الشاعر أودين
نحن نعيش في عصر الانتقال من نظام المباراة في الإنتاج إلى نظام التعاون؛ أي من الانفرادية إلى الاشتراكية. وهذا الانتقال يجد من العراقيل والصعوبات ما رأينا أماراته في قيام الحكومات الفاشية في إسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبرتغال وأرجنتينا. فإن الطبقات التي انتفعت، وأثرت، وتسلطت بالمباراة، لا تستطيع أن تنظر بالرضا والارتياح إلى الانتقال إلى التعاون، حين تقوم المساواة مقام التفاوت؛ لأنها هي التي تنتفع بهذا التفاوت. ولذلك رأينا هذه الطبقات لا تبالي تحطيم دساتيرها وجحد النظم الديمقراطية كي تنشئ ديكتاتوريات تمنع التطور الديمقراطي من الوصول إلى غايته المنطقية وهي النظام الاشتراكي.
ومن هنا أصبح الأديب مكافحًا؛ يكافح من أجل هذا الانتقال وأحيانًا لا يكافح بقلمه فقط، بل يعمد إلى بندقيته ويغادر وطنه إلى إسبانيا مثلًا حيث يقاتل إلى جنب الجمهوريين ضد الديكتاتور فرانكو.
ولكن يجب أن نعترف أن عصر الانتقال هذا الذي نعيش فيه لم يُحِلْ جميع الأدباء إلى مكافحين، فقد رأينا مثلًا الشاعر «إليوت» يحاول الاستمساك بالكلاسية القديمة في الأخلاق والاجتماع والدين، مع أنه يستعمل أساليب «الانتقاليين»، فهو بمثابة الفلاح الذي يزرع خمسة أفدنة بالطرق العصرية، ويعيش في منزل يمتاز بجميع الوسائل العصرية الكهربائية في الإضاءة والطبخ والتبريد والتدفئة ثم ينعي على العصر الحديث آلاته وأدواته التي يستمتع هو نفسه بها. وكأن كل ما يقصد إليه أن يستأثر هو بها ويحرم غيره منها.
ثم هناك غير هؤلاء التقليديين جماعة المترددين الحائرين الذين لا يجدون مراسيهم في وسط هذه الفوضى الانتقالية. ونحن نجد أحيانًا في «إليوت» نفسه مثل هذه المواقف الحائرة.
ثم هناك البصراء الذين رأوا رؤية المستقبل، وفهموا القوات الجديدة، وارتفعوا إلى مستواها الإنتاجي، فأصبحوا مكافحين تغمر الأفكار الاشتراكية جميع جهودهم. ومن هؤلاء الشاعر «أودين» الذي لا يزال في بداية العقد الخامس.
وحياة هذا الشاعر توضح لنا العوامل الثقافية التي تسود وتتسلط على الأدباء المتمدنين هذه الأيام، فقد كان أبوه سيكولوجيًّا يتكسب بتحليل المرضى. ونشأ «أودين» في هذا الجو فتعرف لغته وتفهم هموم المرضى. وهي هموم العصر التي تنشأ من المباراة القاتلة، وما تحدث من مطامع ومحاسد ومخاوف؛ لأن الطمأنينة تكاد تكون معدومة حتى بين الأثرياء فضلًا عن الفقراء.
ونجد في أشعار «أودين» كثيرًا من كلمات السيكولوجيا والعقل الكامن، فهو فرويدي كما هو ماركسي. ولذلك بينما نجد يأسًا مخدرًا عند «إليوت» نجد أملًا منعشًا عند «أودين»، هو أمل الاشتراكية القادمة. ولكنه أمل ترافقه دعوة إلى الكفاح. وهو ينغمس في العلوم والآداب والفلسفات بمثل الهمة والشوق، بل اللهفة، التي ينغمس بها «ولز» أو «هكسلي». وقد غادر وطنه إنجلترا إلى الولايات المتحدة كي يدرس الحضارة الراهنة في أعلى طراز بلغته، ويعرف عيوبها وميزاتها. وهو كما قلنا اشتراكي ماركسي، وأساس اشتراكيته هو درس الحضارة الراهنة. وزواجه هنا بابنة «توماس مان» الأديب الألماني الذي فرَّ من ألمانيا عقب تسلط النازيين عليها له معناه بشأن البيئة الثقافية التي يعيش فيها، بل معناه أيضًا بشأن المستقبل الذي يرسم خارطته في أشعاره.
وأعظم ما تمتاز به أشعار «أودين» هو الإحساس العميق بأننا قادمون على مستقبل يحفل بالمشكلات، ويحتاج إلى ألوان من الكفاح السياسي والاجتماعي والأدبي. ولغته تكتظ بالتعابير العلمية والسيكولوجية. وهذا غير اللاتينية أو الفرنسية أو أي لغة أخرى؛ لأن «أودين» أوروبي قبل أن يكون إنجليزيًّا، وتفكيره عالمي قبل أن يكون وطنيًّا. بل الحق أنه ليس وطنيًّا في أي عاطفة من عواطفه، وهمومه، قبل كل شيء، هي هموم الإنسان «الإنساني» الذي يحس مأساة التعطل في الولايات المتحدة كما يحس الشقاء الأسود الذي يعيش فيه الهنود تحت أقدام الإنجليز. وقد قلنا إنه يشبه «ألدوس هكسلي» من حيث الانغماس الثقافي والدراسات العميقة، ولكن يجب أن نقول إنه يختلف منه كثيرًا من حيث إن «هكسلي» يدعو إلى اتخاذ موقف منفصل من المشكلات البشرية، كأنه يقول بصوفية علمية للقرن العشرين، كأن الأديب يجب أن يكون راهبًا يرى المجتمع ولا يشترك فيه، وقد يحكم عليه، ولكن دون أن يدخل في كفاحه. أما «أودين» فينغمس في المجتمع، وأشعاره هي أشعار السياسة والسيكولوجيا والتطور والاشتراكية وحرب الطبقات وكفاح الاشتراكيين للديكتاتوريين؛ كفاح المتعطلين للماليين والصناعيين.
وفيما يلي أبيات أظن من الأليق أن نتركها بلا ترجمة للذين يعرفون الإنجليزية وهي تدل القارئ على النفس الأودينية ومدى انبساطها وتعمقها في همومها ومعارفها:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
أسهل من هذه الأشعار، هذه القطعة التالية عن «الحب»:
•••
•••
وهذه القطعة التهكمية التالية واضحة، وهي ارتجال الشاعر أو بديهته التي يستخدم فيها ثقافته الزاخرة بالكلمات المختلفة. وهو هنا يأسى على الجو السيئ والطعام السيئ (المحفوظ في العلب):
•••
ولا يزال «أودين» في بداية العقد الخامس؛ ولذلك فإن المستقبل ينفسح أمامه لتطورات ذهنية وأساليب أدبية مختلفة.