كلمة أخيرة
١
التقينا على الصفحات السابقة ﺑ «ملكة العلوم» في أطوار عمرها المختلفة وصورها وثيابها المتعددة: وجدناها في الفصل الأول تزهو على عرشها المطلق، يسطع من جبينها نور الحكمة والنظر الكلي الحر، ويتألق في عينيها بريق نافذ إلى الأسباب الأولى والأخيرة. ثم رأيناها في الفصل الثاني يتيمة وحيدة، هجرها الأبناء واحدًا بعد الآخر، وانصرف عنها الناس قائلين إنها ماتت من زمن بعيد، وأن لم يكلفوا أنفسهم عناء السير في جنازتها وتشييعها إلى مقرها الأخير، ورحم بعض المحسنين شيخوختها فآووها في ركن من أركان الجامعات كأنها شاهد أثري على تراث عقلي يحرسونه من الضياع ويروون تاريخه لزوَّاره القليلين. وتخلي الكهنة عن الملكة العجوز بعد أن أصبح الكهنة الجُدد يأتون من المعامل ومعاهد الأبحاث. ولم تجد الملكة المخلوعة عن العرش شيئًا يملأ فراغها ويؤنس وحدتها سوى اجترار ماضيها والتأمل في مرآتها، أو التسلي بتقليب كتاب حياتها ونقد لغته وتحليل عباراته، أو التطفل على أبنائها المغرورين وتذكيرهم بأصلهم والتنبؤ بمستقبلهم وتعذيب ضمائرهم. أما الذين نذروا حياتهم لحراستها فقد صار الناس يتفرجون عليهم كما يتفرجون على مجموعة من الحمقى الذين يعيشون على هامش المجتمع ويؤدون لعبة لا خطر فيها ولا ضرر منها، لعبة عقيمة لا يصدقون اليوم أنها كانت تبهر أجدادهم وتقلق حياتهم وتؤرق نومهم، ولا يتصورون كيف ضاق بهم الأجداد حتى حكموا على نفر منهم بالسجن والتعذيب أو القتل والحرق والنفي والتشريد! إنهم الآن لا يرون بأسًا في أن يتركوهم تسلية لمجتمع العمل والإنتاج، أو قطعًا نادرة في متحف ذاكرته، أو دليلًا على اهتمامهم ﺑ «الثقافة» وعنايتهم ﺑ «التراث» و«التقاليد» وبذخهم في الإنفاق عليها (أنتم تمثلون القيم! هكذا قيل لفيلسوف أمريكي دُعِي صدفة إلى حفل ضم مديري البنوك وأصحاب الملايين) ثم إنهم لا يفكرون اليوم في قتلهم؛ إذ لا داعي لقتل الموتى، ولا يسعون لكسب مودتهم أو التماس الرأي والمشورة عندهم؛ إذ لا يحرص أحد على مودة العجزة أو مشورة المعتوهين!
٢
ولكن هل ماتت الفلسفة حقًا وانتهى دورها على مسرح الحياة العقلية؟ هل زالت فضيحتها التي رماها بها «كانط» عندما احتضرت بعيدًا عن العيون؟ أم أنها تظاهرت بالموت — كما تفعل بعض الحيوانات الماكرة! — لكي تنهض أكثر قوة وحيوية؟ لقد تحملت اللعنات التي انهالت على رأسها (ملعون هو المطلق! هكذا زفر وليم جيمز زعيم البراجماتيين) وصبرت على شماتة أبنائها الجاحدين (من أقطاب العلوم المتخصصة المنتشية بالنصر!) وتمددت برضاها على مشرحة النقد اللغوي والتحليل المنطقي كالطبيب الذي أجرى على نفسه عملية جراحية تشفيه نهائيًّا من مرضه، فلم يلبث الجمهور المتحمس من حوله أن هتف صائحًا: نجحت العملية ومات المريض!
غير أنها خيَّبت ظنون الجميع عندما فوجئوا بها ترفرف بجناحيها كالعنقاء التي نفضت عنها بقايا الصدأ والرماد. وتبدلت الصورة الحزينة التي خيَّمت عليها في السنوات الأخيرة عندما أسرع قصار النظر فجللوها بالسواد. وعادت «الفضيحة» تثير اهتمام الناس وتنشر حولها عاصفة من النقد والجدل والحوار اهتزت لها الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والتربوية والثقافية. وتعمدت «الحية الخالدة» أن تغير اسمها كما تغيِّر جلدها. ظهرت هذه المرة تحت أسماء أخرى كالنظرية النقدية، والنظرية العلمية والاجتماعية، ومشكلة المنهج والقيم، والنقد الأيديولوجي، والماركسية الجديدة، ونظرية البنية … إلخ، وانتعشت المشكلات الفلسفية — وبخاصة المشكلات الاجتماعية والأخلاقية — انتعاشة حرَّكت الشارع السياسي، وأطلقت ثورات الشباب، وزلزلت قلاع السلطة والبيروقراطية، وأجبرت الفلسفات التي تعرج على المسرح (فلسفات الوجود والأنطولوجيا الجديدة والمدارس الأكاديمية … إلخ) على الانزواء في ركن خفي، وأغضبت حراس القبور الذين ظنوا أن جثمانها التاريخي قد استقر إلى الأبد في مرقده الأخير.
٣
برزت الحاجة إلى فلسفة اجتماعية جديدة. لم يأتِ هذا الإحساس في الغالب من قاعات الدرس (المشغولة بتحنيط الجثمان الموقر وتدليك أعضائه وإعلان موته النهائي) بل جاء من قلب المجتمع المتغير الذي يبحث عن قيم ومعايير جديدة: من الشباب الثائر على النُّظم الجامدة، من رجال السياسة والتخطيط الاجتماعي والاقتصادي والبيئي، من العلماء والمهندسين والمُشرِّعين لمستقبل عصر العلم والتقنية ونموذج المجتمع العالمي (ولا يزال القراء يذكرون ندوة المستقبل «مصر في سنة ٢٠٠٠» وموضوعها في صميمه موضوع فلسفي، وإن كان نصيب الفلسفة والعلوم الإنسانية فيها ضئيلًا أو شبه معدوم) وتزايد حركات التحرر بين شعوب العالم الثالث ومحاولات التقارب والتعاون الدولي والبحث القلق عن طريق ثالث ونظرية جديدة … إلخ.
٤
ماذا ننتظر اليوم من المتخصص في العام الذي يعيد اكتشاف دوره «السُّقراطي» ويضع نموذج سقراط نصب عينيه؟ كيف يمكنه الجمع بين النظر الكلي الحر وبين الاعتدال والتواضع العقلي الملازم لطبيعته؟
لا يمكن أن تقف مهمة المتخصص في العام عند التخصص في إشاعة «القلق والاضطراب! فالمشكلات المُلحَّة على مجتمعه وعالمه تفرض عليه أن يكون محامي الصالح العام، والتزامه التقليدي بالعقل ومسئوليته الأخلاقية يُحتِّمان عليه أن يقرن النقد بالبناء والإنشاء. إنه يواجه التطور العلمي في كل مجال، وعليه أن يلم بنتائج العلوم (التجريبية والنظرية البحتة) دون أن يسمح لفكره أن يذوب فيها ويستبعد لها أو تصبح بديلًا عنه (ل)، وتخصصه في الكلية والشمول يتجلَّى في اهتماماته التي تتخطى الأنظمة المختلفة، وأحكامه المعيارية التي تنصب على أهدافها ومناهجها، ومساهمته في اقتراح حلول مقنعة (لا مطلقة!) لمشكلاتها، والمخاطرة في بعض الحالات بعرض بدائل وحلول ومنظورات مفاجئة أو خيالية لا بد أن يتهيب منها المتخصص المقيد بحدود خبرته. وهو في النهاية مشارك في الحوار الضروري بين علماء التخطيط والسياسة والتقنية والاجتماع والنفس والتاريخ والثقافة … إلخ، بل هو في الحقيقة مركز الدائرة من هذا الحوار، والواجبات والمشكلات التي تُزكِّي تعاونه معهم كثيرة ومتنوعة. فالأزمات الاجتماعية والثقافية تحتاج إلى عقله النقدي الذي ينبش أرض التراث والتقاليد بحثًا عن جذورها، كما تحتاج إلى بصيرته الملهمة التي تستشف مستقبلها أو تقدم الحلول الممكنة لها وتصف الدواء الذي يساعد على الشفاء منها، وليس معنى هذا أن دوره يقتصر على تسكين الأزمات وتحليل أسبابها، فربما رأي من واجبه أن «يوجد» الأزمات الروحية الخلَّاقة، وأن يحارب ضيق الأفق والعقم العقلي والثقافي حيثما انتشرت ظلالهما. وكم من فيلسوف أطلق أزمات الضمير وحرك تغيرات الوعي، وإن لم يعِش معظمهم حتى يشهد نتائجها. وإذا لم ترَ الفلسفة «الأشكال» في كل اتجاه، فهي معصوبة العينين أو غارقة في غيبوبة الأحلام. ستكون جارية في حريم السلطان، لا كاهنة في معبد الحقيقة، أو تلوذ في أحسن الأحوال بكهفها الذاتي …
إن المناقشات الدائرة حول أُسس العلوم الجزئية تحتاج إلى دور المنظر للعلم ومنطقه ومناهجه؛ أي إلى فيلسوف العلم. والمناقشات الفلسفية تحتاج بدورها — كما قدمنا — إلى التعرف على نتائج العلوم المختلفة والاستعانة بها في تحليل مشكلاتها وقضاياها. والفلسفة لن تستغنى عن الرجوع إلى تراثها كما لا يستغنى الإنسان عن ظله. ولكنها تخدع نفسها إذا تصورت أن التراث وحده أو التأمل المجرد المعزول عن حقائق الواقع يمكن أن يجعل منها «عصرها معبرًا عنه بالأفكار»، وتحليل الأنظمة والخطط التي يتداخل فيها أكثر من نظام علمي تحتاج للنظرة الكلية التي ترتفع فوقها لتلقي الضوء على مناهجها وتتمكن من المقارنة بينها وتوحيد منطلقاتها وأهدافها. ولا يمكن أن ينهض أحد غيره (أي الفيلسوف!) بمهمة تقييم المناهج، إذ يتصور كل منهج على حدة أنه يملك المعيار الصحيح الوحيد. وعلوم التخطيط وتحليل الأنظمة والمشروعات تحتاج إلى مشاركته في وضع القيم واتخاذ القرارات وتحديد الأولويات، بشرط أن تأتي هذه المشاركة عن فهم لهذه العلوم واتصال بها، لا عن تأمل معزول عنها أو تنظير مطلق سابق عليها. ودخول الفيلسوف في هذا الحوار المشترك يحتم عليه ألا يتجمد داخل أسوار الخلافات المدرسية، لأن تعدد الآراء ووجهات النظر لا بدَّ أن يخصب الحوار. وضرورة التعاون بين الفلاسفة وغيرهم من العلماء في مواجهة المشكلات الملحة يجعل تعصب المدارس والأيديولوجيات (أي نظام المعتقدات الشمولي الذي يزعم لنفسه القدرة على تفسير الإنسان والطبيعة تفسيرًا أحاديًّا نهائيًّا ويتحول — باسم العلم والحقيقة والتقدم والإصلاح — إلى غيبية جديدة!) أشبه بعصبيات القبائل والعشائر التي تصر على تقاليد الثأر، أو صراع الحيوانات التي تحافظ على مناطق النفوذ. إن أربعة عيون ترى أكثر مما تراه عينان، وإذا اجتمعت عشرة عيون فلا بدَّ أن تبصر أبعد من أربعة. وادعاء الزعامات والبطولات شيء غريب على العلم والعلماء، وهو بالتأكيد لا يليق بتواضع الفلاسفة وحكمة الحكماء، ثم إن الكمال والشمول واليقين المطلق صارت كلها أمورًا غير ممكنة ولا مطلوبة. لقد اقترنت من ناحية بالطموح إلى المعرفة الموسوعية. ومن ناحية أخرى بالمحاولات «الميتافيزيقية» لتفسير العالم في مجموعه. وعالمنا اليوم شديد التعقيد وملكاتنا شديدة القصور (وليس من المعقول ولا المطلوب أيضًا أن يبعث بيننا اليوم أمثال أرسطو والغزالي وليبنتز وديدرو وهيجل ورسل والعقاد!) كما أن المحاولات الميتافيزيقية لتقديم نسق فكري شامل يتضمن اليقين والتبرير والتعليل النهائي قد ثبت فشلها. ولن تكون مهمة الفلسفة في المستقبل هي تقديم نسق من القضايا النظرية الخالصة التي لا تكترث بإمكانيات تحقيقها في الواقع أو فرص اختبارها على محك العقل والخبرة العملية (ومن يصر على هذا لن يزيد عن تقديم تجربة جمالية أو خبرة ذاتية قد نتذوَّقها ونستمتع بها، ولكننا لا نقبلها عادة إلا من الأدباء والفنانين!) ولهذا فإن الفلسفة التي تقترب من الواقع تفرض التخلي عن التعصب للمطلق بكل أشكاله (لا عن مذهب أو معتقد متزمت فحسب، بل كذلك عن التعصب للنزعة العلمية-العلموية! التي تسرف في الإيمان الساذج بالعلم، والتعصب للنزعة غير العلمية التي تسرف في العداء له!) وهذا الاقتراب من الواقع سيجعلها تتناول مشكلات جزئية تدرسها بموضوعية وتأنٍ وحياد، كما سيجعلها نوعًا من العمل الاجتماعي والسياسي بالمعنى الواسع لهاتين الكلمتين (دون أن تتحول إلى علم اجتماع أو سياسة أو أحد علوم الوقائع كما ذكرها من قبل). ولا يمنع هذا من تأكيد ما قلناه من أن الشمول والتوحيد والنظر الكلي والنقدي الحر سيظل دائمًا هو صميم روحها، وهو شمول النظر إلى وحدة المعرفة والإنسانية، وحرية التنظيم والتكامل والتقييم والتوجيه والتصحيح.
واتجاه الفلسفة إلى مشكلات الواقع يفرض عليها أخيرًا أن تتجه إلى الرأي العام. وهذا يحتم عليها أن تتنازل قليلًا عن لغتها التقليدية لتتكلم بلغة مفهومة تفيد الحوار المشترك بينها وبين أبنائها «الجاحدين»، كما تفيدها في توضيح أفكارها والإقناع بحججها. إن الوضوح لا يتنافى مع العمق، واللغة البسيطة ليست دائمًا دون المستوى. ومن أراد أن يتجه إلى الشارع والسوق فلا بد أن تكون لديه القدرة على مخاطبة الشعب «والنظر إلى فمه» (كما يقول تعبير لوثر المشهور). إن شعوره بالمسئولية يدفعه إلى هذا، وتواضعه يجعله يتعفف عن اعتباره «نزولا» إليه. كان سقراط متواضعًا وبلا غرور. والتفلسف على طريقة سقراط مستحيل بغير التخلي عن الغرور.
٥
ربما قال القارئ: ما لنا نحن وهذه المهام والواجبات التي تقتضيها ضرورات المجتمعات الصناعية والعقلانية المتقدمة، وماذا نفعل بها في مجتمعاتنا المتخلفة (التي نُعزِّي أنفسنا فنسمِّيها مجتمعات نامية!) والسؤال صادق ومشروع، ولكنه يُعبِّر عن يأس لا داعي له. فمواجهة الفكر الفلسفي لمشكلات الواقع لازمة لنا لزومها من البشر (ما دمنا نؤمن بحضور التفلسف بالفعل أو بالقوة والإمكان في كل إنسان!) والمشكلات التي يفرضها العصر الذي نعيش فيه، وهو عصر الحضارة العلمية والتقنية الذي نسعى جاهدين للدخول فيه، وإن كانت معظم مجتمعاتنا تعيش فيه حسب (النتيجة الفلكية) وحدها ولا زالت تغوص برءوسها وأقدامها في عصور كهوف سحرية سابقة، مهما كان نجاحها في جعل هذه الكهوف مكيفة الهواء ومكدسة بالمستورد من كل صنف! هذه المشكلات متشابهة في نوعها وإن اختلفت من حيث الدرجة والعمق. ومعظم بلادنا العربية لديها خطط خمسية ومشروعات تنمية وتصورات عن المستقبل. ومشاركة الفيلسوف في المناقشات الدائرة حول هذه الخطط والمشروعات والتصورات وغيرها من قضايا التقدم والرخاء ستكون كما قدمنا مشاركة خصبة نافعة. وتعاونه مع زملائه من أهل الخبرة الدقيقة لا بدَّ أن يفيد في نقد القيم والتصورات والقرارات وتحليلها وتوضيحها ومراجعتها وإضفاء التكامل والشمول على الأنظمة المختلفة التي تنحصر عادة في حدودها الضيقة. ولا شك أيضًا أنه سيسهم في ربط هذه القضايا والمشكلات بقيم المجتمع ككل وسيكون أقدر على وصلها بجذور التراث والتقاليد ومدِّها إلى آفاق الغد والمستقبل. ولنتصور بعين الخيال أحد المشتغلين بالفلسفة في حوار مع أترابه من رجال الدين والقلم وعلماء الاجتماع والنفس والتربية والسياسة والاقتصاد والتقنية … إلخ حول إحدى المشكلات التي تزخر بها حياتنا (كالحرية والعدالة، والسلطة والقانون، والحق والواجب، والتربية والتعليم، والقيم والأخلاق، والعادات والتقاليد، وحاضر الثقافة ومستقبلها، والنمو السكاني والهجرة من الريف، والتعمير و«التحضير» وإعادة توزيع خريطة السكان، ورعاية آثار الشعب وفنونه … إلخ) ولنتخيل أيضًا — بعيون الروح — أن المناقشة يمكن أن تدور على هذه الصورة الموسيقية المتناغمة! في مؤتمرات أو ندوات عامة، أو في أجهزة الإعلام وأنهار الصحف والمجلات الجادة التي نفتقدها اليوم. ألا يمكن أن نفيد من هذا التقليد المتبع في البلاد المتقدمة؟ ألم نفِد منه بالفعل فيما تم — على ندرته وانعدام تأثيره! — من ندوات ومؤتمرات ومناقشات؟ وإذا حدثت المعجزة ودُعي الفلاسفة إليها ألا ينعكس هذا على الفلسفة وعليهم هم أنفسهم كما ينعكس على عامة الناس؟ وإذا قيل إن الأفكار وحدها لا تغير من الواقع (وهذا تحذير واجب من التفاؤل الساذج!) وأن العبرة بالتنفيذ والتطبيق والممارسة حتى يتحد الفكر والعمل ويتصالحا بعد طلاقهما «العربي» الأزلي، ولا تصدق علينا كلمة الشاعر هلدرين عن قومه: أغنياء بالأفكار فقراء في الأعمال، إذا قيل هذا ألا يمكن الرد عليه بأن تغير الوعي لا بدَّ أن يسبق التطبيق والتنفيذ، مهما طال بهما الزمن؟
إن روح الفلسفة وصميم عملها يفترض أن كل القيم والمفاهيم معرضة من حيث المبدأ للنقد. ولا ينصرف هذا فحسب إلى نقد الفلاسفة بعضهم لبعض بصورة لم تتوقف ولا يتصور توقفها، ولا إلى نقد المصطلحات والمعاني والتصورات التي لا تستغنى عن استخدامها (م)، وإنما يصدق أيضًا على الظواهر والمشكلات التي نصادفها في حياتنا اليومية ونتصور أنها أتفه من أن تستحق النقد والتحليل الفلسفي. لقد علمنا فلاسفة التحليل والوجود والظاهراتية وفلاسفة الاجتماع المعاصرون أن «كل شيء» يمكن أن يكون موضع أشكال في نظر الفلسفة، وأن عددًا لا حصر له من مواقف السلوك والكلام والمعرفة والشعور والتقييم والتعامل مع الآخرين … إلخ يمكن أن تكون موضوعات للنظر والتحليل. صحيح أن الكاتب والصحفي والمُربي والرسام الساخر والسينمائي والإذاعي والقراء والناس العاديين يمكن — كما ذكرنا من قبل — أن يتناولوا هذه الموضوعات نفسها بصورة أو بأخرى. ولكن تناول الفيلسوف لها يختلف عنهم. فهو يتعمقها من حيث الحقيقة والماهية، ويربطها بتراث الفلسفة وأدواتها من ناحية وبنتائج العلوم الجزئية من ناحية أخرى، وينظر إليها من حيث دلالتها على أحوال ومواقف أساسية في وجود الإنسان وبحثه عن معنى حياته وحياة الآخرين وعلاقته بالعالم والوجود والتاريخ … إلخ.
٦
ربما يعود للقارئ فيقول: كيف تدعو المشتغلين بالفلسفة في بلادنا العربية إلى هذا الدور السُّقراطي مع كل ما تعرفه من أعباء التعليم الثقيلة وتزايد أعداد الطلاب بصورة شاذة تهدم فكرة الجامعة ومفهوم العلم نفسه من أساسهما؟ ألا يكفي أن تستعرض مؤلفاتهم لترى أنهم أدوا واجبهم ويؤدونه بأمانة وإخلاص، وأنهم عرَّفونا بثقافة العصر جهد طاقتهم واجتهادهم؟ ألا يمكن أن يكون اختيار أحدهم لفيلسوف أو مدرسة أو مذهب بعينه من تراث الأجداد أو تراث الأقدمين والمحدثين تعبيرًا غير مباشر عن انعكاس الواقع الحي على عقولهم وضمائرهم (فاختيار أفلاطون على سبيل المثال تعبير عن الشوق إلى النظام الأمثل للدولة العادلة، والبحث في المعتزلة أو ابن رشد دليل على الانحياز لجانب العقل والمعقول، ودراسة ديكارت أو كانط أو هيجل اعتراف ضمني بحرية الشك واستقلال الذات، واحترام الواجب كرامة العقل الإنساني «المُشرِّع» لقوانين المعرفة والأخلاق، وتأكيد الحركة والتطور في مسيرة الوعي والتاريخ). أليس من الممكن أيضًا أن تحقق هذه الأعمال آثارها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية إذا قدر للفلسفة أن تشغل المكان اللائق بها في المجتمع، وتصبح مدرسة للتربية العقلية والنقدية، وتتغلغل في وعي الناس وفي مراحل التعليم المختلفة (كما يحدث مثلًا من تدريس المنطق وفلسفة العلوم وتاريخ النظم والمذاهب في المراحل الثانوية والعالية بالخارج وفي السنوات الإعدادية للكليات العلمية في بعض الجامعات العربية). وهل غاب عنك أن معلمي الفلسفة ليسوا بالضرورة فلاسفة ولا يُكلفهم أحد إلا ما في وسعهم، وأنهم في النهاية موظفون عند السلطة، وليس يليق بالحكيم أو معلم الحكمة أن يدَّعي البطولة أو يعمد إلى التحدي الطائش أو يحشر نفسه في ثياب المصلح والواعظ (راجع ما سبق عن سقراط وفولتير وهيجل!) وأخيرًا كيف تطالب ﺑ «التفلسف» في غيبة الحرية الحقيقية طوال سنوات الاستبداد الماضية، وهل يمكن أن تقوم له قائمة إذا لم يسبقه وجود الثقافة المتكاملة — من علم وفن وأدب واقتصاد وسياسة … إلخ — التي يستطيع بعد ذلك أن يحللها ويقيمها؟
ربما جاز القول بعد كل ما سبق أن الدور السقراطي وحده لا يكفي في مواجهة واقعنا. إن المتفلسف العربي (ولا أقول الفيلسوف، فلعل أو أنه لم يأتِ بعد، ولعلنا جميعًا نعمل بقصد أو غير قصد للإعداد لمولده!) لا يستطيع أن يكتفي بحوار سقراط ولا بمصباح ديوجينيس. فلا بد أن يضيف إليهما نواقيس الخطر وأجراسه، و«ديناميت» نيتشه ومطرقته! عليه أن ينبه ويحذر بكل وسيلة: نحن متخلفون متخلفون متخلفون. العدو أمامكم والانقراض فيكم ووراءكم. تعلموا أن تفكروا بعقولكم لا بألسنتكم. غيروا ما بأنفسكم وواقعكم حتى يغير الله ما بكم. آمنوا بالعلم والمنهج والخبرة. أعطوا العيش لخبَّازيه، هذا روح العدل كما بينه أفلاطون. اتحدوا اتحدوا اتحدوا. فالذئاب تتربص بكم في كل ركن وعند كل منعطف. وذئاب أشرس ترعى في داخلكم، أمراضكم الثلاثة الاستبداد والتخلف والكذب لن يشفيكم منها إلا أدوية ثلاثة: الحرية والحرية والحرية. لكن هل يُغني التنبيه والصراخ؟ ماذا يجدي القول أو المكتوب؟ أليس في النهاية كلامًا في كلام في كلام؟ أليس عليه أيضًا أن يدعو لفلسفة العمل ويحدد معالمها ويكون قدوة لها؟ إن الكتابة — فلسفة كانت أم غير فلسفة — لم تعد تصلح لمقاومة الموت المستشري في داخلنا، وهذا الكتاب الذي تقرأه الآن عقيم لهذا السبب. ربما كان الطريق الباقي هو أن «يعمل» الإنسان لا أن يكتب أو يتكلم. ففلسفة «الفعل» وحدها هي التي يمكن أن تبرر نفسها وسط الاختناق بالتخلف والصمت والندم والهزيمة.
٧
فهل في وسع الفلسفة أن تعبر عنه وتستوعبه بالأفكار؟ هل يمكنها اليوم أن تكون عصرها معبرًا عنه بالفكر كما أراد لها هيجل في مقدمته لأصول فلسفة الحق؟ وإذا كانت سطوة العلم والتقنية قد امتدت إلى كل شيء فيه، وطغت على ما يُسمَّى ﺑ «أبنيته الفوقية» حتى أصبحت تحدد أفعال الفرد وآفاق فهمه، فهل بقي للفلسفة مكان فيه؟ ألا تزال أمامها فرصة للتوجيه والهداية، والمراجعة والسؤال، والتغيير والاحتجاج، والنظر الكلي الحر في واقع تفتت إلى مناطق ومجالات مختلفة؟ أم أن عليها أن تتواضع فتتخلَّى عن طموح أسئلتها «الماهوية» الكبرى، أو تسند إليها على الأقل وظيفة أخرى تلائم الواقع الجدلي المتغير؟ (ع).
إن مهمة الفلسفة هي أن تكون المفهوم الجديد عن الواقع وتلتزم به. وليس الواقع هو عالم الموضوعات المعطى من قبل، ولا هو كذلك من وضع الذات. إنما هو «عملية» أو سياق جدلي من الأحداث، يتشابك فيه الموضوع والذات و«يشرط» أحدهما الآخر فيؤثر عليه كما يتأثر به (ف). وعلى الفيلسوف أن يبين تركيب الواقع كما هو عليه «هنا والآن» فيميزه بذلك عن الماضي ويستشرف منه المستقبل. وتحليله للغة العادية الجارية، أو للغة العلم ومفاهيمه، أو اللغة الفلسفية المستخدمة في التراث القديم والحديث ينبع دائمًا من هذا الواقع ويحاول أن يوضح مدى ملاءمته للتعبير عن صوره وظواهره المتغيرة لتستطيع الفلسفة في النهاية أن تكون «معاصرة بشكل مطلق»، وهو المطلب الذي حدده الشاعر «رامبو» للأدب ويمكن كذلك أن ينطبق عليها.
لقد أكدنا، أكثر من مرة، أن الفلسفة منذ بدايتها تتخذ موقفًا من مشكلات واقعها وعصرها. ومع أن هذا الموقف لم يكن على الدوام ايجابيًّا مؤثرًا على مجرى الحياة الفعلية، فقد كانت تعكس عصرها وتعبر عن واقعها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. يكفي أن نذكر بعض الأسماء بمحض الصدفة: سقراط وأفلاطون وأوغسطين، الفارابي وابن رشد وإخوان الصفا، برونو وديكارت واسبينوزا وكانط وفشته، كيركجارد وماركس ونيتشه وهيدجر وياسبرز وسارتر وماركوز وبلوخ، الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي ولطفي السيد وطه حسين والشيخ مصطفى عبد الرازق وأمين الخولي وخالد محمد خالد، سلامة موسى وعمر فاخوري ويوسف كرم وعثمان أمين وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وغيرهم وغيرهم (وإذا لم يكن بعض أصحاب هذه الأسماء فلاسفة بالمعنى الدقيق للكلمة، فهم كذلك بمعنى الإصلاح والتجديد والتطور على طريق الحرية والتقدم والحداثة والديمقراطية) ويبلغ تحليل الفلسفة لعصرها أوجه وغايته مع المثالية الألمانية، خصوصًا لدى فشته وهيجل، وتيارات «اليمين» أو اليسار التي صدرت من بحره. ففلسفة فشته حوار نقدي مع عصره — يكفي أن نتذكر كتابه معالم العصر الحديث — وفلسفة هيجل محاولة لتحديد مكان عصره من التطور التاريخي الشامل نحو الحرية والوعي (وبخاصة في فلسفته عن التاريخ وفي ظاهريات الروح)، وتجميع ثقافته وعلومه في نظام أو نسق شامل (كما فعل في دائرة معارف العلوم الفلسفية).
نكرر السؤال: هل معنى هذا أن فرص الفلسفة قد ضاعت، أو أن دورها أصبح ثانويًّا وسطحيًّا؟ إن دور الفلسفة في النقد والتحليل والتوجيه لا يزال قائمًا. هذا هو الذي نلح عليه ونرجو أن يكون القارئ قد وافقنا عليه. والشرط الوحيد الذي يستلزمه اليوم هذا الدور الملازم لطبيعتها هو أن يأخذ الفيلسوف مكانه من عالمه المتغير، ويتدبر الإمكانات المتاحة له، ويعرف أن دور الفلسفة في التقييم والنقد يفرض عليها أن تبدأ بنقد نفسها وإعادة النظر في وظيفتها. وعليه كذلك أن يعرف أن آراءه وأحكامه موقوتة مثل حياته، وأنه قد يضطر لاستخدام أدوات التراث (الذي لن يستغنى كما قدمنا عنه تذكره أو «تكراره» بالمعنى الذي أراده كيركجارد وهيدجر!) بطريقة مختلفة أو طرح بعض قضاياه جانبًا، أو وضعها في منظور آخر أو صيغة جديدة تتمثل نتائج العلم الجديدة والسياق الجدلي لعالمنا المتغير. وسيكون عليه في النهاية ألا يستسلم لليأس إذا وجد أن فرص الفلسفة أصبحت ضئيلة وأن مجال تأثيرها يضيق يومًا بعد يوم، وأن كل الأطراف التي يدخل معها في الحوار تزيحه إلى الحافة أو تدفعه للهاوية! وما دام الواقع أو بعض مجالاته لا يزال غامضًا غير مفهوم، ممزقًا غير موحد، وما دام الفرد يواجه الأسوار — الخفية أو الظاهرة — التي تخنق حرية الفكر والقول والاعتقاد ولا يدرك علاقته الكلية بمجتمعه وعصره والإنسانية التي ينتمي إليها، ولا يشعر بمسئوليته الأخلاقية تجاهها، وما دامت هناك أسئلة «على الحدود» لن يسألها العلماء المتخصصون الذين تستغرقهم بحوثهم النوعية، فسيبقى من واجبه أن يكافح للوقوف في مكانه ويثبت للآذان اللاهية أن صوته يستحق ألا يتردد في وحشة الصحراء!
هكذا نرى أن مهمة النظرة النقدية الجدلية هي في النهاية مهمة إنسانية: تقوية القدرة على النظر الحر والعمل الذي يجب أن ينبع منه ويتحد به، إيقاظ الوعي بتركيب الواقع لمواجهة متناقضاته، وضع العقل فيه لتكون الحياة أكثر وضوحًا واحتمالًا. ومهمته أيضًا عدم الإعلان عن الجديد الصارخ قبل البحث في القديم لمحاولة إصلاحه، والتخلي عن كل تصور للعالم يزعم لنفسه الحقيقة المطلقة ويدعي بلوغ الضمان النهائي والتبرير الأخير ويُخفي إرادة التسلط تحت ستار البرهان الفلسفي، وإحياء الأمل في القلوب لكيلا تفقد الشجاعة الكافية لمواجهة آلام الحاضر، والإيمان بمجتمع محلي وعالمي جدير بالإنسان، ومستقبل للبشرية الواحدة يزداد فيه نصيب العقل والتعاطف والتراحم والإحساس بالمسئولية الأخلاقية والتاريخية، عالم تقلُّ فيه مظاهر الشر والقهر والقسوة والاستبداد، وتلوح في سمائه وعلى أرضه أشعة الحب والسعادة الممكنة.
بهذا نعيش في واقع جدلي مفتوح، ينطلق من الممكن لا من المستحيل، وينشد الوحدة التي تعترف بالجوار بين العناصر المختلفة، واقع لا نجمده بقوانين وقيم مسبقة، بل نشارك بتفكيرنا وعملنا واختيارنا الحر في وضعه والتعرف عليه بمثل ما يضعنا ويعرفنا بأنفسنا. وعلينا أخيرًا أن ندرك أن فعلنا مشروط ومؤقت وقاصر، وأن تكون على وعي بأن النجاح غير يقيني ولا نهائي؛ لأنه يحتمل الفشل والهزيمة والتراجع. ومع ذلك فلا بد لنا أن نعمل في كل لحظة كما لو كان من الممكن أن تصبح الإنسانية الأفضل واقعًا يتحقق ذات يوم.
٨
إن المعرفة الفلسفية — كغيرها من ألوان المعرفة — تهدف إلى مواجهة مشكلات الإنسان والتغلب عليها. وحقائقها ليست مطلقة الصدق واليقين (باستثناء بعض قواعد المنطق). فهي تحظى بالقبول بقدر ما تصمد للنقد وتخلو من التناقض، وتثبت على محك العقل والتجربة. ولهذا تقاس بمقياس القيمة التي ترتبط بها والغاية التي تهدف إليها. ومن المستحيل — كما رأينا — أن نعثر على معرفة مجردة من كل هدف أو قيمة. ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن تكون قيمة عملية محسوسة. فخدمة الحقيقة الخالصة، وتغيير وعي الإنسان وفهمه لذاته وعالمه، واستقلال الفكر «المستنير» الذي يرفض الوصاية عليه، والنقد العقلي الذي لا يسلم بشيء تسليمًا أعمى … إلخ، كلها قيم مطلوبة لذاتها، مهما تأخر تأثيرها العملي، أو لم يظهر للعيان في صورة ملموسة. وستظل الفلسفة هي مدرسة النقد الحر وتربية العقل على التساؤل المستمر: تفتح أمام الإنسان إمكانيات الرؤية، وتقدم وجهات النظر، وتوسع آفاق الشعور، وتنمي فيه الاستعداد للتأمل، وتحفزه على اتخاذ القرار الأخلاقي الحر، وتقوي إحساسه بمسئوليته عن مواجهة مشكلاته وأزماته وصراعاته، وتساعده على بحثها وتنظيمها وإيجاد حلول لها، كما تساعده على مواجهة المشكلات الاجتماعية والسياسية والقانونية والجمالية … إلخ، ومحاولة تفهمها وحلها. وإذا استطاعت أن تشارك في الحوار مع غيرها من أنظمة المعرفة المتخصصة — مع احتفاظها باستقلالها وشمولها — فسوف تجني أعظم الفائدة لنفسها وللإنسان، وستغادر أبراجها العالية لتصحب سقراط الجديد في جولاته، سيكون عليها — كما كررنا مرارًا — أن تدرك أنها مرهونة بزمانها، لا تقدم مذاهب مقفلة ولا وصايا خالدة ولا حلولًا جاهزة، تصلح لكل موقف وتُطبَّق في كل حالة. عندئذٍ تودع الطموح المطلق بغير رجعة، وتعين الإنسان على التسامح والتواضع كما أعانته على الاستقلال والنقد الحر. أن التفاتة واحدة إلى ماضيها الحافل يمكن أن تعيدها إلى الحكمة السقراطية. فهو ماضٍ غني بالمذاهب والمدارس، زاخر بالمشروعات التي ادعت لنفسها الحقيقة المطلقة وتصورت أنها قدمت التفسير النهائي المقنع ولم يخلُ الصراع بينها من آثار العنف والتسلط والتزمت. ومع ذلك فإن هذا الصراع نفسه يشهد بأنها لم تكن مطلقة ولا نهائية، وأن الحوار المشترك بين اتجاهاتها المتعارضة قد أثبت أنها نسبية ومؤقتة ككل ما يفعله البشر ويفكرون فيه.
إن التفلسف أشبه بالرقص المستمر على حبل. ولكنه ليس حبلًا منصوبًا في سيرك (يعرض مأساة مضحكة مبكية!) وليس معلقًا في الفراغ والخلاء. إنه حبل ممدود على جسم الواقع، ينفذ فيه بقدر ما يرتفع فوقه (وتلك هي المفارقة الجدلية التي أشرنا إليها). وقد أصبح لزامًا على اللاعب الأبدي أن يهبط من عزلته الخطرة في الأعالي ليشارك غيره من اللاعبين على أرض الواقع، ويدخل معهم في الحوار المشترك بين الآراء المتعارضة والمشروعات المتباينة ليناقش ويحكم ويقيم ويوجه. أنه يتميز عنهم بالتزامه التقليدي بالعقل ودوره الحر المسئول. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى العقل. وتزداد هذه الحاجة المُلحَّة في مجتمعاتنا المتخلفة.
لقد تعقدت المشكلات التي يواجهها الإنسان، وكل الشواهد تدل على أنها تزداد تعقيدًا. والذين آمنوا بالعلم والتقنية ومعجزاتها يزدادون اقتناعًا بأنهما خلقًا من المشكلات أكثر مما قدمنا من حلول. والذين أسرفوا في التعصب لبعض المذاهب والمعتقدات الفكرية (الأيديولوجيات) وانتظروا منها النجاة يحسون أنهم يسيرون في طريق مسدود. وقد توالت في السنوات الأخيرة محاولات التجديد ونقل الدماء للأجساد المنهوكة ومحاولات البحث عن الطريق الآخر. ولم تستطع الفلسفة كعادتها أن تكتفي بالتفرج على غيوم الحيرة التي تتلبَّد في الوجوه والعيون، فراحت تقدم الجديد، أو تجدد القديم، أو تنبذ العقيم، أو تؤلف بين الجهود المختلفة وتعمق النظرة إلى الواقع. وإذا كنا قد اخترنا لحياتنا طريق الاشتراكية، واقتنعنا أخيرًا بحتمية الحرية واحترام القانون، وآمنا بعروبة مصر ووحدة المصير العربي، وأكَّدنا تطلُّعنا للحرية الحقيقية والديمقراطية الحقيقية بعيدًا عن كل وصاية، فإن حاجتنا إلى التفلسف العاقل المسئول ستؤمن سيرنا على الطريق، وتساعدنا على تجنب العثرات الماضية، وتأخذ بأيدينا لحل مشكلات التحضر والبناء وسائر المشكلات «العلمية» التي يمكن أن تشارك فيها الفلسفة بالحوار والنقد والتقييم. لم تعُد الفلسفة الأوسع تسلية ذهنية تستمتع بها نخبة من المترفين. عليها أن تعيد اكتشاف دورها السقراطي وتمضي في تحقيقه بشجاعة. ولن يمكنها الوفاء بهذا الدور حتى تلتزم — كالعهد بها دائمًا — بتربية العقل على الاستقلال والنقد الحر، وتنبيه الضمير للحكم والاختيار المسئول، وتنمية الشعور بالإشكال والتساؤل والدهشة. بذلك تخلص لتقاليدها التي صانتها من الخضوع إلا للحقيقة، وتؤدي الأمانة نحو الواقع الذي تعيش فيه فتوطن فيه العقل:
نعم. كذب الظن. وصدق أبو العلاء وسقراط!