الثائرون
نقصد بالثائرين أولئك الذين جاءوا عقب المجددين وتتلمذوا لهم، ولكنهم خطوا خطوة أخرى أبعد منهم، وفتحوا ميادين جديدة حاول أولئك المجددون أن يفتحوها ولكنهم لم يستطيعوا لأن الزمن لم يكن قد هيأ لهم بعدُ أسباب الفتح.
وهؤلاء الثائرون جاءوا مدة وعقب الحرب (١٩١٩) ورأوا المدنية تضرى وتستوحش أمام أعينهم، وتهدم ما تعلموه من أخلاق أو أديان، فخرجوا منها وقد أنكروا كلَّ شيء تقريبًا. وشرع كلٌّ منهم يؤسس لنفسه إيمانًا جديدًا يخلص له ويدعو إليه. ولم يعد الأدب عند هؤلاء الثائرين صنعة تحتاج إلى الدرس والتأنق، وتوخي ما يحبه الجمهور القارئ، والوقوف على أسرار الفنون وغاياتها، وإنما هو عندهم بحث عن أرشد الطرق لأن نعيش في هناء على هذه الأرض. وهم لهذه الغاية يعتمدون على أنفسهم، ويكتبون تراجمهم أو تراجم أصدقائهم الذين عرفوهم، في صيغة القصة، ولا يبالون بأي لغة يكتبون. ولذلك تجد ما شئت من الخروج على القواعد — أي قواعد اللغة — وعرف القصة، وأسلوب الرواية. وأنت إذا لم تكن صبورًا فإنك تطرح الكتاب بعد فصل أو فصلين.
ولهذا أسباب كثيرة أولها وأهمها، أن هؤلاء الثائرين لا يريدون التسامح في قليل أو كثير من الخيال، فهم يقررون الواقع، ويريدون مواجهة الحياة بكل ما فيها من خير أو شر، فلا يبالي أحدهم أن يقول لك أن في الحياة أقذارًا وأن الناس يبنون المراحيض في بيوتهم. ثم إذا عبت عليهم تفكك القصة، أو تشتت حوادثها، أو أنها غير مهذبة في صيغتها، أجابوك بأن الحياة كذلك ليست متناسقة ولا مهذبة، وأنك إذا وقفت لحظة كي تفحص عن خواطرك وأفكارك ألفيتها في غاية التشعب والتشتت. ولن تجد صورة مهذبة لأي حادثة إلا في القصص الخيالية. وهم لا يريدون أن يرووا قصصًا عذبة لذيذة، وإنما يريدون أن يترجموا الحياة الحقيقية كما يعيشونها هم أو كما يرونها في غيرهم بدون تحلية أو تزويق.
- (١)
إن الحرب فتقت أذهانهم للشك في كل شيء حين رأوا مبادئ الأخلاق التي تعلموها لا قيمة لها أصلًا.
- (٢)
إن الأمراض العصبية والنفسية التي نشأت في المجتمع، قد أشاعت نظريات العقل الكامن على طريقة «فرويد»، وبعثت حرية جديدة في بحث البواعث التي تبعث على التفكير وغاية الحياة.
- (٣)
إن هذه النظريات نفسها أكدت ضرورة التفريج عن الغريزة الجنسية والكف عن الكظم وقمع الشهوات.
وهم بكلمة مختصرة قد تركوا «الأدب» والتمسوا الحياة. وإذا كانوا يعتمدون على القصة فذلك لأنها تتسع لألوان مختلفة من وصف العيش ونقد النظر. وإلا فهم كثيرًا ما يعتمدون على المقالة. وسواء عندهم هذه أو تلك أداة لبسط آرائهم في الدنيا والإنسان.
وهؤلاء الثائرون كثيرون الآن في إنجلترا منهم من نوفق إلى فهمه، ومنهم من يعتاص ويستوعر. وسنتكلم عن أشهرهم، وهم «لورنس» و«جويس» و«هكسلي»، فأما الأول فقد مات في ١٩٣١ وهو في زعم كثيرين رأس الثائرين وبداية العهد الجديد للأديب الإنجليزي. وهناك من يضع «جويس» على رأسهم. وكل من الاثنين يختلف عن الآخرين في الطريقة والغاية. ولكنهم جميعًا سواء في الدعوة إلى التمتع بالحياة بالذهن وبالغريزة معًا.
وفي كلٍّ من «لورنس» و«جويس» نجد التفاتًا كبيرًا إلى اللذة الجنسية، وبحثًا مستفيضًا فيها، كان من أثره أن منعت الحكومة بعض مؤلفاتهم من التداول. وهما، كلاهما، ينغمسان في أعماق العقل الكامن حتى ليشعر القارئ لهما أنه قد انتقل من قراءة القصة، إلى قراءة حادثة معينة من تلك الحوادث التي يذكرها «فرويد» في بعض محاضراته. وقد كانت «ماري ستوبس» تُعد قبل الحرب من الغلاة في الدعوة إلى الصراحة في المسائل الجنسية ولكنها الآن لا تعد شيئًا أمام هؤلاء الثائرين. كما أن دعوة «برنارد شو» إلى مواجهة الحياة والنزول على حقائقها دون بهارجها وتزاويقها قد عمل بها وغلا فيها «ألدوس هكسلي».
و«ألدوس هكسلي» هو رجل الذهن والعلم، وهو أقرب إلى «ولز» منه إلى الثائرين. وهو يبتعد عن «فرويد» والتحليل النفسي بقدر ما يقترب من «واطسون» في السيكولوجية السلوكية. ويستطيع أن يهرب من الحياة بقصة خيالية عن حالة الناس على الأرض بعد مئات السنين.
أما «لورنس» و«جويس» فلا يعرفان غير الواقع، وكلاهما يجنح إلى الغريزة ويضعها فوق العقل. وفي كلٍّ من هؤلاء الثائرين فجاجة هي أمارة المبتدئ الذي لم ينضج.
ويجدر بنا هنا أن نعرض موكب الأدب الإنجليزي منذ العصر الفكتوري إلى الآن لنرى هل هؤلاء الثائرون يقفون في طرف هذا الموكب موقفًا منطقيًّا أم لا.
فإن العصر الفكتوري اتسم بالجمود، وانساق في أدبه إلى الخيال والإبهام، كما انساق في مجتمعه إلى الغش والنفاق. وكلتا النزعتين ترجعان إلى أصل، هو الصدود عن الحقائق الواقعة وكراهة الحياة كما هي، وتوهمها شيئًا آخر أسمى وأجل وأقوم مما هي في الحقيقة. وكما كان هناك عرف اجتماعي وعادات فاشية تكسو الحياة بالنفاق، كذلك كان في الأدب عرف آخر يدعو المؤلف إلى أن يتوهم الحياة وكأن ليس فيها غير ما يهواه كل الناس من حسن وسمو وجمال.
وقد صمد المجددون لهذا النفاق يكشفونه. ولما عرفوا أن النفاق الاجتماعي هو الأصل للنفاق الأدبي، عمدوا إلى الاجتماع يمزقونه تمزيقًا. وهذه هي مهمة «برنارد شو». وظهر «المنحطون» فدعوا في صراحة وجرأة إلى أن التمتع باللذات والشهوات ليس عيبًا. وقد تورطوا بهذه الدعوة في بعض الشذوذ.
وبعد هؤلاء وهؤلاء جاء الثائرون، وقد اصطلوا نار الحرب الكبرى فعرفوا من نفاق المدنية في أربع سنوات ما لم يعرفه أسلافهم في سبعين سنة من العصر الفكتوري، فكانت ثورتهم أشد من ثورة المجددين.
وليست الثورة مقصورة عليهم وحدهم، فإن الصدود عن الوهم والخيال عظيم الآن في إنجلترا، حيث تروج كتب التراجم للعظماء وأشباه العظماء، كما تروج التواريخ، رواجًا عظيمًا. وهذا يدل على أن الجمهور نفسه يريد أن يقرأ قصصًا حقيقية عن أشخاص حقيقيين، ولا يريد وهمًا أو خيالًا. وإذا كان «برنارد شو» قد قصر الأدب على إصلاح المجتمع، فإن هؤلاء الثائرين لا ينشدون من الأدب سوى غاية واحدة هي البحث عن الطرق التي نستطيع بها أن نعيش أمتع عيش وألذه، فهم يرون أننا شُغلنا عن لذة الحياة بنظريات وواجبات غريبة، في حين أن غايتنا الأولى يجب ألا تكون الفلسفة، أو العلم، أو خدمة البشر، أو تحصيل العيش، وإنما الغاية الأولى والوحيدة هي التمتع بالحياة، وما عدا ذلك فحواشٍ وزوائد.