الشاعر ت. س. إليوت
أكتب هذا الفصل في سنة ١٩٤٨ عن هذا الشاعر الذي لم يكن بارزًا في وجداني في ١٩٣٣ حين خرجت الطبعة الأولى من هذا الكتاب.
و«إليوت» أمريكي المولد والنشأة. ينتمي إلى إحدى الأسر الأمريكية التي تعتز بأصلها من حيث أن لها فضل السبق في الهجرة من إنجلترا إلى أمريكا قبل نحو ٣٠٠ سنة. وهذه الأسر تقطن الأقاليم الشرقية من الولايات المتحدة، وتتوارث تقاليد المحافظين من حيث السياسة أو الاجتماع، كأنها تقاليد النبالة والشرف.
وقد تعلم «إليوت» في إحدى الجامعات الأمريكية ثم رحل إلى باريس المدينة الفنانة، بل عاصمة الفن الأوروبي. وهناك عرف النزعات الجديدة من الشعراء: «بودلير» و«فرلين» و«رامبو» كما عرف أيضًا النزعات الأوروبية الأخرى التي لا يمكن لأحد في أية عاصمة أن يقف عليها ما لم يكن في باريس.
وفي الفترة التي تقع بين الحربين — أي بين ١٩١٩ و١٩٣٠ — عمَّ القلق أوروبا. وخاصة عندما خاض «موسوليني» في دم الديمقراطية بقتل «ماتيوتي» وغيره من الديمقراطيين الاشتراكيين. وزاد هذا القلق عقب الثورة السوداء التي قام بها «فرانكو» في إسبانيا واستعدى فيها الطائرات الإيطالية والألمانية لضرب المدن الإسبانية. وحاول الديمقراطيون والاشتراكيون أن يعقدوا جبهة في أوروبا ضد هذه الثورات السود في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا، ولكنهم فشلوا. وأخذت كلٌّ من اليابان وإيطاليا وألمانيا تعربد في عصبة الأمم.
ووجد الأدباء أن المثليات والآمال والأهداف التي كانوا يتجهون إليها ويدافعون عنها قد انهارت، حتى قالت «فرجينيا وولف» الأديبة الإنجليزية أن البرج العاجي الذي كان رمز أدباء القرون الماضية الكلاسيين قد استحال إلى «البرج المائل» الذي يعيش فيه أبناء القرن الحاضر، والذي يوشك أن يسقط بهم كما يوشك أن يسقط برج بيزا في إيطاليا.
وعمَّ التشاؤم جميع الأدباء. وكان أول المتشائمين، أو أكثرهم نعيبًا، هو هذا الشاعر الأمريكي «إليوت» الذي استقر في لندن. وقد أخرج في ١٩٢٥ «الأرض الخراب». وهي أحاديث النفس، نفس الشاعر الذي انكشف عنه الوهم؛ وهم الحضارة والثقافة والدين والإنسانية والشرف. وألفى نفسه، ليس في حيرة قد تسفر عن يقين، بل في يأس مظلم لا يرى في خلاله أي بصيص للرجاء. ذلك أن القيم الأخلاقية قد فسدت، بل تعفنت، ولم يعد الإنسان الإنساني قادرًا على أن يعيش في شرف أو ينصب نفسه لمجد، فالناس يتمتعون برخاء المادة، ولكنهم يتمرغون في فقر الروح. وقد عمد «إليوت» بهذا اليأس إلى الهروب من الواقع المؤلم، فانطرح على أبواب الكنيسة الكاثوليكية ينشد السلام والطمأنينة لنفسه القلقة، كما فعل من قبل «بيلوك» و«تشسترتون»، فهو نافر من العصر الحاضر يَحِنُّ، بل يوحم، إلى القديم. ولكنه في هذا الحنين أو الوحام يخرج من القفر إلى البلقع.
انظر إلى قوله في «الأرض الخراب»:
أو انظر إلى قوله:
ولكن «إليوت» بهذا اليأس يبين لنا أنه يتكلم بلسان الطبقة التي نشأ منها، طبقة المحافظين الأمريكيين الذين يمارسون فضائل الاستقامة، ويتجنبون السجون؛ لأنهم أغنياء عن الجريمة بما لهم من مال وثراء. وهو يعجز عن مجابهة العصر الحديث، ولا يطيق رؤية الشعب وهو يحاول بلوغ القمة الديمقراطية. وبكلمة أخرى نقول إن «إليوت» يعمى عن رؤية القرن العشرين؛ لأنه لا يرى غير الحضارة الآلية التي تكاد تخنق البشر بقوتها وجبروتها. ولكنه ينسى أن هذه القوة أو الجبروت كان يمكن بتغيير النظام الإنتاجي أن يكونا في خدمة الإنسان.
أما من حيث الأسلوب فإن «إليوت» يشبه «جيمس جويس» في التعبير عن التتابع العاطفي؛ أي أحلام اليقظة، أو الخواطر المطلقة. ولكنه يختلف من «جويس» من حيث إن هذا رومانتي طليق لا يبالي التقاليد، أما «إليوت» فيعد من الكلاسيين التقليدين. ونزوعه إلى الكاثوليكية يتناسق مع نزوعه إلى التقاليد. ومع ذلك نجد في «إليوت» سمة عصرية، هي أن شعره لا يعرف الطبيعة أو الريف أو الحياة الساذجة الفطرية، فهو شعر المدينة، بل شعر النادي والشارع والمقصف والمصنع. وعنده أن المجتمع الأمثل هو المجتمع المسيحي. ولكن ما هو هذا المجتمع المسيحي؟ فإن الاشتراكي في موسكو، يستطيع أن يصفه وصفًا مخالفًا كل المخالفة لما يصفه به الديمقراطي في لندن أو نيويورك.
وخلاصة القول إن «إليوت» يؤلف قصائده كي يندب العصر الحاضر، عصر الديمقراطية والاشتراكية، الذي لا يستطيع أن يعيش فيه لأنه يعجز عن التخلص من الأخلاق التي ورثها من طبقته في الأقاليم الشرقية للولايات المتحدة. وهو مع أنه يتكلم بلغة العصريين، فإنه يحس إحساس التقليديين، كما يفكر بعقولهم. وقد رأى حربين عالميتين فلم يخرج منهما ملهمًا بسخاء بشري يدعو إلى الاتحاد العالمي. ولم يبصر من خلالهما رؤية الإنسان القادم الذي لن يبالي تلك الأنانيات الصغيرة بشأن التفاوت في الثروة والتفاخر بالرياش وأبهة الألقاب. ومن هنا تشاؤمه الذي يطغى على ذهنه كما لو كان طوفانًا وظلامًا.