ونقد للأدب الإنجليزي في السنين الأربعين الماضية. وفي هذه المدة ظهر أدباء ثائرون على التقاليد في هذا الأدب ومجددون له. وقد حاولت أن أبيِّن للقارئ العربي المغزى من هذا التجديد. وعندي أن التجديد في الأدب هذه الأيام لا يعني شيئًا آخر سوى التجديد في الحياة. وهذا هو ما نفهمه من المجددين الإنجليز الذين نعرضهم في الفصول التالية؛ فإن الأدب الإنجليزي يتصل بالحياة ويتأثر بها، ويؤثر فيها، وهو ينتقد أسلوب العيش أكثر مما ينتقد أسلوب الكتابة. وهذا خلاف ما نجد من طبقة الأدباء التقليديين في مصر، حيث الاهتمام كبير بالأسلوب الكتابي، في حين ليس هناك اهتمام أصلًا بأسلوب العيش؛ فإن الأدب التقليدي يُعنى مثلًا بأسلوب الجاحظ الكتابي فيحتذيه، ولا يُعنى مثلًا بأسلوب الفلاح المصري في العيش فينتقده ويطلب إصلاحه. وهو يكتب عن العرب ومجدهم وتاريخهم، ولا يكتب عن مصر ونكباتها الحاضرة، وما تعانيه من مظالم اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية؛ ولذلك فإن أدبه سلفي، هو أدب الكتب الذي يجعله يعيش وهو في عزلة عن الوسط الذي يحيط به كأنه في برج عاجي. وهو هنا يشبه أدباء القرون الوسطى في أوروبا والعالم العربي.
ولكن الأدب الأوروبي الحديث، وخاصة الأدب الإنجليزي، هو أدب الحياة؛ ينتقد المعايش والغايات ويجعلهما موضوعه، سواء في القصة أو المقالة. وهو لذلك يتصل بأنواع النشاط البشري كله؛ فللأديب رأيه في العلم والصناعة، والاقتصاد، والزواج، والتعليم، والصحافة. بل من الأدباء الإنجليز، مثل «برنارد شو» من ينتقد النظريات الطبية. ومنهم من يدعو إلى الإيمان بدين جديد.
والحق أن التجديد في الأدب يشبه التجديد في الفلسفة؛ فقد كانت الفلسفة القديمة تترفع عن درس الحياة الدنيا، وترصد نفسها لدرس كنه الأشياء، والفرق بين ما نعرفه عن الشيء وماهية هذا الشيء. وكانت تبحث الغيبيات؛ أي ما قبل الوجود وما بعده. وهي في ذلك كله تبتعد عن الناس ومعايشهم. ولكن الفلسفة الجديدة تدعو إلى الكف عن البحث عن كنه الأشياء، وتقنع باستخدامها لمصلحة الإنسان. وواضح أن هذا الكف ليس أبديًّا، ولكنه اعتراف بالعجز عن فهم الغيبيات وإيثار لبحث الشئون البشرية التي لا تتجاوز مستطاعنا.
وكذلك الحال في الأديب، فإنه كان يعتكف بين الكتب ويترفع عن نقد المعايش وغاية الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية. وكان الأديب يدأب في الاجترار، ويعيش في برجه العاجي لا يتغذى مما حوله ولكنه يتغذى بالمؤلفات القديمة. أما الآن فإن الأديب الجديد يكاد ينظر إلى الأدب القديم نظرة «بيكون» إلى العلوم القديمة، فهو يطلب التجربة والاختبار بنفس الروح الذي طلبهما به علماء النهضة؛ وذلك لأنه يشك في قيمة المقاييس القديمة. ثم هو يستخدم أدبه، كما يستخدم الفيلسوف الجديد فلسفته، لمصلحة الإنسان، فيبحث أساليب العيش والاجتماع، ولا يكاد يبالي بأساليب الكتابة.
ومع أني عرضت لطائفة من الأدباء في مدى السنين الأربعين الماضية، وعالجت آراءهم بالشرح أو النقد أو التعليق، فإني أرى الآن أنه كان يكون أروح لي لو أني قصدت إلى واحد منهم فاقتصرت عليه بالدرس؛ وذلك لأن الإسهاب في شرح فترة قصيرة، هي حياة الأديب، يتناول من الدقائق المفيدة والتفاصيل الطريفة ما يضطر الكاتب إلى التجاوز عنه حين يعمد إلى موكب كامل من الأدباء يصف أفراده مع الإيجاز الذي قد يكون مخلًّا في بعض الأحيان. ولكن القارئ العربي الذي يجهل الأدب الإنجليزي يؤْثر رؤية الموكب على رؤية الفرد، وعنده أن الإلمام بطبقة الأدباء المجددين خير من الإحاطة بواحد منهم. وهو على حق في هذا الرأي؛ وذلك لأن كلًّا منهم قد انتحى ناحية في التجديد لم ينتحها غيره، والإسهاب في شرح الأدب لواحد منهم لا يقوم مقام التلخيص للكل.
وعلى هذا الاعتبار يمكنني أن أقول إن هذا الكتاب هو في حقيقته مقالة مسهبة، أو هو المقدمة لدرس التجديد في إنجلترا. وأَملي أن أوفَّق في القريب إلى درس واحد من هؤلاء المجددين لعله «برنارد شو»، فيكون هذا الكتاب الراهن بمثابة الفرش للصورة، يهيئ للقارئ «البيئة التاريخية» والثقافية التي تكوَّن منها هذا الأديب العظيم.
فليقرأ القارئ إذن هذا الكتاب على اعتبار أنه مقدمة لدرس التجديد الأدبي في إنجلترا. وعليه أن يلتفت إلى التفاعل المستمر بين الأدب والمجتمع، وأن يقابل بين هذه الحال وبين ما نحن عليه في مصر وخاصة عند أدبائنا التقليديين الذين قطعوا بين الحياة الراهنة وبين ما يزاولونه من أدب قديم في الأسلوب والغاية والموضوع.
قبل أن يقدَّم هذا الكتاب للطبعة الثانية عدت عليه قراءة وتنقيحًا وزدت فيه ثلاثة فصول هي الأخيرة من الكتاب.