رجال الذهن في إنجلترا
ليس التجديد مقصورًا على رجال الأدب من مؤلفي الدرامات وممارسي الفنون الجميلة. وإن كان هؤلاء أقرب إلى الجمهور وأعمق أثرًا فيه من غيرهم؛ لأنهم يتصلون بعامته وخاصته بما يؤلفون من قصص أو يعرضون من درامات أو حتى بما ينحتون من تماثيل أو يرسمون من صور، فإن هناك هيئات أخرى تعمل للتجديد. وقد تكون هذه الهيئات جمعيات ترصد نفسها لبث دعاية لآراء ثقافية خاصة، أو قد تكون مجلات تعيش بمجهود محرريها وعطف طبقة من رجال الذهن عليها. أو قد تكون قائمة على أيدي أدباء أو علماء يؤلفون الكتب في نزعات جديدة في الآراء الاجتماعية أو العلمية أو الأدبية.
فهناك مثلًا جمعية تدعى «جمعية العقليين» قد طبعت ونشرت إلى الآن ملايين من المجلدات من الكتب التي تدعو إلى التفكير الحر والاعتماد على الرأي العلمي دون العقيدة الدينية. وقد كان لهذه الجمعية أعظم الأثر في تطور الأفكار بين شباب الإنجليز، بل شيوخهم. وهناك جمعية أخرى تدعو إلى الفلسفة الوضعية التي يقول بها «كَنْت» الفيلسوف الفرنسي. وقد بقيت أكثر من ثلاثين سنة وهي تصدر مجلة، كان يكتب فيها الأديب الكبير «فردريك هريسون» ويدعو فيها إلى نوع من «البشرية» هو مزيج من الرأي والعقيدة أو العقل والعاطفة.
ثم هناك إلى هذه الجمعيات، رجال الذهن الذين ينتمون إلى العلم أو الدين أو الاجتماع، فيدأبون في نشر آرائهم التي استنبطوها من دراساتهم. وهم يعملون لنشرها بين الجمهور بمختلف المؤلفات. وأعظم مثال على هؤلاء، ذلك اللورد العجيب الذي بهر الناس بذكائه وثقافته، وبهدم ما يحترمونه من عقائد، نعني به «برتراند روسل». فإن القارئ لمؤلفاته يشعر أن «برنارد شو» بالنسبة إليه يعد من الجامدين في أشياء كثيرة؛ إذ هو كتب عن الإمبراطورية البريطانية والزواج والصناعة والدين، بروح اقتحامي جريء. ولو أن أحد المفكرين في القرون الوسطى نُسِبَ إليه كتابٌ واحد من مؤلفاته لكان هذا كافيًا لإحراقه. وهو عالم ينظر إلى الاجتماع نظرة مادية محضة. ثم هو مخلص أشد الإخلاص في تفكيره؛ إذ هو لا يعرف المداعبة في الغيبيات العلمية التي يخرق فيها العلماء مثل «جينس» أو «إدينجتون» ويهيمون في خلالها. ولا هو يستطيع أن يداهن الوطنيين الإنجليز بكلمة مديح عن تاريخهم أو إمبراطوريتهم؛ إذ هو يصرِّح بأن هذه الإمبراطورية تعوق التقدم في العالم، وأنه ليس هناك أي مبرر لأن تغتال بريطانيا الهند أو مصر.
ثم هناك مفكر آخر من رجال الذهن هو «هافلوك أليس» فإنه اختص منذ أكثر من ثلاثين سنة بدرس التناسليات، فأشاع على هذا الموضوع فيضًا من الضوء الذي استخلصه من ثقافته العلمية. وهو لا يستطيع الوصول إلى الجمهور، ولكنه يهيئ الخميرة للخاصة من الأدباء والصحفيين الذين يعلِّمون هذا الجمهور. ولا يمكن لإنسان يقرأ مؤلفات هذا الرجل إلا أن يتأثر بها.
وكلٌّ من «برتراند روسل» و«هافلوك أليس» يدعو إلى التمتع بالحياة، وإلى أن يعيش الإنسان ملء حياته، فلا يُقَتِّر على نفسه ولا ينكر عليها لذة الذهن أو لذة العواطف. وكلٌّ منهما يُعد من هذه الناحية الوارث الشرعي لدعوة النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، فإن هذه النهضة هي في لبابها، وصميم الغاية التي نشدتها، دعوة إلى التمتع بالدنيا على حساب الآخرة والإكبار من شأن الجسم على حساب الروح. ومن ذلك العصر إلى الآن، والتجديد في أوروبا سواء أكان في الأدب أو الفنون يتجه هذا الاتجاه. وعلينا نحن «الشرقيين» أن نعرف ذلك وندركه حق الإدراك كلما أردنا أن ندرس ثقافة أوروبا، أو مزاجها الأدبي، أو المقصود من حركاتها التجديدية. وقد نكره نحن هذه النزعات، وليس شك أن فيها كثيرًا مما يُكره، ولكن يجب ألا نخدع أنفسنا عن حقيقتها فنتوهم أنها غير ما تبدو لنا.
ومن رجال الذهن الذين أثَّروا أثرًا غير صغير في التفكير الإنجليزي القسيس «إنج»، فإن هذا القسيس يرتئي من الآراء ما لو أُعلن هنا في بلادنا لَعُدَّ إلحادًا أو كفرًا. ولكنه مع ذلك يحتفظ بمنصبه في الكنيسة الإنجليزية، وهو منصب سامٍ. وهذا برهان على مدى الحرية التي يتمتع بها رجال الدين في إنجلترا. ولم يغب عن ذهننا تلك الثورة الصغيرة التي قام بها أسقف برمنجهام (وهو دكتور في العلوم) حين صرَّح بأن القربان المقدس في الكنيسة لا يمكن لأحد أن يثبت قداسته بالتحليل الكيماوي. ولا يزال هذا الرجل في منصبه مع ذلك، لا يجد الاحترام فقط بل يجد العطف من الجمهور الحر.
والقسيس «إنج» وأسقف برمنجهام كلاهما يعمل للتجديد في الدين. وينتشر منهما روح الحرية الفكرية إلى الصحف والقسيسين والخطابة. ومن هذه الوسائل الأخيرة ما يبلغ الجمهور فيؤثر فيه. ولكن ذكرنا للقسيس «إنج» وﻟ «برتراند روسل» في فصل واحد قد يوهم القارئ باشتراكهما في الآراء. ولكن الحقيقة أن الفرق بينهما شاسع، وإنما هما يشتركان في النزعة؛ إذ كلاهما مجدد في ميدانه. وميدان الأول هو الاجتماع، وهو ميدان حر، وميدان الثاني هو الدين، وهو كثير العقبات والقيود.
وقبل سنوات ظهر قسيس آخر هو «هيوليت جونسون». وقد ألَّف عن روسيا كتابًا شعبيًّا بيعت نسخه بمئات الألوف ودعا فيه الإنجليز إلى تأليف حكومة اشتراكية. وقد فسر المسيحية بأنها مذهب اشتراكي.
وللمفكرين الأوروبيين أثر آخر في تجديد الفكر الإنجليزي، لا يقل عن أثر المفكرين من الإنجليز أنفسهم، فإن «أدلر» و«فرويد» و«برجسون» و«نيتشه» و«سبنجلر» و«كوهلر» تقرأ مؤلفاتهم بشراهة، بل تؤسس المجلات لدرس مذاهبهم التقدمية والرجعية.
وعلى ذكر المجلات نقول إنها في إنجلترا تزود المفكرين بالمواد الخام للتجديد. وليس في العالم شيء يعمل للتثقيف بين الجمهور مثل المجلات الإنجليزية الأسبوعية، فإنها وإن كان عدد قرائها قليلًا تعيش بما تنشر على الناس من آراء سياسية، واجتماعية، وأدبية. وقد نجد في إنجلترا جريدة أَحَدية؛ أي تصدر يوم الأحد، ولها من القراء مليونان، أو ثلاثة ملايين، ومع ذلك فإنها لا قيمة لها أصلًا عندما تبدي رأيًا في السياسة أو الأدب، بينما العالم السياسي يهتز اهتزازًا إذا كتبت مجلة «إسبكتاتور» أو «نيوستيتسمان» أو «ويك إند» مقالًا عن الأحزاب أو إحدى الخطط. وقد لا يزيد قراء إحدى هذه المجلات على عشرة آلاف أو عشرين ألفًا.
ولهذه المجلات الأسبوعية تأثير كبير؛ لأن قراءها صفوة الأمة، ولهم النفوذ والسلطان في تقرير الخطط، وتكوين الرأي العام، وتسويغ البدع أو استنكارها. وقد كانت مجلة «النيشن» عقب الحرب (في ١٩١٩) قوة كبيرة في يد محررها العظيم «ماسنجهام»؛ فإنه هو الذي أكسب التفكير السياسي في إنجلترا روح التسامح نحو الاشتراكية؛ إذ كان هو نفسه من الأحرار الذين يميلون إلى حزب العمال.
وهناك مجلات أخرى هي أدوات التجديد في جميع نواحي الحياة. ونحن نضع في المقدمة المجلة التي يحررها الدكتور «جاكس» نعني بها «هبرت جورنال»، فإنها مجلة دينية، ولكنها تكتب في البوذية والإسلام والأفلاطونية والمادية، فتملأ أذهان المفكرين ذخيرة للتجديد الديني. وهناك مجلة «نيو إنجلش ريفيو» التي تكاد تقصر نفسها على الدعوة إلى التجديد الاقتصادي بزيادة الاستهلاك على طريقة «دوجلاس» ومحررها «أوراج» رجل معروف منذ ثلاثين سنة يدعو إلى «نيتشه» والأدب الجديد. ثم هناك مجلات صغرى، تلتف حولها جماعات خاصة من الأدباء، وتنزع نزعات خاصة مثل «كريتيريون» و«أدلفي» فإن جميع الثائرين في الأدب الإنجليزي رأوا النور عقب ميلادهم في عالم الأدب في صفحاتهما.
وهذه المجلات، ثم أولئك المفكرون الذين ذكرنا بعضهم، هم الذين يمدون الأدب الإنجليزي الحديث بوسائل التجديد. وإليهم يرجع الفضل في النزعات الجديدة التي نجدها في «ألدوس هكسلي» و«لورنس» و«جويس»؛ لأنهم يقدمون الخمائر أي المواد الخام التي يتربى بها الأديب، يأخذها تبرًا مخلوطًا مشعثًا فيصهرها في ذهنه ويخرجها ذهبًا ناصعًا في قصة، أو دراما، تستعذب وتستجمل. ولسنا نقصد من هذا إلى أن الأديب لا يبحث بنفسه في البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، أو أنه لا يكسب اختباراته منها مباشرة وإنما نريد أن نقول إن أدباء الإنجليز المجددين تحيط بهم بيئة ثقافية صحفية تعينهم على التفكير والتجديد، بل تحفزهم إليهما.
ونحن في مصر محرومون من هذه الخمائر الصحفية؛ لأن الإنجليز سنُّوا لنا قبل نحو أربعين عامًا «قانون المطبوعات» الذي يفرض غرامة على كل من يرغب في إنشاء مجلة أو جريدة. ولا يزال هذا القانون باقيًا؛ لأن الأحزاب تستغله في مناوأة خصومها ومنعهم من إنشاء الصحف. وبذلك تأخر تطورنا وسوف يتأخر ما دام قانون المطبوعات قائمًا يقيد الصحفي في إصدار الصحف ويعاقب على أشياء تباح في أوروبا الحرة. وهذا القانون هو عارنا الأبدي، فقد كنا نعده أيام الإنجليز من وسائل الاستعمار، أما الآن فهو من وسائل الاستبداد المصري، يستعمله مصريون لمنع التفكير الحر في مصر.