المنحطون في الأدب الإنجليزي
في أوائل هذا القرن نشر «ماكس نورداو» كتابًا عن «الانحطاط» تناول فيه جماعة كبيرة من الأدباء والشعراء بالنقد، واتهمهم بأنهم إنما نزعوا نزعاتهم الخاصة لأنهم منحطون، فهم مجانين أو قد اقتربوا من الجنون. ونزعاتهم إنما هي نزعات العقل المضطرب المفتون؛ ولذلك فإن كل ما يدعون إليه من فلسفة أو إصلاح ليس في حقيقته، وعند التأمل، سوى هراء الأبله أو هذيان المحموم.
وقد ذاع هذا الكتاب لأن التهمة طريفة والرأي بدعة، وكلاهما يلفت النظر ويبعث على التأمل. وقد مضى على نشر هذا الكتاب نحو خمسين سنة تكفي لتأييد نظرياته أو دحضها. والواقع الذي نراه الآن أنها قد أُدحضت جميعها وأن هؤلاء المنحطين الذين ذكرهم «ماكس نورداو» إما أن الجمهور قد تناساهم لأنهم لم يكونوا من القدرة والكفاية بحيث يستحقون دوام الذكر، وإما أنهم قد ثبتوا لأن كفايتهم لم تزعزعها التهم التي وجهها إليهم هذا الطبيب الأديب. وحسب القارئ أن يعرف أن «نيتشه» و«تولستوي» و«إبسن» وضعوا في مقدمة المنحطين عنده، وهم الآن من زعماء النهضة الأوروبية.
ولكن قبيل «ماكس نورداو» — أي في أواخر القرن التاسع عشر — ظهرت طائفة من الكتاب في فرنسا وإنجلترا يجوز لنا أن نسميهم بالمنحطين. بل لقد عرفت الطائفة الإنجليزية نفسها وارتضت هذه الصفة وأطلقتها على نفسها تحديًا وفخارًا.
والمنحطون في الأدب الإنجليزي يمتُّون بِنَسب إلى المنحطين في الأدب الفرنسي، وقد تتلمذوا إلى حد ما «لبودلير» و«جوتييه». ولكنهم كانوا مع ذلك مستقلين، يجدون في البيئة الإنجليزية نفسها السم والدسم لأدبهم، وقد أخصبت بهم إنجلترا في السنوات الثلاثين بين ١٨٧٠ و١٩٠٠.
وكي نفهم المنحطين في إنجلترا يجب أن نعود فننظر نظرة عاجلة في أبى نواس؛ إذ ليس هناك شك مثلًا في أن هذا الشاعر العظيم كان — بمقاييسنا الاجتماعية الحاضرة — منحطًّا. وهذه حياته وأشعاره توضح لنا هذا الانحطاط. وإذا نحن تأملنا البواعث التي بعثت عليه ألفيناها تتلخص في الرجع أي «رد الفعل» الذي شعر به هذا الشاعر وهو يعيش في مدينة تحتوي على صنوف من فتنة المدن وملذاتها، ثم ينظر فيجد أن الشعر لا يزال بدويًّا لا ينطبق على حال هذه المدن، فهو ثائر على الشعر البدوي يدعو إلى حياة المدينة وملذاتها. وهو في ثورته يبالغ ويُمعن لأنه يريد الانتقام. وكلما أمعن وبالغ تورط فيما يتجاوز صحة الفن وسلامة النظر، فهو هنا مجدد، ولكنه في تجديده منحط.
وكذلك الحال مع هؤلاء المنحطين الإنجليز، فإنهم ثاروا على أدب القرن التاسع عشر. وبالغوا في الثورة إلى حدِّ الانتقام للحديث من القديم، فتورطوا في أشياء لا تختلف عمَّا تورَّط فيه أبو نواس. حتى لقد مارس بعضهم بعض رذائله. وحتى لقد دعوا إلى المدينة مؤثرين حياتها على حياة الريف، يفضلون جمالها وضوضاءها على جمال الطبيعة وسكونها. فضوضاء المدن موسيقى وألحان، وسكون الريف ركود وأسن، كما آثر أبو نواس المدينة على البادية. ولكنهم كانوا حتى في هذا الانحطاط مخلصين. وهم الآن بعد زوال أشخاصهم قد ذهب زبدهم وبقي منهم ما ينفع الناس.
كانت إنجلترا في القرن التاسع عشر منكوبة بنزعتين، إحداهما سلطان العرف والعادة، والثانية الروح الطهري الذي كان يجنح إلى النسك وكراهة الملذات الفنية، وكلتا النزعتين تدعو في النهاية إلى الانكفاف والإحجام والخوف من التجارب والبدع؛ ولذلك حدث الرجع في نهاية القرن التاسع عشر وكان شديدًا عنيفًا حتى لقد انتهى عند بعض القائمين به بالسجن أو الموت المبكر أو التشريد. ولكن مع كل ذلك بقي من هؤلاء «المنحطين» أثرهم في الأدب الإنجليزي الحديث، ففي إنجلترا الآن نهضة تنزع نحو الإغريق وتدعو إلى الجمال، وفيها ثورة على العرف، وجرأة على الابتكار في الأخلاق، وبها نزوع إلى التجربة والاقتحام. وكل هذا يرجع إلى هؤلاء المنحطين الذين احترقوا بالنار كي يُعَرِّفوا الناس فوائدها.
وأول هؤلاء المنحطين هو «والتر باتر»، وكان في فنه وأدبه مشبعًا بالإحساس الإغريقي. وقد دعا إلى الوثنية الإغريقية، وفتن الناس بالنزوع إلى اللذة والجمال، فهو القائل ما معناه: إننا يجب أن نختبر الاختبار ونجرب التجربة، ولكن ليس لكي نجني منهما ثمرتهما فنزداد حكمة، وإنما علينا أن نختبر ونجرب للذة الاختبار والتجربة وحسبنا ذلك منهما. وهذا مذهب مخيف لا يستطيع أن يتحمل قائله عواقبه أو يعمل به كله. ولكنه يدل على الرجع — أي «رد الفعل» — للقرن التاسع عشر.
أما المنحط الثاني فهو «أوسكار وايلد» الذي كان يتأنق في أسلوبه وحديثه. وقد دفعه التأنق إلى الشذوذ. وكما أن الكاتب المتأنق يتحرى اللفظة النادرة لبريقها أو رنينها، كذلك هو صار يتحرى الشذوذ في ملذاته وينزل على رأي باتر في توخي التجربة أو الاختبار للذة فقط. وأدب الكاتب هو بعض حياته؛ ولذلك فإن «أوسكار وايلد» اتخذ أسلوبًا للحياة، حياة اللذة والتلألؤ، يتطعم أطايب الحياة وتوابلها ويتأنق في اختيارها. وصار يطلب اللذة النادرة حتى وقع في اللذة الشاذة، وعاش بذلك في فسق الجسم والذهن. واختياره لقصة «سالومي ويوحنا المعمدان» يدل القارئ على هذا الذوق الذي ينشد الجمال الشاذ ويعشق الموقف عند أزمة العواطف وهزيمة العقل الرزين أمام غلواء الشهوة. ونحن حين نقرأ هذين الكاتبين نشعر أننا نتنزه في جنة الذهن ونتلذذ العبارات المتلألئة والكلمات المتألقة. ولكننا نحس أيضًا أننا في صحراء الروح إذ لا نجد أهدافًا أو مثليات. بل نجد أحيانًا التهكم بالأهداف والمثليات.
وكلاهما — أي «والتر باتر» و«أوسكار وايلد» — يدعو دعوة جديدة هي التعمق في الحياة، فإن عامة الناس يعيشون على السطح، يلمسون من الحياة أقل تجاربها وأبسطها ولا يكادون، بل منهم من ينكف ويحجم كأنه راهب يخشى الاقتحام والانغماس. ولكن هذه الحياة لا يمكننا أن نصل منها إلى اللباب والصميم إلا إذا انغمسنا فيها، ننغمس في الحياة كما ننغمس في اللذة، وإنما يكون ذلك بالتعمق والتوغل في الاختبارات والتجارب.
وهذه دعوة وثنية إغريقية يمكنها أن تثمر الثمرة المرة كما تثمر الثمرة الحلوة. وقد نستطيع أن نرى في قصة «جرانت ألين»، «المرأة التي فعلت»، مثالًا من ثمرات هذه الدعوة؛ فهو هنا يصف لنا فتاةً ترفض الزواج استبقاءً لحريتها، وثورة على العرف وقيود المجتمع.
وقد يعد الإنسان هذه القصة كما يعد بعض قصص «أوسكار وايلد» من الثمرات المرة لهؤلاء المنحطين. ولكن كل واحد من هؤلاء المنحطين قد ترك أثرًا حسنًا في الأدب الإنجليزي إلى جانب ما نظنه آثارًا سيئة، فإن المسرح الإنجليزي مثلًا قد ارتقى بفضل «أوسكار وايلد» الذي يمكن أن نقول إنه مهَّد ﻟ «برنارد شو» بتعويد الناس الحوار البارع بين الممثلين، والانتقاد الاجتماعي عن سبيل الفكاهة اللاذعة. وكذلك «والتر باتر» ما زلنا إلى الآن نرى أثره في الطبقة الجديدة من الكتَّاب مثل «لورنس» و«ألدوس هكسلي».
وللمنحطين — كما هو المنتظر — شأن خطير في الأدب الفرنسي. وللمنحطين الإنجليز صلة قوية بهم حتى لقد ألَّف «أوسكار وايلد» إحدى دراماته «سالومي» باللغة الفرنسية. ولكن هؤلاء الإنجليز بادوا في حين لا يزال الانحطاط حيًّا في فرنسا. كما نرى في مثال «أندريه جيد». ومهما بلغ المنحط الإنجليزي فإنه لا يصل إلى مستوى «بيير لوتي» الذي كان يدهن وجهه بالمساحيق والأصباغ، ويسلك مسلك أبي نواس في ملذاته الجنسية.
-
الدعوة إلى الجمال بلا اعتبار للأخلاق أو العرف الاجتماعي.
-
إيثار المدينة والصناعة على الطبيعة والسذاجة.
-
توخي اللذة حتى لو كانت شاذة تخالف المألوف في الطبيعة.
-
وضع الحياة الحسية فوق الحياة الذهنية.
-
إيثار الفن على الطبيعة، بل على الحقيقة.