كبلنج: شاعر الاستعمار
في إنجلترا ثلاثة من الأدباء يشهد لهم قارئهم بأنهم دعاة عظماء للرجعية ينافحون عنها في بلاغة وقوة إيمان. ومن هؤلاء اثنان يكرهان العصر الحديث قلبًا وقالبًا؛ أي روحًا وشكلًا، هما «تشسترتون» و«بيلوك». وكلاهما كاثوليكي يكره بدعة البروتستنتية ولو قام جهاد ديني لقمع هذه البدعة لتجند كلاهما فيه. ثم هما يحنان حنينًا عظيمًا، كأنه وحم الحبلى، إلى القرون الوسطى، ويتغنيان بها كأنها الجنة المفقودة، فهما يذكران منها مثلًا نظام «الطوائف» ويتحسران على زواله. ويذكر «بيلوك» النظام الإقطاعي بالإعجاب. وكلاهما يكره مذهب «داروين» وينكره بلهجة الجزم التي ينكر بها المتدين عقائد خصومه. وهما يدافعان عن البابا والكاثوليكية كما يدافعان عن عصر الصناعات اليدوية.
أما الرجعي الثالث فهو «كبلنج» شاعر الإمبراطورية؛ أي شاعر الاستعمار. وهو يختلف من الاثنين السابقين من حيث إنه يؤمن بالقرن العشرين. وهو من الشعراء الذين يستطيعون أن يؤلِّفوا القصائد في مدح الأتومبيل والقطار والتلغراف. ولكنه مع ذلك رجعي يكره النزعات الإنسانية الجديدة؛ إذ هو داعية بليغ من دعاة الحرب، لا يعرف عصبة الأمم، ولا يؤمن بتحقيق السلام. وهو نقيض «المنحطين» من حيث إنه يجعل الفن وسيلة لخدمة الاستعمار البريطاني في حين كانوا يجعلون الفن غاية. وهو مع إيمانه بالحضارة يكره منها نعومتها وما فيها من أساليب التطرية، ويكتب عن الغاية وقتال الحيوان والإنسان كأنه يعيش في العصور البدائية. وبراعته هنا تتجاوز الوصف نثرًا ونظمًا، فإنه يجعل «أشخاص» القصة من الحيوانات التي تتكلم وتتناقش في حال من الألفة الذهنية التي لا يستطيعها إلا كاتب كبير. وقد حلم المنحطون ولعبوا بفكرة الترف والتطرية. ولكنه هو لا يعرف من الرجال سوى الفحل الممتلئ بالرجولة، وهو إذا انحطَّ فإنما يتَّجه انحطاطه نحو الإعجاب بالرجل المتوحش، وليس بالرجل المترف الناعم.
نشأ «كبلنج» في الهند واكتسب مزاجًا خاصًّا بالإقامة بين الجاليات الإنجليزية في ذلك القطر العظيم الذي يشبه القارة، فهو إنجليزي يحتقر الهنود ويظن أنهم هم والمصريون، والبوير، والزنوج لم يخلقوا، وليس لوجودهم معنًى أو مغزًى إلا أن يخدموا شعب الله المختار؛ أي الإنجليز. وهو صاحب هذه الكلمة الاستعمارية المشهورة: «لا يعرف إنجلترا من لم يعرف سوى إنجلترا.» يعني بذلك أن عظمة الإنجليز تتضح في مستعمراتهم التي لا تغيب عنها الشمس.
فهو يعجب «باللورد كرومر»، ويعده من عظماء العالم، وينسى أنه صاحب فجيعة دنشواي، وأنه أرصد حياته كي يعوق أمة كبيرة عن التقدم. وأنه كان يبتز أموالها لدولته، ويدعي حماية عمالها، وهو يعرف أن هؤلاء العمال مرضى بألوان من الأمراض، وعلة هذه الأمراض هي مشروعات الري التي عممها في مصر كي يزيد زراعة القطن، فتشتريه مانشستر رخيصًا وفيرًا. وهو يعجب «بسسل رودس»؛ لأنه ارتكب من الجرائم وجر من الويلات على البوير، ما كان يستحق عليه أن يشنق، لو أنه عومل معاملة المتمدنين. ولكنه يعجب بكرومر ورودس لأنهما إنجليزيان استعماريان، وينسى الإنسانية والشرف والمروءة إذا ذكر المصريين أو البوير.
وهو مع براعته النادرة في قرض الشعر وسمو الخيال، يكاد الإنسان يخرجه من زمرة الأدباء، كلما تأمل البواعث الإجرامية التي تبعثه على تأليف قصيدة أو قصة؛ فإن الأديب يؤمن بالحرية الفكرية إذ هي دينه الذي يجب أن يدافع عنه طيلة حياته. ويؤمن بالإنسانية التي هي موضوع أدبه. ولكن «كبلنج» يخون الاثنين، يخون الحرية ويخون الإنسانية. وهو قبل كل شيء يدعو إلى السيف والنار، ويتغنى بالمدمرات والغواصات. وهو في إنجلترا بمثابة «تريتشكه» في ألمانيا، مع فرق واحد وهو أن صوته لا يزال عاليًا؛ لأن إنجلترا خرجت من الحرب ظافرة، بينما صوت «تريتشكه» قد خفت عندما انهزمت ألمانيا.
وقلما تخلو أمة من الأدباء الوطنيين، يضعون وطنيتهم فوق أدبهم. ولكن الوطنية إذا احتدَّت واحتدمت صارت مرضًا يشبه الحمى في نوباته، ويدفع إلى الهذيان والعدوان. وقد كان «تريتشكه» الألماني يدَّعي أن العالم كله يجب أن يخضع لألمانيا. وكان «تشمبرلن» الإنجليزي المتألمن يدعي أن العبقرية والاختراع والمثليات، كل هذه ثمرات ألمانية. حتى السيد المسيح نفسه، كان في زعمه ألمانيًّا.
و«كبلنج» لا يهذي كل هذا الهذيان، ولكنه يتغنى بالإمبراطورية والاستعمار. ويتكلم عن عبء الرجل الأبيض، كأنه يعني ويصدق ما يقول ويؤمن به، كأن الاستعمار لم يخترعه الرجل الأبيض إلا لخدمة السود والصفر والسمر من بني الإنسان؛ وهم لذلك عبء عظيم يحمله الإنجليزي والفرنسي بدافع شريف من دوافع المروءة والإنسانية. ولذلك كثيرًا ما نقرؤه فنفتتن برنين قصائده، ولكنا نعاف ونشمئز من أهدافه ومثلياته التي لا تزيد على أن تكون رواسب سيكولوجية من أيام التلمذة ومفاخر الصبيان.
وهذه الوطنية الحادة المحتدمة هي التي بعثت «كبلنج» على أن يقول مدة الحرب الكبرى هذه الكلمة الكافرة: إن العالم يسكنه اثنان هما النوع البشري والألمان. وبنفس هذه الروح سبق له أن قال: «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقي الاثنان.» والشرق عنده مؤلَّف من الأمم التي تستعمرها بريطانيا وتدوسها بأقدامها وتحرمها من العلم والصناعة.
وهو من حيث الأخلاق يدعو دعوة القرن التاسع عشر، فهو يطلب من المرأة أن تلزم بيتها، ومن الرجل أن يعتمد على نفسه ويجترئ ويقتحم؛ وهو لهذين الغرضين يكره الاشتراكية ويناصبها العداء. وأنت تقرؤه فتشعر أن «صموئيل صميلز» صاحب الكتب العديدة، التي أُلِّفت في «تقديس النجاح» قد انقلب شاعرًا يعظ الناس ويشرح لهم قيمة الأخلاق التي يمتاز بها الرجل الناجح في جمع المال. وهو قصير النظر لا يستطيع أن يبصر بحقائق النظام الاجتماعي، ولا يتعظ بوجود نحو ثلاثة ملايين عامل عاطل في بلاده، سبب عطلهم هو «نجاح» الماليين في جمع المال. وكذلك هزيمة بلاده أمام اليابان في التجارة لم تفتح عينه. وكذلك نهضة الهند لم تنبه ذهنه الغافل.
تذكر، أيها الجندي، وأنت تحطم المعبد حول رب من الأرباب المذهَّبة في بورما أن عينيه مرصعتان بالأحجار الثمينة.
وتذكر أنك عندما تعطي الزنجي جرعة من سوطك المطهر فإنه سيعترف لك بكل ما يملك.
أما بعد ذلك فقل فيه ما شئت من براعة في نظم القصائد وتأليف القصص. ويشق على الناقد أن يسلكه في زمرة خاصة من الرجعيين أو المجددين، فليس شك مثلًا في أنه أبعد الناس عن المنحطين كما هو أيضًا أبعدهم عن المجددين. ثم إن رجعيته لا تمتُّ بأي نسب إلى رجعية «موريس» أو «روسكين» أو «تشسترتون» أو «بيلوك» من حيث كراهة الآلات والعصر الصناعي الحاضر. وإنما هي رجعية الاستعماري الذي يستغل الآلات في جمع الثروة، ولكنه يأبى أن يؤمن بالإنسانية. وقد يكون مما يوضح غرضنا أن نقول إنه نقيض «بيرون» في الأخلاق والخيال الشعري. وهو لو عاش قبل مائة سنة أي سنة ١٨٣٠ أو ١٨٤٠ لوجد الوسط المحيط به أليق به وأكثر مُشَاكلة لأدبه. أما الآن فلسنا نظن إنسانًا مثقفًا يتطعم أفكاره ويسيغ نزعاته. وهو لذلك بطل من أبطال المدارس الإنجليزية، يقرؤه التلاميذ والطلبة ويتغنون بأمجاد الإمبراطورية التي تفهق بها قصائده. ولكن الإنجليزي المهذَّب يجد فيه كثيرًا مما يُخجله، أما غير الإنجليزي، وخاصة إذا كان وطنه قد نُكب بالاستعمار البريطاني مثل مصر والهند، يجد فيه كثيرًا مما يُحنقه ويؤسفه على أن مثل هذا الرجعي يوجد في القرن العشرين.