بعض الأجانب في الأدب الإنجليزي
تجمع بين الأقطار الأوروبية جامعة من الحضارة والثقافة. وهي جامعة تربطها في العموميات من المزاج والنزعة، إذ هي تشترك في تراث الحضارة الرومانية والثقافة اللاتينية والإغريقية وقد كانت جميعها أيام القرون الوسطى أمة واحدة تدين بالمسيحية وتكتب باللاتينية، وإن تعدَّد الأمراء الحاكمون.
ولكن لكل واحد من هذه الأقطار سماته الخاصة التي تميزه من الأقطار الأخرى في حضارته وثقافته، فالنزعات السائدة الآن في الأدب الفرنسي تختلف جد الاختلاف عن النزعات السائدة في الأدب الإنجليزي. ويشتد هذا الاختلاف أحيانًا حتى لنسمع من بعض المصريين الذين تثقفوا بالأدب الفرنسي أن الإنجليز لا يعرفون الأدب. وهو إنما يزعم ذلك لبعد الشقة واختلاف العطر والنكهة بين الأدبين، ولأنه يجد في أدب الإنجليز غير ما ألف وتعوَّد في أدب الفرنسيين. وليس هذا الاختلاف غريبًا إذ هو يدل على الحيوية والاستقلال عند الأمم الأوروبية المختلفة، من حيث إن كل أمة تنزع إلى مثلياتها وتتخذ طرقًا خاصة دون أن تأبه لما عند غيرها من هذه المثل والطرق فتحتذيها.
ولكن التفاعل لا ينقطع مع ذلك، فإن الأفكار تتلاقى وتتصارع ويحدث منها الامتزاج أو التنافر. وقد تأثَّر الأدب الإنجليزي لهذا السبب بالنزعات الأدبية في أوروبا، وإن كان هو في الأرجح أقل الآداب الأوروبية تأثرًا بغيره. ونحن نجد في الأدب الجديد ثلاثة رجال لهم الأثر الأكبر في التفكير عامة وفي الأدب خاصة عند الإنجليز.
وأول هؤلاء هو «برجسون» الفرنسي، فإن له أثرًا واضحًا في تجديد الأفكار الدينية والمذاهب الداروينية، فقد استطاع أن يؤثر في العالم الأدبي، وكادت طعنته أن تكون الطعنة النجلاء التي وقف دونها المادي حائرًا، إن لم نقل مهزومًا. وإيمان «برنارد شو» يكاد يكون كله منقولًا عن «برجسون» الذي يقول إن الحياة هي الخالقة، وإنها في صراع مستمر مع المادة، وإنها دائبة في التطور. وإذا كان هناك شيء من التجديد الديني الغيبي الآن، أو إذا كان يُنْتَظَر شيء منه في المستقبل، فإنه لن يعدو هذه الأفكار البرجسونية.
وثاني هؤلاء الأجانب هو «فرويد» النمساوي فقد انسلَّت نظرياته إلى الأدب الإنجليزي، وأصبح «العقل الكامن» موضوع الأدباء الجدد مثل «لورنس» و«جويس» وغيرهما. وعماد الأدب الجديد الذي أعقب الحرب الكبرى هو التحليل النفسي والعقل الكامن.
أما ثالث هؤلاء فهو «إبسن» وهو بلا شك أعمقهم أثرًا في الأدب الإنجليزي بل الأدب الأوروبي، وخاصة أدب الدراما، فإن «برنارد شو» نشأ عليه وشدا منه وبنى لنفسه شهرته الأولى على طريقته. والدرامة الإنجليزية كلها تعترف لإبسن بالأثر الكبير وتخطو في سبيله، وتتخذ طريقته كلما استطاعت ذلك؛ ولذلك يحسن بنا هنا أن نلمَّ بطرف من حياته ومؤلفاته.
كان «إبسن» كاتبًا نروجيًّا، التحق بالتمثيل واحترف إدارة أحد المسارح، ثم رحل عن بلاده إلى ألمانيا حيث عاش سائر عمره يؤلِّف للمسرح النروجي، فتترجم جميع مؤلفاته إلى اللغات الحية في أوروبا، فتبعث الحياة للمسارح وتجعل الدرامة موضوع المناقشة بين الأدباء، بل بين الصحفيين والجمهور. وقد استطاع «إبسن» أن يجعل المسرح بدراماته ميدانًا للأفكار والآراء، لأنه خصَّ الدرامة بغاية لم تكن تعرفها، هي البحث الاجتماعي ونقد العادات والأخلاق والسياسة. وقد سبق أن تناول «موليير» هذه الأبحاث في فرنسا في القرن الثامن عشر، ولكن الذين خلفوه في فرنسا، بل في أوروبا، لم يستأنفوا عمله ولم يتجهوا نحو غايته فبقيت الدرامة راكدة لا تنتعش، قد انقطعت عن الحياة أو كادت، فلما جاء «إبسن» أعاد لها هذه الصلة وجعل المسرح ميدانًا لنقد المعايش وبحث الأخلاق. وكانت كل دراما من دراماته «مسألة» اجتماعية تحتاج إلى الحل.
والدرامة الإبسنية هي قصة عائلية، تحتوي مشكلة وتنتهي بالرجاء أو اليأس. وغاية المؤلف في جميع دراماته أن يكون لأبطاله «شخصية»، فهم ينتحرون إذا لم يستطيعوا تحقيق هذه الشخصية أو هم يتركون لهذه الغاية أهلهم وأولادهم.
ولننظر في إحدى دراماته نظرة إلمام كي نقف منها على الغاية التي رمى إليها؛ ففي «بيت عروس» نجد زوجة تحب زوجها حبًّا عميقًا، ويبدو لها من مسلك زوجها أنه هو أيضًا يحبها. وقد دفعها هذا الحب إلى أن ترتكب جريمة التزوير كي تحصل على مبلغ من المال تقدمه لزوجها حتى يرحل عن المدينة ويستطيع التعالج في جوٍّ أوفق. وتنوسيت هذه الجريمة التي لم يكن زوجها يعرف عنها شيئًا، ولكنَّ شخصًا آخر كان يعرف هذا السر المؤلم وقد استطاع أن يهدد به هذه الزوجة.
ويقف الزوج على السر فيغضب، وهو في غضبه لا يذكر سوى نفسه والعار الذي سيلحقه من فضح هذه الجريمة التي ارتكبتها زوجته. يذكر نفسه وكرامته وشرفه ولا يذكر شيئًا من ذلك عن زوجته. ويريد «إبسن» أن يقول إن الزوجة هي «عروس» يلعب بها الزوج وأنها ليست رفيقته. وقد يكون في تصويره بعض المبالغة، ولكن ليس هناك شك أيضًا في أنه قد وضع للمتفرجين مسألة تستحق المناقشة والحل، وهي:
هل يجب على المرأة أن تكون إنسانًا أولًا، أو يجب عليها قبل كل شيء أن تكون زوجة وأمًّا؟
هذه هي المسألة التي يعمد «إبسن» إليها فيحلها، أو يوضحها، في جرأة صارخة موجعة. ومن الحوار التالي يتضح للقارئ موقف الزوجين، بل موقف الحياة العائلية بين القرنين؛ القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
وهذا الحوار يأتي عقب اكتشاف الزوج لجريمة التزوير التي ارتكبتها زوجته وغضبه لكرامته، ثم ارتياحه إلى أن ذلك الشخص الذي هددهما بالفضيحة قد أرسل خطابًا يرجع فيه عن عزمه على فضح هذه الجريمة، وعودة الزوج «هلمر» إلى مصالحة زوجته. ولكن الزوجة «نورا» تترك الغرفة وتعود وقد استعدَّت لترك المنزل:
هذا شيء من الحوار الذي يدور بين الزوجين. وهو كما يرى القارئ ينتهي بامرأة، هي زوجة وأم، بأن ترفض الزوجية والأمومة كي تبدأ بتربية نفسها حتى تكون إنسانًا.
ولكن كيف يكون ذلك؟
إن الدرامة تنتهي بإيصاد الباب بعد خروجها. ولكن إلى أين تذهب «نورا»؟ وما هو برنامجها في تربية نفسها؟
ستذهب بلا شك إلى أحد المصانع أو المكاتب كي تتعلم وتعمل وتكون لنفسها شخصية جديدة كانت إلى الآن فانية في الزوج والأولاد. ولا بد أنها ستلقى المصاعب وتكابد المشقات في هذا الطريق الوعر الجديد، ولكن هذه الشخصية التي تنشدها لن تتربى إلا بهذه المصاعب وبما تتعلمه من الفشل والنجاح.
وهذه هي المرأة الأوروبية الجديدة. و«إبسن» هو لذلك حجر الزاوية في الأدب الأوروبي الجديد، وخاصة الأدب الأمريكي والإنجليزي. و«نورا» التي كانت خيالًا وأملًا يتحرك على المسرح في ١٨٩٠ هي الآن حقيقة، نرى من أشباهها الآلاف في لندن، ونيويورك، وبرلين، كما نرى أن المسرح، بها وبأمثالها، قد أصبح مدرسة لدرس الحياة.
وقد ألَّف «جرانت ألين» الأديب الإنجليزي قصة «المرأة التي فعلت» على هذا النمط؛ أي إن بطلة القصة امرأة ترفض الزواج الذي يحرمها من استقلالها، ثم تعيش كادحة تعمل وتكسب فتربي شخصيتها وتصون حريتها. وهو بالطبع كان متأثرًا بدراما «بيت عروس». وقد ألَّف «فكتور مرجريت» الأديب الفرنسي المعروف قصة «الفتاة الغلامية» متأثرًا أيضًا بالغاية التي رمى إليها «إبسن».
والمرأة الأوروبية عامة، والمرأة الأمريكية والإنجليزية خاصة، قد أصبحت تتجه نحو استقلالها وتكوين شخصيتها كما تتجه نحو الزواج والعائلة؛ نعني بذلك أن استقلالها لم يمنعها من الزواج وإنما رفعها من الأنثوية إلى الإنسانية.