ولز بين الوطنية والعالمية
ليس في العالم خصم للوطنية يدعو إلى العالمية مثل «ولز» وهو لا يفتأ يعزف على هذا الموضوع. وهو على هذه الحال منذ نحو ثلاثين سنة، لم يتغير حتى مدة الحرب، فإنه هو الذي وضع عبارة «الحرب لإنهاء الحرب»؛ أي إنه كان يدعو الإنجليز إلى التجند وقتال الألمان كي تكون هذه الحرب الكبرى نهاية الحروب، بإقامة هيئة تقضي القضاء النافذ في الخلافات التي تقوم بين الأمم فلا يحق لدولة أن تعلن حربًا على دولة أخرى بل لا يجوز لدولة أن تجند جيشًا.
وفي هذا العام (١٩٣٣) ألقى خطبة في مدرسة الأحرار الصوفية في أكسفورد، فدعا إلى إنشاء عصبة من الفاشيين الأحرار كي يقاوموا الفاشيين الذين يدعون إلى الوطنية الحادة مثل أتباع «موسوليني» في إيطاليا وأتباع «هتلر» في ألمانيا.
فالرجل لم يتغير عن دعوته الأولى التي دعا إليها حوالي ١٩٠٢. وهو في هذه الدعوة يرث الرسالة من «فولتير» و«روسو» وسائر البشريين من الإنجليز والفرنسيين. وقد ألَّف كتابه «خلاصة التاريخ» وهو ينظر إلى العالم كأنه أمة واحدة. والكرة الأرضية عنده هي «القرية الكبرى» لجميع البشر. ولذلك أيضًا طعن في كلٍّ من «الإسكندر» و«نابليون» لأنهما من رجال الحرب والفتح. وترتيب هذا الكتاب هو بدعة في تأليف التاريخ؛ فإنك لا تجد فيه تاريخًا لكل أمة على حدتها. وإنما تجد موكبًا سائرًا يدلك على التقدم البشري بصرف النظر عن الأمة التي ينتسب إليها هذا التقدم.
ومنذ ثلاثين سنة أيضًا اقترح تأليف حزب أو عصبة يكون أعضاؤها من جميع الأمم يسيرون فيما سماه «مؤامرة مكشوفة» غايتها هدم الوطنية والاتجاه بالناس إلى الحرية والعلم والعالمية؛ أي أن يكون العالم أمة واحدة لها حكومة مركزية تتولى التعليم والنظام المالي. وهذه الهيئة يجب أن تؤلف للعالم موسوعة كبيرة تترجم إلى جميع اللغات، فتكون دستور الثقافة، يعاد تنقيحها من آنٍ لآخر كي تتجدد معارفها، فإذا قرأها جميع الناس في مختلف الأمم اتفقت آراؤهم السياسية عن فهم، فلا يكون اختلاف وتعصب يبعثان على التنافر والحروب.
ثم يجب أن تأخذ هذه الهيئة نظام التعليم أيضًا، فتمنع مثلًا تدريس التاريخ إذا كان يبعث في التلاميذ روحًا وطنيًّا، كما يجب أن يستوي جميع التلاميذ في العالم في الحصول على أوفى قسط من التربية؛ لأن الجهل الذي ينشأ في أمة ما من إهمال التعليم قد يؤدي إلى خطر كبير على سائر الأمم. بل هو يرى أن تقوم هذه الهيئة بإيجاد دين عام، أو بعبارة أصح، مزاج ديني عام لجميع الأمم بحيث لا يؤدي التعصب الديني في واحدة منها إلى إيقاع خطر بالأمن العالمي.
ثم هو يرى أن تحقيق هذا النظام العالمي لا يمكن إلا مع إنشاء نقد عالمي واحد يتعامل به جميع البشر، فلا بد إذن من إنشاء بنك للعالم يتولى إصدار النقود سواء أكانت من ورق أو من معدن.
وفي «ولز» خصلتان، تتضحان في جميع مؤلفاته؛ إحداهما: نشاط في نفسه يدفعه إلى الإعجاب بنشاط الآخرين، ولو كانوا من خصومه. والثانية: دأبه في التنظيم والترتيب.
فهو يدعو إلى إنشاء عصبة من الشبان يتولون تهيئة الأذهان وإعداد العالم للدولة العالمية التي ينشدها. وهو هنا يضرب المثل بالفتيان الكشافة وفتيان الفاشيين، مع أنه يكره نزعاتهم الحربية الوطنية. ثم هو لا يكف عن التنظيم، فإنه يؤلِّف القصة ويتعلل بما فيها من حب وإغراء جنسي، كي يشرح نظامًا عن تأليف موسوعة أو موسوعات مختلفة.
وقد استهوت هذه النزعة الولزية عددًا كبيرًا من المفكرين في كل أمة. ومع أن الآمال التي عقدت بعصبة الأمم خابت وعرف الناس أن مبادئ الرئيس «ولسون» ضرب بها عرض الحائط، وأن الانتداب هو الاستعمار لا يختلف منه إلا في الاسم، فإن كثيرًا من التأييد الذي لقيته هذه العصبة يرجع إلى هذه النزعة التي بعثها «ولز» والتي تجعل الناس يتشبثون بعلالات العالمية أو الأممية ويرجون من العصبة المريضة أن تعود فتنهض وتكون بذرة لحكومة قوية تدير مصالح العالم العامة.
ولا يفتأ «ولز» يجمع الشواهد والبراهين التي يقصد منها إلى إقناع القارئ بأن خياله يمكن أن يتحقق، فهو يذكر لك «اتفاق البريد» بين جميع الأمم من حيث إنه نظام عالمي. ويذكر لك المعهد الأممي لإحصاء القمح في روما، فإن هذا المعهد قد أنشأه رجل يهودي أمريكي وحبس عليه أوقافًا. وله مندوبون في جميع أنحاء العالم يجمعون الإحصاءات التي تذاع على العالم عن حاصلات القمح كي تعرف الأمم مقدار القمح وتحتاط للمستقبل من القحط. وليس شك أن هذا المعهد قد أفاد العالم وأنه يمكن التوسع في هذه الخطة، فتزداد مثل أعمال هذا المعهد حتى يستطيع أن يخرج إحصاءً كل عام عن جميع الحاصلات الزراعية والمعدنية. ومن مصلحة جميع الأمم أن تقف على هذا الإحصاء الدقيق لأن جهلها قد يؤدي بها إلى نتائج اقتصادية توقعها في خسائر كبرى.
وهذه العالمية هي الآن حلم فقط، لأن النزعة التي تسود العالم السياسي الآن (١٩٣٣) هي النزعة الوطنية؛ ولذلك نجد جميع الأمم تسارع إلى إقامة السدود الجمركية وتدعو إلى الوطنية الاقتصادية. وفي الوقت الذي يدعو فيه «ولز» هذه الدعوة العالمية يدعو فيه ولي عهد بريطانيا دعوة وطنية بندائه المشهور: «اشتروا البضائع البريطانية!»
والمتأمل لأحوال العالم في ضوء هذه الأزمة الحاضرة وأمام تاريخ الاستعمار والأسباب الرئيسية للحروب — وخاصة بعد أن أخذت مدرسة الاقتصاد الجديدة بقيادة «الميجر دوجلاس» تشرح نظرياتها وتبسطها بسطًا وافيًا — لا يمكنه إلا أن يعتقد بأن التنافس في التجارة الخارجية والرغبة في الحصول على المواد الخام الرخيصة واحتكار الأسواق هي السبب الأساسي للاستعمار. وإذن فكل ما يعمل لنقص التجارة الخارجية يعمل أيضًا لتخفيف الاستعمار ويمنع في الوقت نفسه أقوى البواعث على الحرب، فإن القائلين بالعالمية يقولون بإلغاء الحواجز الجمركية وأن تختص كل أمة بالصناعة التي يليق لها مناخها ثم تبادل الأمم الأخرى ما تصنعه من المصنوعات أو ما تنتجه من الحاصلات. وبديهي أن من يقول بحكومة عالمية يجب أن يقول بحرية التجارة على أوسع معانيها.
ولكن حرية التجارة تبعث على المزاحمة التجارية والسعي للاستيلاء على أسواق العالم. وقد حاربت بريطانيا الصين كي تجبرها على شراء الأفيون الهندي، مع أن الصين كانت قد منعت الاتجار به. والسبب الأساسي للحرب الكبرى هو هذا السباق إلى أسواق العالم بين بريطانيا وألمانيا. والأساطيل لا يقصد منها حماية الوطن، وإنما يقصد منها حماية التجارة الخارجية. وأكبر أمة تعتمد على التجارة الخارجية هي بريطانيا؛ ولذلك كانت أيضًا صاحبة أكبر الأساطيل.