فلسفة برنارد شو
كان الفلاسفة في الأزمنة القديمة وبعض الحديثة لا يعدون أنفسهم جديرين بالفلسفة إلا إذا تكلموا عن الأصول والنهايات، وما يتجاوز حدود التفكير المنطقي إلى الغيبيات. ومن هنا لم يكن الفرق عظيمًا بين الصوفي والفيلسوف. ومن هنا أيضًا كانت الفلسفات متشابهة في الغاية والإبهام أو الاستعصاء التام على الفهم، فلم يكن يفهمها إلا المعتقد الذي يرى أن العقيدة خير من الرأي، والبصيرة أنفذ من الفهم. وكان الفيلسوف لذلك يبتعد عن الناس ويعيش في عزلة ونسك، يجتر ذهنه ويكتب في القرن التاسع عشر ما كان يكتبه «أفلاطون» قبل ٢٣٠٠ سنة عن الفكرة والموضوع. أو الشيء في عقلنا والشيء في ذاته، إلخ.
وقلما ينجو مفكر من هذه الشواغل الذهنية. والواقع أنه يجب ألا ينجو منها، وأن تكون له منها رياضة، بشرط ألا ينغمس فيها؛ لأن الاختبارات الماضية تدل على أن الانغماس لا يأتي بطائل، وأننا ننتهي بعد الجهد ونفاد الصبر والذهن إلى أن نقول كما قال «هربرت سبنسر» إن كل هذه الأشياء هي «مما لا يمكن معرفته».
وفيلسوف هذه الأيام إذن ليس هو ذلك الناسك الذي ينأى عن الناس ويتكلم من فوق رءوسهم بما لا يفهمون، وإنما هو الذي يختلط بهم ويدرس مسائلهم ويحاول المحاولات المختلفة لإصلاح أحوالهم، بل إصلاح أجسامهم وعقولهم. وأنت إذا سألت عن المواد الخام التي يتغذى منها الأديب أو الفيلسوف في عصرنا ألفيتها أبعد ما تكون عما كان يفكر فيه الأديب أو الفيلسوف القديم، فهو الآن يدرس الطبيعة البشرية من المقامرة في البورصة ومضمار الجياد، وعليه أن يُجهد ذهنه في درس العوامل الاقتصادية التي ترفع وتحط الأمم أو الأفراد، فمسائل النقد والأجر والإيجار والامتلاك والفاقة والغنى يجب أن تشغل باله؛ لأن جزءًا كبيرًا من سعادة البشر يرجع إليها. ثم هو لا يمكنه الآن أن يستغني عن العلوم لأنه لم يعد في مقدور إنسان أن يتكلم عن الأخلاق والفضيلة والرذيلة ما لم يعتمد في ذلك على المكاشفات العلمية الحديثة.
و«برنارد شو» يعد من هذه الاعتبارات فيلسوفًا حديثًا يمتاز بنزوات فلسفية جميلة، ظاهرها عبث وفكاهة وباطنها جِد أكبر الجِد، فهو يلحُّ في درس المجتمع الحاضر قبل درس التاريخ. ويؤلِّف الكتب في واجبات المجالس البلدية كما يبلغها عن مستقبل الإنسان بعد ثلاثين ألف سنة. ويقرأ الكتب الطبية ويجاهر الناس بأن الطب يحتوي، إلى جنب العلم الصحيح، مجموعة من الخرافات التي صارت حرفة يحترفها الأطباء للعيش. وهو هنا متأثر بطب القرن التاسع عشر الذي لم يكن علميًّا محضًا، أما الطب العصري فينهض على العلم. ثم يعود على الأدب فينكر على أدباء القصة والدراما اهتمامهم بالحب والغرام، ويصرِّح بأن ذلك الرجل الذي يعدد مآثره الغرامية إنما هو كذلك الآخر الذي يعدد مآثره في التهام ألوان الطعام سواء.
وتمتاز الدراما، كما يؤلفها «برنارد شو» بأنها خالية من الغرام، أو هو فيها في المحل الثاني، بل هو أحيانًا كثيرة يخترع المواقف للتهكم بالعواطف الغرامية. ودراماته هي مصطرع الأفكار يتألق منها شرر الذكاء في حوار بديع، فلا يستطيع البليد أو الذكي إلا أن يفكر كلما قرأ له دراما أو شاهدها ممثلة على المسرح. وله بدعة جميلة هي أنه يكتب لكل دراما مقدمة تبلغ ١٥٠ صفحة، يشرح فيها الموضوع الذي تعالجه الدرامة. وهو هنا يشرح فلسفته، ويسهب في بيان ما اضطر إلى اختصاره في حوار الدرامة. بل هو أحيانًا يبالغ في هذه البدعة، فلا يقنع بالمقدمة، بل يؤلف كتابًا آخر ينسبه إلى أحد أبطال الدرامة ويلحقه بالدرامة نفسها. ففي «الإنسان والسوبرمان» نرى على المسرح رجلًا يقول إنه ألَّف كتابًا، ثم يقدمه لأحد أصدقائه. ولا ندري نحن المشاهدين من أمر هذا الكتاب شيئًا. ولكن «برنارد شو» يكتبه ويلحقه بالدرامة المطبوعة. وهو كتاب جميل يبحث آداب الثورة والثائرين لأبناء القرن العشرين. والثورة هنا بيولوجية يراد بها تغيير الإنسان في جسمه وعقله، فهي ليست ثورة على الحكومة أو المجتمع، وإنما هي ثورة الإنسان على نفسه حتى ينشأ منه إنسان آخر يعلو عليه، كما يعلو الإنسان الآن على القردة.
وليس ﻟ «برنارد شو» نظام فلسفي كما نرى مثلًا ﻟ «شوبنهور» أو «برجسون» وإنما له أفكار فلسفية يمكننا أن نستخرجها من دراماته أو بالأحرى من مقدمات دراماته.
ولو شئنا لعددنا له الكثير من هذه الأفكار، ولكن نقنع ببعضها أو بالأهم دون المهم.
فهو في الأخلاق يطلب حرية الفرد التامة، فلكل إنسان أن يفعل ما يشاء من فضيلة أو رذيلة. فيرى أن ليس للمجتمع مثلًا، أن يكف الناس عن الخمر. ويبني رأيه هذا على أن مصلحته الحقيقية تقتضي أن تباح الخمور لجميع الناس حتى تصطرع الإرادات فيبقى الرجل المتين الصليب الذي لا تغريه الخمر بالانغماس ويموت اللين الخريع الذي ينغمس في الشراب. وذلك أن من شأن الرذائل أن تقتل المتهالكين عليها، وأن من مصلحة الأمة أن ينقرض هؤلاء الضعفاء الذين لا يملكون إرادتهم وعندئذٍ لا يبقى فيها غير الأقوياء. أو بعبارة أخرى يريد «برنارد شو» أن تكون الفضائل سجايا موروثة تجري في عروقنا وتتمشى بنا كأنها بعض طبائعنا، نلزمها عفوًا وطبعًا وليس تكلفًا وتعليمًا. ولن يكون ذلك إلا بأن تنقرض منا عناصر الشر بانقراض أصحابها. وانقراض أصحابها لا يكون إلا بأن يستسلموا لها وينغمسوا فيها. وإذا كانت الرذيلة لا تقتل أصحابها، فهي إذن ليست رذيلة وليس ما يدعونا إلى أن نكف الناس عنها، فالنَّهِم، والمنغمس، والمدمن، والقذر، والمستهتر، كل هؤلاء يؤذون أنفسهم بما يمارسونه، فمن مصلحة الأمة أن تتركهم حتى يبيدوا منها وليس من مصلحتها أن تقيم الحواجز كي تكفهم عنها؛ لأن قصارى ما تفعله عندئذٍ أنها تقيم قفصًا من الواجبات الأخلاقية. ولكنها مع ذلك لن تغير طبائعهم. وهو يضرب المثل بفرنسا التي تستباح فيها الخمور يشربها الصغار والكبار والأطفال والشيوخ، فإن الفرنسي أقل الأمم سُكْرًا وإدمانًا؛ لأن الذين أدمنوا قد هلكوا وباد نسلهم فلم يبقَ سوى المعتدلين.
ولكن الذين رأوا تفشي المخدرات في مصر عقب الحرب الأولى لا يمكنهم أن يؤمنوا بهذه الإباحية، فقد رأينا نحن نصف مليون مصري تفترسهم المخدرات، وليس فينا من يستطيع أن يقول إنه يجب علينا أن نتركهم حتى تقتلهم هذه المخدرات؛ لأنهم إنما وقعوا فيها لضعف إرادتهم، وأن هذا الضعف جدير بأن تطهر منه الأمة حتى لا يبقى فيها غير الأقوياء المستعصمين الذين يستطيعون أن يعيشوا ويتصونوا مهما أحاطت بهم الغوايات.
ولمذهب «داروين» الأثر الأكبر في نزعات «برنارد شو» التجديدية. وهو هنا في موضوع الأخلاق إنما يجيز هذه الإباحية لأنه يرجو منها تطورًا يصيب القلوب والغرائز فتستحيل الأخلاق طباعًا موروثة لا يحتاج الناس إلى تعلمها وتكلفها وسن القوانين وإقامة الحواجز للمنع من مخالفتها.
وهذا «التطور» يشغف به «برنارد شو» شغفًا عظيمًا حتى لقد جعله موضوعًا لاثنتين من أقوى دراماته. وهو في واحدة منهما يقترح إنشاء «وزارة للتطور» يكون رئيسها عضوًا في مجلس الوزراء. والقصد من هذه الوزارة تدبير الطرق وتهيئة الوسائل لاستنتاج طراز جديد من الناس يكون أقوى جسمًا وأذكى عقلًا وأصح غرائز منا. وهذا الطراز الجديد هو سلالة «السوبرمان» — أي ما فوق الإنسان — فإنه يقول إنه ما دمنا في عصر ديمقراطي، الحكم فيه للأمم، فإنه يجب أن نجعل الناس يتطورون. حتى إذا مرت القرون ظهرت سلالات جديدة من الإنسان تمتاز من السلالات القديمة بميزات إنسانية جديدة. وهو هنا يشرح للقارئ جمود الإنسان منذ فجر المدنية إلى الآن، فإن هذا الرقي الذي نفخر به إنما هو في الوسط الذي يحيط بنا وليس في أنفسنا، فنحن أبناء العصر الحاضر وآباؤنا من عشرة آلاف سنة، سواء من حيث صحة الجسم أو ذكاء العقل، لم نتقدم في شيء. وإنما هذا التقدم الموهوم هو في الوسط فقط. وهو هنا يستشهد على أننا والمتوحشين سواء في الغرائز بآلاف الأمثلة، منها مثلًا أن المتوحشين يحملون في فخار رءوس قتلاهم، وكذلك فعل «كتشنر» مع جثة «المهدي» التي بعثرها بقنابل المدافع في السودان.
وهو يرى أنه لا بد لاستنتاج هذا الطراز الجديد من الإنسان من الانتخاب الذي يتجاوز حدود الزواج. وهو يفرض وجود هيئة من العلماء تكلفهم وزارة التطور بتعيين الأشخاص الذين ترى في تزاوجهم فائدة للأمة من نسلهم المنتظر. وهو هنا إباحي لا غش فيه. ولو أردنا الشرح والإسهاب لتورطنا فيما لا يطيقه ذوق القارئ العربي، ولكننا نقول إنه ينظر إلى القوانين والشرائع من حيث إنها عادات وعُرف، وأنه يجب أن تغيَّر كلما وجدنا فائدة في التغيير. وهو يضرب المثل هنا بالزواج، فإن هذه الكلمة تحاط بهالة من الاحترام والقدسية حتى ليظن الإنسان أنها تعني شيئًا واحدًا عند جميع الناس. مع أن الواقع أنها تعني عادات تختلف بل تتناقض، فهناك المرأة التي تتزوج بضعة رجال في «التبت». وهناك الرجل الذي يتزوج بضع نساء. وهناك الزواج الذي لا يجاز فيه سوى رجل وامرأة لا أكثر. وينتقل من هذا البيان إلى استدراج القارئ إلى أن القول باستنتاج طراز جديد من الناس بلا زواج شرعي وعشرة دائمة بين الزوجين ليس قولًا غريبًا وإنما هو ابتكار عادة جديدة يقررها وزير التطور، أو هو زواج جديد، يسن المجتمع قوانينه الجديدة.
ولا يجوز لنا أن نتناول فلسفة «برنارد شو» دون أن نشير إلى الاشتراكية، فإنه يعلق هذا المذهب الاقتصادي على مذهبه البيولوجي السابق في استنتاج السوبرمان. وما دامت المرأة حرة من هذه الناحية الاشتراكية تعمل وتكسب فهي تستطيع أن تختار زوجها بهداية غرائزها. وهو يرى أن هداية الغرائز أدعى إلى ترقية السلالات البشرية من أي اعتبار آخر من الاعتبارات الحاضرة في الزواج، كأن تنشد المرأة في الزواج كفيلًا يكفل لها العيش بدلًا من أن تنشد حبيبًا ومحبًّا إذا رأت وزارة التطور ذلك.
وهو من حيث الدين، أو بكلام أصح، من حيث المعاني الدينية، يؤمن بالتصوف «البرجسوني»، وأن البصيرة هي التي تهدي الذهن، وأن التطور يحمل في نزعته عناصر الرقي. وقد ألَّف ثلاث درامات عن الدين، وهي وإن لم تدل القارئ على أنه صريح الإيمان بالله فإنها تدل على الأقل على أنه مشغول البال بهذا الموضوع. ولكن لا يمكن مع ذلك أن يقال إنه ملحد، فإنه يرى أن الوظيفة هي أصل العضو، وأن العقل هو الأصل للجسم، وأن الفكرة هي الأصل للمادة، وأن وراء الكون الظاهر عقلًا مختفيًا. وقد حمل على «داروين» لأنه حين عالج موضوع التطور نظر إليه نظرة مادية فأزال منه القصد والغاية، وجعل ظهور الأنواع الجديدة وقفًا على بقاء الأصلح. وهذا لا يعني عند «داروين» أكثر من الاعتماد على المصادفات العمياء، وأن التطور يجري جزافًا بلا قصد. في حين أنه هو — أي «شو» — يرى أن الحياة تهدف إلى غاية تسير نحوها على بصيرة هادية. وكأنه يقول: إن الحياة هي الله.