المحاضرة الأولى
سيدي مدير الجامعة، حضرات السادة والسيدات
أود أولًا أن أعرب عن شكري العميق على هذه الحفاوة التي أقدرها كل التقدير، والتي تأثرت بها كل التأثر. وربما كنتم تعرفون موضوع حديثيَ اليوم، وهو تاريخ نصف القرن الماضي، أعني إلقاء نظرة إلى الوراء على السنوات الخمسين الأخيرة. أما سبب اختياري لهذا الموضوع فهو أنه في هذه السنة — وبعد شهر أو اثنين — سيكون قد مر خمسون عامًا على نشوب الحرب العالمية الأولى. ومن المؤكد أن الحرب العالمية الأولى هي ظاهرة تهم العالم كله، بدرجات متفاوتة، بحيث إن تاريخ كل بلاد العالم قد تغير نتيجةً لها، وخاصةً بعد أن تضاعف تأثيرها بالحرب العالمية الثانية. ولكن ربما كان الإنجليز أقوى شعورًا بالتحوُّل المفاجئ في التاريخ بعد سنة ١٩١٤م، لأن إنجلترا — على ما أعتقد — تنفرد عن سائر بلاد العالم بموقف غريب؛ إذ لم يحدث في حياتها القومية أي انقطاع جدِّي طَوال الأعوام المائة السابقة على عام ١٩١٤م. صحيح أنها قد شهدت منذ نهاية الحروب النابليونية حتى سنة ١٩١٤م عددًا من الحروب، ولكن لم يعكر صفو حياتنا حرب على نطاق واسع، وهذا أمر غير مألوف. ففي بلدكم هذا شهدتهم في العقد البادئ بعام ١٨٨٠م الحركة المهدية أولًا، ثم الاحتلال البريطاني، وهذان الحادثان معًا قد أحدثا تحوُّلًا مفاجئًا عظيم الأهمية في تاريخ مصر. وكذلك شهدت القارة الأوروبية بين سنتي ١٨٤٨م و١٨٧١م سلسلة من الثورات والحروب غيرت خريطة القارة وأثَّرت تأثيرًا عميقًا في تاريخ جميع بلادها. وفي الولايات المتحدة الأمريكية نشبت الحرب الأهلية من عام ١٨٦١م إلى عام ١٨٦٥م، وكانت هذه أعظم حرب نشبت في أي جزء من العالم في القرن التاسع عشر، سواء من حيث الخسائر التي لحقت بالبلاد فيها، ومن حيث عدد القوات التي اشتركت فيها. وهذه الحرب بدورها أحدثت تحوُّلًا مفاجئًا هامًّا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. أما إنجلترا فلم يحدث فيها تحوُّل مفاجئ مماثل في القرن الممتد من عام ١٨١٥م إلى عام ١٩١٤م. وهكذا فإن نشوب الحرب في عام ١٩١٤م قد أحدث صدمةً شديدةً في إنجلترا.
ولما كنت أنا الآن في حوالي الخامسة والسبعين من عمري، فإني قبل عام ١٩١٤م كنت قد أصبحت شابًّا وشغلت وظيفةً، وهكذا كنت في سنٍّ تسمح لي بأن أتذكر عالم ما قبل ١٩١٤م في إنجلترا، وأقارنه بعالم ما بعد ١٩١٤م. ففي وقت نشأتي في إنجلترا، كان عالم ما قبل ١٩١٤م يبدو لي عالمًا معقولًا ومأمونًا إلى أبعد حد، ولقد كان بالفعل مأمونًا ومعقولًا بالنسبة إلى جزء ضئيل من الجنس البشري، أي بالنسبة إلى الطبقة الوسطى في الدول الغربية. والدول الغربية تكوِّن بطبيعة الحال جزءًا صغيرًا من الجنس البشري، مثلما أن الطبقة الوسطى تكون جزءًا صغيرًا من سكان الدول الغربية. كان ذلك عالمًا مأمونًا معقولًا حتى بالنسبة إلى الأسر المتوسطة الحال في الدول الغربية، ومنها أسرتي التي كانت فقيرةً نسبيًّا. ففي ذلك الوقت لم يكن يدور بخَلَدي أن أسرتي — التي لم تكن تبدو ميسورة الحال بالنسبة إلى كثير من الأسر المتوسطة الأخرى في إنجلترا — كانت غنيةً بالنسبة إلى الأغلبية العظمى من الأسر في إنجلترا المعاصرة نفسها وفي بقية العالم. فلم أكن أدرك أن الطبقة الوسطى في الدول الغربية كانت في مركز مميز إلى حد غير مألوف، رغم أنها لا تكوِّن إلا جزءًا ضئيلًا من سكان العالم، ولم أكن أدرك أن الطبقة الوسطى الإنجليزية على التخصيص كانت فئةً مميزةً داخل هذا الجزء الذي تكونه الطبقة الوسطى الغربية بوجه عام. ولقد كنت قبل حرب ١٩١٤م مباشرةً أقوم بالتدريس في الكلية الجامعية بأكسفورد، وكان من عاداتنا استدعاء الطلاب المستجدين أمام السلطات في الكلية عند انتهاء دراستهم في السنة الأولى، وسؤالهم عن العمل الذي يُزمعون القيام به بعد تخرجهم في الجامعة. أما أولئك الذين لم يكونوا يعرفون، فكانوا عادةً يُدرجون ضمن من سينخرطون في السلك الوظيفي في الهند، أعني سلك الموظفين البريطانيين في الهند؛ إذ كان لديهم من الكفاءة ما يسمح لهم بذلك، وكنا نعلم أننا نستطيع تعيينهم في سلك وظائف الهند، وهو سلك كان له مركز مميز جدًّا، وكان يضفي على حياة المشتغلين فيه كثيرًا من الاستقرار. وهكذا فإن ذلك كان أسوأ ما يمكن أن يحدث لشخص متخرج في كليتي في أكسفورد قبل عام ١٩١٤م.
وقبل سنة ١٩١٤م كانت القوة في العالم — أعني القوة الثقافية، وكذلك الاقتصادية والسياسية والعسكرية — تتركز في يد أقلية أصغر حتى من الطبقة الوسطى؛ فقد كانت شئون العالم تصرف كلها على أساس أن العالم وحدة واحدة، يتضافر في إدارة شئونها بطريقة غير رسمية — ولكنها فعالة — عدد صغير جدًّا من الناس هم أصحاب السلطة — أعني السلطة السياسية والاقتصادية — في عدد محدود من البلاد، أعني في خمس أو ست عواصم أوروبية، وكذلك في نيويورك. ولعلكم لاحظتم أنني تحدثت عن نيويورك، لا عن واشنطن، وذلك لأنه حتى قبل الحرب العالمية الثانية، لم تكن الولايات المتحدة طرفًا يتنافس على السلطة السياسية في العالم الخارج عن نصف الكرة الغربي. وهكذا لم يكن لواشنطن ما لها اليوم من الأهمية في السياسة العالمية، أما نيويورك فكان لها — قبل ذلك — أهميتها في الاقتصاد العالمي. وهكذا فإن مراكز القوة الفعلية في العالم قبل عام ١٩١٤م لم تكن تخرج عن نيويورك وعدد قليل من العواصم الأوروبية. فقد كان تمويل التجارة العالمية وتدبير الشئون الاقتصادية للبلاد التي كانت لا تزال غير نامية، يتم في ذلك الوقت في مدينة لندن، أما الولايات المتحدة فربما استغربتم إذا قلت إنها في ذلك الوقت كانت لا تزال بلدًا غير مكتمل النمو. فحتى عام ١٩١٤م كانت الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال بلدًا مدينًا، وكانت الدول الغربية دائنةً لها. وهكذا كان الغرب مسيطرًا على العالم كله، وأوروبا مسيطرة على الغرب، والطبقة الوسطى مسيطرة على أوروبا.
وفي هذا العصر السابق على عام ١٩١٤م، لم يكن للجزء الأكبر من العالم نصيب من مكاسب المدنية ومزاياها؛ فقد كان الجزء الأكبر من العالم فقيرًا، لا حول له ولا قوة، ولكنه كان أيضًا سلبيًّا وصامتًا إلى حد بعيد. وكان يبدو مستسلمًا محرومًا من المزايا التي تتمتع بها الأقلية الصغيرة الحاكمة، ولم تكن الأغلبية تحلم بإمكان تغيير هذه الأوضاع إلى ما هو أفضل منها. ولقد كانت هذه الأغلبية الكبيرة البائسة تشمل الطبقة العاملة الصناعية، في البلاد الغربية ذاتها، إلى جانب سكان بقية العالم بأكملهم. وإني لأذكر جيدًا، عندما كنت طالبًا في جامعة أكسفورد قبل عام ١٩١٤م، كيف أننا كنا نشعر بتأنيب الضمير لأن هذه الميزة الكبرى، وأعني بها الالتحاق بالجامعة، كانت مقتصرةً على أقلية ضئيلة جدًّا من الشعب، أعني أولئك الذين يستطيع آباؤهم دفع المصروفات المرتفعة، بالإضافة إلى القلائل الحاصلين على المنح الدراسية التي كانت المنافسة عليها حاميةً، أما الأغلبية العظمى فلم تكن لديها فرصة الالتحاق بالجامعة. ومن الطبيعي أنه حدث بعد ذلك تغير كبير في جامعتي أكسفورد وكمبريدج، إذ إن ثلاثة أخماس الطلبة — على ما أعتقد — يلتحقون الآن بالجامعة على أساس مِنح تقدمها السلطات التعليمية المحلية، بحيث إن كل فتًى وفتاة يملك المقدرة العقلية على الانتفاع من التعليم الجامعي، أصبحت لديه فرصة لا بأس بها للحصول على تعليم جامعي.
أما الجزء الأكبر البائس من الجنس البشري فكان يشعر قبل عام ١٩١٤م بأحاسيس عدم الاستقرار والسخط والأمل؛ فالطبقة العاملة الأوروبية كانت لديها على الأقل فرصة البدء في حياة جديدة، في ظل ظروف أفضل، عن طريق الهجرة إلى البلاد الغربية فيما وراء البحار، ولا سيما الولايات المتحدة، وكذلك كندا وأستراليا ونيوزيلندا والأرجنتين والبرازيل وعدد من البلاد التي كانت تحتاج إلى أعداد كبيرة من السكان، وتحفل بفرص العمل للأوروبيين الغربيين. ومن الملاحظ في الولايات المتحدة بوجه خاص أنه بالإضافة إلى ما فيها من الفرص العملية، كانت هناك الأيديولوجية الديمقراطية الغربية. فالفكرة في الولايات المتحدة هي أن الشخص الأوروبي المضطهد في بلاده، أو الذي يحتل مركزًا ثانويًّا، لن يعود مضطهدًا أو في مركز ثانوي إذا ما هاجر إليها، إذ كانت أمامه فرص النهوض بمجهوده الذاتي، وبالفعل كان الأمريكيون يشجعونه على أن يفعل ذلك.
وأما في البلاد غير الغربية، التي كان معظمها خاضعًا لسيطرة الغرب السياسية أو الاقتصادية أو كلتيهما معًا، فقد بدأت تظهر حركات مقاومة، كان من المحتم عليها أن تنظم على الأسس الغربية: أي إن هذه الحركات كانت تقوم باسم المبادئ الغربية في الديمقراطية والحرية ضد البلاد الاستعمارية الغربية التي لم تكن تطبق هذه المبادئ في البلاد التي تسيطر عليها. وكانت القوة الملهمة لهذه الحركات هي الثورتان الفرنسية والأمريكية، وكذلك حركتا التحرر والوحدة القومية الناجحتان في إيطاليا وألمانيا في القرن التاسع عشر. وفي البلاد غير الغربية ظهرت حركات لم تنجح كلها: مثل حركة البوكسر في الصين، والحركات الفاشلة في روسيا وإيران عام ١٩٠٦م، وكذلك الحركة التركية الناجحة في عام ١٩٠٨م، أما حركة حزب المؤتمر الهندي التي أصبحت لها فيها بعد أهمية عظمى، فقد ظلت مستمرةً منذ العقد البادئ بعام ١٨٩٠م، وإن لم يكن المهاتما غاندي قد تزعمها بعد، ولم يكن قد أعطاها بعد تلك الصورة الجديدة، صورة المقاومة السلبية والمقاومة السلمية.
على أن أفراد الطبقة الوسطى الغربية عندما كانوا يلاحظون هذه الحركات التي نشبت قبل عام ١٩١٤م، كانوا أحيانًا يتعاطفون معها، وأحيانًا أخرى يعادونها، ولكني أعتقد أنهم كانوا يتفقون في معظم الأحيان على عدم أخذ هذه الحركات مأخذ الجد؛ فلم يكن الناس في البلاد الغربية يتوقعون أن تنتهي هذه الحركات إلى نتائج هامة. أما المراكز الغربية في العالم (أي الخاضعة لسيطرة الغرب) فكانت تنظر إلى الغرب ذاته على أنه سيظل باقيًا إلى الأبد ولن يطرأ على مركزه أي تغيير.
ومع ذلك كانت هناك حَفنة قليلة من البلاد غير الغربية، نجحت في مقاومة كل محاولات فرض السيطرة الغربية عليها، وسأذكر منها خمس دول: روسيا واليابان وتايلاند وأفغانستان وإثيوبيا. والأخيرتان دولتان متخلفتان تدينان بحريتهما لظروفهما الطبيعية التي أدت إلى حمياتهما، فكلا البلدين أشبه بقلعة حصينة يصعب جدًّا على العدو غزوها. أما البلاد الثلاثة الأخرى؛ وهي روسيا واليابان وتايلاند، فلم تكن لها مزايا طبيعية تحميها من الغزو؛ فروسيا وتايلاند تقعان في سهول فسيحة منبسطة يسهل غزوها، واليابان معرضة للغزو بحرًا، وهكذا فإن هذه البلاد الثلاثة قد حمت نفسها من السيطرة الغربية باتباع أساليب الغرب ذاتها؛ فروسيا واليابان وتايلاند قد بدأت بصبغ الجيش بالصبغة الغربية، وأعقبته بالإدارة والتعليم والحياة الاقتصادية، التي صُبغت بالصبغة الغربية إلى الحد الذي يكفي لضمان أساسٍ اجتماعيٍّ كافٍ للجيش المنظم على أساس غربي. وأنتم قد جربتم ذلك في بلادكم، لأنه جزء من تاريخكم؛ فهذا هو ما فعله محمد علي، وما فعله في تركيا السلطان محمود الثاني. وكانت روسيا قد بدأت في تنظيم حياتها على أسس غربية منذ عهد بعيد، قبل نهاية القرن السابع عشر، وعندما حل عام ١٩١٤م، أصبحت الشعوب الأوروبية تنظر إلى الشعب الروسي على أنه واحد منها، وكان هؤلاء ينظرون إلى روسيا على أنها منتمية إلى نفس نوع الدول الغربية، وإن تكن فرعًا من هذا الجنس العام يتسم بالفساد والأوتوقراطية والضعف والتأخر الشديد. ولكن الغرب كان يسلِّم قبل عام ١٩١٤م بأن روسيا سترتفع، قبل مُضيِّ وقت طويل إلى مستوى المدنية الغربية، أي إن الغربيين كانوا يعتقدون أن اندماج روسيا في الغرب سيكتمل. ولم يكن أحد يتوقع، قبل عام ١٩١٤م، أو على الأصح قبل عام ١٩١٧م، أن روسيا ستلجأ إلى سلاح غربي جديد، هو الأيديولوجية الشيوعية، وأنها ستستخدم هذا السلاح الغربي الروحي من أجل شق طريق جديد تمامًا لنفسها، وأنها ستأخذ على عاتقها مهمة تحويل بقية العالم إلى اتجاهها الخاص. وأقول إن الشيوعية سلاح غربي لأن الشيوعية — على أية حال — قد اختُرعت في الغرب. فقد وُلد ماركس وإنجلز في الرين بألمانيا، وهي دولة غربية، وقضيا جزءًا كبيرًا من حياتهما في إنجلترا، وهي بدورها دولة غربية. وألَّف ماركس جزءًا كبيرًا من كتاباته بناءً على قراءاته في مكتبة المتحف البريطاني بلندن. وكان إنجلز صاحب مصنع صغير في مانشستر بإنجلترا، كان ينفق من دخله على ماركس وأسرته. وهكذا فإن الشيوعية سلعة مستوردة من الغرب، وإن تكن سلعةً لم يَعُد الغرب يرحب بها كثيرًا في الآونة الأخيرة.
أما في السنوات الخمسين التالية لعام ١٩١٤م، فإن صورة العالم بأسرها قد تغيرت إلى حد لا يُتصور، واكتسبت الحركة التي تتجه إلى تحقيق تكافؤ الحقوق وتكافؤ الفرص للبشر جميعًا من الجنسين ومن كل الطبقات والأجناس؛ اكتسبت هذه الحركة قوةً دافعةً جديدةً، وانتصرت بالفعل. صحيح أن هناك حالاتٍ استثنائيةً لم يتحقق لها فيها الانتصار، ولكن العالم كله أصبح يعترف بأن انتصارها في النهاية أمر مؤكد. ففي البلاد الغربية، وكذلك في كثير من البلاد غير الغربية، ومن بينها بلدكم هذا، نالت المرأة حقوقها السياسية وتحررت اجتماعيًّا، ومُنحت نفس فرص الرجال في التعليم العالي، وشاركت بنصيب كبير في الأعمال التي كان يُنظر إليها على أنها من اختصاص الرجال. وإني لأعتقد أن ازدياد اصطباغ الأعمال المادية في العالم بالصبغة الآلية قد أفاد المرأة؛ ذلك لأن القوة العضلية للرجل، وكذلك للحيوان، لم تَعُد ميزةً كبرى بعد أن حلت الطاقة البخارية والكهربائية محل العضلات بوصفها الوسائل الرئيسية للانتقال والحركة. وأستطيع أن أتصور مدى تحرر المرأة من خلال ما حدث في بلادي ذاتها؛ فأُمي وزوجتي كانتا طالبتين في كمبريدج، ولكن في ذلك الوقت لم تكن المرأة تُمنح شهادةً مهما حصلت عليه من درجات عالية، أما أختي — وهي أصغر قليلًا — فقد حصلت على شهادتها، وعُينت منذ بضع سنوات أستاذةً في علم الآثار بكمبريدج.
كذلك صُفِّيت بعد الحرب العالمية الثانية، المستعمرات السابقة لحَفنة من البلاد الاستعمارية الغربية. وهكذا فإن عدد البلاد المستقلة ذات السيادة في العالم قد تضاعف تقريبًا. ومن الملاحظ أن الدول الجديدة كلها غير غربية. وأظن أنكم تستطيعون أن تتصوروا هذا إذا أدركتم أنه، قبل عام ١٩١٤م، لم يكن هناك بلد عربي واحد مستقل تمامًا، وإنما كانت بعض البلاد العربية خاضعةً لسيطرة مباشرة أو غير مباشرة من دولة أوروبية، وكانت البلاد العربية في آسيا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية. ولم تكن الإمبراطورية العثمانية ذاتها مستقلةً تمامًا، وإنما كانت إلى حد ما خاضعةً للسيطرة الاقتصادية والسياسية للدول الغربية. ولم تكن هناك في ذلك الحين سوى دولتين مستقلتين في أفريقيا كلها، هما إثيوبيا وليبريا. أما اليوم ففي أفريقيا على ما أظن، ثلاثون دولةً مستقلةً أو أكثر.
وكانت البلاد الغربية قد بدأت تعترف في الفترة الواقعة بين الحربين الأولى والثانية بأن البلاد الآسيوية، وكذلك بلاد شمال أفريقيا، ستسترد استقلالها. ومنذ عام ١٩١٧م بدأت إنجلترا تتجه نحو إعطاء الهند استقلالها؛ ذلك لأنه عندما نشبت الحرب الأولى كانت حركة الاستقلال القومي في الهند قد أصبحت قويةً، وكان في وسع الهنود أن يستغلوا انشغال إنجلترا في الحرب ضد ألمانيا للحصول على استقلالهم بالعنف، ولكنهم بدلًا من ذلك أرجئوا مؤقتًا نزاعهم مع إنجلترا، وتطوع مئات الألوف من الهنود للحرب في صف الحلفاء في أوروبا، لأنهم في اعتقادي كانوا يظنون أن إنجلترا — وإن لم تكن تطبق مبادئ الديمقراطية النيابية في الهند — فإنها كانت على وجه العموم بالنسبة إلى العالم كله تمثل الاتجاه التحرري السياسي في مقابل الرجعية السافرة. وقد أثَّر هذا الموقف في قلوب البريطانيين، وأقر البرلمان البريطاني في عام ١٩١٧م مبدأ منح الاستقلال للهند. ومن الطبيعي أن تنفيذ هذا الوعد قد تأخر، فقد مر ثلاثون عامًا، من سنة ١٩١٧م إلى سنة ١٩٤٧م قبل أن يتحقق استقلال الهند، وثلاثون عامًا فترة طويلة جدًّا بالنسبة إلى حياة الفرد. ولا شك أن المكافحين الهنود في سبيل الاستقلال قد نفد صبرهم قبل انتهاء هذه الأعوام الثلاثين، ومن جهة أخرى ففي خلال هذه الأعوام الثلاثين كانت إنجلترا قد بدأت بالتدريج تنقل السلطة في المناصب المسئولة بالجيش والإدارة إلى الهنود، بحيث إنه عندما حصلت الهند فعلًا على استقلالها كان هناك عدد من الهنود الممتازين المدربين على الشئون العامة. وربما كان هذا الأمر في صالح الهنود أنفسهم، إذ وجدوا مواطنين مدربين في الوقت الذي حصلوا فيه على استقلالهم.
ومع ذلك فرغم أن البلاد الغربية كانت تسلِّم بأن البلاد الآسيوية وبلاد شمال أفريقيا ستحصل على استقلالها، فإنها كانت تعتقد أن بقية أفريقيا ستظل مستعمرةً إلى أجل غير محدد. وكان حصول البلاد الأفريقية على استقلالها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية شيئًا غير متوقع على الإطلاق في الغرب، بل كان تطورًا سريعًا يدعو إلى الدهشة، وهذا ينطبق على البلاد الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى.
كذلك حدث منذ عام ١٩١٤م تحوُّل في القوة، بجميع أنواعها، من بريطانيا إلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وقد كان هذا بطبيعة الحال نتيجةً للحربين العالميتين، إذ إن البلاد الأوروبية كانت أكثر البلاد مسئوليةً عن الحرب، وأكثرها مساهمةً فيها، وأشدها خسارةً نتيجةً لها. أما الولايات المتحدة فقد أصبحت دائنةً لأوروبا بعد أن كانت مدينةً لها. وأما الاتحاد السوفييتي فقد أخذ ينمِّي موارده، بعد ثورة ١٩١٧م، بطريقة مشابهة لطريقة الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. وهكذا فإن أوروبا بعد أن كانت تسيطر على روسيا والولايات المتحدة بمعنًى ما قبل عام ١٩١٤م، أصبحت الآن إقليمًا تتنازع عليه هاتان الدولتان الكبريان. وتحاول أوروبا اليوم — كما تعلمون — أن تصبح قوةً ثالثةً عن طريق الاتحاد الاقتصادي والسياسي، مثلما تحاول البلاد العربية أن تقويَ نفسها بالتقارب والتوحد؛ ذلك لأن الاتحاد قوة. ويبدو أن أوروبا ستتمكن من تحقيق الوحدة الاقتصادية، وسيؤدي ذلك إلى تحقيق الوحدة السياسية أيضًا. وأرجو أن يحدث ذلك — على نفس النحو — في العالم العربي. ولكني لا أظن أن أوروبا إذا اتحدت فسوف تكون قوةً ثالثةً تنافس أمريكا والاتحاد السوفييتي؛ إذ لا بد لذلك من درجة عالية من الاتحاد والاندماج، وهو أمر يصعب تحقيقه في البلاد الأوروبية بما لها من تاريخ طويل في الانفصال والاستقلال القومي. وإني لأعتقد أن هناك قوةً ثالثةً تلوح في أفق العالم اليوم، وهذه القوة الثالثة ليست أوروبا، وإنما هي الصين؛ فعلماء الإحصاء يقدرون أنه، بحلول عام ٢٠٠٠م، سيكون حوالي نصف سكان الكرة الأرضية من الصينيين. وللصينيين من الكفاءة مثل ما لأي شعب منا، وهم أكثر جَلَدًا ودأبًا في العمل من معظم شعوبنا، وعلى ذلك ففي الوقت الذي سيكونون فيه نصف سكان العالم؛ سيكون من الصعب جدًّا الاستمرار في عدم الاعتراف بوجود الصين. ومن الطبيعي أن البلاد الآسيوية والأفريقية الحديثة الاستقلال ليس لديها اليوم من القوة ما يتناسب مع مجموع سكانها، ولن تحصل على هذا القدر من القوة إلا بعد أن تُعِدَّ نفسها من الوجهة التعليمية والتكنولوجية، وهي عملية تستغرق وقتًا طويلًا، وتحتاج إلى أجيال متعددة؛ لأن التعليم عملية بطيئة، ولا بد من وقت طويل لإعداد مجموعة كبيرة من الفنيين والمتعلمين الذين لا بد منهم لتقدُّم البلاد. ولكن برغم أن هذه الأغلبية الكبرى من العالم ليست لها بعدُ قوة متناسبة معها، فإن هذه البلاد — ومعها بلدان أمريكا اللاتينية — لها صوت في السياسة العالمية، نظرًا إلى عددها الكبير، وهي تعبر عن صوتها هذا في اقتراعها بالجمعية العامة للأمم المتحدة، وتعبيرها عن آرائها واتجاهاتها يؤثِّر في سياسة البلاد القوية ماديًّا، كالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
إن عالمنا هذا يواجه اليوم — بعد خمسين سنة من نشوب الحرب الأولى — مشكلتين أساسيتين؛ إحداهما هي كيف نَحول دون زيادة سكان العالم أكثر مما ينبغي، ولا سيما في البلاد المسماة ﺑ «النامية»، والتي هي عادةً البلاد الأشد فقرًا. والثانية هي كيف نَحول بين الجنس البشري وبين ارتكاب ما يمكن تسميته بالانتحار الجماعي عن طريق شن حرب ذرية.
وسأتحدث باختصار عن مشكلة السكان، إذ إنني سأعالج هذا الموضوع بالتفصيل في حديث سألقيه بجامعة أخرى. وإنكم لتعلمون أن جميع دول العالم تقريبًا قد قللت من معدل الوفَيَات بها — أقصد الوفَيَات السابقة لأوانها — بفضل التقدم في تطبيق الأساليب الصحية والعلاج الوقائي، غير أن الأغلبية الفقيرة من الجنس البشري ما زال عليها أن تعلِّم نفسها كيف تقلل نسبة المواليد فيها، إذ إن البلاد المتقدمة — التي عرفت منذ وقت ما كيف تقلل نسبة الوفَيَات — قد احتفظت أيضًا بمعدل منخفض في المواليد بنفس النسبة، بحيث إن مجموع السكان قد ثبت واستقر إلى حد ما. كذلك فإن اليابان — التي كان معدل المواليد يزيد فيها كثيرًا عن معدل الوفَيَات في الثلاثة أرباع قرن الأخيرة — قد أخذت اليوم تقترب من الاستقرار والثبات. أما في معظم بلاد العالم فإن معدل الوفَيَات قد نقص كثيرًا، بينما ظل معدل المواليد على ما هو عليه. ولا بد في رأيي من وقت طويل حتى تستطيع الأغلبية تعليم نفسها عاداتٍ جديدةً في هذه المسألة الشائكة، التي هي موروثة عن عادات قديمة جدًّا، وأعني بها مسألة حجم الأسرة. وإلى أن يأتي ذلك الوقت ستظل أغلبية الجنس البشري مستمرةً على عاداتها القديمة، وهي أن يتناسل الناس فيها حتى المدى الطبيعي الذي يمكنهم إنجاب الأطفال فيه. وقبل أن يصل تحديد النسل إلى المدى المطلوب على نطاق عالمي واسع، سيكون عدد السكان في هذه البلاد قد تضاعف مرتين وربما ثلاث مرات، وسيكون من الصعب جدًّا على العلم — إذا ما طُبِّق على مشكلة إنتاج الغذاء — أن يتمكن من تقديم الغذاء لهذا العدد، حتى بالمعدلات الحالية، ناهِيَك برفع معدل الوحدات الحرارية التي يحصل عليها الثلثان الناقصا التغذية من البشر إلى المستوى الذي يحصل عليه الثلث الذي ينال غذاءً كافيًا. ولن يتمكن العلم من القيام بهذه المهمة إلا إذا وضِع إنتاج الغذاء وتوزيعه في العالم في يد سلطة مركزية واحدة تكون لها سلطة كاملة على الهيئات المحلية القومية. وفي اعتقادي أنه طالما تُركت لكل بلد من البلاد المائة (أو أكثر) المستقلة ذات السيادة حاليًّا الحريةُ الكاملة في أن تتبع السياسة التي تشاؤها في إنتاج الغذاء وتوزيعه، فسيكون من المستحيل على العلم أن يزيد المجموع الكلي لإنتاج الغذاء في العالم إلى الدرجة اللازمة لإطعام ثلاثة أضعاف العدد الحالي لسكان العالم. ولذا أعتقد أن مهمة تجنب المجاعة العالمية في المستقبل القريب ستكون انقلابًا أساسيًّا في الشئون العالمية؛ أعني إنشاء سلطة عالمية تشرف على إنتاج الغذاء وتوزيعه على نطاق عالمي بدلًا من النطاق القومي. ولقد كنت بالأمس فقط في إثيوبيا، وهي بلد به أراضٍ خِصبة شاسعة، وإمكانيات واسعة لإنتاج الغذاء. أما اليوم فأنا في الجمهورية العربية المتحدة، حيث ستظلون، حتى بعد إتمام السد العالي قبل الموعد المقرر له، تعانون صعوبات في إطعام سكانكم، لأن بلادكم — مثلها مثل الصين والهند وجاوة (في إندونيسيا) — من البلاد المكتظة بالسكان. ومن الممكن معالجة عدم التساوي في العلاقة بين عدد السكان وبين إنتاج الغذاء في بعض البلاد بنقل الغذاء من البلاد التي يوجد فيها فائض من المواد الغذائية مثل الولايات المتحدة وكندا، وربما إثيوبيا مثلًا إلى البلاد التي تفتقر إلى الغذاء، ولست أدري كيف يمكن أن يتم ذلك، ولكني أعتقد أن الجنس البشري، بدلًا من أن يترك نفسه يعاني المجاعة على نطاق واسع سيقبل — ولو على مضض — إخضاع السيادة القومية للحاجات الدولية.
ولأنتقل الآن إلى مشكلة الأسلحة الذرية. هذه المشكلة بدورها لا يمكن في رأيي أن تَحُل بدون نفس النوع من الانقلاب العالمي الواسع النطاق الذي تحدثنا عنه في صدد مشكلة الغذاء. وأنا شخصيًّا لا أعتقد أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ستدخلان في حرب ذرية، بل إن الدلائل كلها تشير إلى أنهما سترجعان عن هذا العمل. ولكن حتى على فرض أن الطاقة الذرية لن تُستخدم أبدًا في الأغراض الحربية، بل سيقتصر استخدامها على الأغراض السلمية فقط، فإنها في هذه الحالة ستُستخدم في الأغراض السلمية على نطاق واسع جدًّا. ونحن نعلم أن مشكلة التخلص من النفايات الذرية السامة لا يمكن أن تُحَل في نطاق الحدود القومية. فالسموم الناتجة عن انشطار الذرَّة يمكن أن تدمر الحياة على مسافات هائلة تبلغ آلاف الأميال من المكان الذي حدث فيه الانشطار. هذه المشكلة بدورها لا يمكن حلها إلا بسلطة عالمية تنظر إلى كوكبنا على أنه وحدة واحدة، وتكون لها سلطة على الهيئات القومية. وهكذا فلا بد — تحقيقًا لسلامتنا ولإنقاذ العالم من الدمار — من تكوين هيئة عالمية واحدة أيضًا.
والواقع أن المشكلتين معًا؛ مشكلة تنظيم إنتاج الغذاء في العالم، ومشكلة الطاقة الذرية تستلزمان إنشاء نوع من الحكومة العالمية. وفي ظل التوزيع الحالي للقوة في العالم، ستكون الوسيلة الواقعية الوحيدة التي يمكن بها إنشاء سلطة عالمية فعالة تعلو على الحكومات القومية المحلية هي أن تتعاون الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بدلًا من أن تتنازعا كما تفعلان حاليًّا، في التعامل مع الهيئة العالمية الموجودة؛ وبذلك تصبح لهذه الهيئة القوة الطاغية التي تحتاج إليها لتؤديَ أعمالها.
ولأختم كلامي بالإشارة إلى قوتين تساعدان على تحقيق الوحدة. ولقد ذكرت أن تحقيق الوحدة العالمية، وضمنها الوحدة السياسية، عامل لا بد منه لبقاء الجنس البشري في هذا العصر الذي يتضاعف فيه عدد السكان بسرعة، وتوجد فيه الأسلحة الذرية. أحد هذين العاملين اللذين يساعدان على تحقيق الوحدة هو التكنولوجيا الحديثة التي قضت على المسافات وجعلت منها شيئًا لا وجود له. فبالأمس مثلًا لم أستطع الوصول من أريتريا إلى القاهرة مباشرةً، نظرًا إلى هبوب رياح الخماسين بالقاهرة؛ فسافرت بالطائرة إلى أثينا ومكثت بها ساعتين في فندق، ثم جاءت من مدريد طائرة عُدتُ بها إلى القاهرة بعد انتهاء الموجة الخماسينية. هذا شيء كان يبدو أمرًا بعيدًا عن التصديق منذ سنوات قليلة، فالعالم قد أصبح بالفعل موحدًا من الوجهة الجغرافية. وللتكنولوجيا أيضًا تأثير سيكولوجي أعمق، يؤدي إلى الوحدة، فهي لا تثمر ثمارها إلا إذا وُجِد عدد كبير من العلماء والفنيين الذين تُتاح لهم الحرية الكاملة في أداء أفضل أعمالهم. وإنك لتستطيع مثلًا أن تدفع شخصًا يحفر الأرض بالسياط إلى أداء عمله، ولكنك لا تستطيع أن تدفع بالسياط عالمًا إلى القيام بكشف علمي جديد، أو فنيًّا إلى تطبيق هذا الكشف، وإنما لا بد أن تكون لهما حرية شخصية، وحصانة في الحياة لشخصَيهما. ولما كان العلماء والفنيون هم مصدر القوة في كل بلد فإن كل دولة مضطرة — بحكم التنافس على القوة مع الدول الأخرى — إلى منح أفضل الشروط لعلمائها وفنييها. وهكذا فإن من آثار التكنولوجيا ضمان المساواة الاجتماعية والسياسية بين العلماء على جانبي الستار الحديدي. وإني لأعتقد أن العلماء والفنيين الذين يزداد عددهم في الاتحاد السوفييتي يُمنحون حريات أكثر، وسيظلون يُمنحون هذه الحريات بحكم الضرورة وحدها، مهما كانت نظريات الحكومة وآراؤها السياسية.
وأخيرًا، فهناك عامل آخر يساعد على الوحدة؛ وهو طبقة المثقفين (الإنتلجنسيا). وكلمة «الإنتلجنسيا» كلمة لاتينية لها نهاية روسية، تعني في الاستخدام الروسي مجموعة الناس الذين يَعُدون أنفسهم رسلًا ووسائط بين المدنية القديمة لبلد ما ومدنية العالم الحديث. وأعتقد أن بطرس الأكبر كان أول من دعا إلى وجود الإنتلجنسيا في روسيا. ومنذ ذلك الحين ظهرت فئة مماثلة لها في كل بلاد العالم تقريبًا، هذه الفئة تتميز بتجارب مشتركة بين أفرادها جميعًا. فمن الصعب والمؤلم أن تكون هذه الفئة داعيةً إلى الحرية وتكون في الوقت ذاته منتميةً إلى عالمين مختلفين. على أن هؤلاء الناس يؤدون خدمات هائلة في العالم الحديث، حيث تتراكم آثار المدنية الحديثة بسرعة علينا جميعًا، وهكذا فإن الأفراد الذين يؤلفون هذه الطبقة المثقفة يلعبون دورًا عظيم الأهمية. ولو نظرت إلى أعضاء الحكومات في البلاد الحديثة الاستقلال، لوجدت أن معظمهم لم ينشئوا من الفئات الحاكمة التقليدية في هذه البلاد، وإنما من فئة المثقفين التي نتحدث عنها. هذه الفئة كانت لها كما قلت تجارب مشتركة في جميع البلاد، ولا سيما تجربة مواجهة الحياة الحديثة، ومن هنا فإنهم عندما يتقابلون في مؤتمر دولي مثلًا، يكون لديهم أساس مشترك من التجارب والأفكار، ويسهل التفاهم فيما بينهم، وهذا يَصْدُقُ على مؤتمرات البلاد العربية أو الأفريقية أو الأمريكية اللاتينية.
وهكذا فإني أعتقد أن التكنولوجيا، وطبقة المثقفين، تؤلفان معًا أهم قوتين تعملان على تحقيق الوحدة في عصرنا هذا، وأعتقد أننا في حاجة ماسة إلى قوى التوحيد. فالعالم اليوم أمام أحد أمرين؛ إما أن يلقيَ بنفسه في أتون حرب نووية تدمره تمامًا، أو يجمع بين الجنس البشري كله فيما يشبه الأسرة الواحدة، وهو أمر لم يحدث له مثيل من قبل. والأمران متعارضان، وكل منهما في الطرف المضاد للآخر، ومن هنا فإن العالم يمر اليوم بنقطة تحوُّل أساسية في تاريخه. وأنا شخصيًّا أشعر بالأمل في أن القوة المؤدية إلى الوحدة ستكون هي الغالبة. وشكرًا لكم.