المحاضرة الثانية
سيدي العميد، حضرات السادة والسيدات
شكرًا لكم على حفاوتكم بي. إنكم تعلمون موضوع حديث اليوم، وهو «أسلوب الحياة الغربي في الميزان»، أعني مزايا أسلوب الحياة الغربي وعيوبه، ومدى قدرة الشعوب غير الغربية على أن تقتبس بعض النواحي المفيدة في أسلوب الحياة الغربي وتتجنب ما فيه من أخطاء.
ولما كنت أنا ذاتي منتميًا إلى الغرب، فإن من الصعب إلى حد بعيد أن أتكلم موضوعيًّا وبطريقة محايدة في هذا الموضوع. ومثل هذه الصعوبة قائمة بالنسبة إلى غير الغربيين أيضًا. على أن لهذا الموضوع أهميته الكبرى في المرحلة الحالية من تاريخ العالم؛ ولذا سأغامر بعرض آرائي في هذا الموضوع عليكم:
إن الجزء الغربي من البشرية ليس إلا أقليةً من الجنس البشري، فهو لا يكاد يصل إلى ٢٥ في المائة من المجموع الحالي لسكان العالم. فإذا توسعنا في استخدام كلمة «الغربي» بحيث تشمل البلاد الغنية أو الميسورة الحال، فعندئذٍ يمكننا أن ندمج فيها — إلى جانب البلاد الغربية المعروفة — روسيا واليابان، لأن هذين البلدين يقعان على الجانب الأعلى من الخط الفاصل بين الأقلية الغنية والأغلبية الفقيرة في العالم. ولكن حتى لو أدرجنا ضمن الغرب روسيا واليابان — وهما ليسا بلدين غربيين في الأصل — فإن مجموع البلاد الغربية بهذا المعنى لا يصل إلا إلى ٢٩ في المائة من مجموع سكان العالم، وعندما يحل عام ٢٠٠٠م، سيكون مجموع سكان العالم قد تضاعف مرتين وربما ثلاث مرات، وعندئذٍ ستقل نسبة الغرب إلى مجموع سكان العالم عن النسبة الحالية، وهي ٢٥ في المائة أو ٢٩ في المائة بعد إضافة روسيا واليابان. وهكذا فإن الغرب أقلية صغيرة في العالم، وسيزداد بمضي الأيام صغرًا. ولكن على الرغم من صغره من حيث العدد، فقد كانت له السيادة على الأغلبية العظمى غير الغربية خلال الأربعمائة أو الخمسمائة عام الأخيرة. ولم تبدأ سيطرة الغرب العسكرية والسياسية في الانحسار والتراجع إلا في الآونة الأخيرة فحسب، وقد انحسرت هذه السيطرة بسرعة كبيرة منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن الغرب ما زالت له السيادة في الميدانين الاقتصادي والثقافي. فالسيطرة الثقافية المستمرة للغرب هي بقية من بقايا سيطرته السياسية السابقة. أما على الصعيد السياسي، فإن البلاد التي كانت خاضعةً لسيطرة الغرب بطريقة مباشرة قد استردت الآن كلها تقريبًا استقلالها من الغرب. ولكن هذه البلاد التي استقلت سياسيًّا ما زالت غير متحررة تمامًا من الوجهة الثقافية، فهي لا تزال متأثرةً بالأفكار والمُثُل العليا الغربية، وهي في بعض الحالات لا تزال تأخذ بهذه الأفكار والمثل العليا دون تمييز، ودون أي انتقاد لها. ولأضرب لذلك أوضح مثل ممكن وهو روسيا؛ فروسيا لم تفقد في أي وقت استقلالها السياسي، ولم تخضع أبدًا لحكم الغرب السياسي، وإن كانت قد تعرضت في القرن السابع عشر للغزو من جارتين غربيتين لها؛ أي من بولندا في إحدى المراحل، ومن السويد في مرحلة أخرى. ولكن الروس تمكنوا من الاحتفاظ باستقلالهم السياسي عن طريق اقتباس فن الحرب الغربي، إذ إن السبب الذي أدى إلى تعريض استقلال روسيا للخطر في القرن السابع عشر هو أنها كانت متخلفةً عن الغرب في فن الحرب، وقد نجحت في تعويض هذا التخلف، وتمكنت من حفظ استقلالها عن طريق اقتباس التكنولوجيا الحربية الغربية في أواخر القرن ١٧. ولكن منذ أن اقتبس الروس هذا الأسلوب الفني الغربي في الحرب خضعوا لنوع آخر من السيطرة الغربية، ولم تكن هذه سيطرةً غاشمةً مباشرةً، أعني خضوعًا للحكم الغربي، وإنما كانت نوعًا آخر من السيطرة أشد خفاءً ودقةً من هذا، هو سيطرة الأيديولوجيات الغربية عليها. فقد حوَّل بطرس الأكبر بلاده إلى الأيديولوجية الغربية السائدة في ذلك الحين، وهي أيديولوجية الأوتوقراطية المستنيرة. أما لينين فقد حوَّل بلاده إلى نوع تالٍ من الأيديولوجية الغربية، وهو الأيديولوجية الشيوعية. أي إن روسيا، منذ حكم بطرس الأكبر، أي منذ حوالي ٢٥٠ سنةً، قد ظلت خاضعةً لنوع أو آخر من الأيديولوجيات الغربية على الدوام، وإن كانت قد احتفظت باستقلالها طَوال هذه الفترة.
ولقد كان بطرس الأكبر رائدًا في حركة الصمود أمام الغرب عن طريق اقتباس جوانب معينة من الحياة الغربية. ففي خلال الأعوام المائتين والخمسين التي مرت منذ عهد بطرس الأكبر، أخذت بلاد أخرى — الواحدة تلو الأخرى — تسير في نفس هذا الاتجاه. وربما كان أعظم شخص يلي بطرس الأكبر في اقتباس الأسلوب الغربي في أي مكان آخر من العالم هو محمد علي. فصحيح أن محمد علي لم يكن عربيًّا، بل كان تركيًّا، غير أنه هو الذي بدأ السير في اتجاه بعث مصر الحديثة. ولقد كان غريم محمد علي في تركيا هو السلطان محمود الثاني. وكان كل من الرجلين عدوًّا سياسيًّا للآخر، ولكنهما كانا متفقين على أنه لا بد لإنقاذ بلديهما من اقتباس الأسلوب الغربي في الحرب، كما كان سائدًا في أواسط القرن التاسع عشر.
على أن كل هذه البلاد التي نجحت في أن تحرر نفسها من سيطرة الغرب السياسية، قد استغلت حريتها على نحو غير متوقع على الإطلاق؛ فقد ناضلت هذه البلاد بعنف شديد ضد السيطرة السياسية للغرب، ويمكن القول بأن كفاحها هذا قد كُلل بالنجاح في كل الحالات حتى الآن. ولقد كان المتوقع بعد أن تمكنت من أن تتحرر سياسيًّا من الغرب، أن تستخدم هذه الحرية الجديدة التي اكتسبتها في النضال ضد المدنية الغربية بوجه عام. أي إنه كان المتوقع أن تستخدم هذه البلاد حريتها المكتسبة حديثًا لكي ترجع إلى أسلوبها التقليدي في الحياة، وهو الأسلوب الذي كان سائدًا في حياتها قبل أن يسيطر عليها الغرب، ولكن الذي حدث في جميع الحالات تقريبًا — كما نعلم — هو أن البلاد التي تحررت حديثًا قد استخدمت حريتها للغرض العكسي تمامًا، أي أنها قد استخدمتها لتقتبس بمحض اختيارها عناصر من المدنية الغربية، أعني من أسلوب الحياة الحديثة، وقد فعلت ذلك بحماسة، وبلغت حماستها هذه حدًّا لم يكن الحكام الغربيون السابقون يجرءون على أن يفرضوا به المدنية الغربية عليهم؛ ذلك لأن نظام الحكم الأجنبي يتعين عليه دائمًا أن يكون أكثر حذرًا من نظام الحكم القومي. وهنالك أمور لا يجرؤ النظام الأجنبي على فعلها مطلقًا، ومع ذلك يجرؤ عليها النظام القومي. فلنتناول مثلًا حالة الشيوعية في روسيا والصين؛ فلو كانت روسيا أو الصين قد غُزيت بواسطة دولة غربية، فهل كانت الدولة الغازية تجرؤ على فرض أيديولوجية كالشيوعية على الشعب الذي غزته؟ قطعًا لا، إذ إن الدولة المسيطرة كانت ستحرص كل الحرص على ألا تورط نفسها في ذلك، فمثل هذا التغيير الجذري أمر لا تجرؤ عليه إلا حكومة قومية. ولنتأمل حالة الهند؛ ففي ظل الحكم البريطاني كانت الضرائب على الهنود بسيطةً جدًّا، إذ إن الحكومة الأجنبية لا تستطيع أن تغامر بفرض ضرائب فادحة على الشعب المحتل. أما اليوم فقد أصبحت ضريبة الدخل وضريبة التركات باهظتين في الهند. وإني لأعتقد أن الحكومة البريطانية، أو أية حكومة أخرى، ما كانت لتجرؤ على فرض ضرائب على الأغنياء بتلك النسبة العالية الموجودة الآن، ولكن الحكومة القومية الهندية تستطيع أن تفعل ذلك، وقد فعلته حقًّا.
ومن المعترف به أن هناك فوائد إيجابيةً واضحةً لهذا الاتجاه الحر الذي فرضته الشعوب على نفسها بإرادتها، نحو اقتباس أسلوب الحياة الغربي؛ ذلك لأن العناصر التي تقتبسها البلاد الحديثة الاستقلال من المدنية الغربية هي على وجه التقريب عناصر واحدة. وهكذا فإن هذه الحركة العالمية إلى أخذ بالأسلوب الغربي تضع الأساس لقيام مدنية عالمية جديدة تعلو على النزعات القومية في دول العالم المستقلة حديثًا التي تزيد على المائة. هذه المدنية العالمية الجديدة — التي أعتقد أنها قد بدأت تظهر بالفعل — يتعين عليها أن تكون ذات طابع غربي في البداية، لا لشيء إلا لأن الغرب ذاته هو الذي وحَّد العالم ماديًّا في مبدأ الأمر عن طريق تقدمه التكنولوجي. ولكني أعتقد أنه سيكون من سوء حظ الأغلبية غير الغربية من الجنس البشري، بل من سوء حظ الجنس البشري كله، وضمنه الغرب ذاته، أن يتجه الجزء غير الغربي من العالم إلى قبول المدنية الغربية بكل عناصرها دون تمييز، ودون تفرقة بين ما هو نافع وما هو ضار فيها. وأقول إن هذا يكون من سوء الحظ لأن المدنية الغربية — شأنها شأن أية مدنية أخرى — فيها أوجه نافعة وأوجه ضارة. والأمر الذي يتعين على البشر أن يفعلوه — في مرحلة التاريخ التي نخلق فيها مدنيةً عالميةً مشتركةً بيننا جميعًا — هو استبعاد العناصر السيئة من كل مدنية — وضمنها الغربية — واستبقاء العناصر النافعة في كل مدنية. فالمدنية العالمية الجديدة — كما ستظهر في المستقبل — ستكون — على ما آمل — جامعةً للعناصر الطيبة من كل المدنيات السابقة، ولن تكون مجرد تكرار أو نسخة طبق الأصل من المدنية الغربية الحالية. ولو أصبحت كذلك لكان هذا أمرًا يدعو إلى الأسف حقًّا؛ إذ يعني أن هذه المحاولة من أجل خلق مدنية عالمية ستبوء بالفشل. وعلى ذلك فرغم أن المدنية الغربية ستكون بالضرورة أول مصدر يُقتبَس منه في بناء المدنية العالمية الجديدة فمن الواجب ألَّا يأخذها المجتمع العالمي الجديد على عِلَّاتها.
وهنا تصادفنا صعوبة جديدة؛ ذلك لأن كل مدنية تتصف بنوع من الارتباط المتبادل بين أجزائها المختلفة. فالأشياء التي تبدو منفصلةً تمامًا في مدنية ما يتضح آخِرَ الأمر أنها مرتبطة فيما بينها ارتباطًا وثيقًا. ولو نظرت إلى تاريخ البلاد التي أَخذت بالمدنية الغربية خلال الأجيال أو القرون القليلة الماضية — بادئًا بروسيا، ومنها إلى مصر وتركيا واليابان والهند وغيرها — لوجدت في كثير من الحالات أنها كانت في بداية الأمر راغبةً في اقتباس الحد الأدنى الذي يكفيها للصمود أمام الغرب، ولكنها انتقلت بالتدريج — على عكس ما كانت تنويه وتتوقعه — إلى اقتباس جانب تلو الآخر من جوانب المدنية الغربية. فإذا اقتبست دولة ما فن الحرب الغربي، وأصبح لها جيش حديث، فستجد أولًا أن الجيش الحديث باهظ النفقات، ومن هنا يتعيَّن عليها أن تنميَ اقتصادياتها بحيث تستطيع تمويل هذا الجيش؛ وهذا يؤدي إلى إحداث انقلاب في الجانب غير العسكري من حياة هذه الدولة. ولا بد في الجيش الحديث من أن يتلقى الضباط، بل كل فرد في الجيش في الوقت الحالي، تعليمًا عاليًا، أو على الأقل تعليمًا فنيًّا رفيع المستوى؛ وهذا يعني إحداث انقلاب في التعليم.
وهكذا فإن الدولة إذا ما بدأت في صبغ جيشها بالصبغة الحديثة؛ فسينتهي بها الأمر إلى أن تجد لزامًا عليها أن تصبغ أسلوبها كله في الحياة بالصبغة الحديثة؛ وهذا يتمثل في تاريخ تركيا وتاريخ اليابان. فعلى حين أن محمد علي كان فيما أرى ثوريًّا متطرفًا، فإن محمود الثاني، سلطان تركيا، وكذلك خلفاؤه، كانوا مترددين إلى حد بعيد؛ فطَوال القرن التاسع عشر كانت تركيا لا تفعل الكثير من أجل صبغ حياتها بالصبغة الغربية، وإذا فعلت فإنما يكون ذلك بعد فوات الأوان، فكان من نتيجته أن ظلت النكسات والعقبات تلاحقها باستمرار. وأخيرًا قرر مصطفى كمال أن الطريقة الوحيدة لإنقاذ تركيا هي صبغها بالصبغة الغربية بطريقة جذرية كاملة، كما حدث في العقد البادئ بعام ١٩٢٠م. وقد مرت اليابان بمراحل مماثلة في تطبيقها للأساليب الغربية على حياتها؛ ففي البداية كانت مظاهر حياتها منقسمةً إلى مجالين منفصلين تمامًا: ففي المجال العسكري والفني والصناعي قررت أن تكون غربيةً، أما في مجال الحياة الخاصة والعلاقات العائلية فقد ظلت يابانيةً. وقد ظل اليابانيون مكتفين بهذه الحياة ذات الوجهين طَوال ما يقرب من سبعين أو ثمانين عامًا، ولكن بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية بدا لي عندما زرت هذه البلاد في عام ١٩٥٦م أن اليابانيين قد انتهَوا — كما انتهى الأتراك في العشرينيات من هذا القرن — إلى أنه إذا لم يكن بُدٌّ من اتباع أسلوب الحياة الغربي، فلا مفر من اتباعه كاملًا.
ومع ذلك، فرغم أن الشعب الذي يريد اقتباس جانب من أسلوب الحياة الغربي، قد يُضطر إلى اقتباس هذا الأسلوب بأكمله، فإن من الممكن مع ذلك القيام بنوع من الاختيار، إذ إن للإنسان على أية حال الحرية في اختيار ما يلائمه؛ ومن هنا يكون من المفيد أن نستعرض بعض خصائص أسلوب الحياة الغربي، لنرى إن كان الأخذ بهذه الخصائص أمرًا مرغوبًا فيه أم لا.
ولأبدأ هنا بصفة واضحة كل الوضوح لأسلوب الحياة الغربي، هي حب الاستطلاع عند الغرب؛ ومن المسلم به — بطبيعة الحال — أن حب الاستطلاع ليس صفةً إنسانيةً يتصف بها الغربيون وحدهم، وإنما هو صفة تميز البشر جميعهم في مقابل الحيوان. فالبشر كلهم يتصفون بحب الاستطلاع، غير أن من الممكن أن يخمد حب الاستطلاع عند البشر فترةً ما، وهو بالفعل قد خمد طَوال عدد من القرون. ولأضرب لذلك مثلًا من تاريخ العالم الإسلامي؛ فمنذ حوالي القرن التاسع حتى القرن الثالث عشر الميلادي كان العالم الإسلامي حافلًا بحب الاستطلاع، شأنه شأن الغرب. وكان العالم الإسلامي في تلك القرون أخصب إنتاجًا من الغرب؛ فهو الذي كانت له الصدارة في ميدان الفلسفة والرياضة والعلم. ولكن حب الاستطلاع هذا قد توقف في العالم الإسلامي — إذا كانت معرفتي بتاريخه صحيحةً — في حوالي القرن الثالث عشر الميلادي، على حين أن حب الاستطلاع لم يتوقف في الغرب. وهناك بطبيعة الحال استثناءات ملحوظة لهذا الحكم العام؛ فقد كان ابن خلدون، الذي عاش في القرن الرابع عشر، أعظم مفكر في فلسفة التاريخ عرفه العالم حتى ذلك الحين. كذلك ظهر الجبرتي في مصر، إبَّان الاحتلال الفرنسي لمصر الذي بدأ سنة ١٧٩٨م، وكتب تاريخه عن الشئون المصرية في ذلك العهد. ولست أعرف مؤرخًا كان أعنف وأعمق انتقادًا للمحتلين الأجانب من الجبرتي. وعلى ذلك هناك دائمًا استثناءات في الشئون الإنسانية. ولكن يمكن القول على وجه العموم أن الغرب قد ظل طَوال القرون القليلة الماضية محتفظًا بحب استطلاعه، على حين أن بقية العالم — وضمنه العالم الإسلامي — كان خاملًا بمعنًى ما.
ومنذ القرن السابع عشر بوجه خاص، اتجه حب الاستطلاع الغربي قبل كل شيء إلى مجال موضوعي مُنَزَّهٍ، هو مجال البحث العلمي. ولكن رغم أن حب الاستطلاع هذا كان موضوعيًّا منزهًا، لا يستهدف أغراضًا مباشرةً، فإن قيام هذه الأبحاث على أساس مناهج دقيقة منتظمة أدى إلى ظهور نتائج علمية هائلة لم يكن يتوقعها الباحثون العلميون الذين قاموا بالكشوف الأصلية ذاتها. ولو شئنا أن نخصص السبب الأكبر الذي من أجله عَلَتْ مكانة الغرب في العالم لكان هذا السبب — في رأيي — هو هذه الصفة ذاتها، أعني حب الاستطلاع العلمي المنزه عن الغرض، الذي هو أصل التكنولوجيا الغربية، وأصل التكنولوجيا عمومًا. ومن الطبيعي أن التكنولوجيا الغربية — بعد أن تُخترع — تصبح في متناول يد العالم كله، أي في متناول الأغلبية غير الغربية من العالم. وهي كفيلة بأن تقدم إلى هذه الأغلبية فوائد جمةً، إذا استخدمتها الأغلبية من أجل رفع مستوى المعيشة فيها.
وأنا أعقد أن الفقر هو أكبر المشكلات والعقبات التي يواجهها العالم غير الغربي اليوم، مثلما كان هو المشكلة الكبرى التي يواجهها الجنس البشري كله، وضمنه الغرب نفسه، منذ وقت غير بعيد. وما لم يتحرر الثلثان الفقيران من الجنس البشري من فقرهما، فلن يكون في وسعهما أن يشاركا في الإفادة من المزايا غير المادية للمدنية؛ ذلك لأن المستوى المادي للمعيشة ليس غايةً في ذاته، وإنما هو وسيلة لغاية أخرى، هي رفع المستوى الروحي للحياة. وهكذا فإن البلاد غير الغربية ينبغي ألا تتردد في اقتباس التكنولوجيا الغربية اقتباسًا كاملًا، طالما أنها ستستخدمها استخدامًا مفيدًا. وهذا أمر قد تأكد في ذهني اليوم، إذ إنني قد زرت هذا الصباح المنشآت الذرية للجمهورية العربية المتحدة، ورأيت عددًا من الوسائل التي تُستخدَم بها الطاقة الذرية في أغراض سلمية بنَّاءة. ولا شك في أن المسألة الحاسمة هي الطريقة التي يُستخدَم بها العلم والتكنولوجيا؛ ذلك لأن التكنولوجيا ذاتها قوة محايدة من وجهة النظر الأخلاقية، فهي محاولة لاستخدام مزيد من الطاقة في أي عمل يقوم به الإنسان، سواء أكان هذا العمل خيرًا أم شرًّا. وهي تَصلُح لزيادة القوة التدميرية للإنسان بنفس القوة التي تَصلُح بها لزيادة قوته البنَّاءة. وأعتقد أن بقاء الجنس البشري قد أصبح اليوم مهددًا، إذ إن التكنولوجيا أصبحت تُستخدَم اليوم لزيادة قدرة الأسلحة على القتل، وفي سبيل تحقيق هذا الغرض نجحت التكنولوجيا الغربية في إنتاج القنبلة الذرية.
ولقد أظهر اختراع القنبلة الذرية في عام ١٩٤٥م أن التكنولوجيا والعلم الذي يمهد لها محايدان من الوجهة الأخلاقية، ويمكن استخدامها في أغراض هدَّامة وبنَّاءة معًا. ولكن حتى الوقت الذي اتضحت فيه هذه الحقيقة بجلاء كان العلماء والفنيون الغربيون غافلين بطريقة ساذجة عن هذه الحقيقة، التي تبدو لنا اليوم واضحةً حاسمةً بسيطةً عندما نعود بأذهاننا إلى الوقت الذي اختُرِعت فيه القنبلة الذرية لأول مرة سنة ١٩٤٥م. ففي القرن التاسع عشر كان العلماء الغربيون يسلِّمون بأن التقدم العلمي والتكنولوجيا هو شيء خَيِّرٌ بطبيعته وبحكم ماهيته الباطنية، وكانوا يسلِّمون بأن تقدم العلم كفيل بحل المشكلات المُزمنة التي واجهها الإنسان، لا في المجال المادي فحسب، بل في المجال الأخلاقي والروحي أيضًا، وأنه سيحوِّل عالم البشر إلى نوع من الجنة الأرضية. هذا الموقف الذي كان سائدًا قبل عام ١٩٤٥م، لم يكن ساذجًا فقط، بل كان يدل أيضًا على افتقار إلى الشعور بالمسئولية من وجهة النظر الاجتماعية والأخلاقية. وهنا نجد خطأً شديد الخطورة ارتكبه الغرب، وأدَّى إلى تهديد مستقبل الجنس البشري كله بالخطر.
لذلك فكم أوَدُّ لو تنبهت الشعوب غير الغربية إلى هذا الخطأ الغربي الذي يكمن في الاعتقاد بأن العلم والتكنولوجيا هو شيء خَيِّرٌ في ذاته. إن على الشعوب أن تتجنب هذا الخطأ، وأن تحرص على إخضاع الطريقة التي تستخدم بها الكشوف العلمية والتكنولوجيا للسيطرة الاجتماعية والأخلاقية، وتتأكد من أن هذه الكشوف لن تستخدم على أيدي هذه الشعوب إلا في أغراض بنَّاءة، لا في أغراض هدَّامة مثل صنع القنابل الذرية.
ولأنتقل الآن إلى صفة أخرى مميزة للحياة الغربية، وهي النزعة الفردية الغربية. ولا شك أن الفردية شيء طيب لأسباب متعددة؛ فكل كائن بشري هو بطبيعته شخصية فريدة، وله — من حيث هو شخصية فريدة — الحق في أن يتوقع من الأفراد الآخرين احترام حقوقه الشخصية الخاصة. وفضلًا عن ذلك فإن كل بادرة وإبداع بشري إنما هو نتيجة لمجهود فرد ما؛ فالإبداع البشري لا ينتج عن عمل جماعي. وهناك حقًّا أعمال جماعية لا يمكن ردها إلى أي فرد بعينه، ولكن هذه الأعمال تتمثل في المجال الأدنى من المجال البشري الاجتماعي، كما في خلايا النحل أو عُشِّ النمل، أما في المجال البشري فإن كل مجهود خَلَّاق يمكن أن يُرد إلى فرد بعينه، ولا يمكن أن يكون ناتجًا عن عمل جماعي. هذه القدرة الفردية الخَلَّاقة هي رأس المال الوحيد الذي يملكه الإنسان.
ولأضرب لذلك مثلًا: فأنا أفتقر تمامًا إلى المعلومات في مجال الفيزياء، وهكذا فإني عندما زرت منشآتكم الذرية، لم أستطع أن أفهم الجانب الفني من العمل الذي تقومون به هناك، ولكني أُعجَبت كل الإعجاب بالناس الذين يديرون هذه المنشآت الرائعة، وجال بخاطري أن المنشآت — مهما كان من روعتها — لا قيمة لها على الإطلاق إن لم يشرف عليها الأفراد الصالحون، الذين توافرت لهم المعرفة والتعليم المناسب، وسارت أذهانهم في الاتجاه الصحيح. وعلى ذلك فمن وراء رأس المال المادي، يوجد رأس المال الإنساني، وهو أهم رأس مال يملكه البشر. وإذا كان قَوام رأس المال الإنساني هو الأفراد، فإن من مصلحة البشر أن تُعطى كل شخصية فردية من الفرص ما يتيح لها أن تقوم بعمل منتج.
على أن القدرة الإبداعية الفردية قد كُبِتَتْ في بعض المجتمعات غير الغربية، تحت ضغط مطالب الأسرة أو الجماعة السياسية على الفرد. وأنا أقصد بذلك اليابان، حيث كانت على الفرد في الماضي واجبات نحو أسرته وأمته ونحو الإمبراطورية ونحو الإمبراطور ذاته، فلا يتبقى للحياة الشخصية — بعد هذا كله — إلا مجال ضئيل جدًّا. وقد أخبرني صديق ياباني يصغرني بعشر سنوات أنه حتى الوقت الذي سافر فيه إلى أمريكا للدراسة في سن الخامسة والعشرين، لم يكن قد سمع أبدًا لفظ «السعادة» وإنما سمعه لأول مرة في أمريكا لا في اليابان، وكان قد سمع أثناء طفولته في اليابان ألفاظًا متعددة تؤدي معنى «الواجب»، ولكن لم يكن هناك لفظ يدل على السعادة. أما اليوم فقد أصبحت الحياة الاجتماعية في اليابان أقل جمودًا وتحجرًا بكثير مما كانت عليه في عام ١٩٣٩م، وهذا طبعًا تغيُّر مشكور في الحياة اليابانية.
وأستطيع أن أقول إن النزعة الفردية، والقدرة الفردية على الخلق والإبداع، هي بدورها قوة محايدة من الوجهة الأخلاقية، شأنها شأن العلم والتكنولوجيا؛ فمن الممكن استخدام قدرات الفرد لخدمة المجتمع، ومن الممكن إساءة استخدامها. فالشخص الذي يمتلك لحسن حظه مواهب فرديةً ممتازةً يستطيع أن يستخدم هذه المواهب بطريقة أخلاقية، ويستطيع أيضًا أن يستخدمها بطريقة أنانية للإضرار بالأفراد الآخرين، الذين قد يكونون في مركز أضعف نتيجةً لافتقارهم إلى مواهبه الخاصة. ومن الممكن الإتيان بأمثلة عديدة جدًّا لأشخاص كانت لهم مواهب فردية ممتازة، واستخدموها بطريقة تضر المجتمع. وهكذا فمن الممكن أن تؤديَ الفردية إلى نتائج ضارة بالمجتمع إذا لم توضع تحت السيطرة الأخلاقية. صحيح أن الأفراد الموهوبين يمكنهم أحيانًا أن يسيطروا على أنفسهم ويحكموها، ولكن إذا وُجِدَ مِن بينهم مَن كان عاجزًا عن السيطرة على نفسه وكبح جماحها، أو غير راغب في ذلك، فينبغي أن يتدخل المجتمع لقمعه رغمًا عنه.
وأنا أرى بالفعل، أن النزعة الفردية قد ذهبت — في الغرب — أبعد مما ينبغي، وأُطلقَ لها العِنان على حساب الصالح العام؛ ففي مجال الحياة العائلية كان من الخطأ أن نجد الأفراد يكتبون لصالح التضامن العائلي في اليابان. على أن هذا التضامن العائلي الذي يمكن أن يعوق شخصيةً نشطةً ويحول بينها وبين تنمية مواهبها، يمكن أن يكون درعًا واقيًا للأفراد الضعفاء في الأسرة؛ وهم الأطفال من جهة، والمسنون من جهة أخرى. ومن الملاحظ في البلاد غير الغربية، أنه لم تكن هناك مشكلة متعلقة بالمسنِّين قبل اتباع هذه البلاد للأساليب الغربية، إذ كان الكبار الذين تجاوزوا سن الإنتاج يجدون الرعاية اللازمة — بطريقة طبيعية تقليدية — من أفراد الجيل التالي، الذين هم في عنفوان قواهم الإنتاجية، ولكن النزعة الفردية السائدة حاليًّا في الغرب قد زعزعت إلى حد ما فكرة الالتزام التقليدي للأجيال الناضجة برعاية الجيل الأسبق منها. وهكذا فإن المسنين في البلاد الغربية يُترَكون دون معاونة في المرحلة الحرجة التي يحتاجون فيها مرةً أخرى إلى المساعدة العائلية، مثلما كانوا يحتاجون إليها في المرحلة الأولى أثناء طفولتهم. فالغرب اليوم — إذا كان لي أن أحكم عليه حكمًا محايدًا، وكأنني خارج عنه — يقف من المسنين فيه موقف عدم الاكتراث. ولقد قيل لي إن غير الغربيين، عندما يشاهدون موقفنا من المسنين في بلادنا، يجدونه شيئًا مُريعًا. فإذا كنتم بالفعل تجدونه شيئًا مُريعًا فلا تقتبسوه، ولا تَمضُوا في الفردية — التي قد تكون في ذاتها شيئًا مفيدًا — إلى هذا الحد اللا أخلاقي المتطرف.
ولأنتقل الآن إلى النزعة العملية في الغرب؛ وأنتم تعرفون أن الغربيين يفخرون بأنهم قوم نشيطون، عمليون، يمكنهم إنجاز أمورهم بسرعة وكفاءة، ولا شك أن هذه الصفات أفضل من الجمود والتلكؤ والتسويف عندما يكون الأمر متعلقًا بإنجاز شيء ينبغي إنجازه ويستحق أن يُنجَز. غير أن النشاط العملي ليس غايةً في ذاته، وإنما هو وسيلة لغاية قد تكون خَيِّرَةً أو شريرة، حسب اختيار الفاعل ذاته. وهكذا فإن النزعة العملية — شأنها شأن النزعة الفردية — محايدة من الوجهة الأخلاقية، وحتى إذا اتجهت إلى غاية هي في ذاتها مرغوب فيها أخلاقيًّا، أو لا ضرر منها، فقد تكون لها نتائج غير مرغوب فيها، إذ إنها قد تَصرِف الفاعل عن ممارسة أوجه نشاطه الروحي؛ كالصلاة والتأمل، وهي أنواع من النشاط كانت في الماضي تؤلف جزءًا من الحياة في المجتمعات الغربية، وما زالت لها أهميتها في سائر مجتمعات العالم إلى اليوم.
ففي الغرب أناس قد اعتادوا حياة النشاط العملي إلى حد أنهم يصرفون أوقاتهم في ممارسة أمور عملية تافهة لا جدوى منها، حتى لا يُضطروا إلى مواجهة أنفسهم مواجهةً روحيةً صريحةً، والتحوُّل إلى عالمهم الداخلي، وممارسة التأمل الباطن في حياتهم. هذه الصفة هي ما يسميه علماء النفس بالطابع الانبساطي الذي يتم على حساب الطابع الانطوائي. والواقع أن عجز الإنسان عن التأمل الروحي الباطن، يتضمن إهدارًا لإنسانيته لا يقل عن ذلك الذي يتضمنه عجزه عن النشاط العملي. فَلِكي يكون المرء إنسانًا بحق، عليه أن يجمع ويوفِّق بين نوعي السلوك هذين في الظاهر والباطن. وهكذا فإن التأمل والصلاة ليسا بأقل أهميةً من النشاط العملي الخارجي من حيث هما عنصر ضروري لا غناء عنه في حياة الإنسان. ولقد كان الغرب يمارس هذا الوجه الباطن من النشاط قبل أن يبدأ المرحلة الحديثة من تاريخه، مثلما تمارسه المجتمعات غير الغربية في الوقت الحالي. وعلى ذلك فإني أود أن أقول لغير الغربيين: كونوا عمليِّين بالمعنى الغربي إذا شئتم، ولكن لا تمضوا في اقتباسكم لهذا الطابع العملي إلى حد التطرف، ولا تأخذوا به إلى الحد الذي يشُلُّ قدرتكم الحالية على التأمل، إذ إن أي شخص — لكي يكون آدميًّا بالمعنى الكامل — ينبغي أن يكون تأمليًّا وعمليًّا في آن واحد؛ فلن يكتمل أي إنسان إذا قضى على واحد من هذين العنصرين الأساسيين في تركيب الشخصية الإنسانية.
وأخيرًا، فإني أود أن أنتقل إلى صفة أخرى، هي صفة التعصب. ولقد كنت على وشك أن أصف هذا التعصب بأنه غربي، ولكنه في الواقع يتجاوز حدود الغرب، لأنه نتاج من نواتج عقيدة التوحيد؛ ذلك لأن الغربيين ليسوا هم وحدهم المؤمنين بعقيدة التوحيد في العالم؛ فهناك المسيحيون الشرقيون واليهود، والعالم الإسلامي الضخم، هؤلاء كلهم مؤمنون بالتوحيد. وهم يتَّصفون نتيجةً لإيمانهم هذا بالتعصب، والتصلب والعناد.
ومن المعروف أن الدين بصورته التقليدية — أعني المسيحية التقليدية — قد تضاءل نفوذه في الغرب خلال القرون القليلة الأخيرة؛ نتيجةً لسيطرة العلم على حياة الغرب. ولكن التعصب الذي كان مقترنًا بالمسيحية الغربية، والذي كان سببَ الحروب الدينية بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين في الغرب، قد انتقل إلى مجال جديد، يمكننا أن نسميَه مجال الأيديولوجيات الغربية اللاحقة للمسيحية، وهي القومية أولًا ثم الشيوعية، اللتان ورثتا التعصب من المسيحية. والسبب الرئيسي في رأيي في خطورة النزاع الأيديولوجي الناشب بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية في تنافسهما الحالي على السيطرة على العالم، هو أن كلا الطرفين قد أَدخلَ في هذا النزاع روح التعصب التقليدية الموروثة عن الأديان؛ فكل طرف يعتقد أنه هو وحده على صواب والآخر على خطأ، وأن التعايش بين الطرفين ليس مستحيلًا فقط، بل إنه أيضًا لا أخلاقي ولا يمكن قَبوله، حتى إن كل طرف أصبح يعتقد أن من واجبه القضاء على الطرف الآخر عاجلًا أو آجلًا. ومن حسن الحظ أننا قد شهدنا في السنة أو السنتين الأخيرتين تخفيفًا لهذا الموقف المتطرف من الجانب الأمريكي والروسي معًا. ولكن هذا التعصب كامن في عقائد التوحيد وموروث منها، وهو يشكل خطرًا هائلًا على العالم بأكمله. فبقاء التعصب في عصر القنبلة الذرية يهدد البشرية بالفناء الذاتي، إذ إن من المستحيل على أي طرف في الحرب الذرية أن يفنيَ الآخر دون أن يتعرض هو ذاته للفناء على يد الآخر في اللحظة نفسها.
وهكذا فإن الأيديولوجيات الغربية التالية للمسيحية، وهي القومية أو الشيوعية، أصبحت الآن أكبر خطر يهدد بناء الجنس البشري. هي خطر أفدح كثيرًا من البكتريا والفيروسات. وإنها لكارثة على البشرية جمعاء أن تقتبس البلاد غير الغربية هذه الأيديولوجيات الغربية بحذافيرها، وبالفعل نجد القومية منتشرةً بين هذه البلاد، كما أن للشيوعية فيها أنصارًا كثيرين.
ورأييَ الخاص هو أن ما يلزمنا الآن هو أن نقتديَ بروح شخص مثل المهاتما غاندي، وبطريقته في السلوك؛ فقد أثبت غاندي أن من الممكن عمليًّا إحداث تغيُّرات سياسية واجتماعية هائلة بطريقة سلمية، وأن من الممكن للمرء مقاومة خصومه دون أن يكرههم، ومن هنا فإن غاندي عندما كان يجد أن أتباعه في الهند قد بدءوا يكرهون الإنجليز — وهذه الكراهية أمر طبيعي، إذ إنها شعور إنساني مألوف عند أناس يريدون التحرر — فإنه كان يوقف حركة المقاومة حتى يخمَد الشعور بالكراهية، وحتى يتخلص أتباعه منه. وفي اعتقادي أن ما قام به غاندي في هذا الصدد كفيل بأن يهدِم الأساس الذي يرتكز عليه التعصب. فقد دافع أنصار التعصب عن أنفسهم قائلين: إن هذه الحالة العنيفة التي لا تعرف التسامح، هي الوسيلة الوحيدة لإحداث تغيرات جذرية في الشئون الإنسانية، ولكن غاندي أثبت أن الحقيقة غير ذلك.
وفي اعتقادي أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن غاندي لم يكن مسلمًا ولا مسيحيًّا ولا يهوديًّا، وإنما كان هندوسيًّا؛ فالهندوسية من الأديان القليلة الباقية التي تمثل عقيدة تعدد الآلهة، وهي العقيدة التي كانت سائدةً في العالم من أقصاه إلى أقصاه قبل ظهور ديانات التوحيد، وأعني بها اليهودية والمسيحية والإسلام. أما في العالم القديم — الذي يمتد من أقصى الغرب حتى غرب باكستان — فقد أدى عنصر التعصب في عقيدة التوحيد إلى القضاء على بقايا تعدد الألوهية، سواء في العالم المسيحي وفي العالم الإسلامي. ولكن عقيدة تعدد الآلهة ظلت باقيةً في الطرف الشرقي للعالم القديم، أي في المنطقة الواقعة شرق الطرف الشرقي للعالم الإسلامي. ورغم كل عيوب عقيدة تعدد الآلهة، فإن فيها صفةً تلائم تمامًا ما يحتاج إليه العالم في المِحنة الحالية التي يمر بها الجنس البشري، فهي تسلِّم مقدمًا بضرورة تعايش الأديان والأيديولوجيات المختلفة. ولا شك أن هذه الروح المتسامحة في عقيدة التعدد هي من المزايا الروحية الكبرى للإنسان، وهي ميزة لا يحق لنا أن نقضيَ عليها. وإنها لتكون كارثة لو أن قلب الجنس البشري الذي لم يُصَبْ بِداء التعصب في صورة العقائد التوحيدية، قد أصيب الآن بهذا الداء في صورة الأيديولوجيات اللاحقة للمسيحية، وهي القومية والشيوعية. ولأروِ لكم في هذا الصدد قصةً هنديةً مشهورةً: فأنتم تعلمون أن الهندوس ينقسمون إلى طائفتين؛ إحداهما تقدس الإله فشنو والأخرى تقدس الإله سيفا، وتقول القصة إن واحدًا من أشد أتباع الإله سيفا تَحَمُّسًا كان يحس بكراهية هائلة نحو أتباع الإله فشنو. وذات يوم بينما كان يؤدي طقوس العبادة أمام تمثال الإله سيفا، رأى فجأةً ابتسامة الإله فشنو ترتسم على وجه الإله سيفا، فأدرك ما يريد الإله سيفا أن يقوله له: وهو أنني أنا وفشنو إله واحد، وإن تكن له مظاهر مختلفة؛ وعلى ذلك فإن عبدتني فمن التناقض أن تسخط على عُبَّاد فشنو لأن الاثنين واحد في آخر الأمر. هذا هو موقف عقيدة تعدد الآلهة، وهو الموقف الذي نحتاج إليه في العالم اليوم.
إن التوحيد خير، بقدر ما يُلهم الناس الوحدة، أعني الوحدة الكامنة من وراء اختلافات الأشياء، ويبث فيهم روح العمل على تحقيق هذه الوحدة، ولكن التوحيد شر عندما يبث في أذهان الناس الاعتقاد بأنه لا توجد إلَّا وسيلة واحدة فقط للوصول إلى هدف الوحدة هذا، على حين أن كل الوسائل الأخرى باطلة، وينبغي القضاء عليها. فهدف الوحدة ينبغي أَلَّا يتحقق أبدًا عن طريق العنف.