لِمَ الفلسفة؟
١
ولا يقتصر اختلاف الآراء على طبيعة الفلسفة وماهيتها، بل يمتد إلى مضمونها ومنهجها. فلا يزال هناك فلاسفة يؤمنون بأن مضمونها هو معرفة التصورات العليا للوجود وقوانينه، أي في النهاية معرفة الله (كالمدارس الأرسطية والطوماوية الجديدة). وهناك من يؤمنون برأي مشابه، وهو أنها تهتم بالقَبلي، بحيث تصبح هي البحث الوصفي-التجريبي فيما ليس بتجريبي، وفي المشكلات المتصلة بعلاقة التجريبي بالقبلي كالمكان والزمان والألوهية (صمويل إلكسندر ١٨٥٩م–١٩٣٨م). وبعضهم الآخر ينصرف إلى التجربة الباطنة من جوانبها المعرفية أو الدينية (كالحسيين الإنجليز ومدرسة «فريز» ١٧٧٣م–١٨٤٣م). وفريق ثالث — كالوضعيين أو التجريبيين المناطقة — يقصرون اهتمامها على التحليل اللغوي والتوضيح المنطقي، بينما يحاول فريق رابع — وهم أصحاب الكانطية الجديدة بفرعيها في شمال ألمانيا (ماربورج) مثل كوهن وناتورب، وفي جنوبها (هيدلبرج وفرايبورج) مثل ركزت وفندلباند — أن يجعل منها نظرية في العلم الرياضي-الطبيعي والعلوم الإنسانية وأن يقصر مهمتها على تحليل القيم الموضوعية القبلية التي يقوم عليها الوعي في المنطق ونظرية المعرفة والأخلاق والجمال والتاريخ.
ويسري هذا الاختلاف على المنهج. فلا يكاد الفتى والفتاة يتصفحان كتابًا في تاريخ الفلسفة حتى تطلعهما متاهته بدروب ومسالك عديدة، يأتي معظمها من مفهوم أصحابها لطبيعة الفلسفة ووظيفتها وغايتها. فالكانطيون الجدد — كما تقوم — يرون أن نشاطها وفاعليتها الوحيدة هي تحليل القيم والتصورات وردها إلى العناصر الأخيرة للمعرفة، بينما يرى برجسون وماكس شيلر (١٨٧٤م–١٩٢٨م) أن الفعل الفلسفي الحق هو رؤية (أو حدس وعيان) الماهيات. أضف إلى هذا أن منهج هسرل وهيدجر الظاهرياتي (مع الفارق بينهما!) هو نقيض النزعة الحسية التجريبية (ماخ وأفيناريوس). والتحليل المنطقي والرياضي عند رسل ووايتهد واتباعهما نفيض المنهج الجدلي عند هيجل واتباعه المثاليين أو الماديين.
هذا العرض السريع — المخل بطبيعة الحال — يبيِّن أن الموقف مع الفلسفة يختلف عن غيرها من أنواع النشاط العقلي. فالمشتغلون بالعلوم متَّفقون بوجه عام على موضوع علمهم ومنهجه ومفاهيمه الأساسية. أما المدارس الفلسفية فقد كانت ولا تزال متضاربة حول موضوع الفلسفة ومنهجها وغايتها، حتى لتبدو في نظر المتأمل من الخارج كما بدت لكانط نفسه! وكأنها لم تخطُ خطوة واحدة إلى الأمام، أو كأن حركتها الوحيدة هي حركة «محلك سير» التي يعرفها الجنود والمساجين والأطفال! ومع ذلك فإن الفلسفة الجدلية — عند هيجل بوجه خاص — ترى الحقيقة النسبية في كل مدرسة وكل وجهة نظر، وتحاول أن تستوعبها جميعًا في نظرتها الشاملة، فتعدها لحظات من تطور العقل أو الروح الكلي المطلق نحو تمام الوعي بذاته، بحيث لا يموت القديم ولا يسقط لقدمه، وإنما يحتويه الجديد الذي يناقضه فينتج عنهما «مؤلف» يوحد بينهما، ولا يلبث هذا المؤلف أن يجد نقيضه ويجمع بينهما مؤلف جديد وهكذا (ز). وفي مقابل ذلك نجد الواقعيين الجدد والوضعيين المحدَثين يغرزون مشارط التحليل في جسم الفلسفة التقليدية ليستأصلوا جانبًا كبيرًا منه ويستبعدوه تمامًا من مجال المعرفة، وبخاصة «الأورام» المثالية والميتافيزيقية التي لم يعد لها مكان إلا في متحف التاريخ.
٢
٣
ربما قيل ردًّا على هذا أن العلماء أيضًا طالما تعرضوا للاضطهاد، واضطر بعضهم للركوع أمام السلطة والتنازل عن نظرياتهم إلى حين (جاليليو!) ولكن الواقع أيضًا أن اضطهاد العلماء يرجع إلى آرائهم الفلسفية والفكرية لا إلى نظرياتهم العلمية في ذاتها. فقد مات كوبرنيقوس (١٥٤٣م) وعلى رأسه بركة البابا والكنيسة. ولو كان جاليليو وضع نظريته عن مركزية الشمس في سياق ديني ولاهوتي لما تعرض للاضطهاد؛ إذ سبق أن ناقشها ألبرت الكبير (١٢٨٠م) في «المجموع اللاهوتي» دون أن يصيبه شيء. أما عن اضطهاد بعض علماء الطبيعة والرياضيات في العصر الحديث (مثل أوبنهايمر) فلا يرجع في الحقيقة إلى نظرياتهم العلمية بقدر ما يرجع إلى آرائهم ومواقفهم الاجتماعية والسياسية، أي إلى «فلسفتهم» في الحياة.
إن مقاومة الفلسفة للواقع تنبع من طبيعتها. فهي تُصر على أن أفكار الناس وأفعالهم وغاياتهم لا يصح أن تكون وليدة الضرورة العمياء، كما تحث الناس باستمرار على نقدها وتوضيحها وتجاوزها بالسؤال عن حقيقتها وعدم التسليم بها كما لو كانت وصايا أبدية أو قواعد أزلية راسخة. وهي لا ترضى أن تُسلم بشيء بغير نقد، لا بالأفكار العلمية ولا أشكال الحياة الاجتماعية، لا بالقيم السائدة ولا التقاليد «المستقرة». لو تخلت عن النقد لتخلت عن روحها ولم يبقَ منها إلا جسد ميت تتقاذفه كالكرة الصماء أقدام الطغاة والسلطات والأيديولوجيات. وقد طالما سمعنا من يردد أن الفلاسفة أحد اثنين: إما راضٍ بالواقع مُبرِّر له (مثل أرسطو أو كانط)، أو ثائر عليه مطالب بتغييره (مثل الفارابي وابن رشد وبرونو واسبينوزا وماركس). ولكن لا يصح أن يخدعنا هذا القول عن الحقيقة. لقد كان بعض الفلاسفة يتصالحون مع الواقع — ولو إلى حين — ولكن الإنصاف يقتضينا القول بأنهم لم يُقصِّروا في تحليله وتسليط أضواء النقد عليه. ولو أخذنا أكثر الفلاسفة تحفُّظًا ومَيلًا للسكون (مثل أرسطو وكانط) لوجدنا أن تحليلاتهم لطبقات الوجود أو مقولات المعرفة لا تخلو — في نظر التحليل الاجتماعي — من نقد لثقافة عصرهم وقيمه، ومناقشة مجموع عاداته «الثابتة» في السلوك والتفكير والدين والسياسة … إلخ. إن أعدى أعداء الفلسفة هو «العادة» التي يسلم بها الناس بغير نقد. فهي تُحارب التقليد الأعمى، وتقاوم الاستسلام واليأس تجاه القضايا الحاسمة للوجود. ألقيت على عاتقها «الأمانة» الصعبة: تسليط أنوار الوعي على أشكال التفكير والعقل والسلوك التي تبدو في ظاهره طبيعية، بديهية، أبدية، والأخذ بيد الفرد نحو معرفة نفسه، وتشكيل حياته بإرادته، والتفكير المستقل لنفسه وبنفسه.
لنضرب مثلًا حيًّا يُخرجنا من ساحات التعميم. ولنتذكر سقراط فما أحوجنا أن نذكره باستمرار؛ إذ لا يخلق بالأبناء جحود الآباء، أو نسيان أب الفلسفة، نموذجها الحي المتجدد.
٤
كشفت محاكمة سقراط وسجنه وموته عن معدن الفيلسوف الأصيل. وجاءت السنة التي أُعدم فيها (٣٩٩ق.م) في وقت أرادت فيه الديمقراطية الأثينية أن تردع كل محاولة للثورة على النُّظم والتقاليد العريقة، بل كل محاولة لمناقشتها وتحليلها. ونص الاتهام الذي وجه إليه معروف: ازدراء آلهة المدينة وعدم تبجيلها، إفساد الشباب، إدخال أرواح شيطانية (أو آلهة أخرى) إلى المدينة. أما التهمة الأولى فكاذبة، وأما الثانية فتقوم على الخلط بينه وبين السفسطائيين — كما فعلتْ عمدًا مسرحية السحب لأرسطوفان — وأما الثالثة فتقوم على سوء الفهم؛ لأنه لم يكن يتحدث إلا عن «جنيته» (أو أن شئنا لغة العصر فعن وحي ضميره).
لا شك أنه كان من بين قضاته من استمع إليه أو رافقه في جولاته. ولا شك أنه كان بينهم من آمن ببراءته من تلك التهم الملفَّقة (بدليل أن مائتين وعشرين من بين قُضاته ومحلِّفيه الخمسمائة حكموا ببراءته، أي أقل من العدد اللازم بعشرة أصوات!) ولكن المحكمة أدانت «الجديد» في شخصه، وحاربت النبوغ الذي يُحارب في كل مكان وزمان. أعلنت عليه الحرب لأنه حاول أن يغير وعي الأثينيين بواقعهم، ويوقظ صوت الضمير الراقد في أعماقهم، ويعلمهم أن الحقيقة التي يُسلِّمون بها ليست إلا الزيف المتراكم من أجيال، وأن عليهم أن يهتدوا «لحقيقتهم» بإرادتهم وتفكيرهم المستقل وحريتهم الباطنة. دعا الفرد للإخلاص والصدق في أداء واجبه كمواطن، والاستقلال بعقله وقراراته كإنسان، والاتصال بالناموس الكوني المعقول والروح الإلهي الخالد والتشبت به وايقاظه في نفسه. وبقي على إيمانه بأن انهيار العقل في الإنسان معناه انهيار الناموس الكوني نفسه. وأخيرًا استسلم الفيلسوف «لقوانين» المدينة التي رضي بها من قبل باختياره، وحوَّل خطبة الدفاع إلى مرافعة اتهام لقضاته. وحكموا عليه بالموت، تاركين له حرية النفي إلى مكان يختاره أو الخروج من السجن بكفالة (راجع محاورة كريتون!) ولكنه رفض. آثر أن يموت ليحيا. وغيره ميت وهو حي. وقضى ساعاته الأخيرة في حوار مع تلاميذه عن خلود النفس «وماذا عسى أن يفعل الإنسان غير ذلك حتى يحين غروب الشمس؟» (فيدون، ٦١). وأحس السم يجري في أعضائه فتحمل في صبر ومرح وشجاعة. ولم ينسَ في لحظاته الأخيرة دَينًا في عنقه نحو ربِّ الطب والشفاء: «علينا باكربتون دين لأسكلبيوس، فلا تنسَ أن تفي بالنذر!»
لم يستطع قضاة سقراط أن يلتقوا معه على أرض واحدة. وقفوا على أرض السذاجة، والتسليم الأعمى، والاعتقاد الراسخ، في الوقت الذي كان فيه يقف على أرض المعاني، والتفسير العقلي، والتساؤل المستمر، والتجربة الميتافيزيقية. ولو كان له فلسفة نهائية محددة في صيغة ثابتة أو قالب مريح لأمكنهم على الأقل أن يقتربوا منه أو يفهموه ويشاركوه. ولكنه — لحسن الحظ! — لم يكتب حرفًا واحدًا فكان — كما يقول هيدجر — أنبغ إنسان أنجبه الغرب. ومعظم العبارات المشهورة عنه مشكوك فيها أو يمكن ردها للحِكم الشعبية المأثورة! ولهذا زاد حيرتهم وضاعف غيظهم منه. وبقيت حياته وموته سؤالًا حيًّا مطروحًا عليها وعلى قضاته. لقد واجه مواطنيه ﺑ «الحقيقة» في وضوح واتزان وشجاعة، مهما كانت هذه الحقيقة غامضة أو ملتبسة. ولو شاء أن يختار الطريق السهل لفعل معهم كما يفعل الراشدون مع الأطفال عندما يُخفون عنهم الحقائق ويحتفظون بالشكوك لأنفسهم، ويعلنون لهم الحلول المريحة. ولكنه تفلسف بحق. وكان معنى التفلسف عنده هو البحث والسؤال ولو لم يصل الإنسان إلى جواب أخير (والجانب الأكبر من محاورات أفلاطون التي خلَّدته وجعلته الشخصية الرئيسية فيها لا ينتهي إلى جواب حاسم بل يكتفي بطرح السؤال وتقليبه على وجوهه الممكنة). وكان معناه أيضًا أن هناك أشياء يمكن أن ترى وأن تقال، وإلا كانت الفلسفة ثرثرة وهراء وسحبًا نلتف فيها ونلف فيها الواقع (كما زعم أرسطوفان عنه ظلمًا).
٥
هكذا نرى أن التوتر بين الفلسفة والواقع توتر أساسي لا يمكن أن تقارن به بعض الصعوبات التي يقابلها العلم والعلماء في المجتمع. فالفلسفة تميل بطبيعتها للمُضي في التفكير إلى أقصى مداه، وإخضاع كل العوامل التي تُشكِّل الحياة — ويظن أنها قوانين أزلية ثابتة — للنقد والتمحيص والتحليل. إن نقد الواقع القائم هو روحها التي لا يكون لها وجود بغيرها. وإذا خلت منه صارت كالعين التي لا تبصر، واللسان الذي لا ينطق، والفؤاد الذي لا ينبض. وإذا وجدنا الفيلسوف (أي الحكيم المعتدل المتواضع!) يُمسك عن استخدام الكلمات الرنانة (كالرفض والتمرد والثورة) فسنرى في تحليلاته لعناصر المعرفة والوجود والقيم ما يكفي لوضعها موضع النظر والإشكال، أي تغييرها ورفضها على نحوٍ من الأنحاء. وليس من الضروري أن يصيح الفيلسوف ويثير الزوابع لكي يدمغ بخاتم «الثورية» أو «التقدمية»، فربما كان هؤلاء الصائحون أقل الناس تأثيرًا في تيار الفكر البشري، وأبعدهم عن الاهتمام بقضية حقيقية، وأكثرهم انشغالًا بنفوسهم المريضة وذيوع صيتهم وشهرتهم (يلاحظ القارئ أننا نتكلم هنا عن الفلاسفة الحقيقيين الذين كان لهم أثر حاسم على الحوار الفلسفي في زمن معين لا عن أشباه الفلاسفة أو أنصافهم وأرباعهم من الأدعياء ذوي الأصوات المرتفعة). ولقد تكلمنا عن سقراط الذي عاش في هدوء ومات في هدوء، لكنه بقي إلى اليوم مثال الثورة الفلسفية المتجددة. ولو أسقطناه لما أمكننا أن نتصور تاريخ الفلسفة ولا تاريخ الحضارة. لقد راح — بنشاطه الفلسفي القائم على الحوار — يرفض التسليم بالعادات الشائعة والخضوع الأعمى لأشكال الحياة التقليدية. علم الإنسان أن يتبصر في فعله ويشكل قدره بنفسه (فقدره في داخله، أي في عقله وإرادته). ولو نظرنا اليوم إلى وضع الإنسان لوجدنا أنه ليس أفضل مما كان عليه في أيامه. صحيح أننا لا نختلف حول وجود الآلهة، ولا يفكر أحد في اتهام المفكرين بإفساد الشباب. ولكن من يمكنه الزعم بأن حياتنا أكثر معقولية مما كانت عليه في أثينا؟ من يمكنه القول إن العقل والواقع قد تصالحا، أو أن استقلال الإنسان مكفول في المجتمعات المعاصرة، أو أنه أصبح أكثر إنسانية وسعادة وحرية ومعرفة بنفسه وبالآخرين وبالعالم؟ ألم تزد حيرته وقلقه وعجزه عن الفهم عما كانت عليه في أي وقت مضى؟ أليست كلمة «الاغتراب» اليوم على كل لسان؟ ألم تصبح «آخر صيحة» يزعجنا بها العليمون والمدعون؟!
ربما يقول القارئ: وهل تشكُّ في أن العلم قد غيَّر الحياة المعاصرة عما كانت عليه من عشرين أو ثلاثين سنة مضت، وزلزل العادات والتقاليد والقيم في المجتمعات الصناعية المتقدمة — وسيزلزلها حتمًا في مجتمعاتنا التي تحاول الإفلات من قبضة التخلف — وسيطرت عقلانيته الصناعية حتى على الفن نفسه فأصبح يتحكم في ذوق الجماهير وأسلوب الأداء في الفيلم والراديو والتليفزيون … إلخ. وأوشك أن يحكم بالانقراض على الفنان المتفرد الذي يكتب ويبدع لتحقيق ذاته واشباع حاجاته الوجدانية (حتى صار الآن — على الأقل في جزء هام من نشاطه — يشترك مع فريق عمل كامل ويتقيَّد بأساليب الإنتاج والإخراج وأحكام السوق والذوق العام والرقابة … إلخ).
كل هذا صحيح. فأُسس المجتمع باستمرار تحت تأثير العلم. وما من مجال من محالات النشاط الصناعي والإداري والاقتصادي والإعلامي والتربوي … إلخ إلا ويحاول العلم تبسيطه وتحسينه والإسراع بإيقاع حركته. والتطور العلمي والتقني الذي أحرزته البشرية في الخمسين بل العشرين سنة الأخيرة يزيد — فيما يردد الثقاة — عما أحرزته في تاريخها المعروف كله. ومع ذلك يبدو أن هذا التطور العلمي والتقني بكل إنجازاته ومعجزاته قد ثبت أوهامًا قديمة وخلق عادات جديدة، ولم يتطور معه تفكير الإنسان وفعله وخلقه ووعيه كما نتصور. بل إن الحديث عن الخطر الذي يهدد الإنسان بالتحول إلى آلة أو شيء قد أوشك اليوم أن يكون حديث الجميع. ولسنا نحب أن ننظر بأعين المتشائمين والمتحسِّرين على الماضي، فنصيبنا من العلم لا يزال جدَّ قليل، وإنما نكتفي بالإشارة إلى جانب واحد من جوانب هذا التطور حتى لا نسرف في التحمس له وننسى واجبنا في تسليط شعاع الفكر الحر عليه: فمن الواضح أن تصنيع الإنتاج الثقافي والفني لم يؤدِ إلى زيادة طاقات الإبداع الفردي، بل أصبح الحديث عن ذبول هذه الطاقات يتردد في الشرق والغرب على السواء. ومن الواضح أن سوء استخدام الأجهزة العلمية في التجسس على الناس والتلصُّص على حياتهم الخاصة قد أصبح اليوم موضع الشكوى والتحقيق في معظم بلاد العالم المتحضر. ربما قيل إن العلم نفسه برئ من تهمة سوء استخدامه على أيدي القوى الأخرى. ولكن هذا لا يعفي العالم من مسئوليته الأخلاقية عما يبتكر ويصنع؛ أي لا يعفيه من أن يكون فيلسوفًا على نحوٍ ما!
ما من عاقل في بلادنا أو غير بلادنا يمكنه اليوم أن يقف في وجه العلم أو يتردد عن ضم صوته إلى المنادين بالمشاركة في حضارة العلم. ولا تستطيع الفلسفة أن تتجاهل النشاط العلمي، أو تناقش مشكلاتها التقليدية بمعزل عنه. غير أن «وظيفتها» تحتم عليها أن تفكر فيما لا يفكر فيه العلماء: هل نشاطهم العلمي — في بعض ميادينه على الأقل — يخدم البشرية في لحظتها التاريخية الراهنة؟ هل التنظيم الاجتماعي الذي نشأ من التنظيم العلمي ملائم لسعادة البشر وحريتهم وسلامهم؟ أليس من الجائز أن يكون الناس في عصر العلم والصناعة قد ازدادوا فقرًا في النواحي العقلية والوجدانية؟ إن العلم والصناعة عنصران في واقع اجتماعي وتجربة إنسانية. أليس من المحتمل أن يكون تقدمها قد تم على حساب عناصر أخرى، وأن يكون المجموع الكلي قد ذبُل وتأخَّر؟ وإذا لم يكن هذا صحيحًا، فلماذا يزداد البشر شقاءً باستمرار؟ لماذا يُهدَّد الفرد — في ظل الأنظمة الموجودة — في استقلاله وحريته، ويزداد بعدًا عن ذاته وعن غيره؟ لماذا تتعرض حياة أمم بأكمله للخراب؟ أيكون الخطأ في التطبيق وحده؟ أتسير عقلانية العلم يدًا في يد مع لا عقلانية (كما يؤكد مفكر مثل «ماركوزه» في كتابه المعروف عن الإنسان ذي البُعد الواحد) كالثمرة الناضجة التي تحمل في جوفها دودة الفساد؟ أتكون العلة — في العلم والصناعة كما في غيرهما — هي افتقار النظر إلى «الكل» والانصراف إلى «الجزئيات»؟ أم يرجع — كما رأينا من قبل — إلى بداية الفكر والفلسفة الحديثة عندما نادت — على لسان بيكون — بأن العلم قوة، وطالبت — على لسان ديكارت — بأن نكون سادة الطبيعة ومالكيها؟ أيرجع أخيرًا إلى السؤال الذي ألقاه الفيلسوف اليوناني: «ما الموجود، تي تو، أون» فبدأ معه انتصار «اللوجوس» على البصيرة، والمنطق والحساب على القلب والوجدان؟ أم أن السبب هو ابتعاد العلم عن روح الفلسفة، أعني عن التفكير في أسسه وقيمته وغايته، والجزء النظري من العلم هو نفسه فلسفة (ح)؟ أم أن الفلسفة أيضًا قد شاركت في الأزمة عن طريق بعض مدارسها واتجاهاتها التي «حدست» العلوم الدقيقة وجعلت نفسها تابعة أو خادمة لها وكان الأحرى بها أن تكون خادمة للحقيقة؟
هذه الأسئلة وأمثالها — على الرغم مما تنطوي عليه من تعميم أو إطلاق لا يسمح المجال بتقييده — لا تأتي إلا من جانب فلسفة تعرف مسئوليتها ودورها، وهو أن تكون ناقدة للعلم والمجتمع، لا تابعة للعلم والمجتمع. وحرمان الفلسفة من هذا الدور لا بد أن يعود عليها بالضرر، ولا يؤدي إلا إلى الحيرة والتشكك والعدمية. إنها — على عكس العلم — لا تتمتع بمكان معترف به ولا مجال ثابت تمارس فيه نشاطها داخل النظام الاجتماعي (ولا يخدعنك وجود أقسام للفلسفة داخل أسوار المعاهد والجامعات ولا الإقبال المتزايد عليها من جانب الشباب عندنا، فقد لا يرجع هذا الإقبال لأسباب فلسفية بحتة، وقد يكون وجودها نفسه داخل هذه الأسوار من أقوى أسباب أزمتها، وقد لا تكون نجاتها إلا بالمشاركة الفعالة في ميدان الثقافة العامة بل في زيادته وتوجيهه). ومما يزيد من حرج موقعها أن هذا النظام الاجتماعي — كنظام حي من القيم والتصورات والتقاليد — هو نفسه إشكال في نظرها؟ ومع ذلك فلا بد أن نسجل لعدد كبير من الفلاسفة والعلماء المتفلسفين في عصرنا أنهم قد طرحوا هذه الأسئلة وأمثالها، وساهموا في الإجابة عليها بمئات البحوث والمحاضرات. وهذا يشهد على أن الفلسفة — على الرغم من كل أزمات الحرة في عصرنا — لا تموت بسهولة!
٦
والجواب: إن وظيفتها الحقة هي نقد الواقع القائم وتحليله. وإذا كانت كلمة الواقع التي نقصدها أشمل من الواقع الاجتماعي وأعم، فإن العبارة تفيد أن إحدى مهامها الأساسية هي نقد الواقع الاجتماعي، ولكنها ليست مهمتها الوحيدة؛ فهي — كما رأينا — تفكير نظري حر في «الكل». وهي بحكم أنها فعل بشري مُتناهٍ لا تنفصل عن زمانها ومكانها؛ لأنها تصدر عن بشر يعيشون «هنا والآن» إلى بشر مثلهم يعيشون «هنا والآن». ولا يعني هذا أن يكون تفكير الفلاسفة جزئيًّا أو محدودًا، لأنهم — حسب التعريف السابق وتعبير أفلاطون — يضعون «الكل» في بالهم ونصب أعينهم. فالمجتمع الذي ينقدونه جزء من المجتمع البشري في تاريخه الماضي والحاضر والمستقبل، والمعرفة التي يحللونها تدخل في سياق المعرفة الشاملة، وواقع الأشياء والقيم والنُّظم التي يسألون عنها مرتبط بواقع كل شيء وكل قيمة وكل نظام على الإطلاق. وليس معناه أيضًا أنها يمكن أن تصبح علم اجتماع أو فرعًا من فروعه، أو أن تتحول إلى «أيديولوجية» أو جزء من أيديولوجية (ط). إذ لو فعلت هذا لأنكرت موضوعيتها وماهيتها، بل لتنكرت لدورها الاجتماعي نفسه! والأخطر من هذا أنها ستجرد من وظيفتها في نقد الواقع ككل، وتحرم شجاعتها في التوجيه إلى المستقبل، وتسلب حريتها في النظر الخالص والتساؤل بغير مسلمات؛ أي إنها ستُحرم في النهاية من دورها العملي العريق. كذلك لا يعني نقد الواقع القائم — كما أشرنا من قبل — أن تعمد إلى الصراخ والضجيج، أو تندفع وراء الرغبة في الهدم والتهكم، وإلا أصبح الفيلسوف مُهرجًا يتلذَّذ بالنظر في مرآة نفسه، أو بطلًا مُشوشًا يهاجم أوضاعًا معزولة ويُحطِّم أوثانًا منصوبة في عقله، أو «نجمًا» يسعى إلى الشهرة الرخيصة والزعامة الكاذبة التي لم يكترث بها فيلسوف حقيقي، وانشغاله بنفسه لا بدَّ أن يصرفه عن النظر الموضوعي حتى لنفسه، ناهيك عن النظر إلى الواقع والآخرين، وسينتهي به حتمًا إلى ما يُسمى ﺑ «الأنا وحدية» التي وقع فيها «ماكس شتيرنر» وكانت خليقة أن تسوقه إلى مصحَّات المجانين! إن الهدف الدائم من النقد الفلسفي هو ألا يضيع الناس في واقع مزيف، أو يستسلموا لحقيقة كاذبة، أو يخضعوا لأفكار وألوان من السلوك يُزين لهم نظامًا اجتماعيًّا معينًا أنها «أبدية» أو «فوق النقد» (راجع ما سبق عن سقراط!) إنه يُبصِّرهم بالعلاقة بين حياتهم وحياة المجتمع ككل، بين نشاطهم الفردي وبين أهدافه العامة وأفكار العصر الكبرى، وهو يكشف لهم عن التناقض الذي يقعون فيه عندما يتمسكون في حياتهم اليومية بأفكار وتصورات معزولة عن الوحدة الكلية للمجتمع والبشرية. وهو يهديهم، في النهاية، إلى وضع العقل في الواقع، لا سيما إذا خلا هذا الواقع من العقل وغرق في صور اللاعقل وأشكاله المختلفة (من تمزق وتشتت، وتسليط وخرافة، وتزييف وطغيان، وتهالك على الملذات العاجلة دون القيم الباقية، ونسيان للكل والأصل في غمرة الضياع في الجزئيات، والانبهار بالبدع والمستحدثات والاستعباد للشعارات والمثيرات).
كان هذا التنظيم والتوحيد — على الأقل في عصر ازدهار الفلسفة اليونانية — مرادفًا لتحقيق فكرة الخير. وهل كانت جهود الثلاثة الكبار في تربية الفرد على التفكير والسلوك الصحيح، وتنقية تصوراته اليومية والعلمية من الغموض والتحيُّز والانفعال إلا تمهيدًا للطريق إلى هذا الخير؟ وهل كان الخير الأسمى إلا «العين الإلهية» التي تحرس عالم أفلاطون وتتوج عالم أرسطو؟ وإذا كان أرسطو (في الميتافيزيقا) يرى أن السعادة القصوى تكمن في السلوك النظري، أي في تأمل النفس لذاتها تأملًا خالصًا، فإنه يقول صراحة إن تحقيق هذه السعادة يحتاج إلى أساس مادي وشروط اجتماعية واقتصادية. فقد كانت الظروف الاجتماعية العادلة عنده وعند أفلاطون شرطًا ضروريًّا لنمو القوى العقلية عند الإنسان. لم يكن من الممكن في رأيهم، أن تسير الحياة والبؤس يدًا في يد كما كان يزعم الكلبيون، ولا أن يتطور عقل الإنسان بينما يحيا حياة الكلاب! هذه الفكرة التي أكَّدها أفلاطون وأرسطو هي في الواقع أساس النزعة الإنسانية الأوروبية كلها. ومن المستحيل أن نتصور تاريخ الفلسفة الحديثة بغير تصور المشكلات الاجتماعية التي ارتبط بها وكان لها دور مباشر أو غير مباشر في تشكيله (هوبز وفلسفته في الدولة والمجتمع وكيف يخرج الناس من الحالة الطبيعية — حيث يكون كل إنسان ذئبًا يتربص بكل إنسان ويعلن الجميع الحرب على الجميع! — بالاتِّفاق على العقد الاجتماعي الذي تنشأ معه الدولة «التنين» ويخضعون لها باختيارهم، اسبينوزا ورسالته في اللاهوت والسياسة ودفاعه الحار عن حرية الفكر والإيمان، وتصوير المثل الأخلاقي الأعلى في التحرُّر من سيطرة الانفعالات بالرؤية العقلية الواضحة لقوانين الوجود الحتمية. حتى الجوانب التأملية المجردة عند ليبنتز وكانط تكشف عند التحليل الأخير عن المقولات الاجتماعية والتاريخية التي تقوم عليها … إلخ) ولكن مهما تكن أهمية بحث المشكلات الاجتماعية ودورها في الفلسفة، فلا يجب مرة أخرى أن يغيب عن بالنا أن وظيفتها الاجتماعية لا تجعل منها علم اجتماع ولا فرعًا من فروع علم الاجتماع. إن هذه الوظيفة الاجتماعية تقوم قبل كل شيء على تنمية الفكر النقدي والجدلي. فالفلسفة هي المحاولة العنيدة المستمرة لوضع العقل في العالم. وإذا كانت تبدو مقلقة غير مريحة (فالفلاسفة — كما قال همنجواي — يزعجون الناس في حياتهم ويشتد ازعاجهم لهم بعد موتهم!) وإذا كانت باستمرار في وضع خطر ومريب مختلف عليه، وكان الناس يتشكَّكون في دورها ومعاييرها وأدلتها، وينفرون عادة من الاهتمام الجدي بمتاعب حياتهم الخاصة والعامة، ويفوضون أمرها لرجل السياسة ورجل الدين، أو الصحفي والكاتب والشاعر، أو المصلح والمُربي، أو يتعزُّون عنها بالأمل في مستقبل غامض يصبح فيه كل شيء على ما يرام، إذا كان هذا صحيحًا فإن الحاجة إلى نظرية فلسفية في عالم تقسيم العمل المعقد الذي نحيا فيه أصبحت أشد إلحاحًا من أي وقت مضى. ربما كانت هناك أوقات عاش فيها الناس بغير نظرية. وربما شعروا دائمًا بالهاوية التي تفصل بين أفكارهم عن أنفسهم وعن العالم وبين الواقع الاجتماعي الذي يشاركون فيه بمعملهم وانتاجهم. وربما لازمهم الإحساس بأن معظم أفكارهم زائف أو غامض، وأن الواقع الذي يشقون فيه ليس هو الواقع الذي يتمنون أو «ينبغي» أن يكون. ولكن لا شك أيضًا أنهم كانوا يحسون إحساسًا غامضًا بحاجتهم إلى نظرية أو نسق فكري محكم يحميهم ويضيء لهم الطريق، خصوصًا في أوقات المحن والأزمات القومية والعالمية، حين يرون أنفسهم يسرعون نحو الدمار، ويواجهون أشباح الرعب والخراب وهم عُزل إلا من أفكار بالية وتصورات غامضة وشعارات كالطبل الأجوف لم تصمد عند التجربة. وعالمنا اليوم يواجه الأخطار ويحاول أن يروضها ويقلم أظافرها ليلَ نهارَ (للأسلحة صليل في كل مكان، نذر الحرب الكبرى — أو مقبرة الكل — تلوح لتطوى أو لتؤجل في الكتمان، مع كل فطور نجرع أنباء القسوة والوحشية والعدوان، والأخوة — يا للحسرة! — يقتتلون ولا يردعهم زحف الأفعى والتنين).
٧
لا شك أن هناك عددًا كبيرًا من هؤلاء «المنقذين» (الذين سبقت الإشارة إلى بعض أسمائهم ويصعب حصرهم في بلاد الغرب والشرق المختلفة أو في بلادنا) وأنهم حاولوا جهد طاقتهم واستعدادهم أن يؤدوا أمانة الفلسفة في تحرير الفرد من الأوهام وتبصيره بنفسه وغيره، وتعميق وعيه بالواقع والعالم الذي يشارك في صنع مصيره. وإذا كنا نتحسر أحيانًا ونحن نراهم وكأنهم يهتفون في فلاة، وينادون ولا حياة لمن تنادي (فأرباب السلطة والسلطان مشغولون عنهم بطموحهم وعروشهم، والناس منصرفون عنهم إلى لقمة عيشهم وتسلية يومهم، وإذا كرمهم هؤلاء أو أولئك فكلَّلوا رءوسهم بالغار أو وضعوا الجوائز في أيديهم والأوسمة على صدورهم فسرعان ما يودعونهم بعد الاحتفال ولسان حالهم يقول ما قاله أفلاطون للشعراء: انصرفوا الآن أيها الأحباب إلى كُتبكم وأفكاركم وأحلامكم، أما نحن فإلى عاداتنا الثابتة التي لا نستطيع للأسف أن نتحول عنها!) وإذا كان اليأس يخالجنا من جدوى الكلمة والفكرة وسط ضجيج السلاح والآلات والإذاعات والأيديولوجيات (واليأس يتحول إلى حسرة تخنق كل من أنفق حياته مع الكلمة في بلادنا التي تعاني من كل صور التخلف)، وإذا كنا نتلفت حولنا فلا نكاد نجد تفكير واحد منهم قد تحول إلى سياسة أو طبق في نظام أو ألهم أحد المسئولين عن مصائر الشعوب، فمن الخطأ مع ذلك أن ننتظر الإنقاذ كما ننتظر سقوط ثمرة في الحِجر أو الكفَّين. إن الفيلسوف ينقذنا — بالمعنى الأفلاطوني السابق — حين يُبصِّرنا بالواقع «الحقيقي» وراء الواقع «الظاهر». ولكنه يترك لعقلنا المستقل وإرادتنا الحرة وضميرنا المسئول أن تُغيِّر ما شاءت من واقع أنفسنا وحياتنا. إن قصارى جهده أن يهدينا لإنقاذ أنفسنا بأنفسنا. أقصى ما في وسع المنقذ أن يجعل كلًّا منَّا ينقذ نفسه (طريق إنقاذنا واضح ومعروف، مهما غلفناه في ضباب الفصاحة أو حاولنا الهروب منه في دروب ومتاهات جانبية: اشتراكية علمية نطبعها بخاتم شخصيتنا ونصونها بقيم تراثنا الحية من الإرهاب والشمول الذي عانى منه التطبيق عندنا أو عند غيرنا).
إن الناس تتطلَّع «للمنقذ» علَّه يزودنا بنظرة أو نظرية نقدية وجدلية عن الواقع الكلي الذي نعيش فيه. وكل مفكر حق يحاول أن يصنع هذا حسب اجتهاده ومجال بحثه بصورة مباشرة أو غاير مباشرة. غير أن المسألة ليست بهذه البساطة. فالنقد في الفلسفة لا يعني أبدًا — كما نرى في الحياة اليومية أو شئون السياسة والاقتصاد أو النقد الفني والأدبي الهابط في بلادنا — لا يعني إدانة شيء أو صب اللعنات على هذا الوضع أو ذاك، ليس هو مجرد الرفض والنفي، ولا يصح أن يتحول من نقد إلى «نقض». وليس هو الاتهام والتطاول، ولا الصياح والصراخ. إنما الجهد العقلي والعملي لعدم تقبل الأفكار والقيم وأساليب الفعل والسلوك والظروف الاجتماعية والتاريخية تقبلًا أعمى. وهو جهد يبذل للتوفيق بين جوانب الحياة الاجتماعية وبين الأفكار والأهداف العامة للعصر، وتمييز المظهر فيها من الجوهر، والبحث في أصول الأشياء والظواهر وجذورها وارتباطها بحقائق الواقع من حولها، أي معرفتها معرفة حقه. وهو في النهاية التحدي الحقيقي الذي يتحتم على الفلسفة أن تقبله كي تثبت إمكان المُحال، والمُحال هو تسويغ وجودها في عالم اليوم، العالم الذي يزداد فيه التخصص ويتراكم كل يوم بل كل لحظة، وتنظر العلوم الجزئية إليها من طرفٍ خفي وتهمس قائلة: إما أن تصبحي علمية مثلنا وتضعي نفسك في خدمتنا، أو تبقى الأم المهجورة في ملجأ العجزة أو متحف التاريخ، وفي العالم الذي لا تزال تتجول فيه أشباح فلسفات زيَّفت الواقع بتصورات فارغة من كل مضمون: خلَّفت أسطورة «الوجود» أو الفردوس الأرضي، أو هربت إلى كهف الماضي لتعلن أن الحياة دبَّت بمعجزة في الجثث المهيبة المقدسة.
إن عودة الفلسفة إلى مزاولة دورها النقدي هو عودة إلى مهمتها التقليدية التي نمت وتطورت عبر العصور، إلى الوحدة الإيجابية لتاريخها الحاضر باستمرار. وإذا كان الفلاسفة الحقيقيون قد قاموا دائمًا بهذا الدور الذي تفرضه أفكارهم نفسها (أكزينوفان نقد فكرة الوجود الإلهي وحاول تخليصها من أثواب الأسطورة والتشبه بالإنسان. أرسطو نقد أفلاطون الذي جعل من التصور الكلي موجودًا في ذاته. ديكارت انتقد العقائد والمناهج المدرسية الجامدة. ليبنتز نقد المنهج التجريبي. كانط نقد ليبنتز وهيوم معًا وبيَّن أن النقد هو الطريق الوحيد الباقي للفلسفة. هيجل نقد كانط، وماركس نقد هيجل … إلخ) فإنهم لم يتوقفوا عن نقد الواقع المحيط بهم حسب طاقتهم وقدرتهم على الرؤية وبصورة مباشرة أو غير مباشرة كما ذكرنا من قبل. ومع ذلك فلا يمكن القول إن أكثر الفلاسفة تأثيرًا على التقدم كانوا أقساهم نقدًا أو أعلاهم صوتًا أو كانت برامج الإصلاح في أيديهم. فالنظرية الفلسفية دائمًا ذات جوانب متعددة، وكل جانب منها يمكن أن يكون له تأثيره التاريخي. قد لا يأتي هذا التأثير إلا بعد أجيال وأجيال. ومن الخطأ أن نخلط بين النظرية الفلسفية والمظاهرة السياسية؛ فلم يحدث إلا في أوقات نادرة أن تحولت الفلسفة إلى سياسية (ك). وحتى في هذه الحالات لم تكن السياسة دائمًا هي التطبيق الأمثل للفكر (فمن المعروف مثلًا أن الثورة الفرنسية تمخضت عن فلسفة عصر التنوير في فرنسا) لم تكن الفلسفة حينئذٍ هي المنطق أو نظرية المعرفة، بل نقد السلطة الكنيسة والإقطاعية وطبقة النبلاء والنظام القضائي الظالم وتقييد حرية الفرد في الاعتقاد والتفكير. ولقد أفادت — مع مرور الزمن وتراكم تجارب الوعي — في زحزحة كثير من الأحكام المسبقة فانفتح الباب على عالم أفضل، وكان للنقد دوره التاريخي في التغيير الحاسم. لكن الثورة لم تلبث أن انزلقت إلى أيدي البرجوازية، وجاء الطاغية نابليون فجرَّ عربة «الحرية والإخاء والمساواة» في أوحال الحروب التوسعية والطموح الإمبراطوري! والثورة الاشتراكية الكبرى التي شبت على نيران نظرية ماركس وإنجلز ولينين، ماذا فعل بها عند التطبيق أرهاب ستالين وطموح القومية التوسعية وتمزق الدولة الاشتراكية إلى معسكرين متعاديَين؟ هل نجحت في تحقيق حلم ماركس بتحرير الإنسان من اغترابه عن ذاته وعمله، أم قيَّدته في عجلة الآلية التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية الرهيبة؟ ثم ماذا كان من أمر «القومية العربية» ثم «الاشتراكية العربية» اللتين ناضل لإرسائهما عشرات المفكرين المخلصين؟ كيف كان التطبيق وماذا كان الحصاد؟ كيف توقعنا أن تخضر الجنة تحت أقدام الجراد، أو تتفتح الزهور في كف الجلاد؟
لنأخذ مثلًا من هيجل، وهو إمام الثورة العقلية الحديثة غير منازع. كان أبعد الناس عن السخط الساذج والتمرد الأهوج. وصورت ملحمته الجدلية الجبَّارة طريق العقل المطلق عبر أشكال اللاعقل التي يغترب فيها عن نفسه في الطبيعة والتاريخ والوعي والفن والدين والسياسة والفلسفة … إلخ، حتى يتصالح الواقع مع العقل وتتحقق الفكرة العينية الشاملة. لهذا دعاه ملك بروسيا وهو يظن أنه أقدر الناس على تلقين الطلبة فروض الولاء له وتحصينهم من معارضته. وفعل هيجل كل ما في وسعه. أعلن أن الدولة البروسية هي «واقع الفكرة الأخلاقية الموضوعية» على الأرض. وأعلنت الدولة البروسية أنه فيلسوفها الرسمي! ولم ترحمه الألسنة الطويلة والنفوس الصغيرة فانهالت عليه الاتهامات وما زالت تنهال على رأسه إلى اليوم: المجاراة، والتنازل، الانتهازية، والاستسلام … إلخ، بَيْد أن للفكر طريقه المرسوم. فلكي يبرر الدولة البروسية كان عليه أن يعلم تلاميذه كيف يتجنبون ضيق الأفق السائد عند الرجل العادي، وكيف يربطون بين الأفكار والوقائع ويرون الأشياء في سياقها الشامل ووحدتها الكلية كذلك علمهم كيف يفهمون بنية التاريخ البشري المركب المتناقض، وكيف يتتبعون فكرة الحرية في حياة الشعوب ليعرفوا أن ماهية التاريخ هي «التقدم في الوعي بالحرية»، وأن تطور البشرية مرهون بهذا الوعي، وأن الشعوب تندثر إذا ثبت أن مبادئها لم تعد تلائم روح العصر الذي أصبح في حاجة إلى مبادئ وأشكال اجتماعية أنضج، وأن مهمة الفلسفة الكبرى هي استرداد الوحدة والحرية المفقودين، وتعقيل الواقع والمصالحة بينه وبين الفكر.