الفصل الأول
علم الفلك
(١) النظرية الجيوسنترية: وهي النظرية القديمة المقدسة
في تكوين العالم
كان التنازُع على العلاقات الواقعة بين السماوات المنظورة والسيار الأرضي محورًا
لسلسلة من الوقائع تصادم فيها اللاهوت والعلم صدامًا والتحما التحامًا.
نظرت الكنيسة — خلال العصور الأولى — في علم الفلك، نظرة القانع بأنه من الأشياء
البائرة؛ اعتمادًا على حكمة ظاهرة بشَّرت بها التوراة، مؤداها أن الأرض لا بد من أن
تزول سراعًا، وأنه سوف تكون «سماوات جديدة وأرض جديدة»،
١ فلماذا إذًا إذن إعنات النفس في درس السماوات القديمة والأرض القديمة، ما
دامتا سوف تُبدلان سريعًا بشيءٍ جديدٍ لا نهاية لأوجه تفضيله على القديم المنهار
الأركان المتصدع البنيان؟ ولقد يتجلى هذا الشعور بأجلى صوره في قول القديس أوغسطين
st. Augustin المشهور: «أي شأن لي في أن أعرف
إذا كانت السماوات ككرة تتضمن الأرض معلَّقة في وسط الكون، أم أنها تشرف مرتكزة عليها
من كلا الجانبين؟»
أما الأجرام السماوية فلم يكن اللاهوتيون لينظروا فيها إلا على اعتبار أنها أشباح
ما
يؤدي النظر فيها إلى شيء، اللهم إلا إلى تأمُّلات تبعث على الورع والتقوى، أما إزاء
طبيعتها فإن آباء الكنيسة منقسمون؛ فإن «أوريغن»
Origen ولفيفًا من حوله كانوا يعتقدون بأنها ذواتٌ حية تقمصتها
الأرواح. ولقد بُنِيَ هذا الاعتقاد على الرؤيا المعروفة في التوراة إذ تغني نجوم السماء
معًا، وعلى ذلك الابتهال الجميل الذي يوجَّه إلى «النجوم والضوء» في أغنية الأطفال
الثلاثة البنيديسيت
Benedicite تلك الأغنية التي أحسن
الجمهور الأنفليكاني
٢ بأن حافظ عليها في طقوسه الدينية.
وظن آباء آخرون بأن الأجرام السماوية محلات تسكنها الملائكة، وأن الملائكة تحركها.
أما الأدريون Gnostics فقالوا بأنها كائنات روحانية
تحركها الملائكة، وأنها كفَّت عن أن تدبر حوادث الأرض، ووكل بها أن تشير إليها لا
غير.
أما البناء السماوي عامة فقد كان معتقَد الكنيسة فيه قائمًا على ما جاء في التوراة
من
القول بأنه قبة صُلبة القوام ركبت فوق الأرض، وأن الأجرام السماوية أضواء معلقة فيها.
وظل هذا المعتقَد زمانًا ما ثابتًا في روع الناس، حتى لقد أعلن القديس «فيلاسطوريوس»
st. Philastrius في مقاله المعروف عن الهرطقة،
٣ أن إنكار القول بأن الله يجلب الأجرام السماوية من خزائنه كل ليلة ليعلقها
في السماء هرطقة صريحة. بل زعم بأن أي قول مضاد لهذا فيه «إنكار للمعتقد الكاثوليكي».
كذلك عاش هذا الزعم في تلك النظرية المقدَّسة التي قام «قوزماس»
Cosmas بترويجها وتثبيت دعائمها في القرن السادس؛ فإنه بعد أن
أيَّد نظريته في الكون بآيات كثيرة استمدها من التوراة والإنجيل، وبعد أن جعل العالم
عبارة عن علبة مستطيلة الشكل، عظيمة القدر، مغطاة بتلك القبة الصلبة؛ عمد إلى التوراة
يستمد من نصوصها ما يعلل به حركة الأجرام، فكوَّن نظرية أن الشمس والسيارات إنما تتحرك،
وأن «نوافذ السماء» إنما تُفتح وتغلق لهذا الغرض، بأيدي ملائكة وكل إليهم تدبير هذا
الأمر كله.
أما ما كتب «القديس إزيدور» st. Isidore أكبر رائد
للفكر الأورثوذكسي في القرن السابع فشديد الدلالة على مقدار ما ثبتت هذه المزاعم في روع
الناس. فقد مضى معتقدًا بأنه منذ خطيئة الإنسان الأولى، وبناءً على هذه الخطيئة قلَّت
الأضواء التي كانت تنبعث من الشمس ومن القمر ثم حاول من بعد ذلك أن يثبت بنصوص استمدها
من سفر «أشعياء» Esaiah أن الإنسان متى خلص من أكدار
هذه الخطيئة فإن الشمس والقمر سوف تعود إليهما أضواؤهما التي فقداها بخطيئة الإنسان،
وسوف يظهران كما كانا من قبلُ، بكامل عظمتهما وجلالهما ورائع بهائهما. غير أنه على
الرغم من أقوال هؤلاء الثقات، وما بشروا به من الغائبات اللاهوتية، فإن نشوء الفكرة
العلمية لم يُعِقْهُ عائق، ولم يصده صادٌّ عن الانبعاث في سبيله المحتوم. وقد فرخت
جراثيم تلك الفكرة حول «النظرية
الجيوسنترية» Geocentric Theory وهي النظرية القائلة بأن الأرض مركز النظام الكوني، وأن
الشمس وبقية السيارات إنما يدُرْنَ من حولها.
ظلت هذه النظرية زمانًا مديدًا حائزة لأكبر قسط من الاحترام والمنزلة في الصدور؛
فإنها نشأت منذ أزمان موغِلة في القِدَم، وظل العقل الإنساني عاكفًا على تأييدها؛ لأنها
أقرب النظريات انطباقًا على حركات الأجرام السماوية الظاهرة للعين المجردة. وقد زادت
تسميتها «بنظرية بطليموس» إلى قيمتها، وضاعف من خطرها. ومن أجل أنها ورثت عن العالم
القديم، ونقلت عن العالم المسيحي؛ مضى «القديس
كليمانت» st. Clement الإسكندري يعززها فقال بأن المذبح الذي يوضع عادة في الهيكل
اليهودي إنما هو «رمز للأرض ووجودها في وسط الكون.» ولم يحتج إذ ذاك إلى شيء أكثر من
هذا لتصبح النظرية «الجيوسنترية» معتقَدًا مستفادًا من معتقدات الكنيسة؛ لأنها «تلائم
ظاهرة التوراة وتتمشى مع روحها.»
على هذا الأساس نفسه قامت نظرية مقدسة أخرى في حقيقة الكون خلال العصور الوسطى، حتى
لقد اعتُبرت أثمن كنز تحويه خزائن الكنيسة العظمى. وزعم أنها آخر ما نزل به الوحي في
حقيقة العالم. على أن هذه النظرية لم تقُم في الواقع إلا على شتات من النظريات الكونية
التي راج في بلاد الكلدان القديمة سوقها؛ ومن ثَمَّ بثت في تضاعيف التوراة
العبرية.
قام بترويج هذه النظرية ثلاثة من فحول الرجال: أولهم ذلك الرجل غير المعروف الذي
كتب
تلك المقالات التي تُنسب عادة إلى «ديونسيوس
الأريوباغيطي»
Dionistus areopagite وسرعان ما شاع الاعتقاد بأن هذه المقالات من منتجات ذلك الآثيني
٤ الذي آمن بتبشير «القديس بولص»
st. Paul
ومن ثَمَّ بأنها من عمل «القديس بولص» نفسه. على أن هذه المقالات على الرغم مما ظهر من
البراهين الناصعة على أنها مُنتحَلة مدسوسة على الذين نُسِبت إليهم، فإنها اعتبرت — في
عهد ذيوعها — من كنوز الوحي والإلهام؛ حتى لقد أرسلها إمبراطور شرقي إلى إمبراطور غربي
كأثمن ما يُهدى وأَجَلِّ ما يُمنَح. وفي القرن التاسع ذاعت تلك المقالات في غَرْبِيِّ
أوروبا ذيوعًا كبيرًا، فأصبحت منبعًا فياضًا ينضح بصور الفكر، وعلى الأخص في حقيقة
النظام السماوي. وبهذا تضخمت الفكرات القديمة التي ذاعت في علم الفلك وانتفخت إلى حَدِّ
أن رتبت كوكبات السماء — بل سُمِّيَتْ — على مقتضى الإشارات التي تناثرت بين دفتي
الكتاب المقدس.
أما ثاني أولئك العظماء الذين أشرنا إليهم فهو «بطرس لومبارد» Peter Lombard الذي كان أستاذًا في جامعة باريس؛ فإنه في أواسط
القرن الثاني عشر أذاع مجموعته التي أسماها «الجمل» Sentences جامعًا فيها أقوال آباء الكنيسة؛ فظلت هذه المجموعة أثبت متن
للاهوت حتى نهاية العصور الوسطى. وفيها عُنِيَ عناية خاصة بأمر تلك الفكرة اللاهوتية
التي تكوَّنت حول علاقة الإنسان بالكون المحيط به؛ فقضى بأنه «كما أن الإنسان قد خُلِقَ
من أجل الله — أي من أجل أن يخدمه ويخضع له — كذلك لم يُخلق الكون إلا من أجل الإنسان
—
أي من أجل أن يسخر له ويقوم بخدمته — وعلى هذا ينبغي أن يوضع الإنسان في مركز الكون
الأوسط حتى يستطيع أن يخدم الله، وأن يسخر الكون لخدمة نفسه.»
أما مقدار ما كان في هذه النظرية من خطر، وما احتوت من قوة صارعت علم الفلك اليقيني،
فذلك ما سوف نعود إلى الكلام فيه، وعلى الأخص لدى الكلام في عصر «غاليليو» Galileos.
أما آخر حلقة من ثالوث هؤلاء المفكرين فانتهت بالنابغة القديس «توماس أكونياس»
st. Thomas Akiunas، ذلك القديس اللاهوتي، فخر
الكنيسة في العصور الوسطى والحكيم الإنجيلي،
٥ الذي حاز أكبر عقل جادت به الطبيعة على إنسان منذ عصر أرسطوطاليس حتى عصر
«نيوتن»
Newton هو ذلك الرجل الذي اعتقد أهل زمانه
بأنه شبح المسيح مصلوبًا قد تحدَّث إليه بكلمات عبَّر بها عن إعجابه بما خطت يراعته،
كان كبير العقل، صلب القناة، حادَّ الطبع، غير أنه كان عادلًا — بل أكثر من عادل — في
تقدير معارضيه واحترام مناظريه، أخرج في النصف الأخير من القرن الثالث عشر موسوعته
اللاهوتية
Summa Theologia وفيها توسع في شرح النظرية
المقدسة في الكون بما بلغ بها النهاية والتمام. ولقد استطاع — بما أُعطي من قوة العقل
والقدرة على التعبير في أبسط الأساليب — أن يطبق تلك النظرية الكونية الفجة من الوجهتين
المادية والروحية على العلاقات الواقعة بين الله والناس.
على هذه الصورة بُنِيَتْ تلك النظرية الكبرى مصبوبة في ذلك القالب الذي كوَّنته عقول
ثلاثة من رواد الفكر الإنساني في العصور الوسطى. وعقَّب عليهم ذلك الرجل الفذ بل
النابغة الأوحد الذي استطاع أن يغذي دوحة ذلك المعتقد بما جعل جذورها القوية تمتد إلى
أبعد أغوار الفكر الأوروبي، ذلك الشاعر الذي أمده الوحي القدسي بتأييد جعل به تلك
النظرية جزءًا من حياة العالم الحافِّ به؛ فالسماوات العليا — عِلِّيُّون — والسماء
المتراكزة — ذات المركز — والجنة والمطهر وجهنم، قد صورتها عبقرية الشاعر «دانتي»
Dante تصويرًا جعل الناس يرونها بعين الخيال، كأنهم
يرونها بعين الحقيقة. تخيلوا الله في توحيده الثالوثي مستويًا على عرشه فوق دائرة
الفلك، كأن ذلك كان حقيقة واقعة، كما يرون البابا مستويًا على عرش القديس «بطرس»،
وتخيلوا سيراف والكروبيم
٦ والملائكة المزدوجة الأجنحة التي تمثل حملة عرش الله، يحوطون الواحد
القهار، كما يروا الكرادلة من حول البابا في أبهته وعظمته. وتصوروا الدرجات الثلاث التي
تنزلها الملائكة في السماء، كما يرون الدرجات الثلاث التي ينقسم إليها رجال الكنيسة من
أساقفة وقساوسة وشماسة فوق الأرض، ورأوا في مجموعة النظام الجرمي، وفي دورة كل جرم من
الأجرام في دائرة فلك الجرم الذي يعلوه، وفي دورة الكل من حول الأرض مع خضوع ذلك النظام
لإرادة «المحرك الأول»، كما يرون النظام الإقطاعي في غربِيِّ أوروبا وفي خضوع كل ذوي
الإقطاعات للإمبراطور الأعظم.
ولننظر الآن في ذلك الوهم الأكبر — وهو أعظم ما كوَّنت الفكرة اللاهوتية في تاريخ
الدنيا — نظرة أدق وأعمق.
إن أول ما يُلقى في روعنا هو أن نظام الكون المقدَّس ليس سوى تفصيلًا لما أضمرت،
وتضخيمًا لما صغرت، تلك الفكرات اللاهوتية التي راجت في الأزمان الأولى. فلم تصبح الأرض
ذلك السهل المنبسط المحوط بأربعة جدران تعلوها قبة صُلبة القوام، كما اعتقد لاهوتيو
القرون الأولى تحت تأثير «قوزماس»، ولم تمس قرصًا منبسطًا تعلوه الشمس والقمر والنجوم
لتمده بما يحتاج إليه من ضوء، كما صورها فنانو الكاتدرائيات الأولى، بل أضحت كرة كائنة
في وسط النظام الكوني، يحيط بها عدة أفلاك كروية شفافة تُديرها الملائكة حول محورها ومن
حول الأرض، وكل منها يحوي جرمًا أو أكثر من أجرام السماء. فالأقرب فلك الأرض ويحمل
القمر، ومن بعده فلك عطارد ثم فلك الزهرة ثم فلك الشمس، ثم الثلاثة التي تلي هذه وهي
فلك المشترى وفلك المريخ وفلك زحل. والفلك الثامن يحوي النجوم الثوابت، والتاسع هو فلك
«المحرك الأول» Primummobile ويحوي الكل الفلك العاشرة
أو فلك عليين، وهذا غير متحرك، وهو الحد الفاصل بين الخلق الكوني المنظور وبين الخلاء
الخارجي اللامتناهي، وهنالك — في ضوء يخطف البصر ولا يستطيع أحد الدنو منه — يستوي الله
في حدته الثالوثية فوق العرش حيث ترتفع إليه «وموسيقى الأفلاك» إذ هي تتحرك. وعلى هذا
ترى أن الفكرة الوثنية في حقيقة الأفلاك قد انقلبت إلى فكرة مسيحية، منبثة في تضاعيف
الدين النصراني.
ويقوم على خدمة «الجلالة القدسية» فوق عرشها العظيم جماعات من الملائكة وافرات العدد،
تنقسم في ثلاثة منازل أو درجات: فالجماعة الأولى تقوم بالخدمة في عليين، والثانية في
السماوات؛ أي بين عليين والأض، والثالثة فوق الأرض نفسها.
وكل من هذه المنازل تنقسم إلى ثلاث مراتب: الأولى تتضمن مراتب سيراف والكروبيم
والملائكة المزدوجة الأجنحة التي تمثِّل حملة العرش، والمهمة التي يقوم بها هؤلاء هو
الغناء المستمر وترتيل الحمد الدائم لله. أما حملة العرش فمنوط بها حمل إرادة الله إلى
الدرجة الثانية التي يخدم أفرادها في الأفلاك المتحركة، وهذه الدرجة الثانية تتكون من
ثلاث مراتب؛ الأولى: مرتبة الدومنيون وهي التي تتلقى الأوامر الإلهية، والثانية: مرتبة
القوات التي تحرك الأفلاك كالشمس والقمر والسيارات والنجوم وتفتح نوافذ السماء وتغلقها،
وتدبر كل الظاهرات السماوية الأخرى، والثالثة: مرتبة الحُفَّاظ وغيرهم.
أما الدرجة الثالثة وهي أسفل الدرجات الملائكية، فتتكون من ثلاثة مراتب أيضًا: الأولى
مرتبة الرؤساء وفيها حفظة الأمم والدول، وبعدها مرتبة رؤساء الملائكة. وهؤلاء يقومون
على حفظ الدين ويحملون ابتهالات القديسين وصلواتهم إلى أعتاب عرش الله، والثالثة
الملائكة العاديون، وهؤلاء يوكل إليهم أمر العناية بالأشياء الأرضية عامة، ويُناط كل
منهم بواحدٍ من أبناء آدم، ويناط آخرون بالحرص على صفات النباتات وأنواعها ثم المعادن
والأحجار وما شابه ذلك. وفي خلال هذا النظام كله من عرش الله الموحَّد الثالوث إلى أحط
مراتب الملائكة، تجد أسطورة القوة والتأثير المنسوب إلى «المثلث» ذلك الشكل الهندسي
البسيط، وإلى العدد «ثلاثة». وهي بذاتها تلك الأسطورة التي أوحت بفكرة التثليث لواضعي
اللاهوت الهندي القديم، ومنها نشأ معتقد التثليث عند قُدماء المصريين ومن ثَمَّ نقلت
هذه الهبة اللاهوتية إلى العالم المسيحي، وعلى الأخص من طريق «أتناسيوس» المصري Athnasius.
ومن تحت الأرض تكون جهنم، وهي مثوى الملائكة الذين عَصَوْا وثاروا تحت إمرة «إبليس»
أمير سيراف، وصفي الله من قبل. ولكن من بين أولئك العصاة فئة لا تزال تزود أفلاك
السيارات وتسبب للملائكة المطيعين المنيبين ألمًا وعذابًا. في حين أن غيرهم يغشون جو
الأرض فيرسلون عليها الصواعق والزوابع والقحط والجليد. وغير أولاء وهؤلاء عصبة خصت
بإغراء الجماعات الأرضية يدفعونها إلى ارتكاب الرذائل والآثام. أما الأستاذ «بطرس
لومبارد» والقديس «تومس أكويناس» فقد جهدا نفسيهما كل جهد لكي يثبتا أن عمل هذه العصبة
الشيطانية إنما يقصد به تنظيم أعمال الإنسان، وتحديد العقوبات التي يستحقها العصاة
تحديدًا صحيحًا، وعلى قسطاس مستقيم.
كل هذا النظام العظيم قد دُسَّ على المذهب البطليموسي بإحكامٍ كبير، حيث استعان
الآباء في سبيل ذلك بالمتون الإنجيلية وبأسلوب التفكير اللاهوتي، ولم يكن لذلك من نتيجة
اللهم إلا الاعتقاد بأن نظام الكون على هذه الصورة قد أصبح غير قابل للتعديل ولا
التحوير، وأنه غائي لا سبيل إلى إدحاضه، وأن القول بما يضاده أو تعمَّد نقده هرطقة
صريحة وكفر بالله.
وظل هذا النظام ثابت الدعائم قرونًا عديدة؛ حتى إن كثيرًا من جهابذة اللاهوتيين مثل
«فنسنت بوفييه» Vincent of Beauvais والكردينال «دايلي» cardinal d’Ailly قد وَقَفَا كل جهدهما
ليظهرا أن هذا النظام تعززه نصوص الكتاب المقدس، لا بل ليثبتا أنه يزكي التوراة
والإنجيل.
وعلى هذا ترى أن «النظرية الجيوسنترية» قد امتدت أصولها إلى صميم النصرانية، بل إلى
أعمق معتقداتها وآمالها ومخاوفها، وظلت كذلك حتى منتصف القرن السادس عشر
الميلادي.
(٢) النظرية الهليوسنترية
منذ عهد عهيد فرخت في العقل الإنساني جراثيم «النظرية الهليوسنترية» Hellocentricheory أي النظرية القائلة بأن الشمس مركز النظام
الكوني؛ ففي القرن السادس قبل الميلاد قال «فيثاغورس» Pythagoras ومن بعده «فيلولاوس» Philolaus بنظرية أن الأرض والسيارات إنما تدور من حول «نار
مركزية». ومن بعد ذلك بثلاثة قرون عمد «أرسطارخس» Aristarchaus إلى تقرير هذه الحقيقة بكثير من دقة التدليل وقوة
البرهان. وفي ذلك حجة ناهضة على أن تنازُع البقاء بين الأسلوبين اللاهوين والعلمي غير
قاصر على النصرانية؛ فإن ما قرره «أرسطارخس» من حقائق العلم كان سببًا في أن يُرمَى
بتهمة الزندقة والكفران، فغشيت سماء العلم غمامة كثيفة من الحقد والكراهية حجبت أنواره
ستة قرون أخرى. ولم تلمع شمس هذه الحقيقة مرة ثانية في سماء الفكر إلا في القرن الخامس
من التاريخ الميلادي، حيث ظهرت في تأملات «مارتيانوس كابيلا» Martianus Capelia غير أن أضواءها حجبت ثانية وظلت محجوبة ألفًا من
السنين، حتى أشرقت ثانية في غضون القرن الخامس عشر، ولكن واهنة ضعيفة، في عقل الكردينال
«نيقولاوس ده كوزا» Nicolas de Cusa منبثة في
تضاعيف ما ألف من أسفار.
غير أن ذلك النظام الكبير الذي أنبتته عقول عظماء اللاهوتيين، وعضدته تلك الصيحات
العالية التي انبعثت من قلب «دانتي»، قد أثرت في نشر هذه الفكرات الصحيحة تأثيرًا عاقها
عن أن تنمو وأن تؤتي أكلها.
ولقد أخذت عناصر العقل الإنساني تزداد خصبًا، وفراغه يزداد امتلاء؛ فإن الأساليب
التي
اعتمدت عليها الرياضيات كانت قد مضت في التهذُّب والارتقاء، وأخذ النظر يمتد من خلال
العدسات الزجاجية إلى الأجرام السماوية. وما بلغ العقل الإنساني هذا المبلغ حتى ظهر في
منقطع العمران الأوروبي وعلى حدود «بولاندا» طالب من طلاب العلم واسع النظر طيب القلب،
أمكنه بما وهب من كفاءات أن يبشر للعالم الحديث بالحقيقة الناصعة — تلك الحقيقة التي
نراها اليوم ضرورة أولية وكانت إذ ذاك من المدهشات الخارقة للقياس — حقيقة أن الشمس لا
تدور من حول الأرض، بل إن الأرض وبقية السيارات هن اللائي يدُرن من حول الشمس. ذلك
الطالب هو «نيقولا
كوبرنيكوس» Nicolas Copernicus.
كان «كوبرنيكوس» أستاذًا في «روما» وقد أعلن نظريته هذه هنالك منذ سنة ١٥٠٠، ولكن
بطريقة تشعر بأنها غريبة من غرائب العلم، أو أنها قول من الأقوال التي يُناقض ظاهرها
الحقائق الواقعة، كما كان شأن الكردينال «ده كوزا» لدى الكلام فيها من قبلُ، فلم يروجها
بين الناس على اعتبار أنها مذهب علمي يعبِّر أصح تعبير عن حقيقة من حقائق الطبيعة
العظمى. وبعد ذلك بثلاثين عامًا قام «ودمانستاد» Wedmanstadt أحد تلاميذ «كوبرنيكوس» يشرح هذه النظرية للبابا «كليمان
السابع»، ولكنها ظلت حتى ذلك العهد عبارة عمَّا لا يخرج عن حيز الظن والتخمين، وسرعان
ما نُسِيَتْ هذه النظرية وأُسْدِلَتْ عليها أستارٌ كثيفة من نزعات ذلك العصر، غير أن
«كوبرنيكوس» لم ينسها، وظل يدرسها درسًا عميقًا، فكان كلما استعمق في درسها أخذت أنوار
الحقيقة تُشِعُّ في عقله شيئًا فشيئًا، حتى تصور أن حمل هذه الحقيقة الكبرى في طَيَّاتِ
عقله وبين نياط قلبه، لا يتفق مع ما يطلب من الأمن والسلام في جو «روما» المفعم
بالتعصب، المملوء باستبداد التقاليد، ولقد أيقن بأن إعلان هذه الحقيقة على أنها نظرية
تخمينية أو على أنها زعم يناقض ظاهرة الحقائق الواقعة، قد يُمكن أن يكون شيئًا يلهو به
رجال البلاط البابوي. أما إعلانه إياها على أنها حقيقة بل على أنها الحقيقة، فأمر يخالف
الأول مخالفة تامة؛ لهذا تراه يعود أدراجه إلى قريته الصغيرة من أطراف «بولاندا» تارة
أخرى.
وكان على يقين من أنَّ نشر فكرته هذه كما تكوَّنت في عقله إذ ذاك أمر لا يخلو من خطر
ماحق، حتى في قريته المنعزلة عن عمران العالم الأووبي؛ لذلك ظلَّت هذه الفكرة ثلاثين
سنة أخرى جاثمة في خلايا عقله الكبير وفي عقول أولاء من أصحابه الأخِصَّاء الذين أفضى
إليهم سرًّا بما كان يوحي إليه به ذهنه من آيات الحق الثابت.
وكانت النتيجة أنه أتم كتابه الكبير «حركات الأجرام السماوية» Revolutiono of the Hevenly Bodis
وأهداه إلى البابا نفسه. وفكر من بعد ذلك في مكان يستطيع أن ينشر فيه كتابه، فلم يجرؤ
أن يرسله إلى روما وهنالك تجثم عصابة من رءوس الكنيسة القديمة مرتقبون لمصادرته. ولم
يستطع أن يرسل به إلى «ويتنبرج» Wittenburg وهنالك
رءوس البروتستانت. وما كانوا في ذلك الزمان بأقل عداء لحقائق العلم من زعماء الكثلكة؛
لهذا عهد بالكتاب إلى رجل يُدْعَى «أوسياندر» Osiander
في نورمبرج.
غير أن شجاعة «أوسياندر» خانته، ولم يستطِع أن ينشر الفكرة الجديدة بما يحتاج إليه
ذلك العمل من إقدام وبسالة. فكتب مقدمة دنيئة حاول أن يعتذر فيها عن «كوبرنيكوس» تلقاء
فكرته هذه، بل اختلق عليه من الفكرات ما خيل إليه أن يكون عذرًا مقبولًا، فقال بأن
«كوبرنيكوس» لم يحاول نشر هذا المذهب على أنه الحقيقة؛ بل على أنه مجرد نظرية تخيلية
لا
غير، معلنًا أنه ممَّا لا يخرج عن طوق القانون أن يهيم فلكي مع موحيات خياله وتصوره،
وأن مثل «كوبرنيكوس» في كتابه لا يخرج عن هذا.
وعلى هذا ترى أن أعظم الحقائق العلمية شأنًا — بل أكبر ما كشف العقل الإنساني من نظام
الطبيعة خطرًا وجلالًا — تلك الحقيقة العظمى التي تسمو بالدين بقدر ما تسمو بالعلم، لم
تخترق طريقها إلى عالم المعرفة الإنسانية إلا متسلِّلة خفية، دابَّة دبيب الزواحف بين
عقبات من العقائد الزائفة وأشواك من التقاليد.
في الرابع والعشرين من شهر مايو سنة ١٥٤٣، وصلت أول نسخة من الكتاب مطبوعًا إلى حيث
كان يقيم «كوبرنيكوس»، ولما أن وضعت النسخة بين يديه كان الجهبذ الكبير محتضرًا على
فراش الموت. وبعد بضع ساعات كان بعيدًا عن هذا العالم، بل بعيدًا عن أن تصل إليه أيدي
أولئك الأنقياء الذين ربما كانوا قد هدموا مجده هدمًا، وأذاقوه الموت ألوانًا، لو لم
تعجل به إلى العالم الثاني خُطاه.
غير أنه لم يكن بعيدًا عن أن تناله الأيدي الفاجرة بإثمها؛ فإن الموت نفسه لم يَكْفِ
لأن يكون حجابًا يحجب عنه الأذى والكفران. والظاهر أنهم خافوا أن يُنزلوا العقاب المادي
بالجثة الهامدة، فاكتفوا بأنه لا يذكر على شاهد قبره شيئًا عن جهوده العظيمة التي بذلها
في حياته، ولا أن يُشار بحرف واحد إلى استكشافه العظيم، وأن ينحت على قبره دعاء قال فيه
واضعه: «اللهم إني لا أسألك غفرانًا كما غفرت لبولص، ولا إحسانًا كما أحسنت إلى بطرس،
ولكن أسألك أن تُنعم عليَّ كما أنعمت على اللص وهو معلق فوق صليب الإعدام.» ومضى على
ذلك ثلاثون عامًا، تجرأ بعدها صديق من أصدقائه، أن يحفر على قبره تذكارًا يشير إلى
استكشافه العظيم.
إن المقدمة التي وضعها «أوسياندر» والتي ادَّعى فيها أن «كوبرنيكوس» قد أذاع ما أذاع
على أنه نظرية تخيلية — لا على أنه حقيقة يؤمن بها — قد أدت إلى كل ما خيل إليه أنها
سوف تؤدي إليه؛ فقد قطع رءوس الكنيسة من الزمان حقبة لا يقل مداها عن السبعين عامًا وهم
يفضلون أن لا يثيروا من حول الكتاب عجاجة؛ حتى لقد استطاع أساتذة من أمثال «كالجانيني» Calganini أن يلقنوا المذهب الجديد على أنه نظرية
فرضية. وعلى الرغم من أن اللغط كان كثيرًا ما يرتفع من حول هذا الاستكشاف في الدوائر
اللاهوتية بين حين وحين، فإن الرجل لم ينفجر إلا في حدود سنة ١٦١٦؛ ذلك لأن المذهب كان
قد تركز في عقل «غاليليو» العظيم، فاعقتد أنه حق وأن لا حق غيره، وأخذ يذيعه ويدفع عنه،
بل مضى يبرهن على أنه حَقٌّ مستعينًا بالتلسكوب، فصادرت الكنيسة الرومانية الكتاب، على
اعتبار أن كل ما قرره كوبرنيكوس في كتابه لا ينال رضاها، أو يصحح بما يوافق مشتهياتها.
ولم يكن ذلك التصحيح عندهم إلا الرجوع عن الحق الثابت إلى تلك الخيالات الوهمية التي
كانت تُدعى ظلمًا بنظرية «بطليموس».
ولا ينقصك على أنهم لم يقصدوا بالتصحيح سوى هذا النكوص من دليل؛ فلديك الأدلة ناطقة
فيما أَتَوْا من فعل في ذلك العام الذي منع فيه «غاليليو» عن أن يلقن علم الفلك أو
يناقش فيه مستعينًا بقواعد «كوبرنيكوس»، وعندما حظروا ذيوع كل كتاب يبشر بدوران الأرض.
وعلى هذا أصبحت قراءة كتاب «كوبرنيكوس» إثمًا لا يوازيه من عقاب سوى اللعنة الأبدية،
وقبل الناس أن يمضوا لهذا القرار خاضعين مُهطعين مقنعي رءوسهم.
لهذا خضعت أكبر العقول وأرشد الأحلام؛ فإنهم وإن لم تُطاوِعْهم موحيات عقولهم على
أن
يؤمنوا بالنظام القديم، فلا أقل من أن يتظاهروا بأنهم به مؤمنون. ولقد حدث هذا حتى بعد
أن فتح الطواف طول الأرض للعيون منفذًا تنفذ منه إلى الحق، وفُرجة ترى منها سبيل
الرشاد، ومهما يكُن من أمر فإن مثل المبشر اليسوعي «يوسف أكوستا» Joseph Acosta لَمثل رائع؛ فإن كتابه «تاريخ جزر الهند طبيعيًّا
وأدبيًّا» الذي نُشر في الربع الأخير من القرن السادس عشر، قد هدم كثيرًا من القواعد
التي كان يرتكز عليها عديد وافر من الأخطاء الفلكية والجغرافية. ففي ذلك الزمان الذي
قنع فيه العقل بالنقل، ومضى مُثْبِتًا للتقاليد؛ أوحى ذلك المبشِّر لأهل الأرض بحقائق
من العلم أمعن في التبشير بها إلى أبعد حَدٍّ ذهبت إليه شجاعته، وانتهت بسالته، غير أنه
ارتدَّ إزاء حركة الأجرام السماوية محافظًا محضًا؛ إذ أعلن في غير رهبة ولا خجل أنه
«رأى بعيني رأسه القطبين اللذين تدور عليهما السماوات كما تدور الرحى على
قطبيها.»
عاش في أوروبا في ذلك العهد رجل واحد هو «بطرس
آبيان» Peter Apian كان في مستطاعه أن يخدم قضية العلم، وأن يصد تيار الفكرات
البعيدة عن حكم العقل، النازلة على حكم الهوى والتقيلد، والتي كان من شأنها أن ظلت
متدافقة، أن تذهب بكثيرٍ من عظماء الرجال من ميدان التفكير العلمي الصرف، كما تكتسح
كثيرين من أحضان النصرانية. كان «آبيان» رياضيًّا عظيمًا وفلكيًّا ثبتًا في عصره. ولقد
أهلت به مواهبه وكفاياته لأن يصبح معلمًا في الفلك للإمبراطور «شارل الخامس» Charles V وكان مؤلفه في الجغرافية سببًا في أن
يذيع صيته ويرتفع ذكره، كما كان مؤلَّفه في الفلك طريقًا تنسم منه مراتب الشرف. أما ما
أدخل على الرياضيات من الأساليب المستجدة، وما اخترع في خدمة علم الفلك من آلات، فقد
نال به ثناء «كبلر» كما تبوَّأ به مكانة في تاريخ العلم لا يمحو ذكرها كر الدهر وتلاحق
العصور. ولقد أتيحت له فرصة كان من الواجب أن ينتهزها لكي يؤدي بها للإنسانية خدمة لم
يؤدِّها. فإنه لما ظهر كتاب «كوبرنيكوس» كان «آبيان» في أوج العظمة والقوة. وإن دفاعًا
يكتبه «آبيان» في هدوئه وصادق يقينه — حتى لو كان المقصود به معروفًا يسدى أو ظلم يمنع
— لمن المحقق أن يثمر وأن ينتج نتاجًا، وكان من الواجب على تلميذه الصادق الود له شارل
الخامس — وهو على عرش ألمانيا وإسبانيا معًا — أن يصغي لقولة يقولها، وأن يصيخ لدفاع
يتحرك به قلمه، غير أنه لسوء الحظ كان أستاذًا في معهد خاضع لأقسى التقاليد الكنسية،
ذلك المعهد هو جامعة «إنجولستاد» Engolstadt وكان من
أول وجباته أن يلقن مبادئ العلم «السلمي»، ويقصد بذلك عدم الخروج بالعلم عن نطاق ما ينص
عليه الكتاب المقدس كما فسَّره أساتذة اللاهوت. فأضاع بذلك «آبيان» فرصة كان من الواجب
ينتهزها ليدفع عن حقائق العلم ظلم الجهالة والعتو. ومضى هذا العلَّامة يلقن مبادئ علم
الفلك على حسب نظرية «بطليموس» وحسب موحيات «الأسترولوغيا»، وظل إزاء نظرية «كوبرنيكوس»
محايدًا لا مؤيدًا ولا منكرًا، بل ظل صامتًا. أما الأسباب التي أدت إلى صمته العميق
وقبوعه في قاعة محاضراته ساكتًا، فلن تُنسى ولن يغفل عنها باحث في تاريخ العلم، طالما
ادَّعت أية من الكنائس أن من حقها أن تتحكم في برامج التعليم في الجامعات.
وما من شك في أن الكثيرين من الجائز أن يُنحوا على الكنيسة الرومانية باللوم من أجل
هذا. ولكن الحق أن البروتستانت لم يكونوا بأقل تحمُّسًا في العمل ضد مبادئ العلم الحديث
ممَّا كان أضدادهم. فكل فروع الكنيسة البروتستانية — لوثريون، وكلفينيون، وأنغليكانيون
— قد تكاتفوا على مقاومة المذهب «الكوبرنيكي» وهم معتقدون أنه مناقض لنصوص الكتاب
المقدس. وأخيرًا انضمَّ إليهم البيوريتانيون Puritans
سالكين مسلكهم متتبعين خطاهم. قال مارتن لوثر: «يصغي الناس إلى منجم مأفون يحاول أن
يثبت أن الأرض تدور، وليس كذلك السماوات والأفلاك والشمس والقمر. ولا جرم أن كل من يريد
أن يحوز شهرة اللباقة والنُّهى يحاول أن يبث مذهبًا جديدًا زاعمًا أنه أصح المذاهب
وأصدق الحقائق، غير أن هذا الممسوس يريد اليوم أن يقلب قواعد علم الفلك رأسًا على عقب
في حين أن نصوص الكتاب المقدس تدل على أن «يوشع» قد أمر الشمس أن تقف، ولكنه لم يأمر
الأرض.»
أما «ميلانكوتون» Melanckoton فإن وداعته قد حالت
دون أن يقتفي خطوات «لوثر» في أن يرمي «كوبرنيكوس» بالكُفر، بل قال في مقالته المعروفة
بعنوان عناصر الفوسيقى Physics Tle Elementsof — والتي
طبعت بعد موت «كوبرنيكوس» بستة أعوام ما نصه: «إن أبصارنا تشاهد السماوات تدور في مدى
أربع وعشرين ساعة. غير أن أناسًا دفع بهم حب التبشير بالجديد أو حب الشهرة قد أذاعوا
أن
الأرض تتحرك، وأنه ليس كذلك الفلك الثامن ولا الشمس. أما إذاعة مثل هذه المبادئ علنًا
وبثها في الناس عيانًا فليس من سمو الهمة ولا من الأمانة في شيء؛ لأن ذلك يعطي الناس
مثلًا خطرًا مبغوض النتائج. والواجب على الرجل الذي يطلب الخير أن لا يحيد عن الحق كما
أنزله الله في كتابه وأن يخلد له.»
ومضى «ميلانكوتون» بعد ذلك ذاكرًا مقطوعات من المزامير والمتون الكنسية، رأى أنها
تؤيد بجلاء وصراحة مذهب أن الأرض ثابتة تمامًا وأن الشمس تدور من حولها، مضيفًا إلى ذلك
ثمانية براهين أخرى أيد بها زعمه، مستخلصًا منها «أن الأرض لا يمكن أن تكون في مكان ما
لم تكن في وسط الكون.» ولقد أمعن ذلك الرجل — وهو في نظرنا من أودع المصلحين — في القول
بأن من الواجب أن تفرض عقوبات شديدة تصد الذين يريدون أن يبشروا للناس بتعاليم
«كوبرنيكوس» عن تبشيرهم، وتزجرهم عن غيهم.
وبينما ترى أنصار المذهب «اللوثري» قائمين يناوئون مذهب دوران الأرض، بل ويرمون كل
مؤيِّد له بالكفر والهرطقة، إذا بك ترى شعبًا أخرى من شعب الكنيسة البروتستانتية
يتسابقون في تلك الحلبة متناهين. وتبوأ كالفن بكتابه «تعليقات على سفر التكوين» مكان
زعامتهم؛ إذ أعلن كفران كل من يقول بأن الأرض ليست في مركز النظام الكوني. وبدأ القول
بالإشارة إلى أول مقطوعة من المزمور التاسع والثلاثين ثم تساءل: «مَن مِن الناس يجرء
على أن يضع سلطة «كوبرنيكوس» فوق سلطة الروح القدس؟» أما «تريتان» Territin خليفة «كالفن» المعروف، فإنه أذاع حتى بعد أن مكن «كبلر»
و«نيوتن» لنظرية «كوبرنيكوس» و«غاليليو» وأتمَّاها ووضعا لها قواعدها الثابتة، مختصرة
اللاهوتي محاولًا أن يثبت — مستعينًا بكثير من نصوص الكتاب المقدس — أن السماوات والشمس
والقمر إنما يدُرن من حول الأرض التي هي ثابتة في مركز النظام الكوني.
وإنك لتقع في إنجلترا على مثل من ذلك الجهد اللاهوتي، حتى بعد أن أثبتت التجارب أنها
جهود بائرة لا نتيجة لها؛ فإن «هتشنستون» Hutchinson
في كتابه «مبادئ موسى» ودكتور «صموئيل
بيك» Dr. Samuel Pike في كتابه «الفلسفة المقدسة» و «هورن» Horn والأسقف «هورسلي» Horsely الرئيس
فوربس President Forbes في كتاباتهم الكثيرة، قد قاوموا مبادئ نيوتن كل مقاومة، بل
هاجموها على نقضها بنصوص الكتاب المقدس، وكذلك دكتور جون
أوين owen john وهو عَلَم من أعلام المذهب البيوريتاني Puruitanism فإنه أعلن أن نظام كوبرنيكوس، ليس بأكثر من خيال وفرض،
مناقض لنصوص التنزيل، ولم تعد تلك القاعدة جون
ويسلي John Wesley فإنه أعلن أن الآراء الفلكية الجديدة إنما تسوق إلى الكفر
والإلحاد.
ولم يكن عوام البرتستانت بأقل من الكاثوليك حظًّا في اتِّباع مثل هذه التعاليم؛ فإن
أهل مدينة «البنج» Elbing قد اعتادوا أن يلهوا بمشاهدة
رواية هزلية جعل فيها «كوبرنيكوس» موضع السخرية والاستهزاء. وكذلك سكان «نورمبرج» Nuremburg وهي من قلاع البروتستانت الحصينة. فقد
صنعوا مدالية كُتبت عليها عبارات خص فيها الفيلسوف ونظريته بأشد عبارات التهكم
والازدراء.
أما السبب الذي حدا بالناس لأن يقفوا ذلك الموقف من «كوبرنيكوس» وتعاليمه، فيتضح
لنا
جليًّا إذا نحن عرفنا موقف حفَظة العلم وخزَنة المعرفة — بروتستانت وكاثوليك — في ذلك
العهد، فإن موقفهم إذ ذاك يفسِّر لنا شيئًا من أصل الدعوى العريضة التي يصيح بها محدَثو
اللاهوتيين زاعمين أن من حقهم أن يمضوا قوامين على التعليم العام، وأن يظلوا قابضين على
زمام الخطا التي يخطوها العلم في نشوئه وارتقائه واختلاف متجهاته. ولقد كان لهم اهتمام
كبير بما كانوا يسمونه «بالتعليم السليم» من طريق «العلم السلمي»، حتى إنك لتجد في كثير
من الجامعات — حتى أواخر القرن السابع عشر — أساتذة قرروا على أن يُقسموا بأنهم لن
يؤمنوا بالفكرة «الفيثاغورية» أي: الكوبرنيكية الخصيصة بحركات الأجرام السماوية. ولما
أن اشتد أوار المعركة وتلظت نيرانها منع الأساتذة من أن يلقنوا تلاميذهم شيئًا ممَّا
كان يكشف عنه التلسكوب. وكانت تصدر الأوامر بذلك من السلطات الكنيسة إلى الجامعات في
«بينرا» و«إنسبروك» و«لوفان» و «دوي» Douay.
و«سلامانكا» وغيرها. وقد نرى أن رءوس تلك الجامعات قد مضوا فخورين أجيالًا متعاقبة بأن
جامعاتهم ظلت بريئة من تلك الفكرات المضادة للوحي، وأنها لم تلقن لطلابها. على أنه ليس
في سماعك أن هذه الأقوال كانت من مفاخر العلماء في ذلك العهد من الغرابة، بقدر ما في
سماعك أن بعض السلطات القائمة على العناية بأمر التعليم في أكبر الجامعات الحديثة تفخر
بأنها لا تشجع طلبتها على قراءة كتاب «ميل» Mill
و«سبنسر» Spencer و«داروين» Darwin ولم تقتصر الجهود على أن يحتفظ بالمعاهد الكاثوليكية
الرومانية سليمة من أن تغزوها هذه التعاليم لا غير، بل إنك لتعجب ويحق لك أن تعجب؛ إذ
تعرف أن الحقائق التي بثها «كوبرنيكوس» في مذهبه، لم يُعْنَ معهد بأن تظل بعيدة عنه
بقدر ما عُنِيَ معهد «ويتنبرج» Wittenburg جامعة
«لوثر» و«ميلانكوتون».
في أواسط القرن السادس عشر عاش في «ويتنبرج» — مركز الدعاية البروتستانتية — فلكيان
كلاهما حاز شهرة واسعة وصيتًا بعيدًا هما «ريتيكوس» Rheticus و«رينولد» Reinhold
وكلاهما درس مذهب «كوبرنيكوس» واعتقد بأنه حق، ولكن لم يُسمح لهما بأن يُلَقِّنَا ذلك
الحق الثابت لطلابهما. فلم يستطع «ريتيكوس» لا في محاضراته ولا في مؤلفاته التي نشرها
أن يذيع المذهب الجديد ولما ضاق بذلك ذرعًا ترك منصب الأستاذية في «ويتنبرج» حتى يتاح
له أن يبحث حرًّا وراء الحقيقة، وأن يذيعها. ولم يك «رينولد» بأسعد من زميله حظًّا؛
فإنه فضلًا عن اقتناعه وإيمانه بصحة المذهب الجديد كان مقسورًا على أن يدافع عن القديم
الفاسد، وأن يلقنه لطلبته، وكان مجبرًا على أن لا يذكر الفكرات الكوبرنيكية إلا لينصر
عليها فكرات بطليموس. على أنه لم يكن بذلك في مأمن من أن يناله الأذى؛ فقد عهد بتدريس
علم الفلك في تلك الجامعة بدلًا عنه إلى أستاذ غيره يدعى بيوسر Peucer سنة ١٥٧١، وقد أعلن حينذاك أن في هذا الأستاذ الجديد من حسن
التقدير ورجاحة العقل قدرًا، حمله على أن يرفض نظرية كوبرنيكوس، معلنًا في محاضراته
أنها مناقضة لبديهة العقل وغير جديرة بأن تلقن في معاهد العلم.
ومن أجل أن تصبح تلك الفكرات «اللاعلمية» أكثر استقرارًا في التعاليم التي كان يذيعها
البروتستانت في ألمانيا، وضع الكاهن «هنسل» Hensel
مختصرًا يدرس في دور العلم عنوانه «الرجوع إلى النظام الموسوي في أصل الكون»، أظهر فيه
أن مبادئ «كوبرنيكوس» الفلكية مناقضة لنصوص الكتاب المقدس.
ولا شبهة في أن هذه الحملة الكبيرة كان لها أثر بعيد. غير أن صداها ما زال يتجاوب
في
حقب الزمان حتى انتهى إلى البروتستانتية الحديثة حيث رن ثانية في طرد السلطات المشيخية Presbyterian Auihorifies لدكتور وودرو Woodrow في كارولينا الجنوبية، وفي طرد السلطات الأسقفية الميثودية Methodist episcopal authorities
للأستاذ «ونشل» Winchell في «تنيسي» Tennessee وفي طرد «السلطات العمادية» Baptists للأستاذ «توي» Towy في كنتكي Kentuky وفي طرد
الأساتذة من جامعة بيروت تحت تأثير السلطات البروتستانتية الأميريكية. كل هذا لأن هؤلاء
الأساتذة الكبار لم يلغوا عقولهم، وظلوا مستمسكين بما أوحت به تعاليم العلم الحديث.
وعامة ذا وقع في بضع السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر.
غير أن آيات الحق لم يكن من المستطاع إخفاؤها، ولم يكن من الهين أن يُهزأ بها أو
تُقتلع أصولها؛ فإن كثيرًا من كبار أصحاب العقول كانوا قد قبِلوها ومضوا بمبادئها
قانعين، إلا أنه لم يكن في أركان الدنيا الأربعة من استطاع أن يتفوه بها على مسمع من
المقام البابوي سوى رجل واحد. كان هذا المحارب الجديد، ذلك الخالد الفاني «جيوردانو برونو» Bruno وما زالت الأقدار تشيل به من أرض وتهبط
به في أخرى حتى أعيى؛ فلم يرجع إلى الذين تعقبوه واضطهدوه إلا وبيده وثائق مهلكة من
التنديد والطعن المقذع رماهم بها كآخر سهم في كنانته. لهذا حوصر في مدينة البندقية
وقُبض عليه وأُلقِي في أعمق سجون محكمة التفتيش في روما ستة أعوام طوال ثم أُحرِق
حيًّا، وذريت مع الريح بقاياه الترابية. ومع هذا فإن الحق لم يمت بل ظل حيًّا. ولم تمض
عشرة أعوام على استشهاد «برونو» في سبيل العلم، حتى أثبت «غاليليو» بمنظاره ما في نظرية
«كوبرنيكوس» كلها من حق ثابت.
على أنه في انتصار «غاليليو» تحقيق لنبوءة أخاذة بالألباب. فقد قيل لكوبرنيكوس قبل
أن
يموت بأعوام: «إذا كانت نظريتك صحيحة فإن الزهرة لا بد من أن ترينا من أوجهها ما يرينا
القمر.» فأجابهم: «إنكم على حق، ولست أدري ماذا أقول، ولكن الله رحيم ولا بد من أن يوحي
إليكم يومًا بما يمكن به الإجابة على ما تسألون.» على أن الله الرحيم زود المتسائلين
بالجواب سنة ١٦١١ عندما أظهر منظار «غاليليو»، على ما كان فيه من نقص، أوجه الزهرة
لأعين الناظرين.
(٣) الحملة ضد غاليليو
حول البطل الجديد غاليليو اجتمعت كل القوات وتناصرت معلِنة عليه حربًا ضروسًا. فإن
مستكشفاته قد خرجت بنظرية «كوبرنيكوس» من حَيِّزِ الفروض والتخمينات إلى حيث وضعت أمام
العالم كحقيقة عظمى؛ ولهذا ترى أن الحرب ضده كانت طويلة ممضَّة. فإن أنصار ما كان
يُدعَى «بالتعليم السلمي» قد أعلنوا أن مستكشفاته لم تكن إلا خداعًا، وأن تعاليمه تجديف
وكفر بالله. ولقد عاضد الكنيسة أساتذة، جُلُّ ما كان فيهم الدعوى والغرور، هاجموا
«غاليليو» بآراء آثمة دعوها «مبادئ العلم». أما المبشرون فاستندوا في حملتهم إلى نصوص
الكتاب المقدَّس، كما هاجمه اللاهوتيون ورؤساء محكمة التفتيش ومجامع الكرادلة، وأخيرًا
بابوان على التعاقب، حتى ظن خطأ أن صوت «غاليليو» قد خفت، وأن تعاليمه قد زالت من عالم
المعرفة الإنسانية.
ولسوف أسوق الكلام في هذه المعارك مطنبًا؛ لأنني لم أجد — في كل ما بحثت من الكتب
التي نُشِرَتْ في اللغة الإنجليزية — تلخيصًا جامعًا لمفصلاتها، ولأن تاريخ هذه المعارك
لم يشع عليه من نور التاريخ شعاع صادق إلا بعد أن أُذِيعَتْ حقائق كثيرة، ونُشرِت وثائق
ذات خطر عن محاكمة «غاليليو»، وكانت قد ظلت مطوية بين جدران الفاتيكان، حتى طُبِعَتْ
لأول مرة بعناية «ليبنوا» L’ Epinoi سنة ١٨٦٧، ومن بعد
بعناية «جلبر» Gilber و«برتي» Berti و«فافارو» Favarou
وغيرهم.
قامت أول حملة ضد «غاليليو» سنة ١٦١٠ عندما أعلن أن منظاره استطاع أن يكشف للعين
عن
أقمار السيار «جوبيتر» أي المشترى. فإن أعداءه قد رأوا أن هذا الاستكشاف قد خرج بنظرية
«كوبرنيكوس» عن حيز الفرض والتخمين إلى حيز الحقائق؛ فلم يُمهلوه بل ناصبوه العداء
سراعًا، معلنين أن طريقته والنتائج التي تترتب عليها منافية للبديهة، كما أنها مدعاة
للكفر والإلحاد. أما إزاء أسلوبه فإن الأساتذة الذين تربَّوْا في أحضان «العلم السلمي»
ومن ورائهم الكنيسة، قد أعلنوا أن الطريق القومي الذي رسمه الدين لكي يكون وسيلة للوصول
إلى الحقائق المتعلِّقة بعلم الفلك، هو طريق التفكير اللاهوتي المدعم على أساس النصوص
المنزَّلة في التوراة والإنجيل. وعلى هذه المقدمة بنوا نتائج عديدة منها أن
«أرسطوطاليس» لم يكن يعرف شيئًا من الوحي الجديد، وأن الإنجيل قد أظهر بكل الأساليب
التطبيقية المعروفة أنه لا يمكن أن يوجد أكثر من سيارات سبع، وبرهانًا على ذلك وجود تلك
المناير السبع التي ذُكِرَتْ في سفر رؤيا يوحنا
اللاهوتي
The Apocalypse٧ ثم المناير السبع ذوات الشعب التي في هيكل سليمان، وكنائس آسيا السبع. أما
مذهب «غاليليو» فيترتب عليه — بمقتضى القياس المنطقي — أن تتهدم الحقائق الكنيسية
وتزول. لهذا ترى أن الأساقفة والقساوسة، قد حذروا قطعانهم أن يؤخذوا بآراء «غاليليو»
الجديدة، كما أهاب كثير من أهل اليقين بمحكمة التفتيش أن تمدَّ يدها إلى الأمر، وأن
تتناول الهرطوق سريعًا بعدلها، وبلا مرحمة.
وعبثًا حاول «غاليليو» أن يبرهن على وجود الأقمار من حول المشترى بأن يريها للمشككين
من خلال منظاره. فإنهم كانوا لا ينظرون فيه على اعتقاد أن النظر من خلاله كفر، وإذا
نظروا ورأوا الأقمار بالفعل أنكروها على اعتبار أنها خيالات يصورها الشيطان فيجتنبونها،
حتى لقد أعلن الأب «كلافياس» Clavins أنه لكي ترى
أقمار المشترى، صنع الناس آلات تخلق الأقمار من حوله وهمًا. وعبثًا حاول «غاليليو» مرة
أخرى أن يحمي ذمار الحق الذي كشف له عنه بكتابات وجه بها إلى «كاستلي» Castelli البنديكتي، وإلى الغراندوقة «كريستين» Christine أظهر فيها أن تفسير الآيات المقدسة تفسرًا
حرفيًّا، لا يجب أن يطبَّق على حقائق العلم. فلم يفُز من ذلك بجواب، اللهم إلا بفكرة
أن
مثل البراهين التي بثها في كتبه تلك إلا تزيده إلا مقتًا واقتناعًا بهرطقته وأنه أشد
إفسادًا من «لوثر» ومن «كالفن» معًا.
إن الحرب ضد «النظرية الكوبرنيكية» بعد أن ظلت حتى ظهور «غاليليو» في همود، قد اشتعلت
نيرانها وتلظت بعد ظهوره. ولقد أعلن رجال الكنيسة أن أعظم برهان على فسادها وقوف الشمس
ليوشع. وزاد إلى ذلك اللاهوتيون فقالوا: «إن دعائم الأرض مثبتة تثبيتًا بحيث إنها لن
تتحرك أو تتحول عن مكانها. وإن الشمس تجري كل يوم من أحد طرفي السماء إلى الطرف
الآخر.»
غير أنه على الرغم من ذلك كان منظار «غاليليو» يجوب أنحاء السماء، ولم يلبث غير قليل
حتى أوحى للناس بآية أخرى، تلك هي جبال القمر ووديانه، فكان من ذلك حملة أخرى وحرب
جديدة.
هنالك أعلن رءوس الكنيسة أن في القول بجبال القمر ووديانه وبأنه يستمد نوره من انعكاس
ضوء الشمس على سطحه، مناقضة صريحة لما جاء في سفر التكوين من أن القمر عبارة عن ضوء
عظيم، ومما زاد الطين بلة أن أحد الفنانين قد خط على وجه القمر في صورة دينية رسمها،
صورة جبال ووديانه، بعد أن وضعه في مكانه العادي، تحت قدمي العذراء. ولم يكن لذلك من
نتيجة سوى أن يذاع أن ذلك الفعل انتهاك لحرمة شيء مقدس، وأن الفنان هرطوق كافر
بالله.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد فإن الحرب اشتد أوارها وحمي وطيسها، عندما كشف المنظار
عن
بقع الشمس — أو كلَفها — وعندما استنتج من حركة تلك البقع وتنقُّلها فوق سطحها أن الشمس
تدور حول محورها، فإن المونسنيور «إلسي» Elci من جامعة
«بيزا» Pisa قد حظر على «كاستلي» Castelli الفلكي أن يذكر بقع الشمس لتلاميذه. وكذلك
الأب «بوساوس» Busaeus في جامعة إنسبروك Inspruck فإنه منع الفلكي «شينر» Scheiner عن أن يذكر بقع الشمس وإن كان قد رآها وفرض لها تعليلًا
«سلميًّا» على رأي الكنيسة، وأن لا يعلن الاستكشاف بين جدران الجامعة أما في كلية
«دوي» Douay وجامعة «لوفان» Luvain فإن هذا الاستكشاف قد لعن وجرح، فأصبح لعنه قاعدة اتبعتها كل
الجامعات في أوروبا ومثالًا حذت عليه الكليات. على أن الأمر لم يقِف عند هذا الحد في
إسبانيا، فإن هذه المستكشفات وأمثالها قد بلغت هنالك من المقت حدًّا كبيرًا، حتى لقد
حظر التبشير بها حظرًا شديدًا في جامعة «سلامانكا» أشهر جامعات إسبانيا وأبعدها صيتًا،
ولم يرفع ذلك النير العقلي إلا منذ عهد قريب.
على مثال هذا تكون النتائج دائمًا، كلما عهد بالقوامة على ما تخرج عقول الألباء من
ثمار إلى أولئك الذين لا يرون في الدنيا لشيء من خطر بقدر ما يرون في خلاص الأرواح، دون
خلاص العقول. وما من شيء هو أكثر من هذا تلاؤمًا مع تلك الفكرة التي وضعها حديثًا فئات
مختلف من رجال الكنيسة، كاثوليك وبروتستانت، والتي يزعمون فيها أن من حق الكنيسة أن
تسيطر على نشر الحقائق العلمية وأن تدبر شئون المعاهد العلمية والجامعات.
إن رؤية الكلف الشمسية لم يقتصر إعلانها على «غاليليو» في إيطاليا، بل أعلن رؤيتها
الأستاذ «فابرشياس» Fabricius في هولاندا. وهنالك عمد
الأب شينر Scheiner إلى التأويل محاولًا التوفيق بين
اللاهوت والعلم، وبشَّر بنظرية علمية زائفة لم تنتج إلا أمر الثمر، ولم تنل إلا السخرية
والازدراء.
على أن الحرب لم تنَم عاصفتها، بل إن نزعات الفكر زادتها احتدامًا؛ فإن الأب
«كاكاشيني» Caccini قد عمد في إحدى خطبه إلى نصوص
من الكتاب المقدس مستندًا إلى النص القائل: «أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين
تنظرون إلى السماء؟!» لم يلبث أن يذيعها حتى شحذت المُدَى مسددة إلى قلب الفلكي الكبير.
فإن «كاكيني» لم يكد ينتهي من خطابه حتى خلص بنتيجة محصلها «أن علم الهندسة رجس من عمل
الشيطان.» وأن الرياضيين يجب أن يبعدوا نفيًا، على اعتبار أنهم النبع الذي يفيض بصور
الهرطقة. ولهذا ترى أن السلطات الكنسية قد خلعت على «كاكشيني» حلل الشرف بأن رفعت
منزلته وحبته برضوانها.
أما الأب «لوريني» Lorini فلم يبرهن فقط على أن
تعاليم «غاليليو» مدعاة للهرطقة، بل أثبت أن فيها إنكارًا لوجود الله، وحرض محكمة
التفتيش على التدخل في الأمر. وكذلك الأسقف «فيزول» Fiesole فإنه كان شديد العداء لنظام «كوبرنيكوس» فسب «غاليليو»
علنًا، وشكا أمره إلى الغراندوق. وعلى هذا خيل إلى رئيس أساقفة «بيزا» أن أقوم سبيل
يتبع هو أن يحوط «غاليليو» سرًّا وأن يرسله مقبوضًا عليه إلى محكمة التفتيش في روما.
وعلى الضد منه كان رئيس أساقفة «فلورنسا» فإنه اكتفى بأن يعلن أن المذهب الجديد مناقض
للكتاب المقدس. أما البابا «بولص الخامس» ففضلًا عمَّا كان يتظاهر به من الود لغاليليو،
داعيًا إياه أكبر فلكيي الأرض، مهيبًا به أن يزور روما، فإنه أوحى سرًّا إلى رئيس
أساقفة «بيزا» أن يستجمع الأدلة التي تؤدي إلى إدانته.
في هذه الآونة ظهر على مسرح الحوادث الكردينال «بيلارمين»
Bellarmin أكبر مدافع عن الدين، وهو رجل من أعظم من أقلَّت الأرض من
اللاهوتيين. كان معتدلًا مخلص السريرة، واسع العلم ولكنه كان شديد الاقتناع بوجوب أن
يوافق العلم نصوص الكتاب المقدس. أما الأسلحة التي تزود بها رجال من طابع «بيلارمين»
وطينته، فأسلحة لاهوتية صرفة. وقفوا أمام العالم مُظهرين ما يترتب على النتائج السوأى
التي تؤثر في اللاهوت النصراني، إذا ما ثبت بالبرهان أن أجرام السماوات إنما تدور حول
الشمس، ولا تدور من حول الأرض. وكان أعظم ما استندوا عليه من المعتقدات الدينية قولهم
بأن ما يدعي «غاليليو» من صحة استكشافه يهدم كل ما تسند إليه النصرانية من فكرة الخلاص.
وقرر الأب «ليكارز»
Lecarze أن المذهب يغشى معتقد تجسد
الأقنوم الثاني
٨ بشكوك ممضة. وقال آخرون: «إنه يقلب أساس اللاهوت رأسًا على عقب، فإذا كانت
الأرض سيارًا، وليست أكثر من سيارة بين سيارات عديدة تجوب الفضاء؛ إذن فلا يتفق أن يكون
قد سخرت لها كل تلك الأشياء الكونية، ممَّا يعتبر من دعامات المعتقد النصراني. وإذا كان
هناك سيارات أخرى وكانت حكمة الله تقتضي أن لا يخلق من شيء عبثًا؛ ترتب على هذا أن تكون
تلك السيارات مأهولة. وهنا نتساءل كيف يمكن أن يكون أهلها قد تنسلوا عن آدم؟ وكيف يمكن
أن يرجعوا بأصلهم الذين هم مدينون بوجودهم له إلى سفينة نوح؟ وكيف نعتقد بأن المسيح
منقذ النوع الإنساني قد كفر عنهم؟» ولم يكن هذا الأسلوب قاصرًا على لاهوتيي الكنيسة
الرومانية، فإن «ميلانكوتون» وهو بروتستانتي، قد اتبعه في حملته على «كوبرنيكوس»
ومدرسته.
وإلى هذه الكتلة اللاهوتية العظيمة تضاف قوة أخرى، ظلت ترسل على المذهب الجديد نارًا
تلظيها المتون اللاهوتية، والنصوص المنزلة.
غير أن نيران الحرب ما زالت تزداد تسعرًا واحتدامًا، بعد أن اتخذ فيها من الأسلحة
بعض
ضروب تستحق أن نخصها بالعناية. تلك أسلحة من الهين أن نبحثها وأن نحيط بها علمًا؛ لأنك
تراها أينما ولَّيْتَ وجهك في ميدان حرب صورع فيه العلم. ولكنها في ميداننا هذا قد
استخدمت بطريقة جعلتها أرهف حدًّا وأمضى نصلًا، منها في كل ميدان آخر. وما هذا السلاح
المحدود الغراب سوى كلمتين: أولاهما كلمة «ملحد»، والأخرى كلمة «كافر بالله». كلمتان
طالما وُجِّهَتَا لكل إنسان حاول مرة في تاريخ الدنيا أن ينفع بني آدم من أية طريق
وبأية وسيلة. أما الجدول الذي يحوي أسماء هؤلاء الكفرة الملحدين، فتنطوي دفتاه على
أسماء أعظم مَن سارت به قدم من رجال العلم والمنقطعين للدرس والمستكشفين والعاملين على
هناء الإنسانية. سدد ذلك السلاح القوي إلى صدور أمثال إسحق نيوتن وباسكال ولوك وملتون،
وحتى إلى صدر فينيلون وهووارد.
لم يبقَ من البراهين التي أقامها الباحثون على وجود الله من برهان نقل في منازل
البقاء ليصل إلى رجال الأعصر الحديثة، سوى ما أقام «ديكارت» Dekeartes مستمكنًا من نفوسهم وعقولهم. ومع كل هذا فقد حاول لاهوتيو
البروتستانت في هولاندا أن يوقعوه تحت آلات العذاب، وأن يلقموه الموت لقمة سائغة بتهمة
أنه كافر بالله. وعلى هذا السَّنَن سار لاهوتيو الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في
فرنسا، فإنهم خيبوا له كل أمل في الحياة، ولم يغفلوا عن أن يحرموه من كل ما كان يستحق
من تشريف وتمجيد بعد موته.
لم تعد هذه «النعوت» لتُتَّخَذَ سلاحًا في عصر التمدين الحديث.
٩
فإنها سهام مسممة بل كرات متفجرة طالما أشعلت في الجماهير نار الكراهية والحقد، وكم
انتشر حولها من دخان أعاق العيون عن أن تنظر إلى حقائق الأشياء كما هي. بل كم من مثل
في
التاريخ يَدُلُّنَا على أنها أحرقت نفس الأيدي التي أشعلتها. تلك سهام تقطع نياط
الأمهات المشفقات، وتختطف أرواح الأبناء وهم في حجور الآباء، وقد تصيب صميم القلب
الخافت والجسم جثة هامدة؛ لأنها لا تترك من ورائها سوى جروح مسمومة في قلوب أولئك الذين
هم كانوا لهم أكثر حبًّا وعليهم أشد إشفاقًا؛ حذر أن يفوتهم الخلاص الآخرون، أو أن
ينصبُّ عليهم الغضب القدسي، ولا مرية في أن هذا السلاح — خلال ذلك الزمان — ولو أنه
كثيرًا ما بلغ من الحدة مبلغًا أقض مضاجع الآباء المشفقين وأفزع الأمهات المشفقات، كان
فيه بعض الضعف والانحلال؛ لأنه كثيرًا ما كان يصيب المعتدين بضربات أقسى من تلك التي
كانت تصيب المعتدى عليهم على أن الحال لم تكن على هذه الصورة في أيام «غاليليو»، فإن
هذا السلاح كان في عهده على أشد ما ظهر حدة وتسميمًا للقلوب والأفكار.
على أن رئيس أساقفة «بيزا» لم يستنكف أن يتخذ من عدد الحرب ما هو أحط من ذلك وأدنى،
فإن هذا الرجل — الذي لم تكسب كاتدرائيته من الشهرة ما سوف يبقى ذكرها إلى آخر الدهور،
إلا باستكشاف «غاليليو» لسُنَّة من سنن الطبيعة الكبرى وصل إليها من مرآة قنديلها يهتز
إلى الجانبين أمام مذبحها — لم يكن من أولئك الأساقفة الذين جبلوا من طيبة «بوروميو» Borromeo أو «فينيلون» Fenelon أو «شفيروس» Chverus فإن
من سوء حظ الكنيسة، بل ومن سوء حظ الإنسانية كلها أن يكون رئيس أساقفة «بيزا» في ذلك
العصر رجلًا متعصبًا دساسًا، دبر بإحكام طريقة الإحاطة بالفلكي الكبير والقبض
عليه.
كتب «غاليليو» بعد أن حرمت الكنيسة مستكشفاته، إلى صديقه «كاستللي» وإلى الغراندوقة
«كريستين» كتابين أراد أن يظهر فيهما أن ما وصل إليه من الحقائق الكونية من المستطاع
جعلها توافق ظاهر التنزيل. ولقد حاول رئيس أساقفة «بيزا» بإشارة من محكمة التفتيش في
روما أنه يحصل على الكتابين، وأن يظهرهما عند الحاجة؛ برهانًا على أن غاليليو قد نفث
سموم الهرطقة في تضاعيف اللاهوت، وفي تضاعيف المتون المنزلة، وبذلك يقع بين براثن محكمة
التفتيش لهذا مت رئيس الأساقفة إلى «كاستللي» أن يريه الخطاب الأصلي المكتوب بخط
«غاليليو» نفسه ولكن «كاستللي» رفض. وهنا تظاهر كبير الأساقفة «لكاستللي» إفكًا وزورًا
بما يحمل في نفسه من كبير الاحترام لنبوغ «غاليليو» وأنه مشوق لأن يعرف أكثر مما عرف
من
مستكشافته، على الضد مما كان يكتب به إلى رئاسة محكمة التفتيش من الطعن والتحرض ضد
«غاليليو». تلك حقيقة كشفتها البحوث الحديثة منذ عهد قريب. ولما أن أخفق في حيلته هذه
خلع قناع الرياء، وأعلن الحرب صراحًا.
إن رواية الوقعة التي دارت من حول «غاليليو» جانب لتحطيمه وجانب لنصرته، لشيء يلذ
سماعه، لو لم يكن فيها من الأمثال أسوأها ومن الرذائل أشنعها، كانت دسائس من جانب يقوم
من الجانب الآخر ما يفسدها، وكانت مؤامرات في ناحية يدبر في ناحية أخرى ما يحبطها، وكان
كذب وكان تجسس، ومن وراء كل هذه الدنايات جماهير غفيرة من قساوسة وأساقفة ورؤساء أساقفة
وكرادلة، وبابوان هما بولص الخامس Paul V وأربان الثامن Urpan VIII تغلي مراجل صدورهم، متجادلين
متشاحنين، مولولين منادين بالويل والثبور، وعظائم الأمور.
غير أن القوات المتناحرة كانت شديدة المرة. ففي سنة ١٦١٥ دُعي «غاليليو» ليقف أمام
محكمة التفتيش في روما، وبذلك تهيَّأت تلك الحفرة العميقة التي طالما عمل العاملون على
حفرها تحت قدميه. وعهد إلى فئات منوعة من لاهوتيي محكمة التفتيش أن يبحثوا قضيتين
استُمِدَّتَا ممَّا كتب «غاليليو» في كلف الشمس، فظلوا يبحثون شهرًا من الزمان، ثم
أصدروا قرارهم فقالوا بأن «القضية الأولى» — قضية أن الشمس ثابتة في مركز النظام الكوني
وأنها لا تدور حول الأرض — تجديف مضاد للبديهة ومناقض لقضايا اللاهوت، وأنها هرطقة
لمعارضتها تصريحات لنصوص الكتاب المقدس. وأما القضية الثانية — قضية أن الأرض ليست في
مركز النظام الكوني، ولكنها تدور من حول الشمس — فأمر مناقض للبديهة منقوض في الفلسفة،
وفيه من وجهة النظر اللاهوتي منافاة للمعتقد الصحيح.
هنا تدخَّل البابا بولص الخامس بنفسه في الأمر مرة ثانية، وأمر أن يقف «غاليليو»
أمام
محكمة التفتيش ليجيب على التهم الموجهة إليه، فوقف أعظم عالم أقلته الأرض في زمانه،
أمام أعظم لاهوتي أظلته السماء في القرن السابع عشر. وقف «غاليليو» أمام «بيلارمين».
وشرح «بيلارمين» لغاليليو خطأ رأيه وأمره أن يُقلع عنه. أما «ده لودا» De louda فقد تزوَّد من البابا بخطاب حمله إلى محكمة
التفتيش يأمر فيه بأن يُلْقَى الفلكي العظيم في أعماق سجون التفتيش، ما لم يقلع عن رأيه
ويعلن عن فساده. وهنا أمر «بيلارمين» «غاليليو» أن يذعن «باسم قداسة البابا وباسم كل
المجامع التابعة للبلاط المقدس، مقلعًا عن الاعتقاد بالرأي القائل بأن الشمس مركز
النظام الكوني وأنها ثابتة، وأن الأرض تتحرك، وأن لا يلقن هذا الرأي لأحد أو يدافع عنه
أو ينشره بأية وسيلة شفويًّا أو تحريرًا.»
فاستسلم «غاليليو» لقضاء القوة، وأذعن لهذه الإرادة، وتعهد بأن يظل مطيعًا لها،
أمينًا عليها وفيًّا بعهدها.
حدث هذا في سنة ١٦١٦، وبعد ذلك بأسبوعين تحرك «مجمع الفهرست» كما تثبت ذلك الخطابات
والمستندات التي ظهرت حديثًا — تحت تأثير البابا بولص الخامس — مصدرًا بلاغًا جاء فيه
«أن المذهب القائل بحركة الأرض المزدوجة حول نفسها ومن حول الشمس فاسد، فضلًا عن أنه
مناقض تمامًا لنصوص الكتاب المقدس.» وأن هذه الفكرة محظور تلقينها للناس أو الدفاع
عنها. وفي هذا البلاغ نفسه حُرِّمَتْ ولُعِنَتْ كل كتابات «كوبرنيكوس» «وكل الكتابات
التي تثبت حركة الأرض.» وكذلك حرم على الناس قراءة كتاب «كوبرنيكوس» القيم، حتى يحور
بما يلائم ما ترى محكمة التفتيش من رأي في نظام الكون، وكذلك كتابات «غاليليو» و«كبلر»
قد شملها البلاغ بتحريمه كل الكتب التي تثبت دوران الأرض، وإن لم تذكر بإعلامها.
ولقد أثبتت هذه النواهي في الفهرست.
١٠ أما المقام البابوي نفسه، مقام القاضي المعصوم من الخطأ المبرَّأ عن الزلل،
بل المُعلم الذي يوحي لأهل الدنيا بما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فوقع
على صدر الفهرست بالخاتم البابوي المعروف، مباركًا تلك النصائح بتصديقه القدسي عليها
وإجازته لها.
وظل «غاليليو» بعد صدور هذا الحكم زمانًا في روما. ومن الظاهر أنه لم يمكث بها إلا
ليجد لنفسه مخرجًا من المصاعب التي أحاطت به، ولكنه لم يلبث غير قليل حتى تحرجت به
الحال لما كان يعانيه من اضطهاد السلطات الكنسية له فعاد إلى «فلورنسا» إذ دعي إليها،
وظل قابعًا في صومعته بالقرب من المدينة لا يحرك ساكنًا، مكبًّا على علمه كل إكباب، من
غير أنه ينشر شيئًا، اللهم إلا خطابات كان يبعث بها سرًّا بين حين وآخر إلى أصدقائه في
أطراف أوروبا.
غير أنه لم يلبث على ذلك غير قليل حتى تبدلت الحال. فإن الكردينال «بربريني» Berberini — وكان يتظاهر بحرية الرأي والإخلاص
لغاليليو — أصبح بابا متخذًا لنفسه اسم «أربان الثامن» فتجددت الآمال في صدر «غاليليو»،
وأخذ يعلن أنه لا يزال حريصًا على معتقده في صحة مذهب «كوبرنيكوس». وهناك تجددت الحوادث
القديمة؛ إذ طلب إلى «غاليليو» أن يعود إلى روما ثانية، واجتهد البابا «أربان الثامن»
أن يخدعه عن مذهبه، أخذًا على نفسه مئونة التعب لكي يظهر للفلكي الكبير خطأ ما يذهب
إليه بالدليل والبرهان. ولكن كثيرًا من المعارضين لم يجدوا في أنفسهم من سعة الصدر ما
وجد البابا؛ إذ ظهرت كتب عديدة تهاجم هذا المذهب. كتب لم يراع واضعوها أبسط ما تتطلب
الرجولة من صفات؛ لأنهم — وهم ينشرون مؤلفاتهم — كانوا يعلمون علم اليقين بأن «غاليليو»
كان ممنوعًا بالقوة من أن يدافع عن نفسه. ومن أجل أن تقيم الكنيسة برهانًا جديدًا على
ضعفها وعجزها عن أن تمضي قوامة على بث التعاليم العليا، قطعت عن «غاليليو» راتبه كأستاذ
في جامعة «بيزا»؛ ومن ثَمَّ كثر اللغط من حوله والجدال. بل بدأت المعاول تحفر من تحت
قدميه هوة جديدة. فكما أن رئيس أساقفة «بيزا» قد حاول من قبلُ أن يخدعه بكلمات حلوة
ليستجمع ضده دلائل يسلمه بها إلى محكمة التفتيش، كذلك فعل من بعد الأب «غراسي» Grassi وبعد أن أخفق في عدة محاولات أراد بها أن يخرجه
من الصمت إلى الكلام بالتمليق طورًا وبالوعد طورًا آخر، فاجأه بأن أعلن أن آراءه تسوق
إلى إنكار الوجود الحقيقي لسر الأوخارستيا؛ أي تناول القربان المقدس.
في الهجوم الأخير على «غاليليو» تناصرت قوات عظمى لتصب عليه نارًا حامية. تلك نار
قد
ترى في كل الميادين التي يكون فيها العلم طرف قتال. وما هي في الحقيقة إلا طريقة
الاتهام العام. ففي سنة ١٦٣١ قام الأب ملشوار إنخوفر melchoir
Enchoer المنتمي
إلى اليسوعيين، واستجمع من حوله كل ما استطاع من قوة ليُنْحِي بها على كاهل «غاليليو»
معلنًا أن القول بحركة الأرض أسف كل ضروب الهرطقة وأكبرها إثمًا، وأشدها في الدين قدحًا
وأقذعها قذفًا، وإن ثبات الأرض معتقد مقدس ثلاثًا، وإن البرهنة على فناء النفس
الإنسانية وعدم خلودها وإنكار وجود الله وامتناع الجسد، أشياء يمكن أن يُتسامح فيها قبل
أن يتسامح في البرهنة على أن الأرض تتحرك.
أما في الجانب الآخر من أوروبا فقد ارتفع صوت تجاوبت من حوله أصداء قوية، إذ أخرج
اللاهوتي «فروماندرس»
Fromandus من بين جدران
كاتدرائية «أنفرس» مقالته التي سماها «ضد
أرسطارخس»
anti-Aristarchus ونشرها في الناس. وبدأ أول صفحة منها بلعنة «كوبرنيكوس»
مثبتًا أن الوحي العلمي الجديد لم يكن سوى توسُّع في شرح نظرية وضعها من قبل فلكي من
الوثنيين. وأعلن «أن التنزيل يقاوم كوبرنيكوس وأنصاره.» ومن أجل أن يثبت أن الشمس تدور
من حول الأرض رجع إلى المزامير التي تتكلم في الشمس وفي إشرافها «كما تخرج العروس من
خدرها.» ولكي يبرهن على ثبات الأرض رجع إلى سفر الجامعة
Ecclesiastes مستندًا إلى نص يقول بأن الأرض ثابتة
إلى ما لا نهاية
١١ ومن أجل أن يظهر فساد نظرية «كوبرنيكوس» من طريق المشاهدة تراه يقول بأن
هذه النظرية لو كانت صحيحة فلا بد من أن يستمر الهواء هابًّا من جهة الشرق على الدوام،
وأن البنايات المشيدة فوق الأرض بل الأرض نفسها، كان ينبغي أن تطير هائمة في الفضاء
بقوة اندفاع عظيمة تستلزم أن يتهيأ الناس بمخالب كمخالب القطط، حتى يستطيعوا أن يبقوا
فوق ظهرها بأن يثبتوا مخالبهم فيما تصل إليه من الأجسام. ولم يلبث عند هذا، بل عمد إلى
«أرسطوطاليس» وإلى القديس «توماس أكونياس» مستعينًا باللاهوت والعلم معًا؛ لكي يبرهن
على أن الأرض يجب أن تثبت في المركز، وأن الشمس يجب أن تدور من حولها.
على أن مقاومة نظرية «كوبرنيكوس» لم تقتصر على المتعصبين من أهل الدين، فإن رجالًا
عظام القدر كبار الخطو مثل «جان بودن» Jean Bodin في
فرنسا و سير «توماس برون» sir Toomas Browne في
إنجلترا قد أعلن كلاهما أن مذهب «كوبرنيكوس» منافٍ لنصوص التوارة والإنجيل.
(٤) انتصار الكنيسة على غاليليو
بينما كانت أخبار الانتصار على «غاليليو» وعلى الحق الثابت كشف له عنه، تنهال من
كل
ناحية وتتجاوب بأصدائها نواحي أوروبا، كان الفلكي الكبير مكبًّا على كتابة مقالة قصيرة،
وضعها في صورة محاورة أورد فيها كل البراهين التي تؤيد نظريتي «كوبرنيكوس» و«بطليموس»
وكذلك البراهين التي تنقضهما، معلنًا خضوعه لكل ما يمكن أن تفرض محاكم الكنيسة من
الأوامر، إذا سمح له بطبعها ونشرها. وفي النهاية وبعد مناقشات طويلة استغرقت ثمانية
أعوام، رضي رؤساء الدين أن تطبع تلك المقالة، وعلق طبعها على شرطٍ مزرٍ، هو أن يكتب
الأب «ريشيارديني» Ricciardini رئيس البلاط المقدس،
مقدمةً تتفق وما يرى في الأمر من رأي، وأن يوقعها «غاليليو»، وفيها استعرضت نظرية
«كوبرنيكوس» على زعم أنها أضغاث أحلام ونزعات خيال، وليست بشيء جدي ينافي مذهب
«بطليموس» الذي حققت محاكم التفتيش صحته بعناية البابا «بولص الخامس» سنة ١٦١٦.
ظهرت رسالة «غاليليو» الجديدة التي سماها «المحاورة» Il Dialogo سنة ١٦٣٢ وصادفت نجاحًا باهرًا؛ لأنها هيَّأت مؤيدي مذهب
«كوبرنيكوس» بأسلحة جديدة مرهفة النصال، محدودة الغراب، أما المقدمة فلم يبقَ في أوروبا
موضع قدمٍ لم تحدجها فيه العيون بنظرات السخرية، أو ترسل إليها الثغور فيه بسمات
الازدراء، على الرغم مما كان فيها من روح الورع والتقوى، وكان هذا سببًا في أن يثير
انفعال أعدائه وهنالك هَبَّ اليسوعيون والدمنيكيون، بل والأغلبية العظمى من رجال الدين
من مراقدهم، وعادوا إلى النار القديمة ينفخون في رمادها، فيوقظون لهبها، ويسعرون
ضرامها؛ لتبلغ ألسنتها إلى حَدٍّ لم تبلغ إليه من قبل. وفي مركز حلقتهم وقف البابا
«أربان الثامن» ليشرف بهامة الجبار على ما يترامى حواليه من لهيب الفتنة الذي اضطرم،
بعد أن كاد يكون رمادًا، ليزكيه بما يبعث به قلبه من وقود الحقد والكراهية. وهذه القوات
العظيمة ناءت بجماعها على كاهل «غاليليو».
مست هذه النار «غاليليو» في موضعين؛ الأول: مقامه العالمي وعزة نفسه؛ جزاء له على
أن
يضع براهين البابا التي فاه بها لدى محاولة إقناعه بفساد مذهبه في فم شخص من أشخاص
المحاورة، وجعله البراهين التي تنقضها في فم شخص غيره. والثاني: شعوره الديني. ولقد كان
ما مسه من الضر في الثانية أبلغ ممَّا مسه في الأولى ولطالما كرر ذو القداسة المعصوم
لكل من وقعت عليه عينه من الناس ما في الكتاب المقدس من نصوص التنزيل التي تثبت إثباتًا
قاطعًا وبلا شبهة من تأويل، أن الشمس والسيارات إنما يَدُرْنَ من حول الأرض، وأن إنكار
ذلك إنكار للوحي نفسه ولا شبهة في أنه لو صح أن يقال
بأن رجلًا من رجال الدين كان في ذلك العصر أبعد من غيره عن التأثُّر بروح الحق واليقين،
فإن «أربان الثامن» كان أبعد الناس جميعًا عن تلك الروح تلقاء هذا الأمر كله.
من حول «أربان الثامن» تراكت أعظم كتلة كوَّنها سوء الحظ وأربتها التعاسة التي أحاطت
بالكنيسة القديمة في كل عصورها، فلو أنه كان واسع العقل متسامحًا مثل «بنيدكت الخامس
عشر Benediekt XV» أو لو أنه فقه كيف تكون
الاستقامة والاعتدال مثل «بيوس السابع Pius VII»، أو
لو أنه حاز شيئًا من صفات العلم والاستعماق في الدرس مثل «ليو الثالث عشر Leo XIII»، لما ناءت الكنيسة تحت أحمال تلك الفضائح التي حوطت
قضية «غاليليو»، ولأصبح في مستطاع المدافعين عنها أن يفخروا أنها فتحت — بلا خوف ولا
رهبة — باب عصر جديد ينعم بخيراته أبناء آدم، بدل أن يلجَئوا إلى تلك الضروب المختلفة
من المواربة والخداع؛ ليلقوا عن أكتافها مسئولية تلك الأضرار العظمى التي أصابت
الإنسانية.
ولكن الأمر لم يكن كذلك فإن «أربان الثامن» لم يكن بابا لا غير بل كان أميرًا من
بيت
«بربريني Berberini» فأخذته العزة بالإثم ومضى
مغضَبًا، كيف أن براهينه تُناقَش بين الناس علنًا وبلا حجاب!
أثمرت أول الدسائس التي دبَّرها أعداء «غاليليو» ثمرة مباشرة الأثر إذ حُرِّمَ بيع
كتابه، ولكنهم سرعان ما رأوا هذه الوسيلة غير مجدية نفعًا؛ لأن الطبعة الأولى من الكتاب
كانت قد انتشرت في كل بقاع أوروبا؛ وهنا تضاعف سخط «أربان الثامن» وزاد غيظه، ولم يكن
لديه من سبيل يتبعه إلا أن يضع «غاليليو» ومؤلفه بين يدي محكمة التفتيش، وعبثًا حاول
«كاستللي» البنيديكتي أن يقنع غيره بأن «غاليليو» يحترم الكنيسة، ولا يهزأ بمبادئها،
بل
سُدًى ضاعت كل جهوده في سبيل أن يثبت لرجال الكنيسة «أنه ما من شيء يمكن عمله الآن من
شأنه أن يمنع الأرض عن الدوران.» ولكنه طرد مغضوبًا عليه مقصيًّا به عن الكنيسة، وقسر
«غاليليو» على أن يقف أمام تلك المحكمة المهيبة المخيفة واحدًا فردًا بلا مدافع أو
نصير، وهنالك عُذِّبَ مرارًا عديدة بأمر البابا «أربان الثامن» وهذه حقيقة طالما خفي
على العالم أمرها، ولكنها عُرِفَتِ الآن وفُضح سرها. وكذلك اتضح من المستندات التي حفظت
حتى اليوم عن محاكمته، أنه حُمِلَ على أن ينكر مشايعته لمذهب «كوبرنيكوس» تحت تأثير
التهديد والوعيد، وأنه سُجِنَ بأمر البابا بيْد أن رءوس محكمة التفتيش يرجعون في كل هذا
إلى السلطة البابوية وكل تلك الجهود العظيمة التي بُذِلَتْ في سبيل أن تخفي الكنيسة
الإجراءات قد ذهبت سدى وكل العالم اليوم إنما يعلم علم اليقين بأن «غاليليو» قد أُهينت
كرامته، وسُجن وهُدِّد تهديدًا هو العذاب الجسماني بعينه، وأنه قسر أخيرًا على أن يعلن
جاثيًا على ركبتيه، الاعتراف الآتي:
أنا غاليليو، وفي السبعين من عمري، سجين جاثٍ على ركبتي، وبحضور فخامتك،
وأمامي الكتاب المقدس الذي ألمسه الآن بيدي، أعلن أني لا أشايع — بل ألعن
وأحتقر — خطأ القول وهرطقة الاعتقاد بأن الأرض تدور.
١٢
إنه ولا شك قد غُلِبَ على أمره؛ لأنه قسر على أن يظهر أمام كل الأجيال القادمة بمظهر
الحانث في قسمه بعد مغلَّظ الأيمان. ومن أجل أن يتم انتصارهم عليه، وأن يثلموا ما بقي
له من شرف النفس، اضْطُرَّ على رغم منه أن يقسم بأن يبلغ إلى محكمة التفتيش أمر كل رجل
من رجال العلم يمكن أن يعرف عنه أنه يؤيد هرطقة القول بدوران الأرض.
ولقد أثار قسم «غاليليو» هذا عجب الكثير من الناس، حتى إن ذلك كان سببًا في أن ينكر
عليه بعض أبناء عصره لقب «الشهيد»، غير أن هؤلاء الرامين عن قوس الشعور بما يقولون، لم
يقدروا ظروف الرجل قدرها. فقد كان شيخًا كبيرًا عمر إلى السبعين من السنين المثقلة
بالهموم والأحزان، وقد حطمته آمال الدنيا ومخاوفها، وهدمته متاعبها وواجباتها، وكم سعى
متلهفًا من «فلورنسا» إلى «روما» مكبًّا على وجهه، ونصب عينيه تهديدات البابا بأنه إذا
تأخر عن القدوم «أُخِذَ في الإغلال» وكان فوق ذلك مريض الجسم والعقل، سليم إلى أعدائه
بيد الغراندوقة التي كان من الواجب أن تحميه وأن تحيطه بعنايتها، ولم يكَد يبلغ روما
حتى احتوته غرف التعذيب وانصبَّت عليه الآلام ألوانًا، ولقد كان يعرف جيدًا ما هي محكمة
التفتيش وكان يلوح له شبح «جيوردانو برونو» بين اللهيب ماثلًا أمامه كأنما ذلك كان
بالأمس الفارط، وفي نفس تلك المدنية ومن أجل «هرطقة» العلم والفلسفة. وكان يتذكر أنه
من
قبل ثمانية أعوام أحيط برئيس أساقفة «سبالاترو» Spalatro «ده
دومينيس» De Dominis وسُلِّمَ إلى محكة التفتيش متهمًا «بهرطقة العلم» وبقي بين
براثنها حتى مات في جوف السجن، وأنه أُحْرِقَ بعد موته ما كتب على مرأى من المؤمنين.
ولقد استمر اضطهاد «غاليليو» كل أيام حياته. كلا، بل بعد مماته؛ لقد بقي في المنفى
بعيدًا عن أسرته، بعيدًا عن أصدقائه، مقصيًّا به عن صناعته النبيلة، وقسر على أن يظل
خاضعًا لعهده بأن لا يتكلم في نظريته. ولما أن توسل إلى أعدائه وهو بعدُ يعاني أشد آلام
المرض وأعظم تباريح السقام، مقرونة بأقصى الآلام النفسية التي سببتها الكوارث التي نزلت
بأسرته، طالبًا أن يمنح من الحرية قدرًا ضئيلًا، كان التهديد بإلقائه في غيابات السجن
على ملتمسه الصغير جوابًا. ولما أن قررت لجنة خاصة عينتها السلطات الدينية بأنه أصبح
أعمى لا يبصر، وأنه ذهب ضحية المرض والحزن، مُنِحَ بعض الحرية ولكن بحدود جعلت تلك
الحرية استعبادًا. ولقد أُجْبِرَ على أن يواجه هجمات أعدائه على نفسه وعلى نظريته،
هجمات الازدراء والسخرية والتضليل، من غير أن ينبس ببنت شفة أو يحرك بالرد لسانًا، ورأى
الذين محضوه الصداقة والحب والاحترام، ينزل بهم العقارب الصارم والظلم الفادح، فنُفِي
«شيامبولي» Ciampoli «كاستللي» ورأى «ريشياردي»
رئيس البلاط المقدس و سكرتير البابا، يبعدهما «أربان الثامن» عن وظيفتيهما محقَّرين.
ورأى عضو محكمة التفتيش في «فلورنسا» يوبَّخ أقذع توبيخ؛ لأنه أمر بطبع كتابه. وعاش
ليرى الحقائق التي استكشفها تكتسح من كل الكليات الكنسية ومن كل جامعات أوروبا، بل ليرى
عضو محكمة التفتيش يأمر بأن يُستبدل كل نعت طيب يردد به ذكره في أي كتاب يراد طبعه،
بأخبث النعوت وأحط الذكريات.
ولقد أخذ رجال الكنيسة يُعِدُّونَ العُدة بعد ذلك ليتموا تحطيم نظرية «كوبرنيكوس»،
وأن يهدموا البراهين التي أقامها «غاليليو» على صحتها ففي ١٣ يونية سنة ١٦٣٣ أمر المجمع
المقدس، بعد موافقة البابا الذي كان قائمًا إذ ذاك، أن يرسل الحكم الصادر ضد «غاليليو»،
وكذلك إقراره إلى كل «قاصد رسولي» Nuncio في أوروبا
بأجمعها، وإلى كل رؤساء الأساقفة والأساقفة وأعضاء محاكم التفتيش في إيطاليا. وفي هذا
المستند التاريخي صدرت الأوامر مشددة بأن يعلن الحكم والقسم معًا «إلى كل القساوسة، وأن
يحيط به فضلًا عنكم كل أساتذة الفلسفة والرياضيات؛ حتى يعرفوا لماذا حاكمنا «غاليليو»
وأن يحيطوا علمًا بمقدار ما في هذه الخطيئة من خطر فيجتنبونها، وليبتعدوا جهد مستطاعهم
عن أنواع العقاب التي لا بد من أن تنزل بهم إذا ما وقعوا في حالة تشبه حالة
غاليليو.»
وكان من نتيجة هذا أن اجتمع كل أساتذة الفلسفة والرياضيات والفلك في مختلف الجامعات
في أنحاء أوروبا وقرئ عليهم هذا الصك. ولقد كان هذا
العمل بردًا وسلامًا على قلوب اللاهوتيين جميعًا، فكتب عميد جامعة «دوي»
Douay ذاكرًا رأي «غاليليو» إلى القاصد الرسولي في
بروكسيل يقول:
لقد ظل أساتذة جامعتنا على معاداتهم لتلك الفكرة التعصبية عاكفين، حتى إنهم
لم يتركوا فرصة تمر دون أن يُعَبِّرُوا عن رأيهم في أنه من الأوفق أن تزول
تمامًا؛ ففي جامعتنا الإنجليزية «بدوي» لم نوافق مرة على ترويج هذه المتناقضات،
ولن نوافق على ترويجها في المستقبل.
ثم تقدم رجال الكنيسة خطوة أخرى؛ فقد صدرت الأوامر لأعضاء محكمة التفتيش، وفي إيطاليا
على الأخص بأن لا يسمحوا بإعادة طبع شيء من كتب «غاليليو» أو ما يشابهها من الكتب.
وكذلك طلب إلى اللاهوتيين — بعد أن سكت «كوبرنيكوس وغاليليو وكبلر» — أن يدحضوا
براهينهم وينقضوا أقوالهم بالقلم واللسان، وهنالك فاضت الكنيسة على أوروبا بسيل عرم من
البراهين الناقضة لمذهب «كوبرنيكوس».
ومن أجل أن يصبح العمل تامًّا كاملًا، ثبت في الفهرست الكنسي أمر يحرم «كل الكتابات
التي تثبت دوران الأرض» وأمضى البابا أمرًا، على اعتبار أنه المعصوم عن الخطأ وأنه
المعلم الملهم قدسيًّا، والقائم حفيظًا على الدين والآداب والمعتقد، مقيدًا بتلك
الدينونة ضمير كل شخص أظله العالم النصراني.
من بين الكتب التي ظهرت بإرشاد الكنيسة بعد إدانة «غاليليو» رامية إلى اقتلاع جذور
النظرية الكوبرنيكية من عقول الناس، نختار كتابين اثنين نتخذهما مثالًا وعظة: الأول
كتاب خطته يراعة «سيبيو شيارمونتي»
Scipio Chiarmonti
وأُهدي إلى الكردينال «بربريني»، ومن بين البراهين التي أقامها ضد دوران الأرض نذكر
البرهان الآتي:
للحيوانات التي تتحرك أطراف وعضلات … أما الأرض فليس لها أطراف ولا عضلات …
فهي على ذلك لا تتحرك. إنها الملائكة التي تحرك زحل والمريخ والشمس وغيرها في
دورتها. فإذا كانت الأرض تدور فينبغي أن يكون لها مَلَك في مركزها يدفعها إلى
الحركة. ولكن لا يأوي في مركز الأرض إلا الشياطين فلا بد من أن يكون شيطانًا
ذلك الذي يعطي قوة الحركة للأرض.
إن السيارات والشمس والأجرام والثوابت
إنما تتضمنها فصيلة واحدة، هي فصيلة النجوم. وظاهر أنه من الخطأ الفاحش أن توضع
الأرض — وهي مباءة القاذورات — بين تلك الأجرام السماوية، التي هي أشياء قدسية
نقية صافية.
أما الكتاب الثاني الذي اختاره من بين ركام تلك الكتب المتشابهة، فكتاب «بولاكو»
Polacco المسمى «الكاثوليكي ضد كوبرنيكوس»
Anticopernicus Catholicus وقد عمد
فيه كاتبه أن يوجِّه لهرطقة «غاليليو» سهمًا مسددًا وفيه يقول:
ينص الكتاب المقدس دائمًا على أن الأرض ساكنة، وأن الشمس والقمر ماضيان في
حركتهما. ولكن إذا رأينا يومًا أنهما ثابتان لا يتحركان، فإن الكتاب المقدس ينص
على أن ذلك إنما يكون لمعجزة كبرى.
إن هذه الكتابات يجب أن تحظر حظرًا باتًّا؛ لأنها تبشر بمبادئ في موقع الكرة
الأرضية ودورتها تناقض نصوص الكتاب المقدس، وتنافي التفسير الكاثوليكي لتلك
النصوص، وتزعم بأن هذه المبادئ حقائق، لا مجرد فروض تخيلية.
ولما تناول كتاب «غاليليو» قال فيه: إنه «مستمد من روح كوبرنيكوس» وأنه «عندما اتضح
هذا لأعضاء محكمة التفتيش زج ﺑ «غاليليو» في السجن وقسر على أن يعلن عدم مشايعته لهذه
الطريقة الخاطئة وأن يعلن عن فسادها.»
أما سلطة الكرادلة في إصدار قرارهم فقد تناولها «بولاكو» بالكلام مبرهنًا على أنهم
ما
داموا «موضع استشارة البابا»، وأنهم «إخوته» فإن عملهم يكون واحدًا، في حين أن البابا
لا يفترق عنهم إلا بكونه مصطفًى وأنه محبوٌّ بعلمٍ لدني قدسي.
وبعد أن ظهر أن كل ما في الكتاب المقدس من الأسانيد الوثيقة، وكل الفكرات التي فاض
بها البابا والكرادلة، تناقض نظريات الفلك الحديثة، حاول أن ينقض النظرية بدليل مقتطع
من المشاهدات الطبيعية فقال: «إذا سلمنا بأن الأرض تتحرك، لما أمكننا أن نعلل السبب في
أن سهمًا يُطلق رأسيًّا في الهواء يعود إلى الهبوط في نفس المكان، بينما تكون الأرض وكل
ما عليها حسب التعاليم الجديدة مندفعة في الوقت نفسه بسرعة فائقة، متحركة نحو الشرق.
ومن ذا الذي لا يرى أن فوضى عظيمة في نظام الأشياء من اللازم أن تترتب على مثل هذه
الحركة؟»
ثم عمد إلى الغيبيات الفلسفية مقتطعًا منها بعض البراهين فقال: «إن حركة الأرض حسب
نظرية «كوبرنيكوس» أمر مخالف لطبيعة الأرض ذاتها؛ لأنها ليست فقط متبردة صلبة، بل إنها
تحوي في عناصرها طبيعة البرودة أيضًا. ولا خفاء أن البرودة تقاوم الحركة بل إنها تفنيها
بتة، كما هو الظاهر في الحيوانات، فإنها تعجز عن الحركة إذا بردت.»
ولم ينسَ بعد كل هذا أن يلجأ إلى أسلوب التفكير اللاهوتي كآخر سهم في كنانته فيقول:
«ما دام في مُكنتنا أن نثبت من نصوص التنزيل أن السماوات تتحرك من فوق الأرض، وما دامت
الحركة الدائرية تستلزم وجود شيء ثابت من حوله تحصل الدورة؛ إذن فالأرض ثابتة في وسط
النظام الكوني.»
على أننا لا نستطيع أن نأتي بصورة حقة تبين لنا طبيعة للجلاد الذي قام بين العلم
واللاهوت، من غير أن نعود في ذلك إلمامًا إلى ما لقي «غاليليو» بعد موته من عنت أعدائه،
فقد طلب إلى رجال الكنيسة أن يدفن في مقابر أسرته في «سانتا كروتشي» Santa Croce فرفضوا وأراد أصدقاؤه أن يقيموا فوق قبره أثرًا
تذكاريًّا فلم يُسمح لهم، وقال البابا: «أربان الثامن» ﻟ «نيكوليني» Nicolini وهو السفير الذي كُلِّفَ بأن يعرض بعض المطالب الخاصة
بغاليليو الميت عليه: «إنه لأسوأ مثل يُعطى للناس أن نسمح بتكريم رجل وقف من قبل أمام
محكمة التفتيش الرومانية لترويج فكرة مثل فكرته المملوءة بالأخطاء والكفران، ولم يقصرها
على نفسه بل أقنع بها غيره فأحدث بذلك أعظم فضيحة عانت أمرها النصرانية.» ونفذت إرادة
البابا ورجال محكمة التفتيش، فدفن «غاليليو» من غير تكريم بعيدًا عن أسرته، ومن غير
خدمة دينية، ومن غير أن يُقام على قبره نصبًا أو تاريخًا يشير إلى العظمة المخبوءة في
ذلك الرمس الذي ضم رفاته. ومضى على ذلك أربعون عامًا جاء بعدها «بييروزي» Pierrozzi يريد أن ينقش على قبره تاريخًا يشير إلى
حيث دفنت تلك العظام النبيلة. وبعد مائة سنة استطاع «نيللي» Nelli أن ينقل رفاته إلى «سانتا كروتشي»؛ ليضعها في مكان لائق بها
وأقام عليها نصبًا. وكانت النار لا تزال مستعرة والعداء لا يزال مستحكمًا، فقد طلب إلى
رجال محكمة التفتيش أن يحولوا دون هذا التكريم «لرجل اتُّهِمَ بمثل ما اتُّهِمَ به
«غاليليو» من السيئات والخطيئات»، وعلى ذلك رفضت تلك السلطات الكنسية أن يكتب على قبره
أي تذكار من قبل أن يعرض نصه على هيئتهم المختصة بمراقبة المطبوعات!
على أن روح التعصب والبغضاء لم تكن قد خبت نارها حتى ذلك العهد، وبعد موت «غاليليو»
بمائة عام ولم يَرَ جيل من أجيال البشر جمعاء فئة من رجال الدين فيها مثل «ماريني» Marini و«دبونالد» De Bonald و«رالي» Ralaye
و«ده جابرياك» Da Gabriac أخذوا على عواتقهم أن
يشوهوا الحقائق، وأن يختلقوا النظريات التي تسود ذكرى «غاليليو» زُورًا ليسلم شرف
الكنيسة. ولكن الأغرب من هذا أن متونًا تاريخية للتدريس كانت منتشرة بين طلاب العلم كل
انتشار، قد عمد كاتبوها — خدمة للكنيسة — أن يشوهوا بكل طريق مستطاع كل الحقائق التي
كونها الزمان من حول «غاليليو». وإني لعلى يقين من أن الكنيسة لم يقم ضدها في زمان من
الأزمان أعداء، فكانوا أشد لدادة لها وأعظم نيلًا منها، من أولئك الذين اختلقوا هذه
الأشياء وروجوها بين الناس؛ فإنهم بعملهم هذا قد مهدوا السبيل لكي يقتلعوا من العقول
الكبيرة المفكرة كل عاطفة من الاحترام لذلك النظام الديني الكبير، والذي كان يظن خطأ
بأن هذه الكتابات تخدم أغراضه العليا.
ولم تكن الكنيسة البروتستانتية بأقل نشاطًا وحذقًا في مقاومة المبادئ الجديدة في
علم
الفلك من الكنيسة الرومانية؛ فإن العلم المقدس الذي وضع أصوله أول المصلحين من أتباع
«لوثر» قد انتقل إلى الأجيال التالية كأقدس ميراث وأثمن تراث، ولم يزِد في القرن التالي
إلا قيمة وتقديسًا، وعلى الأخص تحت تأثير «كالوفياس»
Colovius فإن سعة علمه وصلابته المستمدة من الروح الكاثوليكية، قد
عقدت له لواء الزعامة على اللوثريين. غير أنه رفض كل رفض أن ينزل على حكم العلم الصحيح
والحقائق الثابتة فلجأ إلى اللاهوت مستندًا إلى القول الذائع في رجوع الظل على مزولة
الملك حزقيا
Ezekaiah١٣ وفي وقوف الشمس ليوشع، منكرًا دوران الأرض نافيًا كل ما ظهر من آيات العلم
الحديث، على اعتبار أنها مناقضة للتنزيل — وحتى اليوم — في القرن العشرين، قرن النور
والمدنية، يردد اللوثريون في أمريكا براهين «كالوفياس» وعلى الأخص من كل منهم ذا نزعة
كاثوليكية في ميوله الدينية.
أما في بقية فروع الكنيسة البروتستانتية وشعبها الكثيرة، فقد رأينا أن الكلفينيين
والأنغليكانيين وعلى الجملة كل الشيع البروتستانتية؛ كانوا جميعًا في موقف المعارضة
لحقائق العلم الجديدة. ولقد وقع في إنجلترا أن أعلن دكتور
«سميث»
Dr. Smith وهو من أعظم اللاهوتيين أن «الجمعية الملكية» إنما هي جمعية
تعمل ضد الدين، وأن أعضاءها ملحدون. وكان من بين «البيورتانيين»
Puritans العلامة «جون
أوين»
John Owen الذي أذاع أن مستكشفات «نيوتن» «قد قامت على ظواهر غير ثابتة،
وأنها مبنية على فروض عقلية تُعارض النصوص الصريحة التي جاء بها الكتاب المقدس» وإنك
لتعجب إذ تعرف أن الشاعر «ملتن»
Milton الذائع الصيت
قد وقف متراوحًا بين الناحيتين. ففي أول كتابه الثامن من قصيدته المشهورة «الفردوس
المفقود» ينطلق بلسان آدم مكررًا ما اعترضه من صعاب في فهم النظام البطليموسي، فيرسل
إليه بملكٍ يعيد على سمعه ما أجاب به رجال الكنيسة في تفسير ذلك النظام الكوني. ولكن
الظاهر أن «ملتن» رجع بعد قليل إلى النظر في نظرية «كوبرنيكوس» نظرة نقد وتحليل.
١٤
إن النزعة الإنجليزية إلى روح الكثلكة ما زالت تبرهن على وجودها، ففي سنة ١٧٢٤ طبع
«جون هتشنسون» John Hatchinsonn كتاب «مبادئ موسى» Moses Principia وفيه بَثَّ مذهبًا فلسفيًّا حاول
أن يقيم به فكرة في النظام الكوني يستمد أصولها من الإنجيل. فحمل على مبادئ «نيوتن»
معلنًا أنها تؤدي إلى إنكار وجود الله، وبذلك فتح للكنيسة بابًا تتدخل منه إلى الطعن
في
العلم الحديث، وجاراه في ذلك «هورن» Horne
و«دنكان فوربس» Duncan Forbes و«جونس» Jones و«نيلاند» Nayland غير أنه ظهر في الميدان رجل أعظم من هؤلاء جميعًا؛ فإن
«جون ويزلي» John Wesely بلجوئه إلى تلك الطريقة
التي تفرض على العقل أن يمضي عاكفًا على نصوص التنزيل لا يعدوها، قد حمل على أن يعلن
«أن صناعة السحر إذا لم تكُن حقيقة واقعة، فلن يصح لدينا من شيء جاء به الإنجيل.» بل
إنه مما يدلك على حقيقة تلك العقلية أن هذا الباحث بعد أن اقتادته خطواته إلى القول:
بفساد نظرية بطليموس وإقرار نظرية «كوبرنيكوس» على وجه عام، انقلب إزاء مستكشفات
«نيوتن» شاكًّا غير ثابت اليقين. ومن حسن الحظ أن كرامة محتده ونبالة أرومته، قد حالت
بينه وبين أن يتردى في مهاوي الحقد، أو أن يذهب ضحية لروح العداء، أو أن يمضي متأثرًا
بشيء من موحيات التعصب المذهبي، التي كان من شأنها أن تعوق خطى الذين يأتون من بعده عن
بلوغ الحق واليقين.
في ظلمات ذلك الخطأ الذي أرخى بسدوله حول أسلوب التفكير اللاهوتي، بدأت أنوار الحق
تشع في جو إنجلترا وأمريكا على السواء. فإنه مما يستلفت النظر أن «كوتون ميذر»
Cotton Mather على ما كان فيه من النزعة
الأورثوذكسية في الاعتقاد بحقيقة السحر قد قبِل سنة ١٧٢١ النظرية الحديثة في علم الفلك،
مع كل ما يترتب عليها من النتائج. وفي العام التالي قامت دلائل قوية على أن الروح
العلمية الحديثة قد أخذت تجد لها طريقًا إلى الجزر البريطانية. فإن «توماس بارنت»
Taomas Burnet على الرغم من أنه حاول أن يثبت في
الطبعة السادسة من كتابه «النظرية المقدسة في أصل الأرض» سنة ١٧٢٢ ما يذهب إليه الكتاب
المقدس في ثبات الأرض في وسط الكون. فإنه أنذر قارئيه في المقدمة إنذارًا أخاذًا
بالألباب؛ إذ ذكر ذلك الخطأ الفاضح الذي جره القديس «أوغسطين» على الكنيسة تلقاء مذهب
«الأنتبود»
antipode١٥ ثم قال: «إذا أمكن البرهنة بالدليل القاطع خلال بضعة السنوات الآتية أو
أثناء الجيل المقبل على الأرض تتحرك بطريقة نافية لكل شك؛ فإن أولئك الذين قاموا في وجه
هذا المذهب متخذين من نصوص التنزيل أسلحة تقدموا بها في ميدان المناقشة، سوف يجدون من
الأسباب التي تدعوهم إلى طلب التوبة والغفران، ما كان يجد القديس «أوغسطين» للتكفير عن
خطئه لو كان اليوم حيًّا.»
ومن حظ الإنسانية أن البروتستانت لم يجدوا في يدهم من مهيِّئات القوة التي يقاومون
بها آراء «كوبرنيكوس» ما كان يجد رجال الكنيسة القديمة. ومع كل هذا فقد كان في بعض
الوسائل التي تذرعوا بها لمحاربة العلم ما يتعذر عليهم الدفاع عنه دفاع الكاثوليك عن
وسائلهم. ففي سنة ١٧٧٢ سافر من إنجلترا البعث المشهور تحت قيادة الكابتن «كوك» Cap Cook لتحقيق بعض أغراض علمية. وكان أعظم حجة
من العملاء الذين انتخبوا ليرافقوه دكتور «بريستلي» Dr.
Priestly وكان
قد انتدبه السير «يوسف بانكس» Sir Joseph Banks لهذا
الغرض، غير أن رجال الدين في أكسفورد وكمبردج تدخلوا في الأمر، زاعمين أن «بريستلي» لم
يكن كامل اليقين في حقيقة التثليث، وأن هذا ربما يؤثر على دراسته الفلكية فيفسدها. وعلى
هذا رفض «بريستلي» وأعيق عن أن يرافق البعث، فضاع بذلك كثير من الفوائد التي كانت
تُنتظر منه.
على أن وجهة النظر الكاثوليكية في الفلك قد ظلت حية في نواحٍ أخرى من الكنيسة
البروتستانتية؛ فإنك تجد أن «ليبنتز» في ألمانيا قد هاجم نظرية «نيوتن» في الجاذبية
مستندًا إلى براهين لاهوتية، ولو أنه وجد في تلك النظرية شيئًا من السلوى في أنها ربما
تؤيد مذهب «لوثر» في اتحاد طبيعتين أو أكثر من طبيعة واحدة، أو اصطلاحًا «تدامج
الطبائع» Cousubotantiation.
أما في هولاندا فقد كانت الكنيسة «الكلفينية» شديدة العداء، قوية المراس، في مقاومة
المذهب الجديد. غير أن لدينا برهانًا يثير السخرية على أن المذهب «الكلفيني» كان عاجزًا
عن أن يقاوم الوحي العلمي حتى في مرابضه الأصلية؛ فإن «بلاير» Blaer قد طبع في أمستردام سنة ١٦٤٢ كتابه في فائدة «الكرات»، ومن
أجل أن يجعل نفسه مع الفئة الناجية، قصر جزءًا من كتابه على شرح نظرية بطليموس والجزء
الآخر على شرح نظرية «كوبرنيكوس» تاركًا للباحث كل حرية في أن يختار بين
الناحيتين.
على أن الجهود التي بُذِلَتْ في الكنيسة البروتستانتية لإيقاد نار الحرب على العلم
لم
تكن قد خمدت حتى عهد قريب جدًّا. فقد حاول رجال الكنيسة في إنجلترا أن يطفئوا مصباح
العلم سنة ١٨٦٤ لو لم ينصرف «هرشل» Herschel
و«بورنج» Bowring و«ده موجان» De
Mogan إلى نصرة العلم،
فوضعوا رجال الكنيسة في موضع لم ينلهم فيه إلا السخرية والازدراء، وكذلك الْتَأَمَ مجمع
رجال الدين اللوثريين في برلين سنة ١٨٦٨ ليعارضوا حركة العلم الحديث، وكفى بذلك أمثالًا
ولكن من حسن الحظ أنه كان في ألمانيا إذ ذاك «باستور كناك» Pastor
Knak فإنه ذهب في
برهنته على فساد نظرية «كوبرنيكوس» إلى أنها لا تُلائِم في ناحية من نواحيها حقيقة
الاعتقاد في الإنجيل، فكان ذلك سببًا في أن يبدد شمل المجمع مشيعًا ببسمات الاحتقار،
ونظرات السخرية.
لقد رفضت الكنيسة الكاثوليكية — في حركتها الحديثة التي قاومت بها علم الفلك الجديد،
وفي بعض البلاد التي بلغت من التمدين مبلغًا كبيرًا — أن تتعظ ببعض الأخطاء الكبرى التي
وقعت فيها بعض شعب الكنيسة البروتستانتية، وتردت في حمأتها إسفافًا وبلا تحفظ.
وعلى الرغم من أن الكنيسة القديمة قد ارتكبت خطأً كبيرًا في السماح بنشر كتب ومتون
عديدة لم يكن الغرض منها إلا تشويه عصر «غاليليو» ببث كثير من الأضاليل، وكان من وراء
ذلك أن ضاعت الثقة بتعاليمها التي كانت تحاول ترويجها بين فئة من ناشئتها وُصِفَتْ بحب
العلم والاستعماق في النظر والاستبصار، فإنها ظلت بعيدة عن معرة الاستمرار في العكوف
على جعل تعاليمها والإيمان بنصوص الكتاب المقدس، وقفًا على قبول النظرية البطليموسية
في
نظام الكون.
غير أن الأمر لم يكُن كذلك في المذهب «اللوثري» بأمريكا، فقد طبع سنة ١٨٧٣ بمدينة
«ميسوري»
Missouri «سانت لويس» وبمطبعة المجمع
اللوثري في مقاطعة كتاب
١٦ ذاع أن مؤلفه كان رئيسًا لمجمع المعلمين في إحدى الكليات اللوثرية.
لم يظهر في العصور الأخيرة من طعن في نظام الفلك الحديث، فكأنه أقذع ممَّا جاء في
هذا
الكتاب أو أكثر تضليلًا. ففي أول صفحة من المقدمة يتساءل مؤلفه بعد أن فحص مجمل
النظريتين «أيهما الحق»؟ ثم يقول: إن «من السهل عليَّ أقرر أيهما الحق، لو كان الأمر
مقصورًا على أنه استنتاج يملك فيه العقل الإنساني حريته. ولكن الله الرحيم قد أوحى
إلينا بالحقيقة في الإنجيل فإن كل ما في الكتاب المقدس دلائل وبراهين تقنعنا بأن الأرض
هي الجرم الرئيسي Hoap Kurper في نظام الكون، وأنها تقف
غير متحركة وأن الشمس والقمر لم يوجدا إلا ليمداها بما تحتاج إليه من ضوء.»
ولقد مضى المؤلف بعد هذا مستندًا إلى نصوص الكتاب المقدس، لا ليظهر بطلان نظرية
«كوبرنيكوس» ونواميس نيوتن وحدها، بل ليظهر أخطاء الكثيرين ممن هم أعظم من أنبت العصر
الحديث من رجال الفلك. ثم يقول:
لا يسبقن إلى حدس أحد أني أبحث عن الحق في أية ناحية هو، أهو في الإنجيل أم
في أقوال رجال الفلك. كلا فإني أعلم ذلك حق العلم؛ لأن ربي القادر لا يكذب
أبدًا ولا يخطئ أبدًا، ولا يخرج من فيه إلا الحق، ولا حق سوى ما تكلم به في
حقيقة نظام الكون والأرض والشمس والقمر والنجوم.
ثم يقول:
ومن أجل أن ما جاء به الكتاب المقدس من حق منضوٍ تحت هذا؛ فلذلك أرى أن
السؤال المتقدِّم على جانب عظيم من الخطر فإن رجال العلم وغيرهم يلجَئون إلى
فكرة مضللة، محصلها أن الله إنما يُعلمنا نظام الخلاص في الآخرة، لا نظام الكون
في هذه الدنيا.
ومما يلذ ملاحظته أن بقاء مثل هذا المعتقد القديم حيًّا قائمًا على متون أصيلة من
مراسيم العبادة، لم يكن السبب فيه تعاليم بثِّها راهب من رهبان الكنيسة القديمة ملء
غيرة على الدين، بل استمدت عناصر البقاء من عقل أستاذ مشهور تابع لشعبة من شعب
البروتستانتية، لا تفخر بشيء فخرها بأنها من ناشرات النور والعرفان.
كذلك لم تعلن الكنيسة القديمة تلك الحرب الشعواء على مؤسسي العلم الحديث بعد موتهم،
وحدها وبلا شريك.
ففي العاشر من شهر مايو سنة ١٨٥٩ دفنت رفاة «إسكندر فون همبولد» alex.
Von Humboldt أما
مجهوداته فتعد من مفاخر القرن التاسع عشر؛ ولذلك كانت جنازته من أفخم ما وقعت عليه عين
في برلين. وكان من بين الذين انتهزوا فرصة الشرف بأن يكونوا من المشيعين، الأميرُ ولي
العهد، الذي صار فيما بعد الإمبراطور غيليوم الأول، ولكن مع كل هذا لم يكن بين المشيعين
أحد من رجال الدين، اللهم إلا من خصص منهم للقيام بالخدمة الدينية، وفئة كانت تُعرف
بابتعادها عن الروح الأورثوذكسية.
(٥) نتائج الانتصار على غاليليو
نرجع الآن إلى الكلام في النتائج التي ترتبت على قضية «غاليليو».
بعد أن فاز رجال الكنيسة على «غاليليو» حيًّا وميتًا، وبعد أن استغلوا هذا الانتصار
في إخضاع أساتذة علم الفلك في كل أوروبا لآرائهم، لم يسعهم إلا أن يعلنوا ابتهاجهم،
ويعبِّروا عمَّا يخامر قلوبهم من لذة الانتصار، وكثيرًا ما علت صيحتهم بأنهم اقتلعوا
جذور الهرطقة والإلحاد والكفر بالله، باقتلاعهم جذور المذهب القائل بأن الأرض تدور دورة
مزدوجة حول محورها ومن حول الشمس، موجهين إلى محكمة الكنيسة أخص عبارات الشكر والتبجيل
بإطاعتها وتنفيذها للإرادات الشفوية التي أصدرها أحد البابوات، والأوامر الكتابية التي
وجهها إليها آخر. ولقد عرفنا من قبل أن تلك الكتب المرذولة التي تعلم الحق الجديد قد
وُضِعَتْ في فهرست الكتب التي يحظر على النصارى قراءتها. وقد صدرت هذه الفهرست بأمر
بابوي يلعن كل من يمس هذه الكتب من أصحاب المعتقد النصراني، مذيَّل بتوقيع البابا الذي
كان متربعًا في كرسي «القديس بولص» في ذلك العهد.
على أن الخسائر التي أصابت العلم من جراء انتصار النزعة اللاهوتية لأبلغ من أن يسبر
الإنسان غورها لدى أول نظرة يلقيها على الموضوع. ولنذكر في هذا الصدد أمرًا واحدًا،
فلقد كان في أوروبا في ذلك العصر مفكر من أولئك المفكرين الذين قَلَّمَا تجود بأمثالهم
بطون الأمهات. كان في أوروبا «رينيه ديكارت». وعلى الرغم مما في استنتاجاته من الخطأ
الكبير، فإن ثمار الحق التي احتوت عليها تلك الاستنتاجات كانت كثيرة منوعة الصور. وكان
قد أنجز شيئًا كثيرًا لخير الإنسانية حتى ذلك العهد؛ فإن وصفه للمذهب الدردوري
The theory of vortices في الطبيعة — وهو فرض وجود
مادة متجانسة في الفضاء تحكم حركتها النواميس الكونية كقاعدة لأصل النظام الطبيعي
المنظور، ولو لم يكن سوى نظرية فرضية، فإنه قضى كل قضاء على النظرية القديمة في أصل
الكون، نظرية القبة الصلبة التي تظلل الأرض، وتحريك السيارات في دورتها بأيدي الملائكة،
تلك النظرية التي بلغت من التأثير في العقول مبلغًا كبيرًا؛ حتى إن «كبلر» نفسه قد أفسح
لها في عقله عاملًا للعلم، جامعًا في ثنايا عقله الكبير كل البحوث العلمية التي ذاعت
في
عهده. وكان لا بد من أن تُحدث نتائج أبحاثه عصرًا جديدًا في تاريخ الدنيا. وكان غرضه
أن
يجمع كل فروع المعرفة والفكر في مقالة واحدة في حقيقة العلم، ومن أجل أن يصل إلى ذلك
ظل
أحد عشر عامًا طِوالًا مكبًّا على درس علم التشريح وحده. غير أن نهاية «غاليليو» قد
أفقدته كل أمل، وانتزعت من قلبه كل تشجيع. وهنا خُيِّلَ إليه أنه فقد المعركة، فترك
تصميمه فارًّا من الميدان فرارًا من لا أمل في أوبته.
غير أنه لم يمضِ غير قليل حتى ظهر للعالم أجمع أن انتصار الكنيسة واستظهارها على
أعدائها لم يكن في الحقيقة إلا هزيمة مروعة، فقد انهالت البراهين الناصعة من كل مكان
على أن «كوبرنيكوس» و«غاليليو» كانا على حق. وعلى الرغم من أن البابا «أربان الثامن»
وأعضاء محكمة التفتيش قد أبقوا «غاليليو» في عزلةٍ تامة بعيدًا عن كل ما يحيط به،
ممنوعًا حتى عن الكلام في دورة الأرض المزدوجة، وعلى الرغم من اللعنة التي وُجِّهَتْ
إلى كل «الكتب التي تبرهن على دوران الأرض»، وتثبيتها في الفهرست، وعلى الرغم من أن
الأمر البابوي كان لا يزال معلقًا فيها، مقيدًا لضمائر المؤمنين الذين يحاولون فهم
العلم الحديث، وعلى الرغم من أن الكليات والجامعات التي كانت تحت حكم الكنيسة قد أجبرت
على أن تعلم النظرية القديمة؛ فقد استبان لكل ذوي الألباب من أهل ذلك العصر أينما كانوا
وحيثما حلوا، أن انتصار الكنيسة لم يكن في الحقيقة إلا كارثة مجتاحة، حوطت نتائجها
المنتصرين.
هنالك فتح الرواد لأنفسهم بابًا جديدًا. فإن «كامبانيلا» Campanella — فضلًا عما كان في آرائه من الغموض — كتب «دفاعًا عن
غاليليو» وقد وقع تحت آلات التعذيب فريسة سبع مرات متتالية، لارتكابه مثل هذه الهرطقة
وغيرها، في موضوعات السياسة والدين.
ثم ظهر «كبلر» Kepler فقاد أنصار العلم إلى ميادين
جديدة حازوا فيها النصر والفخار، فإن «كوبرنيكوس» — على نبوغه وعبقريته وسعة عقله — لم
يستطع أن يخلص أسلوب التفكير العلمي تخليصًا تامًّا من نزعات اللاهوت وقواعده. فإن مذهب
«أرسطو طاليس» ومذهب القديس «توما أكويناس» في أن الدائرة وذلك الشكل الهندسي، هو أتم
كل الأشكال وأكمل الأوضاع الهندسية، قد أفسد عليه بعض نواحي مذهبه، وترك فيه ثغرات
مفتوحة لم يتوانَ أعداء العلم في أن يلجوها. غير أن «كبلر» قد رأى الخطأ، فلم يلبث أن
فاض على العالم، بما خص به من نبوغٍ كبير وتفوُّق عظيم، بثلاثة نواميس لا تزال تقترن
باسمه إلى اليوم، وبذلك أتم بناء تلك القلعة العلمية التي لم يقتحمها أحد حتى الساعة.
وكثيرًا ما كان يتكلم ويفكِّر كرجل ملهم بما يقول. وكانت المواقع التي اخترق صفوفها
ممضة أليمة. فقد أنذره المجمع الأكليروسي البروتستانتي في «ستوتجارت» بأن يقلع «عن أن
يقذف عالم المسيحية في مهاوي الفوضى بما يبث من خيالات مسفة» ومن ثَمَّ أمر في حفلة
رسمية «بأن يوفق بين نظريته في الكون وبين نصوص الكتاب المقدس» ولقد وبخ مرة واستُهزئ
به أخرى ثم سجن. ولقد ناءت عليه كل القوات الكنسية بكلاكلها البروتستانت في «ستيريا» Styria و«فورتمبرج» Wurtemburg والكاثوليك في النمسا وبوهيميا ولكن تبعه إذ ذاك «نيوتن»
و«هالي» Halley و«برادلي» Baradely وغيرهم من كبار الفلكيين، ولم يبق للعلم من كل هذا إلا
الفخر والانتصار.
غير أن هذا الجهاد كله لم يُنْهِ المعركة، ففي خلال القرن السابع عشر كله وفي فرنسا،
وبعد كل البراهين الناصعة التي أتم بها «كبلر» علم الفلك الحديث، لم يجرؤ أحد أن يعلم
نظرية «كوبرنيكوس» أو يبث حقائقها علنًا، حتى إن «كاسيني» Cassini الفلكي العظيم، لم يستطع أن يعلن اقتناعه بها ودفاعه عنها.
وفي سنة ١٦٧٢ عدد الأب «رتشيولي» Riccioli اليسوع
البراهين التي تؤيد نظرية «كوبرنيكوس» والبراهين التي تنقضها، فوجد أن ستة وأربعين
برهانًا تؤيدها وسبعة وسبعين تنقضها. وإنك لتجد حتى بعد أن ولج العالم باب القرن الثامن
عشر، وبعد أن أثبت سير «إسحاق نيوتن» نظرياته بزمانٍ طويل، أن «بوسيه» Bossuet أسقف «مو» Meaux وأعظم لاهوتي أنبتته فرنسا، قد مضى معلنًا أن النظرية الجديدة
في الفلك مناقضة للتنزيل.
ولم تظهر دلائل تدل على أن الجو سوف تنكشف غياماته سراعًا خلال ذلك القرن. ففي
إنجلترا طبع «جون هتشنسون» كما رأينا من قبلُ كتابه «مبادئ موسى»
Moses’
Privci سنة ١٧٢٤،
ومضى موقنًا بأن التوراة العبرية عبارة عن مذهب كالم في الفلسفة الطبيعية، وأنها مناقضة
للمذهب «النيوتوني» في الجاذبية. ولقد رأينا من قبلُ أن هذا اللاهوتي قد تبعه جيش عرمرم
من رجال الكنيسة ينحون نحوه ويلفون لفه. وطبع اثنان من مشهوري الرياضيين في فرنسا سنة
١٧٤٨ في الفرنسوية كتاب «المبادئ»
Pruicipia الذي ألفه
«نيوتن»، غير أنهما حذرا من أن يقعا فريسة في براثن المراقبة الكنسية، وضعا للكتاب
مقدمة كانا يعتقدان أنها خطأ فاضح وتزوير لا مبرر له. وبعد ذلك بثلاثة أعوام فاه
«بوسكوفتش»
Boscovich الرياضي اليسوعي المشهور
بهذه الكلمات:
أما أنا — فمع شديد احترامي للكتاب المقدس ولقرارات محكمة التفتيش المقدسة —
أعتبر أن الأرض ثابتة لا تتحرك، ولكن مع ذلك لا أرى بأسًا من أن ألجأ إلى
السهولة في الشرح والتعبير، فأعتبرها متحركة وأن أسوق براهيني في هذه السبيل؛
لأنه قد برهن أخيرًا على أن كل الظواهر تؤيد هذا الفرض.
أما في ألمانيا فقد ظلت الحرب متلظية شعواء طوال النصف الأول من القرن الثامن عشر،
وعلى الأخص في البقاع التي عمرها البروتستانت. فقد أغرق دكاترة اللاهوت اللوثريين
ألمانيا في فيضان مجتاح من الكتب والمقالات؛ ليبرهنوا على أن نظرية «كوبرنيكوس» لا يمكن
أن يوفَّق بينها وبين نصوص التوراة. وكذلك نجد في كثير من المعاهد اللاهوتية، وفي كثير
من الجامعات التي خضعت للسلطة الكنسية، أن رجال الدين قد ذهبوا بكل طارف من العلم
وتالد. ومع كل هذا فإنَّا نقع في أواسط القرن الثامن عشر على فئة من الرجال الكنيسة
المتنوِّرين، قد شعروا شعورًا تامًّا بأنهم فقدوا الموقعة وباءوا بالخسران.
ففي سنة ١٧٥٧ أخذ البابا «بنيدكت الرابع عشر» أنور البابوات جميعًا وأَحَدُّهُم ذهنًا
وأغزرهم علمًا، يبحث الأمر بنفسه، فقرر مجمع الفهرست Congeration of the
Index —
سرًّا على إثر ذلك — أن الكنيسة تسمح لمبادئ «كوبرنيكوس» أن تذيع، وأن يتناولها
المؤمنون بالدرس، غير أنك تجد بعد هذا أن الفلكي المعروف «لالاند» Lalande قد حاول عبثًا سنة ١٧٦٥ أن يحمل رجال الكنيسة في روما على
أن يخرجوا كتب «غاليليو» من الفهرست.
ناهيك بأن السلطات التي ظلت قَوَّامة على المعاهد في أوروبا الكاثوليكية — وعلى الأخص
في أسبانيا — قد حظرت حتى أواسط القرن التاسع عشر تدريس المذهب النيوتوني. ففي سنة ١٧٧١
رفض عمد جامعة «سلامانكا» أشهر كل الجامعات وأعرقهن قدمًا، أن يدخلوا تدريس الفوسيقى
في
برامج الجامعة قائلين إن «نيوتن» لا يعلم من شيء يمكن أن يخرج رجالًا عظامًا في المنطق
أو الغيبيات، وكذلك «غاسندي» Gassendi و«ديكارت» فإن
كليهما لا يتفق والحقائق المنَزَّلة، كما يتفق أرسطوطاليس.»
أما تهمة الانتقام من الموتى فقد بَقِيَتْ حية ردحًا طويلًا من القرن التاسع عشر؛
ففي
الخامس من شهر مايو سنة ١٨٢٩ اجتمع جمهور غفير في مدينة «فارسوفيا» Warsaw ليجدِّدوا ذكرى كوبرنيكوس تكريمًا له، وليدشِّنوا تمثاله
الذي صنعه «ثوروالدسن» Thorwaldsan.
لقد عاش «كوبرنيكوس» عِيشَةً مسيحية ملؤها الورع والتقوى. ولقد نال حب الناس
واحترامهم لما جُبِلَ عليه من صفات الإشفاق والرحمة وحب التصدق لوجه الله، ولم يقف أحد
على خطرة واحدة يصح أن تُتَّخَذَ موضعًا للطعن في معتقده الديني. وكان قسيسًا في كنيسة
«فروننبرج» Feaneburg ونُقِشَتْ على قبره أشد
الجمل النصرانية مسًّا للقلوب ونيلًا من الوجدان. فأصبح من الطبيعي أن ينتظر الناس في
احتفال «فارسوفيا» أن يقوم رجال الدين بخدمة دينية، ومضى منظِّمو الاحتفال يضعون أنظمته
على هذه الفكرة. وعلى هذا سارت تلك المظاهرة الكبرى إلى الكنيسة، وانتظر الناس قيام
رجال الدين بواجبهم. فمضت ساعة ولم يظهر منهم أحد بل لم يشأ أحد منهم أن يظهر. ومن هذا
تجد أن «كوبرنيكوس» الرحيم المتصدِّق الورع — ذلك الذي يجب أن يُعتبر من أنبل الأشياء
التي وهبها الله للعلم والدين معًا — كان لا يزال واقعًا تحت سخط الكنيسة ورجالها. بل
ظل كتابه بعد ذلك خمسة أعوام مدرجًا في الفهرست، معدودًا من الكتب التي تحظر الكنيسة
قراءتها على المؤمنين.
وطبعت من الفهرست نسخة سنة ١٨١٩، وكانت كتب «غاليليو» و«كوبرنيكوس» لا تزال مدرَجة
فيها، كما كان شأن الطبعات التي سبقتها. ولكن وقعت سنة ١٨٢٠ أزمة شديدة وحرج كبير؛ فإن
القس «سيتيل» Settele أستاذ علم الفلك في جامعة روما،
قد كتب متنًا للتدريس أُخِذَتْ فيه نظرية «كوبرنيكوس» على أنها من الحقائق التي لا يشك
فيها. وهنالك رفض «أنفوزي» Anfussi رئيس البلاط
المقدَّس ومراقب المطبوعات أن يسمح بطبعه ما لم يراجع «سيتيل» كتابه، ويذكر أن نظرية
«كوبرنيكوس» ليست أكثر من فرض. وعلى هذا لجأ «سيتيل» إلى البابا «بيوس السابع» فأمر بأن
يعرض الأمر على مجمع وزراء الفاتيكان المقدس. وفي ١٦ أغسطس سنة ١٨٢٠ صدر قرار المجمع
بأنه من المسموح «لسيتيل» أن يُلقي نظرية «كوبرنيكوس» على أنها حق ثابت، وعزَّز البابا
هذا القرار. ولقد كان هذا القرار مثارًا لكثير من المناقشات. وبعد لَأْيٍ اتَّفَقَ
كرادلة محكمة التفتيش المقدسة في ١١ سبتمبر سنة ١٨٢٢ على أن نشر الكتب التي تؤيِّد حركة
الأرض وثبات الشمس، على ما يقول به كبار علماء الفلك في العصر الحديث أمر مسموح به في
روما. وصدَّق البابا «بيوس السابع» على هذا القرار، ولكن ظل الفهرست من غير أن يعاد
طبعه ثلاثة عشر عامًا بعد هذا، حتى طُبِعَ سنة ١٨٣٥، إذ رفعت منه أسماء الكتب التي كانت
تبرهن على نظرية دوران الأرض وتدافع عنها.
ولكن النزاع لم يكُنْ قد انتهى بعدُ، فإن كل حركة من حركتي الأرض قد قامت عليها
براهين جديدة تثبتها لأعين الناظرين، كما لو كانت كل البراهين القديمة غير كافية
لإثباتها. فإن اختلاف موقع النجوم الثوابت — أي اختلاف الموقع الذي يشاهد فيه النجم من
سطح الأرض عن الموقع الذي يجب أن يكون فيه فيما لو شاهدت من مركز الأرض — ذلك الناموس
الذي استكشفه «بيسيل» Bessel وغيره من الفلكيين سنة
١٨٣٨، قد أثبت دوران الأرض حول الشمس إثباتًا قاطعًا، كما أن تجربة «فوكول» Foucalt في الرقاص Pendulum قد أظهرت للعين إظهارًا جليًّا أن الأرض تدور حول محورها. ومن
أجل أن يعلن عن هذا الأمر ويذيع حقيقته أجرى الأب «سكشي» Secchi الفلكي المعروف — وهو من اليسوعيين — هذه التجربة علنًا في
إحدى كنائس روما سنة ١٨٥٢؛ أي بعد مُضِيِّ مائتين وعشرين عامًا على تلك الجهود التي
بذلها اليسوعيون أنفسهم في سبيل أن تَنْصَبَّ لعنة الكنيسة على رأس «غاليليو»
العظيم.
(٦) تراجع الكنيسة بعد انتصارها على غاليليو
إن كل تاريخ يُكتب في انتصار علم الفلك على اللاهوت المذهبي لا محالة يكون ناقصًا،
ما
لم يُحِطْ فيه كاتبه بتلك الانهزامات المتتالية التي انتابت الكنيسة متراجعة عن كل
مواقفها السابقة في قضية «غاليليو».
إن تراجع أهل اللاهوت من البروتستانت لم يكن صعبًا. فلقد كفاهم قليل من المهارة في
تأويل التوراة، مع نزَر يسير من الدقة في تطبيق تلك الحكمة المعروفة التي تُنسب إلى
الكردينال «بارونياس» Baronaitls حيث قال إنه ليس من
شأن الإنجيل أن يعرف الناس حركات الأجرام السماوية كيف تسير، بل من شأنه أن يعرفهم كيف
يسيرون هم إلى الملكوت السماوي، مضافًا إلى ذلك استعمال بضعة من تلك الجمل الخطابية
التي تتفجر بالرياء ضد الذين اضطهدوا رجال العلم وطاردوهم.
غير أن انهزام الكنيسة القديمة كان أشد مراسًا وأصعب متناوَلًا؛ فإن تراجع علماء
اللاهوت الذين دافعوا عن الكنيسة مبررين أعمالها، قد استغرق قرنين كاملين.
وعلى الرغم من كل ما قال هؤلاء المدافعون، لم يبقَ ظل من الشك في أن عصمة البابا قد
اتخذت في كل الحالات — وبلا استثناء — سلاحًا مرهَفًا ضد القول بحركة الأرض المزدوجة.
ولقد أظهرت المستندات التي حُفِظَتْ في قضية «غاليليو» والتي طُبِعَتْ أخيرًا أن «بولص
الخامس» قد ساعد في سنة ١٦١٦ — بكل ما أُوتي من قوة وجهد — تلك الحركة التي رمت إلى لعن
«غاليليو» واتهامه، ولعن كتب «كوبرنيكوس» وكل من يعلم مذهب دوران الأرض حول محورها ومن
حول الشمس. وكذلك كان الحال في اتهام «غاليليو» سنة ١٦٣٣، وفي كل الإجراءات التي أدَّت
إلى ذلك الاتهام، كان «أربان الثامن» رجل الساعة وبطل الرواية. ولم يكن من المستطاع أن
يحاكم «غاليليو» بغير إجازة منه.
حقيقة أن البابا لم يوقِّع القرار الذي صدر ضد نظرية «كوبرنيكوس» في ذلك الوقت. ولكن
ذلك حدث فيما بعدُ، وفي سنة ١٦٦٤ أضاف «الإسكندر السابع» إلى الفهرست الذي يُحَرِّمُ
على المؤمنين كتب «كوبرنيكوس» و«غاليليو» — «وكل الكتب التي تؤيد نظرية دوران الأرض»
—
أمرًا بابويًّا وقَّعَه بنفسه يلزم قطيع الكنيسة الخضوع لما جاء في ذلك الفهرست. ولقد
أيَّد هذا الأمر — بعبارات جلية وبكل ما تحتمل الألفاظ من معاني الحزم والشدة والعصمة
من الخطأ — تحريم «كل الكتب التي تبرهن على دوران الأرض وثبات الشمس».
بهذا وبكثير غيره أصبح موقف الكنيسة الرئيسية دقيقًا خطيرًا، وكانت أول حركة ذات
بال
لجأ إليها المدافعون عن الكنيسة قولهم إن «غاليليو» لم يُلعن ويُتَّهم لأنه أيقن بدوران
الأرض، بل لأنه أراد أن يؤيد هذا القول بنصوص من التوراة. وفي هذا القول قليل من عنصر
الحق؛ فإنه من المحقَّق أن كتب «غاليليو» التي أرسل بها إلى «كاستللي» وإلى الغراندوقة
«كريستين» والتي حاول أن يثبت فيها أن مذهبه الفلكي لا يعارض التوراة ولا ينافيها، قد
أورى زناد التعصب الديني في قلوب رجال اللاهوت. ولقد أفادت هذه المراوغة زمانًا ما في
تحقيق الأغراض التي رمت عليها؛ فإن الثابت أن «ماليت دوبان» Mallet de
Fan
البروتستانتي، قد جدَّد هذه النغمة بعد اتِّهام «غاليليو» بمائة وخمسين عامًا، متخذًا
منها عضدًا يستند إليه في سبيل الوصول إلى نظرة رضى كان ينشدها من رجال الكنيسة
القديمة.
على أنه ليس من شيء هو أبعد عن أحكام بديهة العقل الأولية من أن يلجأ كاتب في هذا
العصر إلى مثل هذا إذا ما أراد أن يدافع عن الكنيسة، بعد أن نشرت المستندات الأصلية
التي حُفِظَتْ في قضية «غاليليو» بين جدران قصر الفاتيكان، ولم تُنشَر إلا منذ عهد
قريب. فإن خطابات «غاليليو» إلى «كاستللي» وإلى الغراندوقة «كريستين» لم تُطبَع إلا بعد
اتهامه، وعلى الرغم من أن رئيس أساقفة «بيزا» قد عمِل جهده لكي تتخذ هذه الخطابات وثائق
ضد «غاليليو»، فإنها لم تذكر سنة ١٦١٦ إلا عرضًا، ولم تذكر البتة في سنة ١٦٣٣. أما
الأشياء التي استند إليها رجال المجمع المقدس سنة ١٦١٦ الذي التأم بحضور البابا «بولص
الخامس» في اتهام «غاليليو» على اعتبار أنها «منافية للبديهة وخطأ في اللاهوت وهرطقة
صريحة؛ لأنها تناقض نصوص الكتاب المقدس» فقضية «أن الشمس هي المركز الذي تدرو الأرض من
حوله»، أما الذي اعتبر أنه «مناف للبديهة وخطأ في الفلسفة، وأن أقل ما فيه من وجهة
النظر اللاهوتي أنه مناقض للمعتقد الصحيح»، فقضية «أن الأرض ليست مركز النظام الكوني
وأنها متحركة، وأن لها دوران يومية.»
وكذلك إذا رجعت إلى أمر البابا «أربان الثامن» الذي نفَّذه رجال المحكمة التفتيش سنة
١٦٣٣، فإنك تجد أن «غاليليلو» قد أُجبِر على أن يُقسِم متنصلًا من «خطأ القول وهرطقة
الاعتقاد بأن الأرض تدور.»
أما الشيء الذي حظرته الفهرست بإجازة الأمر البابوي الذي أصدره «الإسكندر السابع»
سنة
١٦٦٤، فكان «كل الكتب التي تعلم دوران الأرض وثبات الشمس»، وكذلك تجد أن ما احتوته
الفهرست المصدر بالأمر البابوي والذي يقيد ما جاء به ضمائر المؤمنين، والذي ظل أكثر من
مائتي عام مصبوبًا عليه لعنة الكنيسة، فكان «كل الكتب التي تؤيد القول: بدوران
الأرض.»
وعلى هذا ترى أن «غاليليو» لم يُتَّهَم مرة لأنه حاول «أن يوفق بين آرائه ونصوص
التوراة».
وبعد أن أخفقت الكنيسة في هذا الميدان، وعجزت عن أن تجد فيه ما يمكن أن يكون دفاعًا
معقولًا عن تصرُّفاتها، رجع المدافعون عنها إلى الاستتار حول القول بأن «غاليليو» لم
يحاكَم من أجل الهرطقة بل لعناده وقلة احترامه للمقام البابوي.
وكذلك لقيت هذه الأضلولة الجديدة فرصة أخرى للبقاء زمانًا. ومما لا شك فيه أن «أربان
الثامن» وهو من أكثر من رأت روما من البابوات أنفة وتشامخًا، قد خدعه بعض أعداء
«غاليليو» بحجة أنه لم يَقُمْ نحوه بكل ما يلزم من واجبات الاحترام الرسمية؛ أولًا: لأن
«غاليليو» ظل أمينًا على مذهبه متعلقًا به حتى بعد اتهامه سنة ١٦١٦. وثانيًا: لأنه أشار
في كتابه «المحاورة» سنة ١٦٣٢ إلى البراهين التي أقامها البابا لنقض مذهبه
الفلكي.
غير أنه ممَّا لا يحتمل شكًّا أن الالتجاء إلى القول بأن إصدار قرار خطير النتائج
كذلك القرار الذي صدر ضد «غاليليو» كان راجعًا إلى نزعة شخصية قامت في نفس حَبر الكنيسة
الأعظم للالتجاء إلى شيء ليس من شأنه أن يحوط مذهب العصمة البابوية بالكثير ممَّا يتطلع
إليه الراغبون في بث هذا المعتقَد في قلوب الناس.
وفضلًا عن هذا فإن الألفاظ التي استُعمِلَت في درج الجمل نفسها تدل على سخافة استدلال
أولئك الذين حاولوا الدفاع عن الكنيسة. فإن هذه الجمل قد تضمَّنَت دائمًا كلمة «هرطقة»
ولم تستعمل كلمة «احتقار» مطلقًا هذا فيما يختص بالمسألة الأولى، أما المسألة الثانية
فإن ما تنطق به المستندات الرسمية لم يُبْقِ طريقًا لمؤَوِّل ولا سبيلًا لمفسِّر؛ فإن
هذه المستندات نفسها تُظهر «غاليليو» دائمًا بمظهر الخاضع المنيب لقداسة البابا، وأنه
تلقى براهين قداسته بصبر وطول أناة. ولا ريب في أنه قد فاض بكثيرٍ من عبارات الغضب
والاحتقار في وجه الذين حاولوا إهانته وتعمدوا القدح فيه. غير أن الاعتقاد بأن ذلك كان
السبب في محاكمته لأمرٍ فيه من الإسفاف ما فيه، وهو فوق ذلك ينزل بالبابا «بولص الخامس»
والبابا «أربان الثامن» و«بيلارمين» وغيره من اللاهوتيين، وأعضاء محكمة التفتيش إلى
منازل الفجرة الآثمين؛ لأنهم تناقضوا تناقضًا صريحًا في تعيين الأسباب التي تحملهم على
أن يقفوا ذلك الموقف من «غاليليو»، وعلى هذا لم يجد المدافعون عن الكنيسة من هزيمة هي
أشبه بالانتصار، إلا بأن يفروا من ذلك الميدان فرارًا.
أما الأضلولة الثانية فدارت رحاها حول القول بأن اضطهاد «غاليليو» ومحاكمته لم يكن
السبب فيها إلا ذلك الصراع الذي قام بين الأساتذة الأرسطوطاليسيين من جهة والأساتذة
المؤيدين للطريقة التجريبية الحديثة من جهةٍ أخرى. غير أنهم هوجموا في موقفهم هذا
وهُزِمُوا فيه بأيسر ما يتصور. فقد قيل لهم إذا كانت هداية الكنيسة وإرشادها أمور من
المستطاع أن تنزل إلى ميدان يتصارع فيه أساتذة الجامعات، وأن تتخذ وسيلة يتذرَّع بها
حزب من الأحزاب لتحريم الاعتقاد بحَقٍّ قامت كل البراهين الكونية مؤيِّدة له، فكيف يمكن
أن يُعتقد مع هذا أن الكنيسة في ذلك الوقت كانت تفضِّل أي نظام إنساني دنيوي غير معصوم
عن أن يزل ويخطئ، وأن يكون مقودًا بعصبةٍ من الجاهلين لا بطبقةٍ منتقاة من الرجال
الكاملين؟ وإذا صح أن يكون هذا البرهان سديدًا، فإنه يدل على أن حالة الكنيسة كانت أسوأ
بكثير ممَّا قال فيها أعداؤها. وهنا بين صيحات الفرح التي كانت تبعث من أفواه فئة لم
ينبض لهم من الخزي عِرق، ولم يهتز لهم من الخجل عصب، لجأ المدافعون عن الكنيسة إلى
وسائل أخرى.
قيل بعد هذا إن اتهام «غاليليو» كان «موقوتًا» على أن في هذا الموقف من الضعف ما لا
يدانيه ضعف في موقف آخر عمد إليه رجال الكنيسة؛ لأن هذه الكلمات التي استعملت قرار
الاتِّهام نفسه برهان كافٍ لنقض هذه الأضاليل. بيد أن الاعتذار عما يعلن رءوس الكنيسة
صراحة وبإجازة من حَبرها الأقدس إزاء مذهب من المذاهب بقولهم: «مناقض لنصوص الكتاب
المقدس»، أو «مناف للمعتقد الصحيح» أو «خطأ ومضاد للبديهة من وجهتي النظر اللاهوتية
والفلسفية.» كما كان موقفهم إزاء مذهب «غاليليو» بأنه كان من الأمور الموقوتة أو
المشروطة على شيءٍ ما، لَإسفاف هو بمثابة القول بأن الحق الذي تستمسك الكنيسة بعراه،
عرضة لأن يغشاه الباطل حينًا بعد حين. ومن هذا الميدان فَرَّ المدافعون عن الكنيسة
أيضًا كما فروا من غيره.
ولم يقِف الأمر عند هذا الحد، بل قام نزاع وثار جدل، كان في بعض وجوهه أغرب من كل
ما
تقدمه وأعجب. فقد قيل «بأن ضلع الكاثوليك في تحطيم «غاليليو» لم يكن بأكبر من ضلع
البروتستانت؛ لأنهم كانوا أكثر من لاهوتي الكاثوليك سعيًا في حمل البابا على أن يأتي
بما فعل.»
ولكن إذا كان في مستطاع البروتستانتية أن تجبر المقام البابوي على أن يمتد نفوذه إلى
هذا الحد في مسألة من أخطر المسائل التي انطوى تحتها كثير من مشكلات الدين والسياسة
بالغة الأثر، فماذا يكون أمر الاعتقاد «بعصمة البابا» وبأن سلطته البابوية وحكمته
الإرشادية في مسائل الدين جميعها محوطةٌ بالعناية القدسية من أن ينالها خطأ أو ينتابها
زلل؟
وبينما كان اللاهوتيون يتراجعون من موقع بعد موقع، كان من ورائهم جمع من الجيوش
الصغيرة العدد الضئيلة الأثر، فاضت على العالم النصراني بصورٍ من التلميح والتعريض
وألوان من السفسطة. ولقد وجهت كل الجهود إذ ذاك إلى غرض واحد هو تسويد ذكرى «غاليليو»
من ناحية أخلاقه الشخصية. ولم ينسَ أعداؤه أن يعيدوا إلى الحياة ذكرى ما كان في أخلاقه
من الشذوذ في عهد صباه، بل عمدوا إلى تضخيم الصغائر، وتكبير التافه من أمره. غير أن كل
هذا كان ضئيل الأثر قليل الجدوى؛ حتى إنك تجد أن أعداء «غاليليو» — حتى في منتصف القرن
التاسع عشر؛ أي في سنة ١٨٥٠ — قد رأوا أن التراجع ضروري مرة أخرى، ولكن إلى مواقع أخذوا
يرسلون منها قذائف جديدة، خصت بشيءٍ من المهارة والدقة.
إن الوسائل الجديدة التي لجأت إليها الكنيسة تستحق عناية الذكر. كانت المستندات
الأصلية عن محاكمة «غاليليو» قد أُحضِرت إلى باريس خلال غزوات «نابوليون بونابرت» في
إيطاليا، ولكن الحكومة الفرنسوية ردتها إلى روما سنة ١٨٤٦، بعد أن أخذت تلك الحكومة
وعدًا صريحًا من السلطات البابوية بطبعها ونشرها. وقد عهد إلى المونسنيور «ماريني» Marini أن يكون واسطة نشرها على العالم.
كان هذا اللاهوتي من طابع أولاء من رجال الكنيسة الذين طالما رَمَوُا الكنيسة، كما
رَمَوُا العالم بالبلايا والسيئات. فعلى الرغم من الوعد الصريح الذي وعد به البلاط
البابوي، شاءت حكمة «ماريني» — أو شاء غروره — أن يكون أداة في يد السلطات الرومانية،
تنكث بذلك العهد الكبير، وبكثير من الحذف والتحوير في كثير من المستندات، قد هيَّأ
الأساليب لكل ضروب السفسطة والجدل الكلامي التي أُرِيدَ بها تأييد عصمة البابا
وصيانتها، كما أُرِيدَ بها تحطيم سمعة «غاليليو» أن تبقى جلية واضحة دون الحق الثابت.
وكان «ماريني» أوَّل من بث تلك الضلالة الكبيرة، ضلالة أن «غاليليو» لم يُحاكَم ويُحرَم
من جراء هرطقته بل لقلة أدبه.
والظاهر أن الأثر الأول الذي أحدثه كتاب المونسنيور «ماريني» كان مفيدًا في الاحتفاظ
بخط الرجعة الذي انتحاه المدافعون عن الكنيسة. ولقد كان في مساعدة كتاب من أمثال
«وارد» Ward أثرًا في وضع حائل يحول بين السلطات
الرومانية وتذمُّر العالم الحديث.
غير أنه بعد قليل من الزمان ظهر باحث هو نقيض المونسنيور «ماريني» نزعة وأخلاقًا،
كان
هذا الباحث رجلًا فرنساويًّا، هو مسيو «ليبنوا» L’Epenois على أن «ليبنوا» كان مخلصًا للكنيسة وفيًّا بعهدها كما كان
«ماريني»، ولكنه لم يكن كما ماريني من حيث القدرة على الكذب والبهتان؛ فإنه في سنة ١٨٦٧
وصلت يد «ليبنوا» إلى مستندات قضية «غاليليو» في قصر الفاتيكان، فنشر كثيرًا من
أَشَدِّهَا أهمية وأعظمها خطرًا، من غير أن ينقص منها أو يزيد إليها، مسوقًا إلى ذلك
بنزعة الإنصاف وحُبِّ الحق لا بشعور الورع، ولا موحيات التقوى الكاذبة.
وبذلك تصدَّعت كل الحصون التي شيدت على ما جاء بكتاب المونسنيور «ماريني» فتراجع عنها
المدافعون عن الكنيسة إلى مواقع أخرى.
أصبح المدافعون عن الكنيسة بهذا على حافة الهاوية؛ ولهذا أخذوا يَعُدُّونَ العدة
لاقتحام موقعة فاصلة، بل لقتال اليأس والقنوط. فبدءوا يحيون فكرة أن البابوات والكنيسة
قد أُهِينَتْ كرامتهم واسْتُهْزِئَ بهم قرونًا طوالًا، معلنين أن بابوات روما «كبابوات»
لم يحرِّموا قط آراء «كوبرنيكوس» و«غاليليو» ومذاهبهم الكونية، بل حرَّموها ولعنوها
بصفتهم الشخصية كأناس يجوز عليهم الخطأ كما يجوز الصواب. وعلى هذا لا تتقيد الكنيسة
بأعمالهم، وأن الاتهام والتحريم كانا من عمل الكرادلة وأعضاء محكمة التفتيش ومجمع
الفهرست؛ لهذا غَلَّتْ العناية القدسية يد البابا عن أن توقع على قراراتهم! وما من شيء
هو أبلغ تعبيرًا وأفصح بيانًا عن روح اليأس التي تمشَّت في قلوب المدافعين عن الكنيسة
من أمثال هذه المراوغات الغريبة. فإن الحقيقة الواقعة أن قرار الاتهام الرسمي الذي
أذاعه «بيلارمين» سنة ١٦١٦ يعلن صراحة وبدقة أنه إنما يقرر ذلك الاتهام «باسم قداسة
البابا».
وعلى الرغم من هذا فإنك تَجِدُ منذ عهد «أربان الثامن» ومن بعده أن سلطات الكنيسة
خلال القرن السابع عشر برمته، قد مضت معلنة أن القرار كان باسم البابا والكنيسة. فإن
«أربان الثامن» قد أعلن أن قرار سنة ١٦١٦ من عمل البابا «بولص الخامس» والكنيسة، وأن
قرار سنة ١٦٣٣ هو من عمله والكنيسة معًا. كذلك قال البابا «إسكندر السابع» في أمره
البابوي Speculatores domus Israel الذي أصدره سنة ١٦٦٤
في صراحة وبيان، أنه يلعن ويحرم كل الكتب التي تؤيد مذهب دوران الأرض.
ولما أراد «غاسندي» Gassendi أن يدافع عن فكرة أن
القرار ضد «كوبرنيكوس» و«غاليليو» لم تُجِزْهُ الكنيسة، قام ثقة لاهوتي هو الأب
«ليكازر» Lecazre عميد جامعة «ديجون»، وناقضه
صراحة، معلنًا «أنه لم تكن فئة من الكرادلة، بل هي سلطة الكنيسة العليا التي اتهمت
«غاليليو»، وعلى هذا الرأي وافق من بعدُ البابا وبقية السلطات الكنسية بالكلام طورًا،
وبالبحث العميق طورًا آخر.
ولما حاول «ديكارت» وغيره أن يتكلموا في هذا الشأن قوبلوا بالاحتقار والازدراء؛ فإن
الأب «كاستللي» — وهو من أكبر أنصار «غاليليو»، بل من المخلصين له الوفيين بعهده، وكان
علمه بما سوف يترتب على ذلك القرار لا يقل عن علمه بيد مَن وُضِعُ — قد ظهر في كتابه
الذي وجه به إلى السلطات الكنسية مقتنعًا بأنه من عمل الكنيسة وحدها وبلا شريك، وكذلك
الكاردينال «كويرينغي» Querengyhi† في خطاباته،
والسفير «جويشارديني» Guicciardini في بلاغاته
و«بولاكو» Polacco فيما كتب مدحضًا أقوال رجال
الكنيسة، والمؤرخ «فيفياني» في ترجمته عن حياة «غاليليو»، وكلهم كتب تحت عين الكنيسة
وبوحيها، قد مضوا على الاعتقاد بأن البابا والكنيسة كلاهما اتهم «غاليليو»، ولم يرتفع
من جانب «روما» صوت واحد ينكر ذلك أو يعارضه. ناهيك بأن محكمة التفتيش — ومن ورائها
«بيلارمن» أكبر لاهوتيي ذلك العصر — قد قنعوا بهذا الرأي، وفضلًا عن حقيقة أن «بيلارمن»
قد أعلن صراحة بأنه يقيم قرار الاتهام «باسم قداسة البابا» فلدينا الفهرست الروماني،
متضمنًا قرار الاتهام أكثر من مائتي عام، وهو مصدَّر بأمر بابوي واضح الغرض، يفرض أن
هذا الاتهام صادر بموافقة كل التابعين للكنيسة، وأنه مقيِّد لضمائرهم وخطرات نفوسهم
صابًّا اللعنة الأبدية على «كل الكتب التي تؤيد مذهب دوران الأرض»، على أنه سرعان ما
ظهر أن التغرير بالنفس في مواجهة كل هذه الحقائق، مضافًا إليها أن «غاليليو» قد أُجبِر
على أن يقسم مقامًا عن «هرطقة الاعتقاد بدوران الأرض» خضوعًا لأمرٍ كتابي من البابا،
كان بلا طائل أو جدوى.
لدينا تلقاء ما يدعي المدافعون عن الكنيسة من أن البابا غير مسئول، مجموعة هذه
البراهين التي أدلينا بها، مشفوعة بالأمر البابوي الذي أصدره «الإسكندر السابع» سنة
١٦٦٤، وهذا كافٍ في التدليل على أن الموقعة قد ربحها العلم، وخسرها اللاهوت.
عند هذا الحد وقف ذلك الصراع الكبير، وعدل عنه رجال على المذهب الكاثوليكي خصوا بسعة
الصدر وحسن النية. ففي سنة ١٨٧٠ اعتقد رجل من رجال الكنيسة الإنجليزية — ومن أخص
المتعصبين للمذهب الكاثوليكي الروماني، هو الموقر مستر «روبرتس» Rev.
Mr. Roberts —
أن الوقت قد حان للاعتراف بالحق، فطبع كتابًا عنوانه «قرارات الحَبر الأعظم ضد دوران
الأرض»، وفيه أثبت أن السلطة البابوية استعملت كل وسائلها — ومن بينها العصمة من الخطأ
— ضد نظرية دوران الأرض. ولقد أظهر هذا الكاثوليكي الأمين على الحق — من المستندات
الأصلية المحفوظة في قصر الفاتيكان — أن البابا «بولص الخامس» قد ترأس المحكمة التي
أصدرت قرار الحظر ضد فكرة دوران الأرض سنة ١٦١٦، والتي أجبرت «غاليليو» على الإقلاع عن
مذهبه. وأثبت أن البابا «أربان الثامن» قد عمل جهد ما يستطيع سنة ١٦٣٣ لتوطئة الظروف
لإتمام الاتهام الأخير، متخذًا على نفسه عبء كل مسئولية في المستقبل. ودلَّل في النهاية
على أن البابا «إسكندر السابع» قد استخدم معتقد العصمة البابوية لتحريم «كل الكتب التي
تبرهن على دوران الأرض»، بذلك الأمر البابوي Speculatores domus
Israel الذي أضيف إلى الفهرست. وقال بعد ذلك إنه بناء على القواعد
التي وضعتها سلطات الكنيسة العليا، وعلى الأخص في عصر البابا «سكتوس» الخامس و«بيوس»
التاسع، لم يكُنْ ثَمَّ مهرب من الوصول إلى هذه النتائج.
ولقد حاول كثير من اللاهوتيين أن يتقوا قوة براهين مستر «روبرتس» بوسائلٍ غير مجدية.
فلجأ البعض مثل دكتور «وارد» Dr. Ward ودكتور
«بووي» Bouix إلى مفارقاتٍ دقيقة، وجمل خطابية
منمقة، وخفف آخرون مثل دكتور «جريمياه
مورفي» Geremiah Murphy عن أنفسهم ثقل الصدمة بحماسيات مزخرفة. وكانت نتيجة كل هذا أن
أبرزت المطابع طبعة أخرى من كتاب مستر «روبرتس» أكثر إقناعًا من سابقتها وأنصع برهانًا.
وفضلًا عن هذا الكتاب ظهرت مقالة من قلم ذلك الكاثوليكي النابه مستر «سانت جورج ميفارت» st. George Mivart اعترف فيها بأن موقف
مستر «روبرتس» ثابت لا يتزعزع، معلنًا أن الله القادر على كل شيء قد أوقع البابا
والكنيسة في ذلك الخطأ الفاحش تلقاء نظرية «كوبرنيكوس»؛ ليُعلِمهم أن العلم خارج عن
ميدانهم، وأن القوامة على الحقائق العلمية متروكة للعلماء وحدهم دون غيرهم.
وفضلًا عمَّا تَذَرَّعَ به رجال الكنيسة من محاولات أرادوا بها حل تلك المعضلة، وعلى
الرغم من توسُّلَاتهم، فقد كفَت صلابة مستر «جورج ميفارت» وأمانته لإنهاء الخلاف الجدلي
من بين الكاثوليك على قدر ما اتسعت لآرائه عقول النابهين منهم.
أما إذا أردنا أن نعيد هذه الذكرى للأذهان مَرَّةً أخرى خلال هذا العصر الحديث، فلا
يسعنا إلا أن نذكر جهدين صُرِفَا نحو التوفيق بين الكنيسة والعلم، في ذكرهما فائدة
ولذلة؛ لأنهما يدلَّاننا على مقدار ما تولى اللاهوتيين من حيرة في القرن التاسع
عشر.
أما الجهد الأول فبذله «جون
هنري نيومان»
John Henry
Newman في تلك الأيام التي تسكَّع فيها متراوحًا بين الكنيستين
الإنغليكانية والرومانية، قال في إحدى خطبه في جامعة إكسفورد:
تقول التوراة بأن الشمس تتحرك وأن الأرض ثابتة، ويقول العلم بأن الأرض تتحرك
وأن الشمس ثابتة. كيف يمكننا أن نعرف أي الفريقين في جانب الحق قبل أن نعرف ما
هي الحركة؟ فإذا كانت آراؤنا في الحركة ليست سوى نتيجة اتفاقية تقتضيها حواسنا
الحاضرة فكلا الفرضين غير صحيح وكلاهما صحيح؛ كلاهما غير صحيح من الوجهة
الفلسفية، في حين أن كليهما صحيح لتأدية بضعة أغراض عملية في النظام الذي توجد
فيه كلتاهما.
وإنك لن تجد في كل ما ظهر من المؤلفات المضادة للاهوت أنفسها من قول هو أكبر من هذا
مجلبة للشك، ومخبثة لليقين. ومن أجل أي غرض أراد هذا اللاهوتي أن يرمي شباب أكسفورد في
أعماق ذلك الشك القاتل تلقاء وجود أي أساس للحق أو في أنه موجود وجودًا مطلقًا؟ لا لشيء
سوى أن ينقذ من الدمار أسلوبًا محطمًا من أساليب الفكر، شاءت الأقدار أن يولد ذلك
اللاهوت في أحضانه.
وأما الجهد الثاني فقد أوحى به إلى «ده بونالد» ونما على صفحات «الدبلين رفيو» بسعي
أحد مشايعي الكردينال «نيومان»، على ما عرف من أمره. ولم يكن ذلك الجهد بشيءٍ، اللهم
إلا التراجُع من خط القتال بخدعة توجه ملامتها إلى الله الواحد القهار. قيل: «غير أنه
يمكننا أن نشك في أن الكنيسة قد أعاقت خُطَا العلم عن أن تمضي في التقدُّم والارتقاء،
لنقول بأن الذي أعاقها هو ذلك الظرف الذي اقتضى أن يضع الله كثيرًا من متون التوراة في
قالب يشعر ظاهره بإنكار دوران الأرض. غير أن الله هو الذي فعل هذا لا الكنيسة. وفضلًا
عن هذا فإن الله ما دام قد رأى أن الصالح في أن تُعاق خُطَا الحقائق العلمية عن أن
تنبعث في طريق النشوء زمانًا، فليس من لوم على الكنيسة — حتى ولو صح ما ترمى به — إذا
هي احتذت المثال الذي اختطته يد الله واتخذته إمامًا.»
ولم تبعث هذه البراهين من شيء في نفوس المفكِّرين بقدر ما بعثت فيهم من عوامل
الاشفاق، وبواعث الرحمة بقائليها. على أن لهذا الأمر شبيهًا في التاريخ. وما يشبهه إلا
تلك الجهود التي بذلها مستر «جوس» Mr. Gosse في سبيل
التوفيق بين علم الجيولوجيا وسِفر التكوين؛ بأن فرض أن الله — لغرض يخفى علينا ولا
نستطيع إدراكه — قد خدع المفكرين خديعة كبرى، بأن خط على لوحة الأرض كل مظاهر النشوء
خلال عصور متطاولة في القدم، بينما أن الحقيقة أنه خلقها في ستة أيام، كل منها نهار
وليل لا غير.
على أن تدليل «ده بونالد» كتدليل «نيومان» كلاهما جهد القانط اليائس، الذي تمثَّل
في
لاهوتيي الكنيستين الإنغليكانية والرومانية، لتفوزا بإنقاذ شيء من اللاهوت المذهبي
القديم، أن تناله — كما نالت غيره — معاول الهدم والتحطيم.
إن هؤلاء وأمثالهم لم يغرسوا في قلوب المفكرين من أهل الحرية إلا فكرة واحدة، فكرة
أن
هنالك صراعًا ضروريًّا بين العلم والدين مَثَلُهم في ذلك كمثل رجل يربط نفسه وهو فوق
اليابسة في مرساة سفينة أخذت تغرق بين لجات اليم المتلاطمة. فإنهم ربطوا بين النصرانية
وبين تلك الفكرات الخاطئة بأقوى خيوط استطاعوا أن يحيكوها من قواعد المنطق. ولو أن
الغلبة قد تمت لهم لقضي على تقدُّم العلم والمعرفة قضاءً مبرمًا.
•••
وقد نتساءل من جهة أخرى: ماذا فعل العلم بالدين؟ لم يفعل من شيء، بل إن «كوبرنيكوس»
لم يُفلِت من يد الكنيسة إلا بالموت، و«جيوردانو برونو» أُحرِق حيًّا كجبار من جبابرة
الكفر والإلحاد، و«غاليليو» سُجِنَ وأهينت كرامته كأخبث من أَقَلَّتِ الأرض من
الزنادقة، و«كيبلر» اتُّهِم بأنه «يحاول أن يرمي مملكة المسيح في أحضان الفوضى
بتخيُّلاته الفاسدة.» و«نيوتن» هُوجم ولُعن لأنه «أنزل يد العناية عن عرشها.» ومن طريق
هؤلاء أسس العلم للدين دعامة أقوى من دعاماته الأولى ليقوم عليها، وزوَّده بحقائق
وتصورات أنبل مما كان بين يديه، وأهدى سبيلًا.
تحت ظلال المذهب الفلكي القديم نشأ فلكي الأمراء «ألفونسو أوف كاستيل» Alfonso Of Castille وهنالك رأى ما في
نظرية بطليموس من منافاة للهدى والرشاد، وكان على جهلٍ بغيرها. فرمى العالم الأوروبي
بقذيفة من الكفر والإلحاد إذ قال بأنه لو كان حاضرًا يوم خُلِقَ العالم لاقترح للكون
نظامًا أقوم من نظامه وأدنى إلى الحكمة. وتحت ظلال المذهب الفلكي الحديث قال «كيبلر»
مملوءًا إيمانًا: «إني لا أستطيع أن أبلغ فكري إلى معرفة فكر الله.» على أن الفرق بين
الروح الدينية المنبعثة من صدر هذين الرجلين، هو في الواقع أكبر مقياس يُقاس به مقدار
ما أنتج العلم في ذلك الصراع الكبير، من فائدة للدين.
وما من شيء هو أبعد عن فضيلة الأقساط في القول من أن تخص الكنيسة الرومانية بطابعٍ
خاص من اللوم والتقريع في كل تلك المقاومة التي لَقِيَهَا العلم من اللاهوت. فإن
الكنيسة البروتستانتية — ولو أنها لم تستطع أن تبلغ في كل الحالات من القوة ما بلغت
نظريتها — إلا أنها تستحق من التقريع قسطًا أوفى؛ فإن اضطهاد «غاليليو» وأنصاره قد وقع
في أوائل القرن السابع عشر، في حين أن اضطهاد مختلف السلطات البروتستانتية لأمثال
روبرنسون ثميت، وونشيل، وودرو، وتوي، وشباب أساتذة بيروت، كان في نهاية القرن التاسع
عشر! وكذلك لا ننسى أن أنواع الاضطهاد التي أتاها الكاثوليك كانت ملائِمَة كل الملاءمة
لتلك المبادئ التي عكف عليها الدينيون إذ ذاك — كاثوليك وبروتستانت — في نواحي العالم
كله. أما الاضطهادات التي ارتكب جريمتها البروتستانت، فكانت لأسبابٍ بعيدة جهد البعد
عن
تلك المبادئ التي تبعها البروتستانت، أو التي يزعم البروتستانت أنهم يتبعونها، بل ولم
ترتفع من ناحية صيحة بالانتهاء إلى تلك المبادئ؛ فكانت أعلى من صيحة تلك الفئات التي
اضطهدت رجالًا من أنبغ رجال العصر، وهم فوق ذلك نصارى تكوَّنت جريمتهم في نظر هؤلاء
بأنهم كانوا من صفاء النفس ورجاحة العقل، بحيث فقهوا حقائق العلم التي ذاعت لعهدهم،
وحملتهم شجاعتهم وأمانتهم على أن يعلنوا ثقتهم بها.
وليس من العدل في شيء أن تلهج البروتستانتية بلوم الكثلكة؛ لأنها حرمت تعليم حقائق
علم الفلك في جامعات أوروبا الكاثوليكية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. في حين
أن العلم الحقيقي المنتزع من أبحاث الجيولوجيا والبيولوجيا والأنثروبولوجيا قد أنكرت
حقائقه، كما حرم تعليمه في جامعات أمريكا البروتستانتية وكلياتها خلال القرن التاسع
عشر.
كذلك ليس من حق البروتستانتية أن تشير بشيء من الاحتقار للفهرست الكاثوليكي، ولا أن
تعلِّق أهمية كبرى على أن كل كتاب ذا شأن في عالم العلم ظهر خلال الثلاثة القرون
الفارطة قد ضم إليه ليحرمه المؤمنون، ما دمنا نرى أن شباب عصرنا الحاضر يُغَذَّوْنَ في
الجامعات البروتستانتية الأمريكية «بفتات من الخبز مشبَّع بعصير الكنيسة» أكثر مما
يُغَذَّوْنَ بلباب المعرفة الصحيحة، وأنهم لا يُعْطَوْنَ إلا ما وافقت عليه سلطاتهم،
في
حين أنهم يَظَلُّونَ بعيدين عن الفكرة الحديثة في العلم، تلك التي بثها في العصر الحديث
رجال من أمثال داروين وسبنسر وهكسلي ودريبار وليكي وغيرهم.
أما ما يحق للبروتستانتية أن تفخر به فهو أن بعض نواحيها التي تمثَّلت فيها نزعتها
العصبية قد تحرَّرت بالفعل. غير أن الكثلكة يحق لها أيضًا أن تشير إلى حقيقة أن البابا
«ليو الثالث عشر» Leo XIII قد أحدث تغييرًا كبيرًا
— ملؤه النبالة وكرم الأخلاق — تلقاء مناقشة المستندات القديمة مناقشة حرة، وأن أيام
المونسنيور «ماريني» قد انقضت وعفت آثارها؛ فإن مكتبة الفاتيكان بما تنضوي عليه من
المادة التاريخية، قد فتحت أبوابها للباحثين من الكاثوليك والبروتستانت، بل قد أُعطي
هذا الحق لكل الناس على اختلاف نزعاتهم الدينية وتبايُن مذاهبهم.
أما الأخطاء القديمة، فإن العالم المتمدين جميعه قد وقع في أغلاطٍ كبيرة تلقاءها،
تساوَى فيها الكاثوليك والبروتستانت. إن تلك الأخطاء لم تكن أخطاء الدين. إنها أخطاء
المذاهب اللاهوتية التي استمدتها من نصوص الكتاب المقدس عقول خصت بالكثير من قصر النظر
وضعف التدليل، وهي فوق ذلك مناقضة للكلمات الحكيمة والأعمال الرشيدة التي تؤثَر عن
مؤسسي المسيحية. على أن تلك المذاهب كثيرًا ما ينسبها الجاهلون إلى نزعة الدين نفسه.
ولقد قال أحد مشهوري اللاهوتيين من رجال الكنيسة الإنغليكانية المعاصرين قولة حق أشار
فيها إلى «أن هؤلاء اللاهوتيين لما أَعْيَوْا عن التمييز بين الفجر وبين الضوء المنبعث
عن حريقة امتد لهبها، قد انصرفوا وهم أعداء النور والضياء.»