الرجعيون الثائرون
ساد الوسطَ الاجتماعي في القرن التاسع عشر في إنجلترا روحٌ ماديٌّ يدفع بالناس إلى التكالب على جمع المال. وقد بعث هذا الروح انتشار الآلات وقيامها مقام الأيدي، فسهل بذلك جمع المال بتراكم الأرباح، وقيام المصنع الكبير الآلي مقام عشرات بل مئات المصانع الصغيرة اليدوية.
فإلى القرن التاسع عشر كانت الصناعات لا تزال في أيدي الصانعين، كل صانع يستقلُّ بمصنعه، فهو نفسه عامل وصانع، فهناك طبقة كبيرة من العمال لا تملك سوى الأجور، وطبقة أخرى صغيرة من الممولين تملك المصانع الضخمة. وكانت الصناعات أشبه أو أقرب الأشياء إلى الفنون كما هو الحال إلى الآن في النجارة؛ فالنجار — المصري على الأقل — هو فنان كما هو صانع، يتأنَّق ويلتذ عمله وينشد منه جمالًا ومصلحة. ولكن العامل في المصنع الآلي الكبير الذي يضم بين جدرانه نحو مائة أو ألف عامل لا يمكنه أن يمزج بين الفن والصناعة؛ لأنه يختص بجزء من العمل، كأن يقنع بصنع الكوتشوك من الأتومبيل، أو بدهنه بالطلاء، أو فرشه وتنجيد مقاعده أو نحو ذلك. فإذا قابلنا بينه وبين النجار ألفينا هذا الثاني خالقًا يبتكر ويُخرج من بين يديه شيئًا تامًّا وله مادة أصلية، فما يزال به حتى يخرجه خلقًا سويًّا قد انطبع بشخصيته، فالعامل هنا فنان يحب عمله ويلتذه وهو يرقى به. ولكن العامل في المصنع الكبير لا يصنع سوى جزء صغير من السلعة التي يقتسم صنعها العمال جميعًا، فهو عامل لا أقل ولا أكثر، وهو أشبه بالآلة منه بالإنسان.
ولم تكن الصناعة اليدوية تؤذن بتراكم المال في أيدٍ قليلة كما هي الحال الآن في الصناعات الآلية التي جمعت رءوس الأموال في طبقة من الممولين وجعلت جميع الصنَّاع عمالًا مأجورين.
وكان القرن التاسع عشر، أو العصر الفكتوري، في إنجلترا قرن الانتقال من الصناعات اليدوية إلى الصناعات الآلية. وهذا الانتقال نجده الآن على أشده يوشك أن يتم ويبلغ أَوْجَه في الولايات المتحدة التي يصنع أحد مصانعها نحو عشرة آلاف أتومبيل في اليوم. وهذه الولايات المتحدة هي الرائدة الآن للعالم كله في هذا الاتجاه وفي إيجاد حضارة صناعية تمحو ما قبلها من حضارات زراعية أو يدوية.
وفي كل انقلاب نجد فريقين، فريق السلفيين الآسفين المتشبثين بالماضي، ونحن نسميهم رجعيين أو جامدين إذا كنا نكرههم، وفريق الراغبين في الحال الجديدة الداعين إليها، ونحن نسميهم المجددين إذا كنا نحبهم. أما إذا كنا نكرههم، فإننا عادة نتهمهم بالإلحاد، والإباحية، والمادية، والهوس.
وهذا هو ما وقع في إنجلترا في أواخر القرن الماضي، فقد ظهر أدباء يدعون إلى النزوع إلى التجديد وآخرون يدعون إلى الاستمساك بالقديم. ونحن هنا نقصر الكلام على اثنين من عظماء الرجعية في إنجلترا هما «جون روسكين» و«وليم موريس».
وكلاهما أفاد بثورته على روح التجديد في القرن التاسع عشر؛ لأنه أوضح أضرارًا كادت تخفى على الناس من حيث انتشار الروح المادي وتغلُّب الصناعة على الفن، وإيثار السرعة على الإتقان. وقد أخذ كلٌّ منهما في دعوة الناس إلى إيثار المصنوعات اليدوية على المصنوعات الآلية، وكراهة العلم وتقبيح النهضة الأوروبية العلمية وامتداح القرون الوسطى. وأخلص كل منهما لدعوته إخلاصًا عظيمًا هو السبب الأساسي للفائدة التي جناها وما يزال يجنيها الناس من مؤلفاتهما بل من حياتيهما.
لما بلغ «روسكين» شبابه وجد في لندن جماعة تُدعى «أخوية الداعين إلى ما قبل رفائيل» وهم جماعة من الرسامين عمدوا إلى النهضة الأوروبية فقبحوها، وطعنوا في العلم، ودعوا الفنانين إلى إيثار الروح الديني للقرون الوسطى. ولم يأتوا بطائل فتشتتوا، ولكن دعوتهم كانت بذرة لُقِّحَ بها ذهن «روسكين».
وقد لا يكون بين كتَّاب الإنجليز من أحسن الكتابة بهذه اللغة مثل هذا الرجعي العظيم «روسكين» فقد جمع ما في اللغة من رقة وحلاوة وجمال فحواها في أسلوبه. وما تقول في رجل يصفه عدوٌّ له بالجنون (هو ماكس نورداو) ثم يعترف له بأنه يمكنه أن يصف السحاب في خمسين أو مائة صفحة يقرؤها القارئ فلا يسأمها بل يطلب المزيد.
ترك «روسكين» بلاده ورحل إلى البندقية، مدينة القرون الوسطى، وهناك ألَّف كتابه «أحجار البندقية» الذي يقول فيه: «إن البناء القوطي في البندقية هو ثمرة الإيمان الطاهر والفضيلة العائلية.»
وأيضًا: «إن البناء الحسن هو التعبير الظاهر عن الحال السليمة للمزاج وعن الشعور الأخلاقي.»
ثم يمضي بعد ذلك في نثر رائع فخم فيشرح جميع الأعمال الفنية مدة النهضة؛ أي عقب القرون الوسطى، ويصفها بأنها ثمرة الغدر وفساد الأسرة وسقوط الأخلاق.
وهذا كله هراء بليغ، فإن البناء أبعد الأشياء عن الدلالة على الأخلاق. وهذه مباني المماليك في القاهرة، فإنها من الفخامة والجمال بحيث تناقض الحياة الإجرامية التي عاشها كثير من هؤلاء. وتاريخ البندقية التي ما تزال قصورها القديمة قائمة، هو تاريخ الدسائس الدموية، والسفالات العظيمة التي ارتكبها أصحاب هذه القصور. وإنما كره «روسكين» النهضة لأنها كانت الأصل في الروح العلمي الذي ساد أوروبا وأخذ مكان الروح الديني. وكان رجلًا متدينًا لا يطيق النزعات الجديدة التي تكتسح كل ما أمامها، فلم يكن في وسعه سوى السباب. وهو سباب أنيق يسمع له الناس؛ لأنه يتأنق في عبارته، ثم يغضون لهذا التأنق عن سخافاته، فلقد بلغ به السخف ذات مرة أن علل الكوارث التي تقع فيها بريطانيا بسخط الله عليها.
ولكن «روسكين» كان مخلصًا في دعايته، يحض الناس على التمسك بالدين، وكراهة المصنوعات الآلية، والرجوع إلى الصناعة اليدوية، والابتعاد من الروح المادي. ورث نحو ١٥٠٠٠٠ جنيه من والديه فحرمها على نفسه ولم ينفق منها مليمًا، ووقفها على الأعمال الخيرية وعاش قانعًا بما يجنيه من قلمه. واتجه نحو الاشتراكية، أو بالأحرى الميول الاشتراكية، فأسس كليات للعمال في الجامعات، ورفع من شأن العمل حتى كان يأخذ الطلبة من أبناء الأغنياء فيؤلف منهم فرقًا لتعبيد الطرق.
ومهما قلنا في «روسكين» وانتقصنا من قيمة الحملة التي حملها على الروح الحديث فإننا يجب أن نعترف بأنه يحسن التفكير حين ينتقص لنا من شأن السرعة. وإننا مثلًا عندما نركب القطار نستفيد سرعة فقط، بينما نُحرم فوائد السفر والتفرج التي نجنيها من الجواد أو من العربة التي تجرها الجياد، فهنا شيء للتفكير. وخاصة في هذه الأيام حيث أخذت الطائرة مكان الأتومبيل والقطار، وحيث تنذرنا بالسفر في السكائك وليس على الأرض.
أما «وليم موريس» الرجعى العظيم الآخر، فإن جهاده أبقى وأثره أعظم، فإنه لقح الصناعات بالفنون. وكان هو و«روسكين» سواء في كراهة الآلات، ولكنه كان يمتاز على «روسكين» بأنه يرى الواقع ويسلم به ويقنع بإصلاحه؛ فقد كان في ذات نفسه، مثلًا، يحب خط اليد ويؤثره على حروف الطبع ولكنه كان يرى آلة الطباعة شيئًا واقعًا لا فرار منه، فكان يقنع بأن يكتب حروفًا جميلة يسبكها ويقدمها لآلات الطبع فتتحسن الطباعة. وكان يرى أن الروح المادي يطغى فيحمل البنائين على أن يبنوا المنازل من أسخف المواد ويزينونها بالبهرج من الأثاث، فصار هو نفسه يصنع الأثاث. وألَّف شركة لهذه الغاية لا تزال حية إلى الآن، غايتها الجمع بين الفن والصناعة، أو الجمال والتجارة. ولهذا الرجعى أثره الجميل في صناعة الآنية والسجاجيد وورق الجدران.
وحارب الروح المادي بأن صار اشتراكيًّا طوبويًّا، يؤلف بل يبيع بنفسه الكتب والرسائل الاشتراكية على قوارع الطرق. والاشتراكية الطوبوية هي اشتراكية الأماني والأحلام التي سبقت الاشتراكية العلمية الماركسية التي تنهض على وفرة الإنتاج الآلي.
والآلة مع كل ذلك منتصرة، تطغى علينا وتسوقنا بل تدفعنا دفعًا عنيفًا لا ينجح في وقفه مثل «روسكين» أو «موريس» اللذين قاوما تيار التطور عبثًا، ولكنهما نجحا في تنبيهنا إلى وجوب العناية بالفن وتلقيح الصناعات الآلية به.