دراسة الاقتصاد والاجتماع
أخذت المسائل الاقتصادية تغمر كل شيء منذ أوائل هذا القرن حتى تدخلت في الدين والسياسة والأدب، فصرنا نسمع عن «الاشتراكية المسيحية». ونقرأ لكهنة الدين المسيحي أقوالًا توهمنا أن المسيح قد سبق كارل ماركس وأنه دعا إلى دعوته. بل ظهرت في أوروبا أحزاب تمزج بين المسيحية والاشتراكية، وترشح أعضاءها كي ينفذوا المبادئ الاقتصادية التي يدعو إليها الإنجيل.
وكذلك السياسة أخذت منذ أكثر من خمسين سنة تتجه نحو الاقتصاد، فمجالس الوزراء الآن لا تشغل في معظم أوقاتها إلا بالصناعة والزراعة والتجارة وزيادة الأجور وضرائب الجمارك ونحو ذلك. بل لقد شعر المستر تشرشل أحد وزراء بريطانيا السابقين بضغط المسائل الاقتصادية. وهذه السنوات السود التي نعيش فيها تدلنا على أن السياسة إذا لم تكن اقتصادًا فهي ليست شيئًا يذكر.
وليس غريبًا إذن أن يلتفت المجددون في الأدب الإنجليزي إلى الاقتصاد، فقد وجدوا أن للعوامل الاقتصادية آثارًا واضحة في حضارة الأمة، وأخلاقها. ولذلك اتجهوا إلى درس الأحوال الاقتصادية اتجاهًا قويًّا، فألَّفوا القصص والدرامات حتى يقفوا الجمهور على المساوئ الاقتصادية التي تجر في أعقابها مساوئ اجتماعية.
وأبرز الأدباء الإنجليز الذين جعلوا من الأدب وسيلة لدرس المسائل الاقتصادية هم «برنارد شو» و«ولز»، وهما أيضًا على رأس المجددين. ومن هنا نعرف أن كثيرًا من التجديد الأدبي في إنجلترا إنما هو تجديد اقتصادي.
ولا تكاد تخلو قصة من قصص «ولز» من عبرة اجتماعية، يستخرجها القارئ من الأحوال الاقتصادية. وأي شيء أفعل في النفس من قصة «تونوبنجاي» التي يصف فيها كيف تُجمع الثروة الضخمة بالغش والخداع، ثم كيف تضاع في مظاهر اجتماعية سخيفة؟ فهنا نرى رجلًا يؤلف عقَّارًا ويعلن عنه أنه يشفي طائفة من الأمراض، ويؤسس الجرائد والمجلات، الغرض الظاهر منها خدمة صحفية. والغرض الباطن هو الإعلان عن هذا العقَّار، وليس في هذا العقَّار أي شيء لا يعرفه الناس، وليس فيه أي ميزة ولكن الجمهور يقبل على شرائه؛ لأن الإعلانات المتكررة تستهويه وتغريه وتقنعه بفائدته. ولا يزال صاحبه في هذا النشاط حتى يصبح من أغنياء العالم المعدودين. ويتساءل «ولز» هنا: أي نظام هذا الذي يجيز لمثل هذا الرجل أن يخدع السذج حتى يستولي على نقودهم بمثل هذا الدواء الذي لا يفيد أحدًا ممن يستعمله من المرضى؟
ولكن «ولز» لا يقتصر على القصة، فهو قصاص بالمهنة، ولكنه اشتراكي بالنزعة، وعندما يجد أن القصة لا تسعفه بتحقيق غرضه يعمد إلى الموضوع نفسه فيخرجه مدروسًا مشروحًا في كتاب مستقل، فمن ذلك كتابه «عوالم جديدة للقدماء»، وهو في شرح المسائل الاقتصادية. وكتابه «شقاء الأحذية» وهو في هذا الموضوع أيضًا. وللأحذية مكانة في نفس «ولز» لا يستطيع أن ينساها حتى الآن، وهو يربح في العام أكثر من عشرين ألف جنيه؛ لأنه نشأ وهو صغير في مسكن وضيع في بدروم أحد البيوت الكبيرة، فكان يري، لأول ما يرى من السابلة في الشارع، أحذيتهم.
وفي عام ١٩٣٣ صدر له كتاب ضخم لا يقل عن ٨٥٠ صفحة كبيرة هو أعظم شهادة على الرغبة الحارة التي تحدو هذا الأديب إلى الإصلاح الاقتصادي. وهذا الكتاب هو «العمل والثروة والسعادة». وهو يعالج الأزمة المالية المستحكمة وقتئذٍ في ذكاء وإحاطة جديرين بالإعجاب من الاختصاصي، فضلًا عن الأديب. والكتاب أشبه بالموسوعة يشرح فيها كيف يعمل الناس في الصناعة والزراعة، وكيف يلهون في فراغهم، وكيف ينتقل الناس في أسفارهم، وما هي مهمة المرأة في هذه الدنيا، وما ينتظر منها، وكيف تتألف الحكومات … وما إلى ذلك.
وكذلك «برنارد شو» فإن مؤلفاته ودراماته تكاد جميعها تتجه نحو الاشتراكية. وله كتب عدة في هذا الموضوع، منها «اشتراكية المجالس البلدية» و«الاشتراكية للأغنياء». ثم كتابه الضخم «دليل المرأة الذكية عن الاشتراكية».
أما دراماته فجميعها تقريبًا تعالج موضوعات اجتماعية لها أساس اقتصادي. وهو يعزو جميع النقائص الاجتماعية كالبغاء، والحرب، والجرائم، والأمراض، إلى عوامل اقتصادية، ويبحثها جميعها من هذه الناحية. والقارئ ﻟ «برنارد شو» يشعر في جميع ما يقرأ أن المؤلف يريد أن يبرز له هذه الحقيقة، وهي أن في العالم فقراء يؤذيهم الفقر في صحتهم وأخلاقهم. وأغنياء لا يعرفون كيف يتمتعون بغناهم ولا هم مرتاحون إلى هذا الغني؛ لأن تكاليفه تكاد أحيانًا تزيد على مكافأته. وهو لا يطالبنا بأن يكون لنا ضمير فقط، بل يُلحُّ علينا بأن هذا الضمير يجب أن يكون ذكيًّا مدربًا، وليس بليدًا غافلًا.
وقد كان الفقر موضوعًا للأدباء، قبل خمسين سنة، فإن كتاب «البائسين» الذي ألَّفه «فيكتور هوجو» هو في الحقيقة كتاب الفقراء؛ لأن البؤس هو الفقر. والقصص التي ألَّفها «تولستوي» و«دستويفسكي» و«جوركي» تنحو أحيانًا كثيرة نحو هذه الغاية. ولكن القصد لم يكن واضحًا عند «هوجو» أو «دستويفسكي» أو «تولستوي»؛ لأن الفن يتغلب هنا على القصد الاجتماعي، ولأن اشتراكيتهم كانت طوبوية قائمة على الأماني، ينشدون طوبى المستقبل. وهي ليست معللة بالعلم في ضوء المخترعات الآلية المنتجة لملايين السلع. وقد لا نستطيع أن نقول مثل هذا القول عن «جوركي»؛ لأن غايته واضحة واشتراكيته علمية. ولكن لا يسع القارئ مع ذلك إلا أن يحس أن رجل الفن هنا أبرز من رجل الاجتماع.
أما الأدباء المجددون في إنجلترا فإن غايتهم تتضح وقصدهم يسفر. وقد يكون ذلك لأنهم دون «جوركي» في الفن، أو لأن الرغبة في الدعاية المذهبية تتفوق على الحاسة الفنية. ولذلك كثيرًا ما نجد «ولز» أو «شو» ينسيان القصة أو الدرامة ويأخذان في شرح حالة اجتماعية بلهجة التدريس لا بلهجة القصص أو الحوار.
ولا يقتصر هذا الالتفاف على هذين الأديبين البارزين، فإن هناك عددًا كبيرًا من الأدباء الإنجليز قد جعلوا الفقر حجر الزاوية عندهم في القصة أو الدراما. وقد تجاوزت هذه النزعة كتَّاب إنجلترا إلى الكتَّاب الأمريكيين، فهناك نجد مثلًا «إبتون سنكلير» الذي خص نفسه لمعالجة الدعاية الاشتراكية في أسلوب سافر جعل جميع الناشرين يقاطعونه، حتى صار يضطر إلى أن يطبع مؤلفاته بنفسه فهو مؤلف وطابع وناشر.