المحاضرة الرابعة
سيدي المحافظ، حضرات السادة والسيدات
شكرًا لسيادة المحافظ على تقديمه الكريم لي. إن سيادة المحافظ يكلفني دائمًا بمهام عسيرة؛ فعندما تشرَّفت بالتحدث هنا في المرة السابقة، طلب إليَّ أن أتحدث عن فِلسطين. والآن، ففي حديثي عن الشرق الأوسط والمشكلات العالمية، سيكون عليَّ أن أتحدث بعض الوقت عن فلسطين، وموضوع فِلسطين عسير دائمًا.
على أني لن أبدأ بالحديث عن فِلسطين، وإنما سأبدأ بموضوع آخر. إن لفظ الشرق الأوسط ذاته هو بطبيعة الحال لفظ يُستخدم من وجهة النظر الأوروبية؛ فالأوروبيون في أوقات سيادتهم على العالم، كانوا يقيسون البلاد كلها تبعًا لقربها منهم، وهكذا تحدثوا عن الشرق الأوسط والشرق الأدنى والشرق الأقصى. وحتى عندما هاجر الأوروبيون إلى أستراليا ظلوا يحملون معهم هذه الألفاظ، وقد انتشرت بين الأستراليين منذ الحرب الثانية، دُعابة تقول بأنهم عندما يتحدثون عن الشرق الأقصى، يعنون الشمال الأدنى، إذ إن الشمال أصبح يبدو قريبًا جدًّا من أستراليا منذ الحرب العالمية الثانية. وهكذا فضَّلت أن أحتفظ بلفظ «الشرق»، وأستخدم لفظ «الأوسط»؛ لأن هذه المنطقة التي سنتحدث عنها اليوم هي بالفعل في منتصف العالم القديم وفي مركز المدنية كلها، وقد كانت كذلك منذ فجر المدنية. وهي نقطة التقاء آسيا وأفريقيا وأوروبا، كما أنها النقطة التي تتقارب فيها مياه المحيط الأطلسي ومياه المحيط الهندي والمحيط الهادي إلى أقصى حد ممكن.
ولقد كانت هذه المنطقة — منذ حوالي ٣٠٠٠ سنة ق.م. — مركز الشئون العالمية، باستثناء حوالي ٥٠٠ عام تمتد من القرن الثالث عشر الميلادي إلى القرن الثامن عشر؛ ففي القرن الثالث عشر — وربما قبل ذلك قليلًا — تعرض الشرق الأوسط لهجمات الصليبيين من الغرب والمغول من الشرق، وفي خلال القرون الخمسة التالية — ولا سيما عندما تحوَّلت الطرق البحرية الرئيسية للعالم من الشرق الأوسط إلى المحيطات — عانى الشرق الأوسط نوعًا من التدهور. وفي خلال هذه القرون الخمسة المنتهية في القرن الثامن عشر لم يعد الشرق الأوسط هو مركز العالم، كما كان دائمًا، وإنما انتقل هذا المركز إلى المحيط الأطلسي الشمالي. غير أن الشرق الأوسط أخذ يستعيد موقعه المركزي — أي موقعه الطبيعي — منذ القرن الثامن عشر، وأستطيع أن أقترح أسبابًا مختلفةً لحدوث ذلك؛ ففي القرن الثامن عشر اشتدت المنافسة — كما تعلمون — بين بريطانيا وفرنسا على السيطرة على الهند، وأدى ذلك بهما إلى التنافس على الطرق الموصلة من أوروبا الغربية إلى الهند. ومن الطبيعي أن الطريق البحري حول رأس الرجاء الصالح لم يكن هو الطريق الوحيد، وإنما بدأ التنافس حول الطريق البري الذي يمر بالشرق الأوسط، حتى احتل الفرنسيون مصر في عام ١٧٩٨م، ثم احتل الإنجليز مصر بعد ذلك، وأصبح الشرق الأوسط مرةً أخرى مركزيًّا في السياسة العالمية. والسبب الثاني هو شق قناة السويس التي كفلت طريقًا بحريًّا متصلًا من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر. على أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يتصل فيها البحران؛ ذلك لأن الإمبراطور الفارسي دارا الأول — عندما احتل مصر — شق قناةً لا في مكان القناة الحالية، وإنما عند ترعة الإسماعيلية ودلتا النيل. ولكن شق قناة السويس أعاد هذا الطريق المائي المباشر وزاد بذلك من أهمية الشرق الأوسط.
ومن العوامل الأخرى التي أدَّت إلى استعادة الشرق الأوسط لأهميته كشف البترول. ومن المؤسف فعلًا أن معظم الحدود الحالية للشرق الأوسط قد خُطِّطَت قبل وقت قصير من كشف البترول في باطن الأرض. فقد تصور الذين خططوا هذه الحدود أنهم إنما يرسمون خطوطًا عبر الصحراء، وكان من الممكن رسم هذه الحدود بطرق أخرى مختلفة. ولم يَدُرْ بخَلَدهم أن الاختلاف في رسم هذه الخطوط سيؤدي إلى فارقٍ كبيرٍ في ثروات المنطقة، تبعًا لكون الإقليم الذي خططوه يحوي في باطنه بترولًا أم لا.
وهناك أخيرًا اختراع الطيران؛ فإذا نظرت إلى خريطة الخطوط الجوية العالمية وجدت أن هذه الخطوط — وإن تكن تتشعب في أمريكا الشمالية وأوروبا من جهة، وتتشعب في آسيا من جهة أخرى — فإنها كلها تتلاقى وتتشابك في الشرق الأوسط، وتمر إما بالقاهرة أو بيروت أو إسطنبول. وقد أدى هذا بدوره إلى زيادة كبيرة في أهمية الشرق الأوسط في الوقت الحالي.
على أن ازدياد أهمية منطقة ما بالنسبة إلى الشئون العالمية، ليس دائمًا أمرًا في صالح سكان هذه المنطقة؛ ذلك لأن ازدياد أهميتها يؤدي بكل دول العالم إلى التنافس عليها. وهكذا فإن أهمية المنطقة لا تكون مفيدةً لسكانها إلا إذا كان لهم من القوة ما يمكِّنهم من الصمود أمام الدول الخارجية ومقاومة محاولات الدول الأخرى للسيطرة على هذه المنطقة لصالحها هي، لا لصالح سكانها أنفسهم. وهكذا حدث في الشرق الأوسط منذ عام ١٧٩٨م أن خضعت كل البلاد — باستثناء إثيوبيا وأفغانستان — لسيطرةٍ استعمارية لدولة غربية ما بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولفترة معينة من الوقت؛ فمصر قد تعرضت بوجه خاص لغزوٍ متكرر من الإنجليز والفرنسيين منذ عام ١٧٩٨م إلى عام ١٩٥٦م. وهناك قصة — لا أدري إن كانت صحيحةً أم لا — تُروَى عن محمد علي؛ هي أن رجل أعمال أوروبيًّا قد عرض عليه أن يحفر قناةً من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر مقابل مبلغ كبير بالطبع، وأن محمد علي رد عليه قائلًا: «إن السلطان محمود الثاني منافسي في تركيا لديه البسفور والدردنيل، ومن حسن حظي أن ليس لديَّ بسفور ولا دردنيل خاصَّان بي، ليتنافسَ عليهما الأوروبيون. وإنك لتطلب إليَّ أن أُعَرِّضَ نفسي لأخطار جَمَّة بحفر بسفور ودردنيل صناعيين.» وهكذا رفض التصريح له بحفر القناة. غير أن خلفاء محمد علي كانوا أقل حذرًا، وسمحوا بالفعل بحفر قناة السويس. وإذا كان تذكري للتواريخ صحيحًا فإن القناة قد حُفرت في عام ١٨٦٩م، واحتل الإنجليز مصر في عام ١٨٨٢م. وهكذا ثبت بعد وفاة محمد علي، أنه كان على حق في حذره.
أما الآن فإن جميع بلاد الشرق الأوسط تقريبًا — التي كانت من قبل خاضعةً للحكم الاستعماري الغربي — قد استعادت استقلالها. ولكنَّ هناك منطقتين لا يَصْدُق عليهما هذا الحكم؛ إحداهما هي الطرف الجنوبي والجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية، الذي لا يزال خاضعًا لنوع من السيطرة البريطانية (وهذه منطقة شَغَلَت أنباؤها العالم في الأيام القليلة الماضية) أما المنطقة الأخرى فهي ذلك الجزء من فِلسطين الذي يحتلُّه الإسرائيليون اليوم. وأنا شخصيًّا أعتقد (وأخشى الإعراب عن رأيي أمام السفير البريطاني الذي يجلس معنا في هذه القاعة) أن بريطانيا سيكون عليها إن عاجلًا أو آجلًا — وآمل أن يكون ذلك عاجلًا — أن تتخلَّى عن السيطرة عن منطقة نفوذها الحالية في الجزيرة العربية، كما تخلَّت من قبل عن سيطرتها على العراق والأردن وفِلسطين ومصر والسودان. وطبيعي أن البترول في البلاد العربية التي تنتجه، له أهمية هائلة لبريطانيا ولأوروبا الغربية بوجه عام، غير أن أفضل طريقة في رأيي لضمان الحصول على البترول من البلاد المنتجة له، هي أَلَّا نضايقها بمحاولة السيطرة عليها سياسيًّا، وإنما أن نترك هذه البلاد حرةً، لأن رغبتها في بيع بترولها لا تقل على أي الحالات، عن رغبة أوروبا الغربية في شرائه، وأعتقد أن العلاقة التجارية هي في ذاتها ضمان كافٍ للبائعين الذين يحتاجون إلى بيعه للأوروبيين، وللمشترين الذين سيحصلون من البلاد العربية على ما يكفيهم منه.
أما المشكلة الفِلسطينية فهي في اعتقادي مشكلة أشد تعقيدًا، فهي في رأيي أعقد من مشكلة مناطق النفوذ البريطانية الأخرى في جنوب وجنوب شرق الجزيرة العربية. وأعتقد أن حل المشكلة الفِلسطينية سيستغرق وقتًا أطول مما يستغرقه حل قضايا مناطق الجنوب العربي. وفي رأيي أن هناك ثلاث وسائل أو ثلاثة مفاتيح لحل المشكلة الفِلسطينية؛ المفتاح الأول هو في علاقة البلاد العربية بعضها ببعض، والثاني في موقف الطائفة اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية، والثالث قد يكون في موقف اليهود الشرقيين في إسرائيل، إذ إن أكثر من نصف سكان إسرائيل اليوم — إن كانت أرقامي صحيحةً — يتألف من يهود وفدوا إلى إسرائيل، لا من بلاد أوروبية غربية، وإنما من بلاد في الشرق الأوسط، ولا سيما البلاد العربية.
ولأبدأ بمسألة الوحدة العربية؛ إن الشعوب العربية — في رأيي — ستظل حتمًا ضعيفةً نسبيًّا طالما ظلت متفرقة الكلمة، وبالتالي ستظل تَلقَى معاملةً غير عادلة، أو سمِّها إن شئت معاملةً فيها تجاهل من الشعوب الأقوى منها. وأخشى أن أقول إن الحياة السياسية في هذا العالم تجعل من المُحَتَّم أن يقابَل أي شعب بالتجاهل إن لم يكن لديه من القوة ما يجعله يُسمِع الآخرين صوته؛ ومن هنا كان من المهم لأي بلد أو شعب، أو مجموعة من الشعوب، أن تكون لديها القوة التي تمكِّنها من إرغام الآخرين على سماع صوتها وعمل حساب لوجهة نظرها أو مصالحها. ولو اتحد العرب من مراكش إلى مسقط — وهما الطرفان القصيَّان للعالم العربي في أوسع حدوده — لأصبحوا قوةً في العالم بفضل أهمية الموقع الجغرافي الذي يتحكم في الطرق الجوية والطرق البحرية القصيرة بين المحيط الأطلسي وبين المحيطين الهندي والهادي، وبفضل موارد البترول ورأس المال البشري، أي الموارد البشرية التي هي في نهاية الأمر أثمن رأس مال يمتلكه أي شعب (لأن أي رأس مال مادي لا يكون مُثمِرًا إلا إذا كان هناك بشر ينتفعون منه عمليًّا).
وهناك دون شك عامل واضح يساعد على تحقيق الوحدة العربية؛ هو أن لدى العرب تراثًا واحدًا مشتركًا في اللغة والأدب يرجع إلى ألف وخمسمائة سنة، وكذلك ثقافة مشتركة وتاريخ مشترك. وعندما أتأمل العلاقات الحاضرة بين الشعوب العربية، ورغبة شعوب جميع البلاد العربية في تكوين وحدة أكبر، والصعوبات التي تعترضها في سبيل بلوغ هذا الهدف، فإن ذهني يعود بي إلى الأمة الألمانية والأمة الإيطالية في القرن التاسع عشر؛ ففي عام ١٨١٥م — أي بعد الحروب النابليونية — كان الألمان والإيطاليون في موقف مشابه إلى حد بعيد للموقف الذي يجد فيه العرب أنفسهم الآن؛ فقد كانوا منقسمين إلى عدد من الدول المنفصلة، ولديهم رغبة هائلة في الاتحاد، وفي نهاية الأمر نجحت هاتان الأمتان في تحقيق الوحدة السياسية. وقد استغرق ذلك أكثر من نصف قرن من الزمان. ففي إيطاليا دامت محاولة الوحدة من ١٨١٥م إلى ١٨٧٠م، وفي ألمانيا من ١٨١٥م إلى ١٨٧١م، ومع ذلك ففي كلتا الحالتين تحققت الوحدة آخر الأمر بعد عدد من مظاهر الفشل ومن الصعوبات والنكسات. وهذا في رأيي أمر مشجع من وجهة النظر العربية؛ إذ يعني أنه رغم الصعوبات التي تعترض حركة الوحدة فمن الممكن التغلب على هذه الصعوبات وتحقيق الوحدة.
ولكن لكي يكون المرء موضوعيًّا تمامًا فلا بد له أن يعمل حسابًا للعوامل التي تقف في وجه الوحدة العربية؛ أحد هذه العوامل هو الحدود التي رسمتها الدول الاستعمارية دون مراعاة كبيرة للظروف المحلية ورغبات الأهالي الذين يعنيهم الأمر، إذ إن هذه الدول الاستعمارية قد اكتفت بمراعاة مصالحها الخاصة فحسب. وأعتقد أن النزاع بين المغرب والجزائر (وهو النزاع الذي سُوِّيَ أخيرًا لحسن الحظ) يرجع إلى أن فرنسا قد احتلت الجزائر قبل أن تسيطر على المغرب وعلى تونس، فمدت حدود الجزائر — التي كانت تعني عندئذٍ حدود فرنسا نفسها — بعيدًا في داخل الصحراء الكبرى. ولو تأملت خريطة المغرب وتونس اليوم لوجدت حدودهما الجنوبية محاطةً بالجزائر نفسها، لا لأن الجزائريين هم الذين خططوا هذه الحدود، وإنما لأن الفرنسيين هم الذين فعلوا ذلك. على أن هذا الأمر لم يكن له أهمية كبيرة في ذلك الوقت، لأن الامتداد كان في صحراء قاحلة. ولكن عندما اتضح أن الصحراء تنطوي على ثروة بترولية، أصبحت لهذه الحدود أهمية قصوى وأصبحت موضوعًا للنزاع بين المغرب والجزائر.
وهذا يَصْدُق أيضًا على الحدود التي رسمتها إنجلترا وفرنسا في البلاد العربية الآسيوية المقتطعة من الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى؛ فقد رُسِمَت لصالح الفرنسيين والإنجليز وحدهم؛ إذ كان الفرنسيون يشعرون بأن لهم مصالح تاريخيةً في لبنان وسوريا، والإنجليز أرادوا أن يكوِّنوا منطقة نفوذ بريطاني متصلةً تمتد من مصر عبر البلاد العربية في آسيا وعبر جنوب إيران حتى الهند، وكانت النتيجة هي تلك الخريطة السياسية العجيبة التي ما زالت باقيةً إلى اليوم. ففي عهد السيطرة التركية كانت شرق الأردن — وهي قلب المملكة الأردنية الحالية — جزءًا من ولاية دمشق التركية. وأعتقد أن الارتباط الطبيعي لشرق الأردن — من الوجهة الجغرافية — يجب أن يكون مع دمشق. ولم يكن من المعقول أن يصبح شرق الأردن دولةً مستقلةً. وقد أصبح كذلك لأن إنجلترا أرادت أن يكون لها جسر أرضي بين مصر والهند.
والأمر الذي يدعو في نظري إلى الاستغراب حقًّا هو أن تلك الحدود الموروثة من الدول الاستعمارية، والتي رسمتها تلك الدول الاستعمارية لمصلحتها الخاصة دون مراعاة لمصالح الشعوب المعنية، قد أصبحت بعد انتهاء الحكم الاستعماري وتحرر الشعوب التي كانت مستعمرةً، مقدسةً في نظر أهالي البلاد الأفريقية والآسيوية. وهذا يَصْدُق على أفريقيا (ويكفي أن نتأمل النزاع بين الصومال وإثيوبيا) مثلما يَصْدُق على آسيا (ولنتأمل النزاع بين الباكستان وأفغانستان على الحدود التي رُسِمَت في أواخر القرن التاسع عشر، وكذلك النزاع بين الهند والصين على الحدود التي رسمها رجل اسمه «ماكماهون»، لم يكن صينيًّا ولا هنديًّا). وهذا أمر غير متوقع، ولكن له أهميته في العلاقات الدولية الحالية في أفريقيا وآسيا. وهذه النقطة تَصْدُق بطبيعة الحال على البلاد العربية، وهي من الصعوبات التي تعترض طريق هذه البلاد نحو تحقيق المزيد من الوحدة.
وهناك عقبة أخرى في وجه الوحدة العربية، هي التفاوت الهائل في درجة التمدين بين مختلِف الدول العربية. ولقد ذكرت أن لهذه الدول كلها لغةً مشتركةً وأدبًا مشتركًا وماضيًا تاريخيًّا مشتركًا، غير أن الجمهورية العربية المتحدة هي — بصراحة — متقدمة ١٥٠ سنةً من حيث التمدين على دول أخرى في شبه الجزيرة العربية، غير أن هذه الصعوبة كانت ولا تزال قائمةً في إيطاليا بدورها؛ ففي إيطاليا ما زال الجنوب متخلفًا جدًّا بالنسبة إلى الشمال، رغم أن إيطاليا قد مر عليها في الوحدة ما يقرب من قرن من الزمان. وتلك ولا شك عقبة تقف في وجه التكامل القومي، وما زال الإيطاليون يكافحون في سبيل التغلب عليها، وأعتقد أنه لو اتحدت البلاد العربية فستواجههم مشكلة الارتفاع بدُوَلِهم المتخلفة إلى مستوى دُوَلِهم المتقدمة (وأعتقد أن مصر تبذل بالفعل جهودًا كبيرةً في حل مشكلة التعليم في بعض الأقطار العربية الأخرى. والتعليم قوة توحيدية كبرى تؤدي إلى تحقيق المساواة في المستويات). ولكن رغم الصعوبات التي واجهها الإيطاليون، فقد ساروا بالفعل في طريق الوحدة وظلوا بالفعل موحَّدين. ويمكن القول إن البلاد العربية أسعد حظًّا — في ناحية معينة — من إيطاليا في القرن التاسع عشر؛ فالجنوب في إيطاليا لم يكن متخلفًا فحسب، وإنما كان أيضًا فقيرًا بالنسبة إلى الشمال. أما في البلاد العربية فإن بعض البلاد المتخلفة قد عَوَّضَت ذلك بالثروة البترولية الباطنة في أراضيها. وهذه الثروة تجعل تقدم هذه الدول أسهل من الجنوب الإيطالي الذي لم تكن لديه هذه الموارد.
وهكذا أود أن أُلخص كلامي هذا عن الوحدة العربية بالقول إنني أرى أن فرص العرب في التوحد في القرن العشرين لا تقل عن فرص الإيطاليين والألمان في الوحدة في القرن التاسع عشر. وأكرر القول بأن الدول العربية لو اتحدت حتى مجرد اتحاد معتدل لأصبح لها في الشئون العالمية وزن أعظم كثيرًا مما لها الآن.
ولأنتقل الآن إلى النقطة الثانية من النقط التي قلت إنها حاسمة بالنسبة إلى المستقبل السياسي في الشرق الأوسط؛ وهي موقف يهود الولايات المتحدة. وقد يبدو هؤلاء بعيدين جدًّا عن الشرق الأوسط، غير أن أي شخص يهتم بمستقبل الشرق الأوسط، ولا سيما مستقبل العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، لا بد أن يراقب عن كثب ما يحدث في الطائفة اليهودية في أمريكا؛ ذلك لأن بقاء إسرائيل يتوقف على المعونة المالية والسياسية التي يقدمها يهود الولايات المتحدة، ولو سُحِبَت هذه المعونة لما بقيت إسرائيل إلا أسابيع قليلةً. كما أن هذه المعونة لو نقصت لتعيَّن على إسرائيل أن تعيد النظر في سياستها وتصبح أقل عنادًا.
ولأذكر بعض النقاط الخاصة بموقف يهود أمريكا؛ فأنا أتردد كثيرًا على أمريكا وأتصل دائمًا باليهود غير الصهيونيين هناك، وكانت لي بعض المناقشات والمساجلات مع اليهود الصهيونيين في أمريكا. والنقطة الواضحة والعظيمة الأهمية؛ هي أن يهود أمريكا ويهود أوروبا الغربية — إلى الغرب من ألمانيا — يعتزمون البقاء في هذه البلاد. فهم لن يهاجروا إلى إسرائيل أو يصبحوا إسرائيليين، وهم يرون أن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم مرتبط بالدول الغربية التي يعيشون فيها اليوم. وهذا أمر يجعلهم يشعرون بنوع من عذاب الضمير؛ إذ إن السيد ابن جوريون قال لمؤيدي إسرائيل الذين لم يُبدوا قدرًا كافيًا من التحمس: إذا أردتم الهجرة إلى إسرائيل فسنقدم إليكم المال إذا كنتم على استعداد للمخاطرة بحياتكم وتغيير دياركم من أجل مساعدة إسرائيل. وهذا أمر يشعرهم بتأنيب الضمير، فضلًا عن أن لديهم أيضًا نوعًا من التعلق العاطفي بإسرائيل، كما أن المنظمات الصهيونية مسيطرة عليهم. صحيح أن الصهيونيين العاملين قد يكونون أقليةً في الدول الغربية، ولكن هذه الأقلية منظمة ونشطة إلى أبعد حد، وهي المسيطرة حاليًّا، ومن الصعب على أي يهودي في أي بلد غربي أن يقف في وجه الصهيونية؛ لأنه قد يعاني من ذلك متاعب في عمله وفي حياته الخاصة. وهكذا فإن الطوائف اليهودية في البلاد الغربية عامةً وفي الولايات المتحدة بوجه خاص تقدم بالفعل مساعدةً ماليةً وسياسيةً إلى إسرائيل، وذلك إما بدافع الارتباط العاطفي بإسرائيل، أو نتيجة سيطرة المنظمات الصهيونية عليها. غير أن هناك بعض اليهود الأمريكيين، وأنا أقصد منظمةً اسمها المجلس اليهودي الأمريكي — وهي منظمة أحترمها كثيرًا، إذ إن وقوف أي يهودي في أمريكا ضد الصهيونية يقتضي شجاعةً فائقةً، وهو أمر يدعو إلى الاحترام — هؤلاء اليهود الذين يمثلهم هذا المجلس يخشَون عن حق من أن يؤديَ اندفاع يهود أمريكا دون هوادة في مساعدة إسرائيل إلى إلحاق الضرر بمركزهم ومركز أبنائهم وأحفادهم في الولايات المتحدة، وهي البلد الذي يعتزمون البقاء فيه. وأعتقد أن لهذا القلق ما يبرره، بناءً على تاريخ الولايات المتحدة والوضع فيها؛ فالشعب الأمريكي — على أية حال — معظمه مؤلَّف من مهاجرين من أوروبا، ومن ذريتهم ومَن وفدوا منذ استقلال أمريكا. وقد أدرك الأمريكيون أن من الواجب إدماج هؤلاء المهاجرين إذا شاءوا الاحتفاظ بتماسكهم القومي. وقد ظهر ذلك للأمريكيين بوضوح خلال الحرب الأولى، عندما اكتشفوا أن كثيرًا من الأمريكيين هم من المهجَّنين أو أنصاف الأمريكيين — أعني أمريكيين إنجليزًا أو أمريكيين فرنسيين أو أمريكيين ألمانًا أو سويديين أو إيطاليين — فهم لم يكونوا أمريكيين مائة في المائة في ارتباطاتهم العاطفية، بل وفي ولائهم أيضًا، ولقد أدى ذلك إلى شعور الشعب الأمريكي — عن حق — بالقلق. فهم حساسون لوجود مواطنين أنصاف أمريكيين يتجه ولاؤهم أولًا إلى بلد آخر غير الولايات المتحدة التي اكتسبوا جنسيتها، والتي ينبغي أن يتجه إليها ولاؤهم أولًا. وهكذا فإن ذلك العنصر من يهود أمريكا، الذي يمثله المجلس اليهودي الأمريكي، يخشى من أن اليهود في أمريكا لو وزعوا ولاءهم؛ فسوف يعرِّضون مركزهم في الولايات المتحدة للخطر. وهم يشعرون بأنهم فيما يتعلق بالشئون السياسية أمريكيون مائة في المائة. إنهم يهود من حيث الدين مثلما أن بعض الأمريكيين كاثوليكيون أو برزبيتريون أو معمدانيون، ولكنهم يؤكدون على نحو قاطع أن كون ديانتهم يهوديةً لا يعني دخولهم في أية ارتباطات سياسية مع دولة إسرائيل. حقًّا إن الإسرائيليين — أو على الأصح معظمهم — من اليهود، غير أن هذه رابطة دينية وربما ثقافية، ولكنها ليست سياسيةً بأية حال. هذه الفئة من الطائفة اليهودية في الولايات المتحدة تمثل أقليةً، وهي أقلية مضطهدة. ولكنا نستطيع أن نتوقع انتشار وجهة النظر هذه بين اليهود الأمريكيين بمُضِيِّ الزمن؛ فالجيل الحالي من يهود أمريكا مرتبط عاطفيًّا بإسرائيل لأسباب كثيرة: إذ إن أفراده أولًا يذكرون محنة اليهود على أيدي النازيين، وهم بطبيعة الحال يشعرون بعطف عظيم على اليهود الذين فروا من نير النازية إلى إسرائيل. وفضلًا عن ذلك فكثير من هؤلاء اليهود لهم ارتباطات عائلية بأناس يعيشون في إسرائيل؛ إذ إن في إسرائيل أُسرًا يعيش بعضها هناك وبعضها في فرنسا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة. هذان العاملان يؤديان بطبيعة الحال إلى تقوية الروابط العائلية بين هؤلاء اليهود وبين أقاربهم في إسرائيل في عهد أحفادهم، ويقل بالتالي الارتباط العاطفي، وفي الوقت ذاته فإن الإسرائيليين ينظرون إلى اليهود في أوروبا الغربية والولايات المتحدة بنوع من التعالي الذي يصعب تفسيره؛ إنهم يعتمدون على الأموال الواردة إليهم منهم، ولكنهم في الوقت نفسه يحتقرونهم ولا يخفون احتقارهم لهم، ويؤكدون أن اليهود المتفرقين في أوروبا الغربية لا يخدمون اليهودية في شيء إلا إذا هاجروا وأصبحوا إسرائيليين، وهم يُلِحُّون في تأكيد ذلك كلما قابلوهم. وهكذا فمن الممكن نتيجةً لهذه العوامل أن يقل ارتباط اليهود في إسرائيل بيهود الغرب كثيرًا بُمُضِيِّ الزمن.
وأود في الختام أن أصل إلى النقطة التالية؛ وهي موقف اليهود الشرقيين في إسرائيل. إن هؤلاء اليهود الشرقيين يكوِّنون الآن أغلبية سكان إسرائيل (إن كانت أرقامي صحيحةً). ومعظمهم — وربما كلهم — قد أتَوا من بلاد إسلامية، ولغتهم الأصلية هي العربية. ولقد زُرْتُ أخيرًا قطاع غزة الذي كنت قد زرته منذ سبع سنوات في عام ١٩٥٧م بعد الاحتلال الإسرائيلي للقطاع مباشرةً. وأذكر في المرة السابقة أن بعض اللاجئين أخبروني أنه في أثناء الاحتلال كان بعض الجنود اليهود المتحدثين بالعربية الذين أُجبِروا على التحوُّل إلى اللغة العبرية، كانوا يتسللون إليهم ليلًا لأنهم يَحِنُّون إلى الكلام بالعربية التي ظلت لغتهم الأصلية قرونًا عديدةً. وأنا لم أزُر إسرائيل من قبلُ، ولكني أعتقد، بناءً على ما سمعت أن اليهود الوافدين من أوروبا يعامِلون اليهود الآسيويين والأفريقيين كما لو كانوا — إلى حد ما — مواطنين من الدرجة الثانية. فهم يعاملونهم على أنهم «من السكان الأصليين» بنفس المعنى العتيق الذي كان الأوروبيون منذ وقت غير بعيد يعاملون به شعوب البلاد الآسيوية والأفريقية، بوصفهم من السكان الأصليين. ولا شك في أن إسرائيل تبذل جهودًا ضخمةً لإدماج الأجيال الجديدة من اليهود الشرقيين، على النحو الذي نجحت به أمريكا في إدماج المهاجرين الوافدين إليها من مختلِف البلاد، بحيث يندمجون في قلب الشعب الإسرائيلي، الذي يكوِّنه يهود أوروبا الشرقية. ولكني سمعت أن هذا الجُهد لم ينجح تمامًا. صحيح أن هناك مدارس ممتازةً في إسرائيل، غير أن الأصل العائلي لهؤلاء اليهود الشرقيين مختلف عن اليهود الأوروبيين، وأُسَرهم تقاوم تَقَبُّل هذا التعليم وما يتبعه من اندماج. فإذا ما تسنى لليهود الشرقيين الحصول على مزيد من القوة — وأعتقد أنهم بمُضُي الزمن سيحصلون على مزيد من القوة؛ لأنهم سيحصلون على مزيد من التعليم، وسيكون لكثرتهم العددية تأثيرها — فأظن أنهم سيكونون أكثر تعاطفًا، أولًا مع السكان العرب الإسرائيليين؛ لأنهم مثلهم تقريبًا مواطنون من الدرجة الثانية، وثانيًا مع العرب خارج إسرائيل؛ إذ إن هؤلاء اليهود قد شاطروهم لغتهم وثقافتهم قرونًا عديدةً، إلى حد أن أقنعهم الصهيونيون بالهجرة إلى إسرائيل. ومن الطبيعي أن من الصعب التنبؤ بما سيحدث بدقة؛ فقد ينجح الإدماج بحيث يصبح أبناء أو أحفاد اليهودي اليمني مندمجين مع اليهودي البولندي أو الروسي، هذا أمر لا نعرفه، ولكني لا أظنه محتمل الوقوع.
وهكذا فإن هذه الحركات الداخلية التي تحدث داخل العالم العربي وداخل أمريكا، وداخل إسرائيل، قد تؤدي إلى إحداث تغيير كبير في الوضع في الشرق الأوسط.
وأخيرًا سألخص النقاط التي تحدثت عنها؛ فقد قلت إنه منذ نهاية القرن الثامن عشر أخذ الشرق الأوسط يسترد مكانته المركزية في السياسة العالمية، غير أن احتلال مكانةٍ مركزيةٍ لا يعني بالضرورة احتلال مركز قيادي أو رئيسي. وقلت أيضًا إن دول الشرق الأوسط ستظل في مركز سلبي إلى حد ما، ما لم تتحد هذه الدول ولا سيما العربية. ولو أصبح العرب شعبًا واحدًا لأصبحوا قوةً في العالم، وأرغموا الدول الأخرى على الاهتمام بهم وإنصافهم على نحو ما. وهناك في رأيي ثلاث حركات تؤدي معًا إلى تغيير الموقف الحالي في الشرق الأوسط، ولا سيما الموقف في فِلسطين؛ هي حركة الوحدة المتزايدة بين الدول العربية، وإمكان تخفيف الروابط بين الطائفة اليهودية في أمريكا وبين إسرائيل، وازدياد قوة الأغلبية اليهودية الشرقية داخل إسرائيل.
وأنتم ترون أنني لم أحاول تقديم صورة عامة لمستقبل الشرق الأوسط، أو اقتراح حلول للمشكلات الحالية التي يواجهها الشرق الأوسط، وإنما حاولت أن أعرض عليكم بعض العوامل التي تؤثِّر منذ الآن في الموقف، والتي يمكن أن تؤديَ بعد مُضُي وقت — قد يطول أو يقصر — إلى تغيير الأوضاع في الشرق الأوسط، وجعل المشكلات التي تبدو الآن مستعصيةً قابلةً للحل في المستقبل. وشكرًا لكم.