آثار الشمس الكاذبة

جلس سيتكا تشارلي يُدخن غليونه وهو يُحدق متأملًا في صورة غلاف مَجلة «بوليس جازيت» المعلقة على الحائط. ظل يتأملها بثباتٍ لنصف ساعة، وطَوال هذه النصف ساعة كنتُ أراقبه خلسة. شيء ما كان يدور في ذهنه، ومهما كان، فقد كنت أعلم أنه يستحقُّ المعرفة. إنه رجل عَرَكته الحياة، ورأى الكثير، وأنجز معجزة المعجزات، بتخلِّيه عن شعبه وتحوُّله ليصبح — بقدر ما يستطيع هندي — رجلًا أبيض حتى في طريقة تفكيره. وكما قال هو نفسه، لقد انتقل إلى الدفء، وجلس بيننا، بجوار نيراننا، وأصبح واحدًا منَّا. لم يكن قد تعلَّم القراءة ولا الكتابة قط، ولكن مفرداته كانت رائعة، والأكثر لفتًا للنظر هو قُدرته التامة على تَلَبُّس وجهة نظر الرجل الأبيض وموقفه تجاه الأشياء.

كنا قد وصلنا إلى هذا الكوخ المهجور بعد يومٍ شاقٍّ على الطريق. كانت الكلاب قد أُطْعِمَت، وكانت أطباق العشاء قد غُسِلَت، وكانت الأسِرَّة قد رُتِّبَت، وكنا الآن نستمتع بالساعة الأكثر لذةً التي تأتي كل يوم، ولكن مرة واحدة فقط في اليوم، على طريق ألاسكا؛ الساعة التي لا يَحُول فيها بين الجسد المتعب والفراش إلا تدخين الغليون المسائي. كان بعض سكان الكوخ السابقين قد زيَّنوا جدرانه بصورٍ منزوعة من المجلَّات والصحف، وكانت هذه الصور هي ما جذب انتباه سيتكا تشارلي منذ لحظة وصولنا قبل ساعتَين. كان قد تفحَّصها بعناية، مُنتقلًا من واحدة لأخرى ثم يُعاود الفحص ثانيةً، وبدا لي واضحًا أن ذهنه كان في حالةٍ من عدم اليقين والحيرة.

«حسنًا؟» هكذا كسرتُ الصمت أخيرًا.

أخرج الغليون من فمه وقال ببساطة: «لا أفهم.»

دخَّن مرة أخرى، ثم أخرج الغليون من فمه ثانيةً وأشار به إلى صورة غِلاف مجلة «بوليس جازيت».

وقال: «هذه الصورة، ماذا تعني؟ لا أفهم.»

نظرتُ إلى الصورة. كانت لرجلٍ ذي وجه شرير للغاية، يدُه اليمنى ضاغطة بشدة على قلبه وهو يسقط إلى الخلف على الأرض. وفي مقابلِه، رجل بوجهٍ يجمع بين ملامح ملاكٍ مُهْلِكٍ وأدونيس، إله الخصب والنماء، يحمل مسدسًا يتصاعد منه الدخان.

قلتُ وأنا أُدرك حيرتي الواضحة وعدم قُدرتي على التفسير: «رجلٌ يقتل الرجل الآخر.»

سأل سيتكا تشارلي: «لماذا؟»

أقررت، قائلًا: «لا أعرف.»

قال سيتكا: «هذه الصورة عبارة عن نهاية. ليس لها بداية.»

- «إنها الحياة.»

اعترض قائلًا: «الحياة لها بداية.»

أسكتني تعليقُه للحظةٍ بينما كانت عيناه تنتقلان إلى صورةٍ أخرى مجاورة، وهي نسخة فوتوغرافية صنعها شخصٌ ما من لوحة «ليدا والبجعة».

قال سيتكا: «تلك الصورة ليس لها بداية. وليس لها نهاية. أنا لا أفهم الصور.»

وجهته مُشيرًا إلى صورة ثالثة: «انظر إلى تلك الصورة. إنها تعني شيئًا، أخبِرني ماذا تعني لك.»

تأمَّلها لعدة دقائق.

قال أخيرًا: «الفتاة الصغيرة مريضة. ذاك الذي ينظر إليها هو الطبيب. لقد ظلا مُستيقظين طوال الليل؛ انظر، الزيت قليل في المصباح، وأول شعاع من ضوء الصباح يأتي من النافذة. إنه مرَض شديد، ربما ستموت، ولهذا ينظر الطبيب إليها بتمعُّن. هذه هي الأم. إنه مرَض شديد، لأن رأس الأم على الطاولة وهي تبكي.»

قاطعته قائلًا: «كيف عرَفت أنها تبكي؟ لا يُمكنك رؤية وجهها. ربما تكون نائمة.»

نظر إليَّ سيتكا تشارلي سريعًا وهو مندهش، ثم عاد ينظر إلى الصورة. وكان من الواضح أنه لم يفكر في هذا الانطباع المختلف.

كرَّر قائلًا: «ربما تكون نائمة.» تأمَّل الصورة عن كثَب وأكمل: «لا، ليست نائمة. الأكتاف تُظهر أنها ليست نائمة. لقد رأيتُ أكتاف امرأة تبكي. الأم تبكي. إنه مرض شديد جدًّا.»

صحتُ: «والآن فهمتَ الصورة.»

فهز رأسه إيجابًا، وسأل: «الفتاة الصغيرة، هل تموت؟»

جاء دوري لأصمت.

كرَّر: «هل تموت؟ إنك رسام. ربما تعرف.»

أقررتُ قائلًا: «لا، لا أعرف.»

عبر تشارلي عن اعتقاده الراسخ بقوة: «إنها ليست الحياة. في الحياة، ستموت الفتاة الصغيرة أو تُشفى. في الحياة يحدُث شيءٌ ما. في الصورة، لا شيء يحدُث. لا، أنا لا أفهم الصور.»

كانت خيبة أملِه واضحة. خيبة أمل تنبع من رغبته في فهم كل الأشياء التي يفهمها الرجل الأبيض، وهنا، في هذه المسألة، فشل تشارلي في ذلك. وشعرت أيضًا بتحدٍّ في سلوكه. لقد كان عازمًا على إقناعي بأن أُبَيِّنَ له الحكمة الموجودة في الصور. علاوة على ذلك، كان يتمتع بقدراتٍ رائعة على التصوُّر. كنت قد استغرقت وقتًا طويلًا حتى تعلمت هذا. كان يتصوَّر كل شيء. كان يرى الحياة في صور، ويشعر بالحياة في صور، ويُعممها في صور؛ ومع ذلك، لم يفهم الصور التي تُرى بعيون أناسٍ آخرين ويعبرون عنها بألوانهم وخطوطهم على نسيج اللوحات الزيتية.

قلت: «الصور لمحات من الحياة. نحن نرسم الحياة كما نراها. على سبيل المثال، يا تشارلي، أنت قادم على طول الطريق ليلًا. ترى كوخًا. والنافذة مضاءة. تنظر عبر النافذة لثانيةٍ أو اثنتَين، فترى شيئًا ما، وتمضي في طريقك. ربما رأيتَ رجلًا يكتب رسالة. رأيتَ شيئًا بدون بدايةٍ أو نهاية. لم يحدُث شيء. ومع ذلك، فقد رأيتَ لمحةً من الحياة. تتذكرها بعد ذلك. تكون مثل صورةٍ انطبعت في ذاكرتك، والنافذة هي إطار الصورة.»

كنتُ أرى أنه كان مُهتمًّا، وعرَفت أنه بينما كنت أتحدث، نظر من خلال النافذة وتخيَّل أنه رأى الرجل يكتب الرسالة.

وقال: «هناك صورة رسمتَها وأنا أفهمها. إنها صورة حقيقية. وتحمل معنًى كبيرًا. إنها في كوخك في داوسون. إنها طاولة لعبة المقامرة فارو. هناك رجال يلعبون. إنها لعبة كبيرة. ولا يوجد سقف للرِّهان.»

سارعتُ قائلًا بحماس: «كيف عرَفت بعدم وجود سقف للرِّهان؟» إذ وجدت أنها فرصة للحُكم على عملي أمام قاضٍ غير مُتحيز كان يعرف الحياة فقط، لا الفن، وأستاذًا كبيرًا وبارعًا في الواقع ومُعطياته. كما أنني كنتُ فخورًا بشدة بهذا العمل بالذات. كنتُ قد أطلقتُ عليه اسم «الدور الأخير»، وأعتقد أنه أحد أفضل الأعمال التي رسمتُها على الإطلاق.

أوضح سيتكا تشارلي: «لا تُوجَد فيشات لعب على الطاولة. الرجال يلعبون ببطاقات الرِّهان النحاسية. وهذا يعني أنه لا يُوجَد سقف للرِّهان. أحد الرجال يلعب ببطاقات الرِّهان الصفراء، قد تساوي بطاقة رِهانٍ صفراءُ واحدةٌ ألفَ دولار، وربما ألفي دولار. ورجل آخر يلعب ببطاقات الرهان الحمراء. ربما تساوي قيمتها خمسمائة دولار، وربما ألف دولار. إنها لعبة كبيرة جدًّا. والكل يراهن بمبالغ كبيرة بلا سقف للرهان. كيف أعرف هذا؟ لقد أضفيتَ القليل من حُمرة الترقُّب على وجه موزع أوراق اللعب.» (سُررتُ بفهمه.) «لقد جعلتَ مُراقب المُراهنات مائلًا إلى الأمام في كرسيه. لماذا ينحني إلى الأمام؟ لماذا وجهه هادئ جدًّا؟ لماذا تبرق عيناه بشدة؟ لماذا يظهر القليل من الحُمرة على وجه موزع أوراق اللعب؟ لماذا كل الرجال هادئون للغاية؟ الرجل ذو البطاقات الصفراء، والرجل ذو البطاقات البيضاء، والرجل ذو البطاقات الحمراء، لماذا كلهم هادئون؟ لماذا لا يتحدَّث أحد؟ لأن المبالغ كبيرة جدًّا. لأنه آخر دور في اللعبة.»

سألته: «كيف تعرف أنه الدور الأخير؟»

فأجاب: «لقد وُضِعَ رِهان على الملك ببطاقة رهانٍ نُحاسية، والسبعة مكشوفة. لا يراهن أحد على بطاقات أخرى. كل البطاقات الأخرى غير موجودة. كلهم في حالة تركيز شديد. كلهم يلعبون بطاقة الملك للخسارة والسبعة للفوز. ربما يخسر البنك عشرين ألف دولار، وربما يفوز. أجل، إنني أفهم تلك الصورة.»

صحتُ منتصرًا: «ومع ذلك لا تعرف النهاية! إنه الدور الأخير، ولكن الأوراق لم تُكْشَف بعد. وفي الصورة لن تُكْشَفَ أبدًا. لن يعرف أي شخصٍ أبدًا من يفوز ومن يخسر.»

قال وقد بدا على وجهه العجب والرهبة: «وسيجلس الرجال هناك ولا يتحدَّثون أبدًا. وسيظل المُراقب مائلًا إلى الأمام، وسيظل وجه موزع أوراق اللعب تعلوه الحمرة. إنه شيء غريب. سيجلسون هناك دائمًا، دائمًا، ولن تُكْشَف الأوراق أبدًا.»

قلتُ: «إنها صورة. إنها الحياة. لقد رأيتَ بنفسك أشياء مثلها.»

نظر إليَّ وفكَّر مليًّا، ثم قال ببطءٍ شديد: «لا، كما تقول، لا نهاية للصورة. لن يعرف أحد النهاية أبدًا. ومع ذلك، هي شيء حقيقي. لقد رأيتها. إنها الحياة.»

ظل لفترةٍ طويلة يُدخن في صمت، ويتأمَّل حكمة الرجل الأبيض فيما يتعلق بالصور، ويتحقق من صحتها بالرجوع إلى حقائق الحياة. أومأ برأسه عدة مرات، وهَمْهَم مرة أو اثنتَين. ثم أزال رماد التبغ من غليونه، وأعاد ملْأَه بعناية، وبعد فترة توقُّف للتفكير، أشعله مرة أخرى.

أخذ يقول: «لقد رأيتُ أيضًا العديد من صور الحياة، صور غير مرسومة، ولكن تُرى بالعين. لقد شاهدتها كما لو كنت أنظر من خلال النافذة إلى الرجل الذي يكتب الرسالة. لقد رأيتُ الكثير من لمحات الحياة، بلا بداية ولا نهاية، وبلا فهم.»

بتغييرٍ مفاجئ في موقفه، أدار عينَيه نحوي بالكامل وأمعن النظر إليَّ.

وقال: «انظر، إنك رسام. لا أعرف كيف سترسُم هذه الصورة التي رأيتها، صورة بلا بداية، ونهايتها لا أفهمها، لمحة من الحياة تحلُّ فيها الأضواء الشمالية محل شمعة، وألاسكا محل إطار صورة.»

تمتمتُ قائلًا: «إنها لوحة كبيرة.»

لكنه تجاهلني، فالصورة التي ارتسمت في ذهنه كانت حاضرةً أمام عينَيه وكأنه يراها متجسدة.

وقال: «هناك أسماء كثيرة لهذه الصورة. ولكن في الصورة هناك العديد من الشموس الكاذبة، ويتبادر إلى ذهني أن أُسميها «آثار الشمس الكاذبة». كان هذا منذ وقتٍ طويل، منذ سبع سنوات، في خريف عام ١٨٩٧، عندما رأيتُ المرأة لأول مرة. في بُحيرة ليندرمان كان لديَّ زورق واحد، زورق جيد جدًّا من نوع بيتربورو. جئت عبر «مسار تشيلكوت» ومعي ألفا رسالةٍ لداوسون. كنت ساعي بريد. يُهرع الجميع إلى كلوندايك في ذلك الوقت. يكون الكثير من الناس على الطريق. يقطع الكثير من الناس الأشجار ويصنعون القوارب. إنها آخر فرصة لاستغلال الماء قبل تجمُّده، تتكاثف الثلوج في الهواء، والجليد على الأرض، وعلى البحيرة والنهر، وفي دوَّامات الماء. كل يوم تزداد الثلوج، ويزداد الجليد. قد يستغرق الأمر يومًا أو ثلاثة أيام، وربما ستة، قد يحلُّ الجليد تمامًا في أي يومٍ بحيث تختفي المياه بالكامل، ويُغطي الجليد كل شيء، ويسير الجميع، المسافة إلى داوسون ستمائة ميل، وهو ما سيتطلَّب السير لفترةٍ طويلة. القارب سريع جدًّا. لذا يرغب الجميع في الانتقال بالقارب. يقول الجميع لي: «تشارلي، خُذني في القارب وسأدفع لك مائتي دولار … تشارلي، سأدفع لك ثلاثمائة دولار … تشارلي، سأدفع لك أربعمائة دولار.» وأنا أرفض، أرفض طوال الوقت. أنا ساعي بريد.

في الصباح، وصلتُ إلى بحيرة ليندرمان. كنت أمشي طوال الليل وكنتُ متعبًا للغاية. طبختُ وجبة الإفطار وأكلتُ، ثم نمتُ على الشاطئ لمدة ثلاث ساعات. استيقظتُ الساعة العاشرة. وكانت الثلوج تتساقط. وكانت الرياح تهب، رياح قوية تهب باعتدال وانتظام. كما كانت هناك امرأة تجلس في الثلوج بالجوار. كانت امرأةً بيضاء، شابة، جميلة جدًّا، ربما كانت تبلُغ من العمر عشرين أو خمسة وعشرين عامًا. تبادلنا النظرات. بدت متعبة جدًّا. لم تكن عاهرة. لقد رأيتُ ذلك على الفور. كانت امرأةً صالحة، وكانت متعبةً جدًّا.

قالت: «أنت سيتكا تشارلي؟» نهضتُ سريعًا وطَبَّقتُ البطانيات حتى لا يدخل فيها الثلج. قالت: «إنني ذاهبة إلى داوسون، وأريد الذَّهاب في قاربك، كم سيُكلفني ذلك؟»

لم أرغب في اصطحاب أحد في قاربي. ولم أكن أُحب أن أرفض. لذا قلت لها: ألف دولار. كنتُ أقول ذلك مازحًا فحسب حتى لا تتمكن المرأة من القدوم معي، فهذا أفضل بكثيرٍ من أن أرفض. حدَّقت بي مليًّا، ثم قالت: «متى ستتحرك؟» فقلت لها: على الفور. وافقت وقالت إنها ستُعطيني ألف دولار.

ماذا يُمكنني أن أقول؟ لم أكن أريد اصطحابها، ومع ذلك كنتُ قد قطعتُ وعدًا أنه يمكنها القدوم مقابل ألف دولار. كنتُ متفاجئًا. ربما كانت تمزح أيضًا، فقلتُ لها: «دعيني أرَ الألف دولار.» فأخرجت تلك المرأة الشابة، التي كانت وحدَها تمامًا وسط الثلوج، ألف ورقةٍ خضراء ووضعتها في يدي. نظرتُ إلى المال، ثم نظرت إليها. ماذا يمكنني أن أقول؟ رفضتُ وقلتُ لها إن قاربي صغير جدًّا، وإنه ليس هناك مكان لحقائب الملابس. ضَحِكَتْ ثم قالت: «إنني مسافرة مخضرمة. هذه هي ملابسي.» رَكَلَتْ حقيبةً واحدةً صغيرةً في الثلج. كانت الحقيبة عبارة عن حبلين من الفرو ومصنوعة من القماش من الخارج، وبداخلها بعض الملابس النسائية. حملتُ الحقيبة التي كان وزنها حوالي خمسة وثلاثين رطلًا، واندهشتُ. أخذَتْها مني وقالت: «تعال، لننطلق.» حَمَلَتِ الحقيبة ووَضَعَتْها في القارب. ماذا يُمكنني أن أقول؟ وضعت بطانياتي في القارب وانطلقنا.

وهكذا رأيتُ هذه المرأة لأول مرة. كانت الرياح معتدلة. فرفعتُ شراعًا صغيرًا. انطلق القارب بسرعة كبيرة جدًّا، طار كأنه طائر يحلق فوق الأمواج العالية. كانت المرأة خائفةً بشدة. سألتها قائلًا: «لماذا أتيتِ إلى كلوندايك وأنتِ خائفة جدًّا هكذا؟» ضحكت لي ضحكةً قوية، ولكنها كانت لا تزال خائفة بشدة. كما أنها كانت متعبة للغاية. مضيتُ بالقارب عبر منحدرات النهر إلى بحيرة بينيت. كانت المياه سيئةً للغاية، وصرخت المرأة لأنها كانت خائفة. أبحرنا عبر بحيرة بينيت، حيث الثلج والجليد والرياح العاصفة، ولكن مِن شدة تعبها، خلدت المرأة إلى النوم.

في تلك الليلة، خيَّمنا في منطقة ويندي آرم. جلست المرأة بجوار النار وتناولَت العشاء. نظرت إليها. كانت جميلة. رَتَّبَتْ شعرها. كان شعرها كثيفًا وبُنيًّا، وفي بعض الأحيان كان يبدو مثل الذهب في ضوء النار عندما تدير رأسها فيصدر منه بريق وكأنه نار ذهبية. كانت عيونها كبيرة وبُنية، أحيانًا تكون دافئة مثل شمعةٍ مُستترة خلف ستار، وأحيانا قاسية جدًّا وبرَّاقة مثل الجليد المتكسر عندما يتلألأ بعدما يتعرض لضياء الشمس. عندما تبتسِم — كيف يُمكنني أن أقول ذلك؟ — عندما تبتسم كنتُ أعرف أن الرجل الأبيض سيرغب في تقبيلها، هكذا بكلِّ بساطة، عندما تبتسم. بدا لي أنها لم تؤدِّ أي عملٍ شاقٍّ مطلقًا. فقد كانت يداها ناعمتَين مثل يد طفل. كان جسدها كله ناعمًا كالأطفال. لم تكن نحيفة، ولكنها مُدورة مثل طفل. ذراعها وساقها وعضلاتها، كانت كلها ناعمة ومستديرة مثل طفل. كان خصرها صغيرًا، وعندما كانت تقف وتمشي، أو تُحرك رأسها أو ذراعها، كانت — لا أعرف كيف أعبر — ولكن كان من اللطيف النظر إليها، مثل — ربما أقول إنها كانت مَبنية على هيكل مثل هيكل زورق جيد، هكذا فحسب، وعندما كانت تتحرك، كانت حركتها تُشبه حركة الزورق الجيد الذي ينساب عبر المياه الساكنة، أو يقفز عبر المياه عندما تكون مزبدة وسريعة وهائجة. كانت رؤيتها تسرُّ الناظرين.

لِمَ أتت إلى كلوندايك وحدَها تمامًا ومعها الكثير من المال؟ لا أعلم. في اليوم التالي سألتها. ضحكت وقالت: «سيتكا تشارلي، هذا ليس من شأنك. لقد أعطيتُك ألف دولار لتأخذني إلى داوسون. هذا هو شأنك الوحيد.» في اليوم التالي بعدما سألتها عن اسمِها، ضحكت وقالت: «ماري جونز، هذا هو اسمي.» لستُ متأكدًا، ولكنني كنتُ أعرف طيلة الوقت أن اسمَها ليس ماري جونز.

كان الجو قارس البرودة في القارب، وبسبب البرودة كانت تشعر بالإعياء أحيانًا. وأحيانًا تكون في حالة جيدة وتُغنِّي. كان صوتها يُشبه صوت جرسٍ فِضي، وكان يعتريني شعور جيد مثل ما أشعر به عندما أكون في كنيسة «إرسالية هولي كروس»، وعندما كانت تُغني كنت أشعر بالقوة تدبُّ في أوصالي، فأجدف بنشاطٍ شديد. فتضحك وتقول: «هل تظن أننا سنصِل إلى داوسون قبل أن نتجمَّد يا تشارلي؟» أحيانًا كانت تجلس في القارب ويشرد ذهنها وتخلو عيناها من التعبير. كأنها لا تراني ولا ترى الثلوج ولا الجليد، وكأن أفكارها كانت في مكانٍ بعيد. كانت هكذا في كثيرٍ من الأحيان، شاردة الذهن. في بعض الأحيان، عندما تكون شاردة الذهن، كانت رؤية وجهها لا تسرُّ. فقد كان يبدو غاضبًا، كوجهِ رجلٍ يرغب في قتل رجلٍ آخر.

كان اليوم الأخير في طريقنا إلى داوسون سيئًا للغاية. انتشر الجليد المُتكوِّن عند الشاطئ في كل دوَّامات المياه، وقِطَع الجليد الكثيفة المتكسرة في مجرى النهر. لم أستطع التجديف. تجمَّد القارب، وكنتُ لا أستطيع الوصول إلى الشاطئ. كان يُحدِق بنا خطر كبير. طوال الوقت كنا نبحر مع تيار نهر يوكون في وسط الجليد. في تلك الليلة كان ثمة الكثير من الضجيج من احتكاك الجليد بالقارب. ثم توقف الجليد، وتوقف القارب، وتوقف كل شيء. قالت المرأة: «دعنا نذهب إلى الشاطئ.» رفضتُ وقلتُ لها إنه من الأفضل الانتظار. مع مرور الوقت، بدأ كل شيءٍ في التدفُّق مع التيار مرة أخرى. كان هناك الكثير من الثلوج، وكنت أعجز عن رؤية أي شيء. في الساعة الحادية عشرة ليلًا، توقف كل شيء. في الساعة الواحدة بدأ كل شيءٍ يتحرك من جديد. في الساعة الثالثة توقف كل شيء. تحطم القارب مثل قشر البيض، ولكنه كان فوق الجليد ولا يمكن أن يغرَق. سمعتُ عواء الكلاب. انتظرنا. ثم خلدنا إلى النوم. مرَّ الوقت وحلَّ الصباح. وبحلول الصباح توقَّف تساقُط الثلوج، وعمَّ الجليد، وكانت داوسون أمامنا. تحطم القارب وتوقف عند داوسون مباشرةً. لقد وصل سيتكا تشارلي حاملًا معه ألفَي رسالة على آخر تيار من النهر قبل تحوُّله إلى جليد.

استأجرتِ المرأة كوخًا على التل، ولم أرها لأسبوع. ثم في أحد الأيام، أتت إليَّ وقالت: «تشارلي، هل ترغب في العمل لديَّ؟ تقود الكلاب وتُخَيِّم، وتُسافر معي.» قلت: إنني أجني الكثير من المال من نقل الرسائل، فقالت: «سأدفع لك أكثر يا تشارلي.» أخبرتُها أن عمَّال المناجم الذين يقومون بالأعمال الشاقة يتقاضَون خمسة عشر دولارًا يوميًّا، فقالت: «أي أربعمائة وخمسين دولارًا شهريًّا.» أجبتها قائلًا: «سيتكا تشارلي ليس عامل منجم.» فقالت: «أفهم ذلك يا تشارلي. سأُعطيك سبعمائة وخمسين دولارًا كل شهر.» إنه راتِب جيد، فذهبتُ للعمل لدَيها. اشتريتُ لها الكلاب والزلَّاجات. وسافرنا إلى كلوندايك، وبونانزا، وإلدورادو، ونهر إنديان ريفر، ونبع سَلْفَر كريك، ودومينيون، ثم عدنا مرةً أخرى عبر حاجز جولد بوتوم المائي وتو ماتش جولد، ثم عُدنا إلى داوسون. طوال الوقت كانت تبحث عن شيءٍ ما، لا أعرف ما هو. كنتُ محتارًا. سألتها: «عمَّ تبحثين؟» فضحِكت. وسألتها: «هل تبحثين عن الذهب؟» فضحكت ثانيةً. ثم قالت: «هذا ليس من شأنك يا تشارلي.» وبعد ذلك لم أسأل مُجددًا.

كان معها مُسدس صغير تحمِله في حزامها. وفي بعض الأحيان، كانت تتدرَّب على استخدام المسدس ونحن على الطريق. ضحكتُ، فسألتني: «لماذا تضحك يا تشارلي؟» فأجبت: «لماذا تعبثين بهذا المسدس؟ إنه بلا جدوى. إنه صغير جدًّا. إنه لعبة صغيرة للأطفال.» عندما عُدنا إلى داوسون طلبت منِّي أن أشتري لها مُسدسًا جيدًا، فاشتريتُ مُسدس كولت ٤٤. كان ثقيلًا جدًّا، ولكنها كانت تحمِله في حزامها طوال الوقت.

وفي داوسون جاء إليها رجل. لا أعرف من أي طريقٍ أتى. كل ما أعرفه أنه «تشيكا كو» في لُغتنا؛ ما تُسمُّونه أنتم: غِرٌّ. كانت يداه ناعمتَين، تمامًا مثل يدَيها. لم يضطلع بأي عملٍ شاقٍّ على الإطلاق. كان مظهره كله ناعمًا. في البداية ظننتُ أنه ربما يكون زوجها. لكنه كان صغير السن جدًّا. كما أنهما كانا ينامان في سريرين منفصلَين ليلًا. ربما كان يبلغ من العمر عشرين عامًا. كانت عيناه زرقاوين، وكان أشقر، وله شارب صغير أشقر. اسمه جون جونز. ربما كان شقيقَها. لا أعرف. لم أعُد أطرح أي أسئلة. ولكنني أظن أن اسمه ليس جون جونز. كان أشخاصٌ آخرون يدعونه بالسيد جيرفان. لا أظن أن هذا هو اسمه. ولا أظن أن اسمها هو الآنسة جيرفان، كما يُناديها الآخرون. أظن أن لا أحد يعرف اسمَيهما.

في إحدى الليالي كنتُ نائمًا في داوسون. أيقظني، وقال: «جهِّز الكلاب؛ سننطلق.» لم أعُد أطرح الأسئلة، لذا جهزتُ الكلاب وتحركنا. اتجهنا في اتجاه مصبِّ نهر يوكون. كان الوقت ليلًا، في شهر نوفمبر، والجو قارس البرودة إذ وصلت درجة الحرارة إلى خمسةٍ وستِّين درجة تحت الصفر. كانت رقيقة. وكان هو الآخر رقيقًا. اشتدت البرودة القارسة. فأُنهِكا. بكيا في صمتٍ وأنفاسهما لاهثة. قلت لهما مرارًا وتكرارًا إنه من الأفضل أن نتوقف وننصب مخيمًا. ولكنهما قالا إنهما سيستمران. قلت لهما ثلاث مرات إنه من الأفضل أن ننصب مخيمًا ونرتاح، ولكن في كل مرة كانا يقولان إنهما سيستمران. لم أقل شيئًا بعد ذلك. بقينا على هذه الحال طوال الوقت، ويومًا بعد يوم. كانا رقيقين جدًّا. أُصيبا بالتصلُّب والتقرُّح. فهما لم يكونا على درايةٍ بأحذية «المقسين»، وآلمَتْهُما أقدامُهما بشدة. كانا يعرجان ويترنحان مثل السكارى، ويبكيان في صمت؛ ويقولان طوال الوقت: «أوه! هيا، هيا، سنواصل المسير!»

كانا مثل المجانين. واصلا السير طوال الوقت، بلا توقف. لماذا واصلا السير؟ لا أعرف. لقد واصلا السير فحسب. ما الذي كانا يبحثان عنه؟ لا أعرف. لم يكونا يسعيان وراء الذهب. فلم يكن يُوجَد تكالب جماعي نحو مكانٍ بعينه بحثًا عن الذهب. علاوة على ذلك، كانا يُنفقان الكثير من المال. ولكنَّني لم أعُد أطرح الأسئلة. واصلت السير أنا أيضًا بلا توقف، لأنني قويٌّ ومُعتاد على الطريق، كما أنني كنتُ أتقاضى أجرًا كبيرًا.

وصلنا إلى سيركل سيتي. ما كانا يبحثان عنه لم يجداه. ظننتُ أننا سنتوقف لنستريح، ونُريح الكلاب. ولكننا لم نسترِح، لم نسترِح ولا ليومٍ واحد. قالت المرأة للشاب: «هيا، دعنا نواصل.» وواصلنا السير. غادرنا يوكون. عبرنا الحاجز المائي إلى الغرب واتَّجهنا نحو منطقة تانانا. كانت هناك عمليات حفر وتنقيب جديدة. ولكن ما كانا يبحثان عنه لم يكن هناك، فأخذنا مسار العودة إلى سيركل سيتي.

كانت رحلة شاقة. كان شهر ديسمبر قد انتهى تقريبًا. كانت الأيام قصيرة، والبرودة قارسة. وفي صباح أحد الأيام وصلت درجة الحرارة إلى سبعين درجة تحت الصفر. قلتُ لهما: «من الأفضل ألا نُسافر اليوم، وإلا فالصقيع الذي سنتنفَّسه سيضر رئاتنا ضررًا بالغًا. بعد ذلك سنُعاني من سعالٍ شديد، وفي الربيع المقبل قد نُصاب بالتهاب رئوي.» ولكنهما «تشيكا كو». لم يكونا يفهمان الطريق. كانا كالموتى من شدة التعب، ولكنهما أصرَّا على المواصلة، فواصلنا. أصابت عضَّة الصقيع رئتَيهما، فأُصيبا بالسعال الجاف. سعَلا حتى سالت الدموع على وجناتهما. أثناء قلي لحم الخنزير المُقدَّد، كانا يهربان بعيدًا عن النار ويسعُلان لمدة نصف ساعةٍ في الثلج. تجمَّدت وجناتهما قليلًا، وتحول الجلد إلى اللون الأسود وصار مُتقرحًا للغاية. كما تجمَّد إبهام الرَّجُلِ كله حتى كاد ينقطع، وهو ما أجبَرَه على ارتداء إصبع كبير فوق قفازه ليُبقِيَه دافئًا. وأحيانًا، عندما كان يُصاب بعضة صقيع شديدة ويصير الإبهام باردًا جدًّا، كان يخلع القفاز ويضع يدَه بين ساقَيه ملاصِقة للجلد، حتى يُدفئ إبهامَه مرةً أخرى.

اتجهنا نحو سيركل سيتي وهما يسيران بشق الأنفس، وحتى أنا، سيتكا تشارلي، كنتُ أشعر بالتعب. إنها ليلة عيد الميلاد. رقصتُ وشربت، وقضيتُ وقتًا مُمتعًا، لأن غدًا كان يوم عيد الميلاد المجيد وسنرتاح. ولكن ذلك لم يحدُث. كانت الساعة الخامسة صباحًا، صبيحة يوم عيد الميلاد المجيد. وكنتُ قد خلدتُ إلى النوم منذُ ساعتَين فقط. وقف الرجل بجوار سريري وقال: «هيا يا تشارلي، ضع اللجام على الكلاب. سنتحرك.»

ألم أقل إنني لن أطرح الأسئلة مطلقًا؟ كانا يدفعان لي سبعمائة وخمسين دولارًا كل شهر. كانا ربَّيْ عمَلي. وكنتُ أفعل ما يأمُراني به. لو قالا لي: «هيا يا تشارلي، سننطلق إلى الجحيم»، سأضع اللجام على الكلاب، وأضْرِبُ بالسوط، وأتَّجه إلى الجحيم. لذا، وضعتُ اللجام على الكلاب، وانطلقنا مع تيار نهر يوكون. إلى أين سنذهب؟ لم يقولا شيئًا سوى: «استمر! استمر! سنستمر!»

كانا مُرهقَين للغاية. لقد قطعا مئات الأميال، وكانا لا يُدركان مشاق الطريق. علاوة على ذلك، كانا يُعانيان من سعالٍ سيئٍ للغاية؛ السعال الجاف الذي يجعل الرجال الأقوياء يَسُبون ضيقًا والضعفاء يبكون هوانًا. ولكنهما استمرَّا. استمرَّا كل يوم. لم يُريحا الكلاب مطلقًا. واشتريا كلابًا جديدة باستمرار. عند كل نقطة تخييم، في كل موقع، في كل قريةٍ هندية، كانا يستغنيان عن الكلاب المُتعبة ويستخدِمان كلابًا جديدة. كان لديهما الكثير من المال، مال لا ينتهي، وكانا يُنفقانه وكأنهما يسكبان الماء. هل كانا مَعتوهَين؟ أحيانًا أظن ذلك، إذ كان بداخلهما شيطان يدفعهما إلى الاستمرار دون توقُّف. ما الذي كانا يُحاولان العثور عليه؟ إنه ليس الذهب. لم يحفرا في الأرض مطلقًا. فكرت طويلًا. ثم فكرت في أنهما يُحاولان العثور على رجلٍ ما. ولكن أي رجل؟ لم نرَ هذا الرجل مطلقًا. ومع ذلك فقد كانا كذئبَين يُطاردان فريسة. ولكنهما ذئبان مُضحكان، ذئبان رقيقان، ذئبان صغيران لا يفهمان مشاقَّ الطريق. كانا يَبكيان بصوتٍ عالٍ أثناء نومِهما ليلًا. ويئنَّان ويتأوَّهان ألمًا من شدة التعب. وفي النهار، وهما يترنَّحان على الطريق، كانا يبكيان في صمت. كانا ذئبَين مُضحكين.

تجاوزنا فورت يوكون. وتجاوزنا فورت هاملتون. ثم تجاوزنا مينوك. حل شهر يناير وكاد أن ينتهي. كان النهار قصيرًا جدًّا. في الساعة التاسعة يأتي ضوء النهار. وفي الساعة الثالثة عصرًا يحل الليل. وكان الجو باردًا. وحتى أنا، سيتكا تشارلي، كنتُ أشعر بالتعب. هل سنستمر هكذا إلى الأبد بلا نهاية؟ لم أكن أعرف. ولكنني دائمًا كنت أبحث في الطريق عما كانا يُحاولان العثور عليه. كان هناك عدد قليلٌ من الأشخاص على الطريق. وأحيانًا كنا نقطع مائة ميلٍ ولا نرى أي علامة على الحياة. كان الطريق هادئًا جدًّا. كان السكون يَعُمُّه. أحيانًا كانت تتساقط الثلوج، ونكون مثل الأشباح الهائمة. وأحيانًا يكون الجو صافيًا، وفي منتصف النهار تطلُّ علينا الشمس للحظةٍ من فوق التلال إلى الجنوب. تتوهَّج الأضواء الشمالية في السماء، وتتراقَص الشموس الكاذبة، ويمتلئ الهواء بغبار الصقيع.

أنا سيتكا تشارلي، رجل قوي. لقد ولدتُ على الطريق، وعشتُ حياتي كلها عليه. ومع ذلك فقد أصابني هذان الذئبان الصغيران بالتعَب الشديد. صرتُ هزيلًا مثل قطةٍ جائعة، وأسعد بالخلود إلى فراشي ليلًا، وفي الصباح أشعر بالإنهاك الشديد. ومع ذلك، لم نتوقَّف عن السير على الطريق في الظلام قبل بزوغ ضوء النهار، وكنا نظلُّ على الطريق بعد أن يحلَّ الظلام. يا لهذان الذئبان الصغيران! بينما كنتُ هزيلًا مثل قطةٍ جائعة، كانا هزيلَين كقطتَين لم تأكُلا قطُّ وماتتا من الجوع. كانت أعينُهما غائرة في محاجرها، تلمع أحيانًا كمن أصابته الحمى، وخاوية من التعبير وغائمة في أحيانٍ أخرى مثل عيون الموتى. كانت وجناتهما مجوَّفة مثل كهوف جرف منحدر. كما كانت سوداء اللون وخشنة من كثرة التجمُّد. أحيانًا كانت المرأة هي من تقول في الصباح: «لا أستطيع النهوض. لا أستطيع الحركة. دعني أموت.» فكان الرجل يقِف بجانبها ويَحثُّها على النهوض قائلًا: «هيا، لنواصل.» ويُواصلان. وأحيانًا أخرى يكون الرجل هو الذي لا يستطيع النهوض، فتحثُّه المرأة على النهوض والمواصلة. ولكن الشيء الوحيد الذي كانا يفعلانه، ويفعلانه دائمًا، هو مواصلة التقدم.

في بعض الأحيان، عند الوصول إلى المحطات التجارية، كان الرجل والمرأة يتلقَّيان رسائل. لا أعرف محتوى الرسائل. ولكنهما كانا يتبعان الرائحة، وكانت هذه الرسائل نفسها هي الرائحة. ذات مرةٍ أعطاهما هندي رسالة. وتحدثتُ معه على انفراد. فقال: إن رجلًا بعينٍ واحدة هو الذي أعطاه الرسالة، وهو رجل يُسافر بسرعة مع تيار نهر يوكون. هذا كل شيء. ولكنني علمتُ أن الذئبَين الصغيرَين يسعيان خلف الرجل ذي العين الواحدة.

بحلول شهر فبراير، كنَّا قد قطعنا ألفًا وخمسمائة ميل. كنَّا نقترِب من بحر بيرينج، وكانت هناك رياح وعواصف ثلجية عنيفة. كان السفر صعبًا. وصلنا إلى أنفيج. لستُ متأكدًا، ولكنَّني أظنُّ أنهما بلا شك تلقَّيا خطابًا في أنفيج، فقد كانا مُتحمِّسَين للغاية، وقالا: «هيا أسرع، دعنا نواصِل طريقنا.» ولكنَّني قلتُ لهما إننا لا بد أن نشتري طعامًا، فقالا إنه لا بد أن نسافر دون حمولةٍ وبسرعة. وأضافا أنه يُمكننا الحصول على الطعام عندما نصل إلى كوخ تشارلي ماكيون. عندئذٍ، عرَفتُ أنهما قرَّرا أخذ الطريق المُختصر الكبير، لأن تشارلي ماكيون يعيش هناك بالقُرب من «بلاك روك» بجانب الطريق.

قبل أن ننطلق، تحدثت لدقيقتَين تقريبًا مع القس في أنفيج. أجل، هناك رجل بعينٍ واحدة ويسافر بسرعةٍ مرَّ على أنفيج. وعرَفت أن ما يبحثون عنه هو ذلك الرجل. تركنا أنفيج ومعنا القليل من الطعام، وسافرنا دون حمولة وبسرعة. كانا قد اشترَيا ثلاثة كلابٍ جديدة في أنفيج، فسافرنا بسرعة كبيرة. كان الرجل والمرأة كالمَجانين. كنا ننطلق في وقتٍ مبكر من الصباح، ونسافر في وقتٍ متأخر من الليل. كنتُ أنظر أحيانًا إلى هذَين الذئبَين الصغيرَين وأراهما يُحتضَران، ولكنهما لا يموتان. كانا يُواصلان دون توقُّف. عندما كان السعال الجاف الشديد يُسيطر عليهما، كانا يضعان يدَيهما على بطنيهما وينحنِيان ألمًا في الثلج، ويسعُلان دون توقف. لم يكونا يستطيعان المشي ولا الكلام. كانا يظلَّان يسعُلان ربما لعشر دقائق أو نصف ساعة، ثم يستقيمان ودموع السعال مُتجمِّدة على وجهيهما، ويقولان: «هيا، لنواصل.»

حتى أنا، سيتكا تشارلي، كنتُ أشعر بالتعب الشديد، وأفكر في أن سبعمائةٍ وخمسين دولارًا ثمنٌ بخس مقابل العمل الشاق الذي أضطلع به. لقد أخذنا الطريق المُختصر الكبير، وأصبح الطريق صافيًا. ركز الذئبان الصغيران انتباههما على اتباع الطريق، وقالا: «أسرع!»، هذا ما كانا يقولانه طوال الوقت: «هيا، أسرع! أسرع!» كان الأمر صعبًا على الكلاب. لم يكن لدَينا الكثير من الطعام ولا نستطيع أن نُعطيها ما يكفي من الطعام، فأصبحت ضعيفة. وكان لا بد أن تؤدي عملًا شاقًّا. كانت المرأة تشعر بحزنٍ حقيقي عليها، وغالبًا ما كانت تذرف الدموع على حالها. ولكن الشيطان الذي يدفعها للمضي قدمًا لم يسمح لها بالتوقُّف وإراحة الكلاب.

ثم وصلنا إلى الرجل ذي العين الواحدة. كان يرقُد على الجليد بجوار الطريق، وساقه مكسورة. صنع مخيمًا رديئًا بسبب ساقه المكسورة، وظلَّ مستلقيًا على بطانياته لمدة ثلاثة أيام وأبقى النار مُشتعلة. عندما وجدناه كان يسب. كان يسبُّ بشدة. لم أسمع قط رجلًا يسبُّ مثله. شعرت بالسرور. فقد وجدا ما كانا يبحثان عنه، وسنستريح أخيرًا. ولكن المرأة قالت: «لننطلِق، أسْرِع!»

فوجئتُ بقولها. ولكن الرجل ذا العين الواحدة قال: «لا تَعبئوا بي. أعطوني طعامكم. ستحصلون على المزيد من الطعام في كوخ ماكيون غدًا. أرسلوا لي ماكيون. ولكن واصلوا أنتم طريقكم.» ها هو ذئب آخر، ذئب عجوز، وهو أيضًا لا يُفكر إلا في الاستمرار، لذا، أعطيناه طعامنا، وهو ليس بالكثير، وقطعنا حطبًا لإشعال نارِه، وأخذنا أقوى كلابه وواصلنا السير. لقد تركنا الرجل ذا العين الواحدة يرقُد هناك في الجليد، وقد مات هناك، لأن ماكيون لم يعُد من أجله مطلقًا. لا أعرف من كان هذا الرجل، ولماذا ذهب إلى هناك. لكنني أظن أنه كان يتقاضى أجرًا كبيرًا من الرجل والمرأة، مِثلي، مقابل أداء عملٍ لهما.

في ذلك اليوم وتلك الليلة لم يكن لدينا ما نأكله، وسافرنا بسرعة طوال اليوم التالي، وكنا مُرهقِين بسبب الجوع. ثم وصلنا إلى بلاك روك، التي ترتفع خمسمائة قدم فوق الطريق. وكان ذلك بحلول نهاية النهار. كان الظلام قد بدأ يحل، ولم نتمكن من العثور على كوخ ماكيون. نِمنا جائعين، وفي الصباح بحثنا عن الكوخ. لم نجده، وهو أمر غريب، لأن الجميع كان يعلم أن ماكيون يعيش في كوخٍ في بلاك روك. كنا بالقُرب من الساحل، حيث تهب الرياح بقوة ويتساقط الكثير من الثلوج. كانت تلال صغيرة من الثلج منتشرة في كل مكانٍ بفعل الرياح. راودتني فكرة، وحفرت في عدد من التلال الثلجية. سرعان ما وجدت جدران الكابينة، وحفرت وصولًا إلى الباب. دخلت ووجدت أن ماكيون قد مات. ربما مر أسبوعان أو ثلاثة على موته. لقد أصابه المرض لدرجةٍ منعه من مغادرة الكوخ. غطت الرياح والثلوج الكوخ. لقد أكل طعامه ومات. بحثت عن مَخزنه، ولكن لم أجد أي طعام فيه.

قالت المرأة: «دعنا نواصل.» كانت عيناها جائعتَين، وكانت تضع يدَها على قلبها، كما لو كان شيء بداخلها يؤلِمها. انحنت للأمام وللخلف مثل شجرةٍ في مهب الريح وهي تقف هناك. فقال الرجل: «أجل، دعنا نواصل.» كان صوته أجوف، مثل صوت غرابٍ عجوز، وكان غاضبًا بفعل الجوع. كانت عيناه مثل جمرات النار المُتقدة، وبينما كان جسده يتأرجح للأمام وللخلف، اهتزت روحُه في داخله كذلك. وقلتُ أنا أيضًا: «لنواصل.» لأن تلك الفكرة لم تُفارقني وأثقلَت عاتقي مثل ضربة سوطٍ مستمرة في كل ميلٍ من الخمسمائة ميل، لقد حُفِرَت في روحي كالحرق، وأعتقد أنني أيضًا صرتُ مجنونًا. كما أنه لم يكن هناك خيار آخر سوى متابعة سيرنا، إذ لم يكن هناك طعام. وواصلنا طريقنا دون أن نُفكر في الرجل ذي العين الواحدة المُلقى في الثلج.

كان يوجَد القليل من المسافرين على الطريق المختصر الكبير. أحيانًا يمر شهران أو ثلاثة دون مرور أي مسافر. كان الثلج قد غطى الطريق، ولم يكن هناك أي أثر يشير إلى ناس أتت أو ذهبت من هذا الاتجاه. كانت الرياح تهب طوال اليوم وتتساقط الثلوج، وكنا نسير طوال اليوم وبطوننا يعتصِرها الجوع، وأجسادنا تزداد وهنًا مع كل خطوة نخطوها. ثم بدأت المرأة تسقط، ولحِق بها الرجل. لم أسقط، ولكن ثقلت قدماي وترنَّحت وتعثرت عدة مرات.

كانت تلك الليلة هي نهاية شهر فبراير. اصطدت ثلاثةً من طيور الترمجان بمسدس المرأة، فصرنا أقوياء إلى حدٍّ ما مرة أخرى. لكن الكلاب لم يكن لديها ما تأكله. حاولَت أكل لجامها المصنوع من الجلد العادي وجلد حصان البحر، وكان عليَّ أن أمنعها بهراوة وأعلق اللجام وكل الأحزمة في شجرة. كانت تعوي وتتقاتل حول تلك الشجرة طوال الليل. ولكننا لم نلقِ بالًا. كنا ننام مثل الأموات، وفي الصباح ننهض كأموات ينهضون من قبورهم ونواصل السير على الطريق.

كان ذلك الصباح هو الأول من شهر مارس، وفي ذلك الصباح رأيتُ أول علامة على ما يبحث عنه الذئبان الصغيران. كان الجو صافيًا وباردًا. بقِيَت الشمس لفترة أطول في السماء، وكان هناك اثنتان من الشموس الكاذبة على كِلا الجانبَين، والهواء يلمع بغبار الصقيع. لم يعُد الثلج يتساقط على الطريق، وكنتُ أرى الآثار الحديثة للكلاب والزلَّاجة. كان رجلًا واحدًا بتلك التجهيزات، ورأيتُ من أثرِه في الثلج أنه لم يكن قويًّا. وأيضًا لم يكن لدَيه ما يكفي من الطعام. رأى الذئبان الصغيران الآثار الحديثة أيضًا، وتحمَّسا للغاية. كانا يقولان طوال الوقت: «أسرع! أسرع يا تشارلي، أسرع!»

لم نسرع إلا قليلًا جدًّا. وكان الرجل والمرأة يسقطان طوال الوقت. وعندما حاولا الركوب على الزلاجة، كانت الكلاب ضعيفةً للغاية، فسقطت. علاوةً على ذلك، كان الجو قارسَ البرودة لدرجة أنهما كانا سيتجمَّدان إذا ركِبا على الزلاجة. من السهل جدًّا أن يتجمَّد الشخص الجائع. عندما كانت المرأة تسقط، كان الرجل يُساعدها على النهوض. وأحيانًا كانت المرأة تُساعده على النهوض. ومع مرور الوقتِ كان يسقط كلاهما ولا يستطيعان النهوض، فيتوجَّب عليَّ أن أُساعدهما على النهوض طوال الوقت، وإلا فلن ينهضا وسيموتان هناك وسط الثلوج. كان عملًا شاقًّا للغاية، لأنني كنتُ مُرهقًا بشدة، كما كان عليَّ أن أقود الكلاب، وكان الرجُل والمرأة ثقيلَين جدًّا من شدة التعَب بعد أن خارت قواهما. وهكذا، بمرور الوقت، سقطتُ أنا أيضًا في الثلج، ولم يكن هناك أحد يمكن أن يُساعدني على النهوض. كان لا بد أن أنهض بنفسي. ودائمًا ما كنتُ أنهض بنفسي، وأساعدهما على النهوض، وأقود الكلاب كي تستمر.

في تلك الليلة، اصطدتُ طائر ترمجان واحدًا، وكنَّا جائعين جدًّا. وفي تلك الليلة قال لي الرجل: «متى سننطلق غدًا يا تشارلي؟» كان صوته كصوت شبح. أجبت: «إنكما دائمًا ما تجعلانني أنطلق في الساعة الخامسة فجرًا.» فقال: «غدًا، سننطلق في الساعة الثالثة فجرًا.» ضحكتُ بمرارةٍ شديدة وقلت: «إنك رجل ميت.» فقال: «غدًا سننطلق في الساعة الثالثة.»

وبالفعل انطلقنا في الساعة الثالثة، لأنني كنت رَجُلهما ويتعيَّن عليَّ أن أفعل ما يأمُرانني به. كان الجو صافيًا وباردًا، ولا توجد رياح. عندما بزغ ضوء النهار رأينا من بعيد طريقًا طويلًا، وكان هادئًا جدًّا. لم نسمع أي صوتٍ سوى دقات قلوبنا، ووسط الصمت كان صوت دقات قلوبنا عاليًا جدًّا. كنا كالسائرين نيامًا، نسير في أحلامنا حتى نسقط، ثم نُدرك أننا لا بد أن ننهض، ونرى الطريق مرةً أخرى ونتحمَّل صوت دقات قلوبنا. في بعض الأحيان، عندما كنتُ أسير في أحلامي بهذه الطريقة، كانت تُراودني أفكار غريبة. ما الغرض من حياة سيتكا تشارلي؟ هكذا كنتُ أسأل نفسي. لماذا يعمل سيتكا تشارلي بكد، ويجوع، ويُعاني كل هذا الألم؟ من أجل سبعمائة وخمسين دولارًا شهريًّا، هكذا أُجيب على نفسي، وأعلَم أنها إجابة حمقاء. ولكنها أيضًا إجابة حقيقية. وبعد ذلك لم أعُد أهتم بالمال مرة أخرى. لأنه في ذلك اليوم نزلت عليَّ حكمة عظيمة. شعرتُ باستنارة هائلة، ورأيتُ بوضوح، وعرفت أن المرء يجِب ألا يعيش من أجل المال، ولكن من أجل السعادة التي لا يستطيع أي شخصٍ أن يمنحها أو يشتريها أو يبيعها، وهذا أمر تفُوق قيمته قيمة كل أموال العالم.

في الصباح وصلنا إلى المُخيم الذي أقامَه الليلة الماضية الرجل الذي كان يَسبقنا. كان مُخيمًا بائسًا، من ذلك النوع الذي يصنعه شخصٌ جائع خائر القوى. كان هناك قِطَع من الأغطية والقماش على الثلج، وكنت أعرف ما حدث. لقد أكلت كلابه لجامَها، فاضطر لصنع أحزمة جديدة من أغطيته. حدَّق الرجل والمرأة بشدَّةٍ في المشهد، وبينما كنتُ أنظر إليهما شعرتُ بقشعريرة ريح باردة تلامس جلد ظهري، كان الجنون باديًا في عيونهما من أثر العناء والجوع، وكانت تحترق كالجمر في محاجرها. كان وجهاهما كوجوه من ماتوا جوعًا، ووجناتهما سوداء من كثرة التجمُّد الذي أمات الجلد. قال الرجل: «لنواصل.» ولكن المرأة سعَلت وسقطت في الثلج. إنه السعال الجاف الناتج عن عضَّة الصقيع التي تُصيب الرئتين. ظلَّت تسعُل لفترةٍ طويلة، ثم زحفت واقفة على قدمَيها كامرأةٍ تزحف خارجةً من قبرها. تجمَّدت الدموع على خدَّيها، وكان صوت شهيقها وزفيرها عاليًا، وقالت: «لنواصل.»

واصلنا، وسِرنا بلا وعي عبر الصمت. وكل مرة كنا نسير فيها كانت كحلمٍ لا نشعر فيه بالألم، وكل مرة نسقط كانت كالاستيقاظ الذي نرى فيه الثلج والجبال والأثر الحديث للرجل الذي يَسبقنا، ونشعر بكلِّ آلامنا مجددًا. وصلنا إلى حيث تمكنَّا من رؤية طريقٍ طويل يمتدُّ فوق الثلج، وما كانا يبحثان عنه كان موجودًا أمامهما. وعلى بُعد ميل كانت هناك بُقَع سوداء على الثلج. بُقَع سوداء تتحرك. لم أكن أرى بوضوح، وكان عليَّ أن أستحضر قوتي الداخلية لأرى. رأيت رجلًا معه كلاب ومزلجة. رآه الذئبان الصغيران أيضًا. لم يعُد بإمكانهما التحدث، لكنهما همسا قائلَين: «هيا، هيا. لنسرع!»

سقطا، ولكنهما واصلا السير. كثيرًا ما كان يتمزَّق لجام الرجل الذي يسبقنا الذي صنعه من الأغطية، وكان عليه التوقُّف لإصلاحه. كان لجامنا جيدًا، لأنني كنتُ أعلقه على الأشجار كل ليلةٍ بعيدًا عن متناول الكلاب. في الساعة الحادية عشرة صباحًا كان الرجل على بُعد نصف ميل. في الساعة الواحدة صار على بُعد ربع ميل. كان ضعيفًا جدًّا. رأيناه يسقط عدة مرات في الثلج. لم يعُد أحد كلابه قادرًا على مواصلة السير، فحرَّره من اللجام. لكنه لم يقتُله. قتلتُه أنا بالفأس وأنا أمر، كما قتلتُ أحد كلابي الذي أصبح عاجزًا ولم يعُد قادرًا على مواصلة السفر.

كنَّا الآن على بُعد ثلاثمائة ياردة. كنا نسير ببطءٍ شديد. ربما قطعنا ميلًا واحدًا خلال ساعتَين أو ثلاث ساعات. كنا لا نسير، بل نسقط طوال الوقت. كنا نقف ونترنَّح خطوتَين أو وربما ثلاث خطوات، ثم نسقط مرةً أخرى. وطوال الوقت كان عليَّ أن أُساعد الرجل والمرأة على النهوض. في بعض الأحيان كانا ينهضان على ركبتَيهما ويسقطان إلى الأمام، ربما أربع أو خمس مراتٍ قبل أن يتمكَّنا من الوقوف على أقدامهما مرةً أخرى، ويترنحان خطوتَين أو ثلاثًا ويسقطان. ولكنهما دائمًا ما كانا يسقطان للأمام، سواء كانا واقفَين أو راكعَين، يسقطان دائمًا للأمام، ويتقدَّمان على الطريق في كل مرةٍ زحفًا بطول جسديهما.

في بعض الأحيان كانا يزحفان على أيديهما ورُكَبهما مثل الحيوانات التي تعيش في الغابة. سِرنا مثل الحلزونات المُحتضَرة ببطءٍ شديد. ومع ذلك كنا نسير أسرع من الرجل الذي كان يسبقنا. لأنه أيضًا كان يسقط طوال الوقت، ولم يكن يصحبه رجل مثلي ليُساعده على النهوض. والآن كان على بُعد مائتي ياردة. وبعد مرور وقت طويل أصبح على بُعد مائة ياردة.

كان مشهدًا مضحكًا. كنتُ أرغب في الضحك والقهقهة بصوتٍ عالٍ، كان مضحكًا للغاية! كان سباقًا بين بشَرٍ موتى وكلاب موتى. كان الأمر مثل أن تكون في حلمٍ وتُعاني من كابوس تهرب فيه بسرعة كبيرة لتحافظ على حياتك ولكنك تتحرك ببطءٍ شديد في الوقت نفسه. كان الرجل الذي يُرافقني مجنونًا. وكانت المرأة مجنونة. وأنا مجنون. العالَم كله مجنون، وكنت أرغب في الضحك، كان الأمر مُضحكًا للغاية.

ترك الرجل الغريب الذي أمامنا كلابه وراءه ومضى وحدَه عبر الجليد. وصلنا إلى الكلاب بعد وقتٍ طويل. كانت ترقُد بلا حولٍ ولا قوة في الثلج، وما زالت ترتدي أحزمة اللجام المصنوعة من الأغطية والقماش، والزلاجة خلفها؛ وعندما مرَرْنا بها انتحبت لنا وبكت مثل أطفالٍ رُضَّع جائعين.

بعد ذلك تركنا نحن أيضًا كلابنا ومَضينا وحدَنا عبر الجليد. كان الرجل والمرأة بين الحياة والموت، وظلَّا يئنَّان ويتأوَّهان وينتحِبان، ولكنهما تابعا التقدم. وأنا أيضًا تابعتُ التقدم. لم تسيطر عليَّ سوى فكرة واحدة؛ ألا وهي اللَّحاق بالرجل الغريب. عندئذٍ سأستريح، ولن أستريح حتى ذلك الحين، وبدا أنه يجب عليَّ الاستلقاء والنوم لألف عام، فقد كنتُ متعبًا للغاية.

كان الرجل الغريب على بُعد خمسين ياردة، وحيدًا تمامًا في الجليد الأبيض. كان يسقط ويزحف، ويترنح، ويسقط ثم يزحف مرة أخرى. كان مثل حيوانٍ مجروح بشدة يُحاول الهرب من الصياد. بعد قليلٍ صار يزحف على يدَيه وركبتَيه. لم يعُد قادرًا على النهوض. ولم يعُد الرجل والمرأة قادرين على النهوض. هما أيضًا كانا يزحفان خلفه على أيديهما وركبهما. ولكنني كنتُ واقفًا. أحيانًا كنتُ أسقط، لكني دائمًا ما كنتُ أعاود النهوض.

كان مشهدًا غريبًا. كان الجليد والصمت يُحاوطاننا من كلِّ جانب، وعبرهما زحف الرجل والمرأة، والرجل الغريب الذي كان يَسبقنا. وعلى كِلا جانبي الشمس، كانت تُوجَد شمس كاذبة، بحيث كانت تُوجَد ثلاث شموس في السماء. كان غبار الصقيع يتلألأ مثل غبار الماس، وكان الهواء يعجُّ به. سعلت المرأة، وظلَّت مستلقيةً بلا حراك في الثلج حتى تنتهي النوبة، ثم زحفت مرةً أخرى. كان الرجل ينظر إلى الأمام بعينَين دامعتَين وعليهما غمامة مثل كبار السنِّ وكان عليه أن يفرك عينَيه حتى يتمكن من رؤية الرجل الغريب. والآن نظر الرجل الغريب إلى الوراء من فوق كتفِه. وكنت أنا، سيتكا تشارلي، واقفًا منتصبًا، ربما كنتُ أسقط وأعاود الوقوف.

بعدَ وقتٍ طويل، توقف الرجل الغريب عن الزحف. ونهض واقفًا ببطءٍ وترنَّح للأمام وللخلف. كما أنه خلع قفازًا وانتظر وهو يحمِل مسدسًا في يده، ويترنح للأمام وللخلف وهو ينتظر. كان وجهه عبارة عن جلد أسود متجمِّد على عظم. وجه جائع. كانت عيناه غائرتَين في مِحجريهما، وارتسم على شفتَيه تعبير مُزمجر. وقف الرجل والمرأة أيضًا على أقدامهما واتَّجها نحوَه ببطءٍ شديد. وكان كل ما يُحاوطنا هو الجليد والصمت. وفي السماء ثلاث شموس، والهواء كله يلمع بغبار الماس.

وهكذا، رأيت أنا، سيتكا تشارلي، الذئبَين الصغيرَين يقتلان ضحيتَهما. لم يتفوَّها بكلمة. فقط زمجر الرجل الغريب بوجهه الجائع. كما أنه ترنَّح للأمام وللخلف، وكتفاه يتدلَّيان، وركبتاه مَثنيَّتان، وساقاه مُتباعدتان حتى لا يسقط. توقف الرجل والمرأة على بُعد خمسين قدمًا تقريبًا. وقفا وساقاهما مُتباعدتان أيضًا حتى لا يَسقطا، وجسداهما يترنَّحان للأمام وللخلف. كان الرجل الغريب ضعيفًا جدًّا. كانت ذراعُه ترتعش، لذلك عندما أطلق النار على الرجل أصابت رصاصته الجليد. لم يستطع الرجل خلعَ قفازه. فأطلق الرجل الغريب النار عليه مرة أخرى، وهذه المرة مرت الرصاصة في الهواء. بعد ذلك أخذ الرجل القفاز بين أسنانه وخلعه. ولكن يدَه كانت متجمِّدة ولم يستطع الإمساك بالمسدس، وأصابت رصاصته الجليد. نظرت إلى المرأة. كان قفازها مخلوعًا وكانت تحمل مُسدس كولت الكبير في يدها. أطلقت النار ثلاث مرات، بسرعة، وبتلك البساطة. كان لا يزال الوجه الجائع للرجل الغريب يزمجر وهو يسقط إلى الأمام في الثلج.

لم ينظرا إلى الرجل الميت. قالا: «لنواصل»، وهكذا فعلنا. ولكن الآن بعدما وجدا ما كانا يبحثان عنه، أصبحا مثل الموتى. كانت قد خارت قواهما الأخيرة. ولم يَعودا قادرَين على الوقوف على أقدامهما. ولم يرغبا في الزحف، فقط رغبا في إغلاق أعيُنهما والنوم. على مسافةٍ ليست ببعيد، رأيت مكانًا للتخييم. ركلتهما. كان معي سوط قيادة الكلاب، فضربتهما به. صرخا بصوتٍ عالٍ، ولكن كان عليهما الزحف. وقد زحفا بالفعل إلى مكان التخييم. أشعلتُ نارًا حتى لا يتجمَّدا. ثم عُدت لإحضار الزلاجة. وكذا، قتلت كلاب الرجل الغريب حتى نحصل على الطعام ولا نموت. وضعت على الرجل والمرأة أغطيةً فراحا في النوم. أحيانًا كنتُ أوقظهما وأعطيهما القليل من الطعام. لم يكونا يستيقظان، ولكنهما كانا يأخذان الطعام. نامت المرأة يومًا ونصفًا ثم استيقظت ونامت مرةً أخرى. أما الرجل فقد نام يومَين ثم استيقظ ونام مرة أخرى. بعد ذلك ذهبنا إلى الساحل عند سانت مايكلز وعندما ذاب جليد بحر بيرينج، رحل الرجل والمرأة على متن باخرة. ولكن قبل أن يُغادرا، دفعا لي السبعمائة والخمسين دولارًا للشهر. كما قدَّما لي ألف دولار هدية. وكان ذلك هو العام الذي تبرَّعتُ فيه بالكثير من المال للإرسالية في هولي كروس.»

سألته قائلًا: «ولكن لماذا قتلا الرجل؟»

أَجَّل سيتكا تشارلي ردَّه حتى أشعل غليونه. ألقى نظرةً خاطفةً على صورة غلاف مجلة «بوليس جازيت»، وأومأ برأسه تجاهه بألفة. ثم قال وهو يتحدَّث ببطءٍ وتفكير عميق:

«قد فكرت كثيرًا. لا أعرف. إنه شيء حدث. إنها صورة أتذكَّرها. إنه مثل النظر إلى الداخل من النافذة ورؤية الرجل يكتب رسالة. لقد دخلا حياتي وخرجا منها، والصورة كما قلتُ، بلا بداية، والنهاية غير مفهومة.»

قلت: «لقد رسمتَ العديد من الصور على مدار سردك للقصة.»

أومأ برأسه قائلًا: «أجل، ولكنها كانت صورًا بلا بداية ولا نهاية.»

علقتُ قائلًا: «ولكن الصورة الأخيرة كانت لها نهاية.»

أجاب قائلًا: «أجل، ولكن أي نهاية؟»

أردفت: «لقد كانت لمحةً من الحياة.»

فقال: «أجل، لقد كانت لمحةً من الحياة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤