من داروين إلى برجسون
من الإهمال العظيم أن نُعنى بحركة التجديد في الأدب دون أن نلتفت إلى عناية الأدباء بالدين.
صحيح أن الأديب الأوروبي الآن لا يبالي الموضوعات الدينية كثيرًا، كما كان يباليها «فولتير» مثلًا قبل قرنين تقريبًا، ولكن ذلك يرجع إلى أن الاضطهاد الديني كان قويًّا أيام «فولتير»، فلم يكن اهتمام هذا الأديب العظيم به إلا على سبيل الجهاد للحرية فقط.
أما الآن فإننا بفضل «فولتير» وغيره من الذين حاربوا الظلم والظلام نعيش في جو من التسامح الديني لا يبعث الأديب على الجهاد للحرية. ثم إن محور المدنية الحاضرة يعتمد في حركته على الاقتصاديات؛ ولذلك انتقلت هموم الأدباء، أو معظم همومهم، من الدين إلى معالجة الاقتصاديات.
ولكن التجديد الأدبي كما هو مشاهد الآن ومنذ أربعين سنة في إنجلترا، يرافقه تجديد ديني ترى علاماته في كثرة المؤلفات التي يضعها كبار الأدباء. وفي اهتمام الجمهور المتعلم بالفلسفات الشرقية عامة وفي الدعوة إلى محاربة المادية بألوان من العقائد «الدينية» كالروحية والحيوية والبشرية.
وأول من ألقى الحجر وعكَّر المياه هو «داروين». ولم يكن «داروين» أول من تكلم عن التطور، فقد سبقه «لامارك» و«جوته» بل سبقه جده لأبيه «أرازموس داروين». وإنما امتاز «داروين» بوفرة الشواهد التي اعتمد عليها في التدليل على تسلسل الأحياء الحاضرة من أحياء قديمة بائدة، وإيراد هذه الشواهد في سلسلة منطقية مقنعة، بل مفحمة. ثم إن الكنيسة وقفت موقف العداء، فصار المذهب الدارويني حربًا بين الكنسيين والتطوريين. وهذه الحرب هي التي أكسبت هذا المذهب قوة وانتشارًا.
ولكن منذ أيام «داروين» ظهر لمذهبه عدو جديد غير الكنيسة. وقد وجد أنصار «داروين» أن الانتصار على الكنيسة ليس شيئًا عظيمًا، ولكن الانتصار على هذا العدو الجديد لم يكن سهلًا. ولا يعد حتى الآن كذلك.
وهذا العدو الجديد يؤمن بالتطور والتسلسل ولكنه لا يؤمن ﺑ «داروين»؛ وذلك لأن «داروين» اعتمد على «تنازع البقاء» و«الانتخاب الطبيعي» كأنهما العاملان الوحيدان تقريبًا في تطور الأحياء. وإذا نحن تأملنا هذين العاملين ألفينا معناهما ينحصر في المصادفة، فكأن الطبيعة عمياء تخبط في التطور، وكأنه ليس وراءها إرادة أو عقل. وهذه هي المادية الصريحة.
ولذلك نجد منذ أيام «داروين» حركة قوية يتزعمها «بطلر» الذي كان يؤمن بالتطور ولكنه كان يقول بأن الأساس أو المحرك لهذا التطور هو الإرادة أو العقل. وأن الإنسان لم يبلغ إنسانيته إلا لأنه أراد أن يكون إنسانًا، فهذه الإنسانية لم نبلغها مصادفة بتنازع البقاء والانتخاب الطبيعي. ولم يكن ظهورنا على الأرض خبطًا ومصادفة، كما يعتقد «داروين». وإنما كان لأننا أردنا وقصدنا إلى الغاية التي انتهينا إليها. ولا عبرة بالقول بأن أسلافنا من الأحياء الوضيعة لم تكن تعرف هذه الغاية، لأن عرفانها بها لا يقتضي الشعور أو الوجدان. وهذا لا يمنع أن إرادة التطور إلى الإنسانية كانت مستقرة في نفسها.
وهذا النظر الغيبي الصوفي للعلم، أو الإيمان بأن وراء الظواهر قوة خفية تعمل للرقي، لا يمكن حذفه بالسهولة التي يبعثها البحث السطحي، فإن التعمق في هذا الموضوع إن لم يؤدِّ إلى الإيمان فإنه سيؤدي على الأقل إلى الشك في المادية.
وكلمة «المادية» تؤدي الآن معنيين في أذهان المفكرين؛ أحدهما: ذلك المعني الفلسفي الذي نعني به الإيمان بما يخالف الروحية والاقتصار على المحسوسات أو المعقولات. والآخر: ذلك المعني الاقتصادي الذي نقصده حين نفسر التاريخ تفسيرًا ماديًّا، فلا نرى وراء الحادثة أو الشخص سوى الظروف المحيطة التي تؤثر فيهما. والواقع أن هذا «النظر المادي للتاريخ» الذي أذاعه «ماركس» يشبه تمام الشبه ذلك النظر المادي للحياة الذي اعتمد عليه «داروين» في تاريخ الأحياء — أي التطور — فكلٌّ من «داروين» و«ماركس» يُكبر من شأن الوسط، بل يكاد يقول إنه العامل الوحيد في تطور الحيوان أو المجتمع، ويصغِّر من شأن الحي ويكاد يجعله ضحية الوسط.
والآن تسمع في بعض الأوساط أن مذهب «داروين» قد مات. وقائلو هذا القول لا يعنون أنهم لا يؤمنون بالتطور وإنما يعنون أن تنازع البقاء وبقاء الأصلح ليسا هما المحركان للتطور، وأن الأحياء «حيوية» تسمو إلى قصد وتتوخى غاية.
-
طريق العقل، كما نراه على أكمله في الإنسان.
-
وطريق الغريزة، كما نراها على أكملها في الحشرات.
وكلٌّ من العقل والغريزة قد نشأ لمصلحة الحيوان للبحث عن الطعام وطلب الأنثى والهجوم والدفاع ونحو ذلك. ولكن نحن نرى الآن أننا قد صار لنا من هذا العقل الوضيع ذهن فلسفي يستطيع أن يتجرَّد من مطالب الطعام واللقاح إلى التفكير في الكون منشأً وغاية. وإذن — يتساءل «برجسون» — لماذا لا يكون في مقدور الإنسان أن يستخرج من غرائزه بصيرة يستطيع أن يكشف بها الحقائق كشفًا لدنيا بلا عناء ولا تفكير، كما تهتدي الحشرة إلى فريستها أو أنثاها بلا تفكير أو تدبر؟
والغرائز كامنة في الإنسان قد تغلَّب عليها العقل، ولكن يمكن إحياؤها في أي وقت واستنباط البصيرة الفلسفية منها. وهذا هو النظر الصوفي على أقصاه وأبلغه. وهو أيضًا نظر طائفة من الأدباء الذين يحاولون تجديد الدين، وفي مقدمة هؤلاء «برنارد شو»، فإن هذا الأديب يخاف العلم خوفًا حقيقيًّا مع أنه يرى فيه الرجاء لتحقيق السعادة بتوفير الخيرات للناس؛ فهو لذلك ينذر الناس بأن مصيرهم إلى الفناء والدمار إذا لم يعتمدوا في حياتهم على الدين. ولذلك حمل حملته المنكرة على «داروين»؛ لأنه كما يقول «بطلر» قد ألغى العقل من الكون، ووضع تنازع البقاء وبقاء الأصلح مكانه، فكأنه بذلك قد جعل القتال والحروب والتناحر والمزاحمة إلى الموت سننًا، أو نواميس، قد شرعتها لنا الطبيعة، فلا بأس من أن نسير فيها. وهذا هو الدمار.
والخوف من تقدم العلوم، والحذر منها، إذا لم يرافقها دين، يتضح في جميع ما كتبه «شو» و«ولز»؛ فقد كتب هذا الثاني جملة مؤلفات عن الله والدين ولكنه ألحد أخيرًا، وسكن إلى الإلحاد على الرغم منه. وأصبح يشبه القائلين بالبشرية — أي الإيمان بالإنسانية فقط — أصلًا وغاية، ويعمل لرقيها. ولكنه مع إلحاده هذا يدعو إلى الدين البشري لأنه يخاف مادية العلم، وأن يؤدي تقدمه إلى زيادة التنازع والتناحر فيقضي هذا التقدم على الحضارة.
وهنا يجوز لنا أن نتساءل: هل الباعث الحقيقي إلى هذا الاهتمام بالدين عند «بطلر» و«ولز» و«برجسون» هو الاصطدام بحقيقة لا يمكن الهروب منها، أو هو الرغبة الحارة في إيجاد عواطف دينية رحيمة توازن المنطق العلمي القاسي؟
لندع هذا الآن. ولكن يجب أن نقرر هنا أن هذا المنطق العلمي ينطوي على قسوة تكاد تدفع بالإنسان إلى الفرار منه إلى أية عقيدة يتماسك بها كيان المجتمع ولو كانت كاذبة، فقد عبَّر «برتراند روسل» عن هذا المنطق العلمي أحسن تعبير في كتابه «طوالع العلم» فوصف كيف يكون الناس حين يستفيض الروح العلمي ويسود الحكومة والتعليم والنظام عامة، فإذا به يخرج بعد هذا بجهنم متقنة الوضع محبوكة الأطراف، حيث يتغلب العبقريون ويتزاوجون فيما بينهم فتكون منهم سلالة منفصلة في بناء الجسم والعقل تستبد بالعامة وتحرم على أفرادها التعمق في درس العلوم … إلخ.
هذا المنطق القاسي الذي يخيف الأدباء في إنجلترا وغير إنجلترا هو الذي يدفعهم إلى تجارب دينية جديدة غير بصيرة «برجسون». فمن ذلك هذه الثقافة الجديدة التي تفشت في الأوساط المتعلمة في أوروبا عن درس الأديان الشرقية، وخاصة البوذية والهندوكية. ومن ذلك أيضًا هذه الحماسة أو هذا التلهف لدرس الطبيعيات الجديدة على يد «جينز» و«أدنجتون» العالِمَين الإنجليزيين اللذين يقولان بأن وراء الكون فكرًا مدبرًا، ويجنحان إلى غيبيات «عصرية» تشبه غيبيات «أفلاطون» من حيث أن وراء المادة فكرة.
ولم يبلغوا بعد نهاية هذه التجارب. فمنهم المؤمن القديم، ومنهم الذي يوهم نفسه بأنه يؤمن بإيمان جديد. ومنهم المتردد، ومنهم الملحد الذي سكن إلى إلحاده سكون اليأس. ثم منهم أخيرًا «البشري» الذي يسكن إلى ديانة بشرية ليس فيها شيء من الغيبيات؛ إذ هي مجموعة الجهد البشري للرقي لا أكثر.
ولكن لن نفهم الحركة التجديدية في إنجلترا بل في عالم الثقافة الأوروبية حتى نولي هذه الأفكار بعض انتباهنا.