الفصل الثاني
علم الجغرافية
(١) صورة الأرض
نجد بين كثير من القبائل المتوحشة بقايا فكرة أولية في أن الأرض عبارة عن قرض منبسط،
أو خوان مسطح، عرشه السماء أو أن السماء قبة أو خيمة عظيمة تظلِّله، وأن السماء ترتكز
على الجبال، كأنها أعمدة تحملها. ولا مرية في أن مثل هذا الاعتقاد طبيعي صرف، فإنه
يوافق ظواهر الأشياء. ومن أجل هذا غزا ذلك المعتقد نواحي كثيرة من مختلف المذاهب
اللاهوتية.
ولقد نما هذا الاعتقاد وبلغ نهاية التطوُّر في عصور المدنية المصرية ومدنية الكلدان.
أما النقوش الآشورية التي قُرِئَتْ حديثًا، فتمثل الإله «مردخ» M.
rduk وقد أخذ في البدء بخلق
السماوات والأرض. والأرض مستقرة على الماء، وفي جوفها «وادي الكوت». ومن فوقها تنتشر
السماء وهي عبارة عن قبة مسدولة عند آخر الأفق من كل الجوانب مستقرة على قواعد برزت من
«اللج العظيم» الذي يحيط بالأرض من جميع جهاتها.
وفي كلا الجانبين — الشرقي والغربي — من تلك القبة السماوية أبواب، تدخل منها الشمس
في الصباح، وتنزلق خارجة منها في المساء. ومن فوق هذه القبة محيط عظيم، ينحدر في ذلك
المحيط الذي يغشى الأرض عند آخر الأفق من جميع جهاتها، وتقوم السماء كفاصل يفصل بين
الأرض وبين ذلك اللج المتلاطم فوقها أن يصعقها انقضاضًا. ومن فوق كل هذا من فوق السماء
والمحيط الذي يعلوها، تكون عليون، أو جوف السماوات العليا.
أما المصريون فاعتقدوا بأن الأرض مائدة منبسطة مستطيلة الشكل وأن السماء عرشها، وهي
عبارة عن قبة زرقاء من المعدن الصافي. وفي أركان الأرض الأربعة تقوم العمد التي تحمل
هذه القبة مستقرة عليها، ومن فوق هذه السماء الصلبة تكون «المياه المتلاطمة التي تعلو
السقف العظيم».
وكانوا يعتقدون بأن العالم عندما كان عماء chaos،
استطاع أحد الآلهة بقوته المفرطة أن يرفع المياه إلى العلاء وأن ينشرها من فوق القبة
الزرقاء وفي السطح الأسفل من تلك القبة أو السقف أو السماء الصافية، أو ما شئت
فسَمِّهَا، تعلق النجوم لتنير الأرض، وأن المطر إنما يصيب الأرض إذا فتحت نوافذ السماء
فانحدرت مياه المحيط الأعلى منها. وهذه الفكرة وغيرها من الفكرات ذات الآصرة بها، قد
استمكنت من معتقد الفئات الكهنوتية في مصر، وتغلغلت في صميم لاهوتهم وفي علومهم
المقدسة. وما تلك المعابد التي لا تزال قائمة حتى اليوم بعروشها المنمقة بالنجوم،
والكوكبات والسيارات والإشارات الدالة على مناطق البروج، إلا رمزًا حيًّا على ذلك
المعتقد القديم.
ونجد في بلاد فارس نظريات جغرافية قد قامت على أمثال هذه التصورات ثم اندمجت في
المتون المقدسة.
ومن هذه المآخذ ومن غيرها أعرق منها قدمًا، انتقل الميراث الجغرافي إلى العبرانيين.
وإنك لتجد في كتبهم المقدسة جملًا عديدة، خصت بالكثير في رائع التصور وجمال الوضع ترجع
بك — إذا ما وقعت عليها — إلى كلتا الفكرتين المتقدمتين حينًا بعد حين. فإنك كثيرًا ما
تعثر على قولهم: «أساس الأرض من فوق الماء»، و«ينابيع الغور الأبعد»، و«الدائرة المحيطة
بسطح الغور»، و«القبة الزرقاء»، و«أعمدة السماء»، و«نوافذ السماء وأبوابها»، إلى غير
ذلك من التعبيرات.
فلما أن أضربت الإنسانية بقدمها الثابت في معارج المدنية، اختمرت فكرات جديدة ونشأت
آراء بِكر، وعلى الأخص في ثنيات العقل اليوناني، تثبت كروية الأرض. ولقد روج هذه الآراء
كثير من رجال المدرسة الفيثاغورية، وأفلاطون وأرسطوطاليس وغيرهم، على أن هذه الفكرات
كانت غامضة يكتنفها الإبهام من نواحٍ كثيرة، وتلابسها المتناقضات العقلية، غير أنها
كانت أول ما فرخ من جراثيم الحق تلقاء شكل الأرض وصورتها، وظلت هذه الجراثيم حية في
بيئة العقل متنقِّلة من جيل إلى جيل، حتى أسلم بها الزمان إلى عقول اندمج فيها الأسلوب
اللاهوتي في الكنيسة النصرانية الأولى لدى إبَّانها، فبدأت هذه الجراثيم تشق لها نحو
الحياة الدنيا طريقًا مقتحمة أسياج اللاهوت، متخذة عقول مجموعة صغيرة من النابهين
المفكِّرين ميدانًا لجهادها، فأبرزوا إلى الوجود فكرة أن الأرض كرة تارة أخرى.
من آباء الكنيسة عصبة خصت بالكثير في بُعد النظر وسعة العقل، سلطت عليها تقاليد
المدرسة الفيثاغورية ترجيحًا، وفكرات أفلاطون وأرسطوطاليس تحقيقًا، أرادوا أن يُذعِنوا
للقول بأن الأرض كرة، لو لم تذعر الأغلبية العظمى من ذلك الرأي جانحته إلى إنكاره. فلقد
خيل إليهم أنه مهدم لنصوص التوراة. وما عنوا بذلك في الواقع إلا أنه مهدم للتفاسير التي
فسروا بها التوراة، لا للتوراة نفسها. وكان «إيوسبيوس» Eusebius أول من حمل السلاح وأعلن الحرب.
مضى «إيوسبيوس» مقتنعًا بما جاء في الإنجيل من قُرب فناء الأرض وهلاك أهلها؛ ولذلك
تراه في كل ما كتب قانعًا بأنه ليس من شأنه أن ينقض الفكرة في كروية الأرض لأنها غير
صحيحة علميًّا، بل لأن التفكير في مثل هذه الأشياء جهد ضائع وعمل بائر. قال موجهًا
الكلام إلى الباحثين: «إننا لا يجب أن نفكر في مثل هذه الأشياء، لا لأننا نجهلها، بل
لأننا نزدري عملًا تذهب نتائجه سدى؛ ولهذا يجب أن نوجه بأرواحنا في سبيل أتم نفعًا
وأسرع إنتاجًا. وقال «باسيل» Basil — الذي عاش في
قيصرية Caesarea — إنه لمن أتفه الأشياء أن نعرف
إذا كانت الأرض كرة أو أسطوانة أو قرصًا أو أنها مقعرة الوسط.» وأشار «لاكتانتيوس» Lactantius إلى فكرة الذين يشغلون أنفسهم بعلم
الفلك فقال بأنها فكرة «مرذولة معدومة النفع، بعيدة عن الذوق.» رافضًا القول بكروية
الأرض مستندًا إلى التوراة والعقل معًا. وكذلك استغل القديس «يوحنا كريسوستوم» John Crysostom نفوذه ضد هذا المعتقد. ولم
تكن مقاومة «إفريم سيروس» Ephraem Syrus أكبر جهابذة
الكنيسة السورية القديمة، والذي كان يُدعى دائمًا «قيثارة الروح» بأقل عنادًا
وعسفًا.
غير أن خواصَّ أهل العلم الإنجيلي — ومنهم آباء، ومنهم أساقفة ذوو شهرة، من أمثال
«تيوفيلوس»
Theophilus الأنطاكي في القرن الثاني
و«كليمان»
Clement الإسكندري في القرن الثالث،
وغيرهم عديد تتابعوا خلال القرون المتتالية — لم يقنعوا بأن يظهروا بمظهر الرافضين
لنظرية قَرَّ رأيهم على أنها نظرية وثنية قديمة لا غير، بل أخذوا يكوِّنون — مستندين
إلى أناجيلهم — نظرية نصرانية جديدة تكونت على مر الزمان، بأن أضافت إليها إحدى الكنائس
فكرة، وزودتها أخرى بغيرها، وهكذا دواليك حتى بلغت كمالها ومنتهاها. ولقد عمدوا إلى ما
وصل إليهم من التقاليد الكثيرة التي نقلت إليهم عن العالم القديم وإلى الآية السابعة
من
الإصحاح الأول من سفر التكوين
١ فمضوا ثابتي اليقين بما جاء في التوراة من إشارات في أن الأرض كانت عند خلق
العالم مُغطاة بقبة صلبة القوام — أو «قبة زرقاء» — وأضافوا إلى ذلك ما عثروا عليه في
سفر أشعياء والمزامير، والتي جاء فيها أن السماوات منتشرة «كستار» أو «كخيمة يعيش فيها
الأحياء»، إذن فالكون عبارة عن منزل، أسفله الأرض وعرشه القبة الزرقاء التي يعلق فيها
الواحد القهار الشمس لتحكم النهار، والقمر والكواكب لتحكم الليل. وأما السقف أو العرش
فعبارة عن أرض سفلى لطابق أعلى فيه صهريج، يقول فيه أحد ثقاة اللاهوتيين إن شكله يقارب
شكل «حوض الحمام» المعروف، ويحتوي على المياه التي هي كائنة من فوق القبة الزرقاء. أما
تلك المياه فقد تنصب على الأرض بيد الله وملائكته من «نوافذ السماء» فتكون مطرًا،
رذاذًا أو مدرارًا. ولقد رجعوا في حركة الشمس إلى الاستشهاد بمقطوعات كثيرة في سِفر
التكوين، مزجوها بالغيبيات الميتافيزيقية مزجًا تختلف نسبته، وظَنُّوا بأن مجموع ما
استمدُّوا من التوراة والإنجيل كافٍ لأن يثبت بأنصع برهان وأقوى دليل أن الأرض لا يمكن
أن تكون كروية الشكل.
في القرن السادس انتهى ذلك التفصيل بما يصح أن يعتبر نظامًا كاملًا في حقيقة الكون،
مستمَدَّة أسسه من نصوص التوراة والإنجيل. كان واضع هذا النظام الراهب المصري قد
«قوزماس إنديكو بليوستيس» Cosmas Indico Pleustes
والحقيقة أن مصر قد ظلَّت نبعًا فياضًا ينضح بمختلِف الآراء اللاهوتية التي انتحلتها
كثير من الديانات القديمة. والواقع أن «قوزماس» قد نجح في أن يُلزم الكنيسة الأولى تلك
المعتقدات المصرية العتيقة التي بثت في تضاعيف الكهنوت المصري في حقيقة العالم، كما
ألزم الكنيسة كاهن مصري آخر هو «أتناسيوس» Athansius
المصري فكرة الأقانيم الثلاثة المندمجة في خالق واحد، يحكم نظام الكون كله.
قال «قوزماس» بأن الأرض عبارة عن معين منبسط، تحيط به بحار أربعة. ويبلغ أربعمائة
يوم
سفرًا طولًا ومائتي يوم عرضًا، وفي حدود هذه البحار الأربعة الخارجية تقوم جدران عظيمة
هائلة الحجم، تحوي كل ذلك البناء الكبير وتحمل من فوقها تلك القبة السماوية، وقد ثبتت
أطرافها إلى أعلى الجدران بمادة فيها صفة الالتصاق.
قام هذا النظام على طريقة التفكير اللاهوتية وعلى العلم اللاهوتي، وظن أنه أحكم نظام
وصل إليه العقل الإنساني، وأنه أكثر النُّظُمِ انطباقًا على حقائق التوراة والإنجيل.
ولقد أيقن قوزماس وغيره من مفسري عصره بأن حقائق الإصحاح التاسع من رسالة العبرانيين
٢ لدى الكلام في الهيكل، يفتح مغاليق النظام العالمي أمام العقل البشري، وعلى
هذا اعتقد أن الكون قد وضع على مثال الهيكل العبراني؛ فهو إذن أشبه بعلبة مستطيلة
الشكل. ولما أن عمد إلى التفاصيل رجع إلى سفر أشعياء حيث يقول: «الجالس على كرة الأرض
وسكانها كالجندب الذي ينتشر السماوات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن.»
٣ وإلى مقطوعة من سفر أيوب تذكر «عمدان السماء». ولقد كون من مجموع هذا
نظامًا، متخيلًا أنه قد أوحي إليه بأسرار العلم ومغمضات الكون الأوسع.
أما تلك العلبة العظيمة فتنقسم إلى قسمين أو دورين أحدهما فوق الآخر. ففي الدور الأول
يعيش الناس وتتحرك الكواكب. وهو يمتد ارتفاعًا إلى القبة الصلبة الأولى أو القبة
الزرقاء التي يعيش من فوقها الملائكة الذين وكل إليهم — كجزء من عملهم — أن يدفعوا عنهم
ثم يجذبوا إليهم الشمس والسيارات رواحًا وجيئة.
ثم يعمد بعد هذا إلى سِفر التكوين مستندًا إلى الآية المعروفة: «وقال الله ليكن جلد
في وسط المياه. وليكن فاصلًا بين مياه ومياه.»
٤ وإلى غير ذلك من الآيات. ثم ينتهي إلى المزامير حيث تذكر: «سبِّحيه يا سماء
السماوات ويا أيتها المياه التي فوق السماوات.»
٥
ولقد ترى «قوزماس» بعد التوسع الكبير في هذه الآراء والنصوص يصب الجميع في إناء واحد
ليحمي عليها من وقود خياله حتى تنضج، فتخرج نظرية قوامها أن فوق القبة السماوية الأولى
حوض عظيم يحوي «المياه». ثم يعود ثانية إلى سِفر التكوين مستندًا إلى القول «بنوافذ
السماء» ليضع نظرية أخرى يعلِّل بها سقوط المطر على الأرض فيزعم بأن الملائكة لا يقتصر
عملهم على رفع الأجرام السماوية وجذبها رواحًا وجيئة لتنير الأرض، بل إنهم مكلفون فوق
ذلك بفتح نوافذ السماء وغلقها ليُطفِئوا ظمأ الأرض ويحيوا مواتها.
ولما أراد «قوزماس» أن يفهم كيف يتكون سطح الأرض، رجع إلى أسلوب التفسير الذي اتبعه
«أوريغن» Origen وغيره من آباء الكنيسة في عصورها
الأولى، وأَكَبَّ على درس مائدة الخبز المقدس — خبز التقدمة — التي تكون في الهيكل
العبراني. ولقد أثبت سطح تلك المائدة «لقوزماس» أن الأرض سهل منبسط انبساطًا، كما أثبت
اتِّساعه أن عرض الأرض هو بمقدار نصف طولها.
أما أركانه الأربعة فتمثل فصول السنة: الصيف والشتاء والربيع والخريف. وتشير الاثنا
عشر رغيفًا التي توضع فوقها إلى شهور السنة. والفراغ الذي يحيط بتلك المائدة إنما يرمز
به إلى المحيط العظيم الذي يغشى الأرض من جميع جهاتها. ومن أجل أن يعلل حركة الشمس،
اعتقد «قوزماس» أن عند طرف الأرض الشمالي يقع جبل عظيم، خلفه يكون مقر الشمس أثناء
الليل. غير أن بعض الذين علَّقوا على كتاباته قد أَبْدَوْا بعض الشك في هذه الفكرة،
ليقولوا بأن الشمس إنما تدفع إلى حفرة إذا جَنَّ الليل، ثم ترفع منها عند تنفُّس
الصباح.
وما من شيء هو أبعث على الانفعال الهادئ من تلخيص «قوزماس» لمُجمَل نظرياته الكونية؛
إذ يقول: «لهذا نقرر مع «أشعياء» بأن السماء التي تتضمن هذا الكون الفسيح عبارة عن قبة
صُلبة القوام، ونقضي مع «أيوب» بأنها متصلة بالأرض، ونسلم مع «موسى» بأن طول الأرض أعظم
من عرضها.» ولم ينتهِ من مقالته هذه إلا وهو يؤكد أن ليس موسى والأنبياء وحدهم، بل
الملائكة والحواريون أيضًا، متفقون على ما في مذهبه من حق، وأن الله في اليوم الآخر سوف
ينزل غضبه على كل من لا يُسلم به، أو يتشكك فيه.
وهذه النظرية، على الرغم من أنها مستمَدة من نصوص التوراة، فإنها — كما رأينا من
قبلُ
— نتيجة تطور طويل في الفكرة اللاهوتية، أخذت بوادره تظهر في ثنايا العقل الإنساني من
قبل أن تكتب أسفار التوراة والإنجيل والمزامير بزمان طويل. وليس من غرابة في أن
«قوزماس» — وهو مصري كما تعرف — يعمد إلى هذا المذهب الذي نشأ وترعرع على ضفاف النيل
وفوق أرض مصر منذ أبعد عصور المدنية وعلى الصورة التي نراه ممثَّلًا بها في النقوش التي
لا تزال قائمة على جدران المعابد المصرية القديمة، وأن يشد ذلك المذاهب من أطرافه
مستعينًا بأسفار التوراة العبرانية، حتى يخرج منه بمذهب يدمجه من تضاعيف المعتقد
النصراني. غير أن عالم اللاهوت بأجمعه كان على جهلٍ تامٍّ بحقيقة تلك ذلك التطور
الأوَّلي الذي بدأ في عصور الوثنية. فإن نظرية «قوزماس» قد قُبِلَتْ على أنها وحي أنزل
على قلبه، وما لبثت أن اعتبرت في عالم الدين كحصن حصين ثابتةٌ أُسُسُهُ على الأسفار
المقدَّسة. ولقد وقف كثير من جهابذة الكنيسة أنفسهم على تنمية هذا المذهب، عاملين على
تقويته بكثير من نصوص الكتب المنزلة حينًا، أو متوسِّعين فيه من طريق الأسلوب اللاهوتي
حينًا آخر. أما المؤمنون فاعتبروه هبة عُظْمَى حباهم بها الواحد القهار. ولقد ظل هذا
المعتقد ثابتًا حتى نهاية القرون الوسطى. فإنك ترى «يوحنا سان غنيميانو» John st. Genemiano قد بذل أقصى الجهد في
الدفاع عنه والنضح عن حياضه. ولقد حذا حذو «قوزماس» في أن يتخذ الهيكل العبراني لآرائه
عمادًا، مُظهِرًا كيف أن الفكرات الحديثة في شكل الأرض وسعتها وزينتها من الممكن
التوفيق بينها وبين النصوص الإنجيلية المنزَّلة.
من هذا المعتقد القديم في حقيقة الكون وأنه عبارة عن سكن أو منزل، السماء طابقه
الأعلى، والأرض طابقه الأسفل؛ فاضت آراء لاهوتية كثيرة حشيت بها الميثولوجيا الوثنية
واليهودية والنصرانية. وفي تضاعيف تلك الميثولوجيا تغلغلت أساطير عن ذوات فانية أرادت
أن تصل إلى طابق الكون الأعلى، متسلِّقة من طابقه الأسفل. ومن أخص هذه الأساطير
اليونانية التي نشأت حول اسم «ألويدا» Aloidae الذي
حاول أن يصل إلى السماء بأن يجمع الجبال أكداسًا بعضها فوق بعض، ولكنها تحطمت وصعقت
للحضيض. ومنها الأساطير الكلدانية والعبرانية في ذلك الجبار الذي أراد أن يبني في
«بابل» Babel «برجًا يصل من فوق قمته إلى السماء»،
ذلك البرج الذي تدلى الحي القيوم — على معتقدهم — من عليين ليمتع به نظره ويراه، فأمر
باختلاف الألسنة واللغات ليقف إتمامه، ويصد بانيه عن غرضه. ومنها الأسطورة الهندية في
تلك الشجرة التي أرادت أن تبلغ إلى السماء ارتفاعًا وأعاقها «براهما» Brahma. ومنها الأسطورة المكسيكية في أولئك الجبابرة الذين أرادوا
أن يبلغوا السماء ببناء هرم «شولولا» Cholula والذي
انصبَّت عليه من السماء نيران جعلته قاعًا صفصفًا.
ولقد كانت هذه الفكرة الجغرافية سببًا في انتشار أساطير ظلَّت حية وارفة الظل آلافًا
من السنين؛ فالصعود إلى السماوات العلى والهبوط منها، ورفع الأحياء إلى السماء وانتقال
الموتى إليها بعد أن يقضوا نحبهم في هذه الحياة الدنيا، والتبشير السماوي، وقبض الذوات
الفانية في السماء ورجوعهم إلى الأرض، وطيران الملائكة في الفضاء بين الأرض والسماء،
والصواعق المنقضة منها، والرياح الزعازع المنبعثة على الأرض من جوانبها، والأصوات التي
تخاطب من الطابق الأعلى رجالًا في الطابق الأسفل، وفتح أبواب السماء أحيانًا لإنزال
الرحمة والخير على العباد الصالحين، والإشارات والعجائب التي تظهر في السماء لإرهاب
الأشقياء الصالحين، إلى غير ذلك من صنوف العلاقات، من المعتقد الوثني في هبوط الإله
لتأدية كل صنوف الرسالات الشفوية، ونزول الحي القيوم إلى «جنة عدن» ليتنزه لدى اعتدال
الهواء أثناء النهار، إلى معتقد النصارى في انقضاض «القديس بولص» على سوق «البندقية»
ليحطم الأغلال، التي صفد بها عبد من العبيد، كل هذه الأشياء صور مختلفة تشكلت فيها
الأساطير الدينية التي قامت على تلك الفكرة الجغرافية، متطورة من صورة إلى أخرى على مر
الأجيال.
غير أن خطأ النشوء والتطور في تلك الفكرة لم يقِف عند هذا الحدِّ، فمن الطبيعي أن
يعتقد كل من ينظر في حقيقة العالم هذه النظرة، بأن السماء ما دامت علاء، فإن جهنم
٦ لا بد من أن تكون حضيضًا. وأن الرفع إلى الأولى يناظره الإهباط إلى
الثانية. وما دامت جهنم على ما ترى من القرب إلى الأرض، فإنه من الطبيعي أن يستطيع
سكانها أن يتدخلوا في أعمال أهل الدنيا تدخلًا مباشرًا دائمًا، وأن يكون تدخلهم موضوع
بحوث مستفيضة تُحثى بها بطون الكتب خلال القرون الوسطى. ولقد كان لهذا الموضوع من
عبقرية «دانتي» نصيب وافر؛ فإنه استطاع بما خُصَّ به من قوة الوصف أن يجلو سِرَّ هذا
التصور، تصور جهنم وسكانها، مصبوبًا في قالب واضح من لغته الساحرة، حتى لقد ظلت بعض
الصور التي تقلبت فيها هذه الفكرة سياجًا حصينًا ضد البحوث الجغرافية عن أن تنبعث في
سبيلها المحتومة زمانًا. فإن كثيرًا من السياح الذين لم تكُن لترهبهم الأنواء ولا قوة
القرصان، قد انثنوا عن عزمهم خائفين من أن تبتلعهم وسفينهم فوهة من فوهات جهنم، التي
كان يعتقد في ذلك الزمان اعتقادًا عامًّا بأنها تقع في عرض المحيط الأطلانطيقي، وعلى
مسافة غير معروفة من شاطئ أوروبا. وكان هذا الخوف الذي استمكن من قلوب السائحين
المقتحمين لمخاطر البحار، صعوبة من أكبر الصعاب التي قامت في وجه «خريستوف كولمبوس» لدى
أول شروعه من رحلته المبرورة. ولقد عثرت في كتابٍ هو بمثابة متن مختصر أراد وضعه أن
يعبر فيه عن حقائق العلم في صورة محاورة كُتِبَتْ في القرون الوسطى، على السؤال والجواب
الآتيين: لماذا تكون الشمس شديدة الأحمرار عند المساء؟
– لأنها إذ ذاك تكون مواجِهة لجهنم!
غير أن جرثومة الحقيقة العلمية التي فرخت في العقل الإنساني خلال العصور الأولى كانت
لا تزال حية، جرثومة الاعتقاد بالحقيقة الجغرافية الكبرى في كروية الأرض. وعلى الرغم
من
أن العديد الأوفر من آباء الكنيسة الأولين، وعلى الأخص «لاكتانتيوس» قد نصبوا أنفسهم
للقضاء على هذه الحقيقة وتحطيمها مستندِين إلى الأقوال المنسوبة إلى «أشعياء وداود
والقديس بولص»، فإن الفكرة الصحيحة التي تكوَّنت في عقل «إيودكسس» Eudoxus وأرسطوطاليس لم تُنْسَ ولم يلفظها العقل الإنساني في
القرون الوسطى. ولقد أيد هذه النظرية «كليمان الإسكندري» و«أوريغن»، كما أجازها
القديس «أمبروز» st. Ambrose والقديس أوغسطين st. Augustine وبعد أن ظل نفوذ «قوزماس» قرنًا
من الزمان مبسوطًا على العقل الأوروبي مخيِّمًا عليه بسلطانه، عادت هذه النظرية فاستمدت
روحًا وحياة من إيزيدور الإشبيلي Isidore of Seville
وهو من أكبر رجال الكنيسة الذين عاشو في جنوبِيِّ أوروبا، ومن الذين ضحوا كثيرًا من
حقائق العلم انتصارًا لوحي اللاهوت، ولكن هذه النظرية شذت عن القاعدة اتفاقًا. وفي
القرن الثامن صادفت هذه النظرية تعضيدًا آخر؛ إذ أعلن «بيده» Bide — وكان من أوسع رجال الكنيسة نفوذًا في شمالي أوروبا —
مشايعته لها، وعبثًا ما كان من أمر الذين يؤيدون النظرية المقدسة في شكل الأرض؛ فإن
الحياة الجديدة التي تمشت في تضاعيف الحق القديم الموروث عن العالم الوثني قد زادت قوة،
على الرغم ممَّا أعلن عليها من الحرب وصنوف الاضطهاد طويلًا. ولقد أذعن للحقيقة رجال
ثقات عاشوا في أواخر القرون الوسطى أمثال «ألبرت الكبير» Albert the
Great
والقديس «توماس
أكونياس» st. Thomas
Aquinas و«دانتي» Dante
و«فنسنت بوفييه» Vinoent Beauvais، إذ شعروا
بضرورة الاعتقاد بكروية الأرض، كما أنك كلما تقدمت على الزمان خطوة بالغًا حدود العصور
الحديثة، ألفيت أن العديد الأوفر من المفكرين قد قبِلوا هذه الحقيقة واعترفوا بصحتها.
أما القائمون بحركة «الإصلاح البروتستانتي» فلم يُذعنوا لهذه الحقيقة كل إذعان بداءة
ذي
بدء. فإن «لوثر» Luther و«ميلانكوتون» Malanchoton و«كالفن» Calvin كانوا ثابتي اليقين فيما يوحي به ظاهر التوراة. حتى إنك لتجد
أن «زونيجلي» Zwingli على الرغم ممَّا خص به من سعة
الفكر كان جامدًا كل الجمود إزاء هذه الحقيقة، ومضى قانعًا بما أوحى به آباء الكنيسة
من
آراء في القبة السماوية العظيمة أو السقف، الذي يفصل بين السماء والأرض. بل اعتقد بما
كانوا يقولون به من وجود ذلك اللج العظيم المعلق فوقه والملائكة، ومن تحته الأرض
والناس.
وكان الفرض الذي رمى إليه زعماء الإصلاح البروتستانتي من النظرة نظرة مستقلة في هذا
الموضوع العام، هو الانصراف مع تأمُّلات فاسدة في الكون وفي تضمُّنه لجنة الخلد، وفي
حقيقة الخطاب الذي دار بين الأفعى وبين حواء، وأمثال ذلك.
ولقد زادت الحالة سوءًا خلال الزمان الذي عقب حركة الإصلاح مباشرة. فإن التفسيرات
التي فسر بها «لوثر» و«ميلانكوتون» آيات التوراة قد أصبحت في نظر أتباعهم مقدَّسة كنصوص
التورة نفسها. ولما أن جرأ «كالكست» Calixt لدى تفسيره
المزامير، على أن يناقش المعتقَد الثابت في حقيقة أن «المياه الكائنة من فوق السماء
إنما يحويها وعاء عظيم تعضده قبة صلبة القوام» لم ينل إلا الطرد من الكنيسة منبوذًا
جزاء هرطقته.
في الجزء الأخير من القرن السادس عشر فسر «موساوس» Musaeus عبارات سِفر التكوين على اعتقاد أن الله خلق السماء باعتبار
أنها سقف أو قبة، وتركها ثلاثة أيام تهتز متراوِحة اهتزاز الرقاص، حتى وضع الأرض من
تحتها فتثبت. غير أن الفكرة العلمية في حقيقة صورة الأرض ربحت الموقعة وتم لها النصر؛
فإن أكثر المؤمنين ثقةً بما تنم عليه ظاهر الأسفار المقدسة لم يلبثوا أن اضطروا إلى
اتباع طريقة التوفيق بين هذه الحقيقة، وبين نظرياتهم اللاهوتية جهد ما استطاعوا.
(٢) تخطيط الكرة الأرضية
ثبت عند كل أمة من الأمم القديمة — على وجه الإطلاق — اعتقاد بأن مدينتها الكبرى،
أو
مكانها المقدس هو بالضرورة مركز الأرض.
فاعتقد الكلدانيون بأن «بيت آلهتهم المقدس» هو المركز. في حين أن المصريين خططوا
الأرض على صورة شبح بشري، مصر قلبه وطِيبة وسطه ومركزه. أما الآشوريون فكانوا على أن
المركز «بابل» والهنود على أنه جبل «ميرو»
Mountmeru
أما اليونانيون، فاعتقدوا بأنه جبل «أولمبوس»
Olympus
أو معبد «دلفوس»
Delphi والمسلمون على أنه مكة وحجرها المقدس.
٧ ولا يزال الصينيون يسمون إمبراطوريتهم حتى اليوم «الدولة الوسطى». واتباعًا
لهذه القاعدة وعلى مقتضى نزعات العقل البشري، خيل إلى العبرانيين بأن أورشليم مركز
الدنيا.
وينص سفر «حزقيال» Ezekiel على أن أورشليم إنما تقع
في مركز الأرض، وكل ما عداها من بقاع العالم يقع حفًّا في المدينة المقدسة. وظل هذا
الاعتقاد خلال كل «عصور الإيمان» معتَبَرًا عند جميع الناس وحيًا أنزله الواحد القهار
ليعرف الناس صورة الأرض من طريقه. ولقد أعلن «القديس
جيروم» Jerome أكبر ثقات الكنيسة الأولى في العلم الإنجيلي، معتمدًا على ما
أتى به «حزقيال» من أن أورشليم لا يمكن أن تكون في مكان، ما لم تكُن في مركز الأرض.
ورجع من بعد ذلك «رابانوس موراس» Rabanus Maurus وكان
رئيس أساقفة في القرن التاسع؛ يجدد من شباب هذه الفكرة، ويبعث فيها حياة جديدة. وفي
القرن الحادي عشر أخذ «هيو
أوف سان فيكتور» Hugh of st
Victor يؤيد هذا المذهب بنصوص استمدها من التوراة. ثم أعلن
البابا «إبان» في خطابه العظيم في «كليرمون» Clermont
ليحرض الفرنجة Franks
على القيام بالحروب الصليبية بأن أورشليم هي في مركز
الأرض لأوسط وذكر سيزاريوس أوف
هيسترباخ Ceasarius of Heisterbach، وكان من مشهوري اللاهوتيين في القرن الثالث عشر، معلنًا
«أنه كما يكون القلب في مركز الجسم كذلك تقع أورشليم في وسط أرضنا المسكونة» واثقًا من
«أنه لهذا السبب صلب المسيح في مركز الأرض». وقبل «دانتي» Dante هذه الخرافة على أنها حقيقة واقعة، وبثها في تضاعيف أشعاره
الخالدة، وكذلك تجِد في كتاب السياحة المنسوب إلى القديس «يوحنا مندفيل» John Mandville وكان كثير الذيوع خلال القرون
الوسطى، أن أورشليم إنما تقع في مركز الأرض، وأنه إذا رشق هنالك في الثرت رمح بحيث يكون
أفقيًّا تمامًا، فإنه لا يلقي بظِلٍّ ما على خط الاعتدال.
ولقد أصبحت تقريرات «حزقيال» مثال ما يحتذى أهل الأورثوذكسية من واضعي الخرائط
الجغرافية في العصور الأولى. ولقد دلَّت الخرائط الجغرافية التي وضعت إذ ذاك، وعلى
الأخص خريطة العالم المحفوظة في كاتدرائية «هيرفورد» Hereford والخرائط التي وضعها «إندريا بيانكو» Andrea Bianco و«مارينو
سانوتو» Marine Sanoto وكثير غيرهما، إلى نتيجتين؛ أولاهما: هي أن يثبت هذا الاعتقاد
في أذهان الناس، وثانيتهما: هي أن يبعث المعتقد العام من التثبيط في همم الباحثين الذين
حالوا أن يثبتوا خطأ هذا المذهب، ما يقعد بهمتهم طويلًا.
على أن المفكرين في القرون الوسطى لم يقفوا عند هذا الحد. فإنهم خضعوا لوجهة النظر
التي سادت في تلك الأزمان، والتي كانت تُلزِم الناس الاعتقاد بأن الحقائق الفوسيقية،
لا
ينبغي أن يبحث عنها في حيز خارج عن ذلك الحيز الذي حددته المقولات اللاهوتية، تطور ذلك
المذهب تطورًا خطيرًا، محصلة أن ليس موضع الصليب في مدينة القدس هو الذي يحدد مركز
الأرض الجغرافي لا غير، بل إن في هذه البقعة التي قام عليها الصليب نبتت الشجرة التي
حملت تلك الثمرة المحرمة في جنة الخلد، وعلى هذا تجد أن العلم الجغرافي قد بلغ حدًّا
استطاع عنده الباحثون أن يصبوه في قالب محبوكة أطرافُه على المعتقد اللاهوتي.
ولقد فرِح المؤمنون بما أتاهم به ذلك المذهب من علم. ولا يدلُّك على هذا من شيء مثل
تلك الكتب التي نشرها مهاجرون هبطوا إلى فلسطين في القرون الوسطى؛ فإن هذه الكتب تزودك
في طوال تلك العصور براهين تثبت لديك حينًا بعد حين، أن هذا المذهب قد أصبح من أثمن
الحقائق التي يفخر بها المؤمنون سواء في الجغرافية أم في اللاهوت. ولقد ظل هذا المعتقد
ثابتًا أواخر القرن السابع عشر، حتى إنك لتجد أن الكاهن الفرنساوي المشهور «إيوجين روجر» Eugene Roger في كتابه الذي تكلم فيه عن سياحته
في فلسطين عام ١٦٦٤ يعمد إلى الإصحاح الثامن والثلاثين في سفر «حزقيال»، وإلى نصوص في
سفر «أشعياء» Isalah ليثبت أن مركز الأرض الحقيقي يقع
في نقطة على رصيف الكنيسة التي تتضمن القبر المقدس. وأن في هذه النقطة نبتت الشجرة التي
حملت الثمرة الملعونة، وقام الصليب الذي صُلِبَ عليه المسيح.
ولم يكن هذا التصوُّر الباطل وحده هو الذي شَقَّ لنفسه طريقًا إلى الخرائط الجغرافية
التي صُنِعَتْ في القرون الوسطى. فهنالك تصوران يظهران جليين على صفحة تلك
العصور.
الأول: ذلك الفزع المبهم الغامض الذي ألقاه في روع الناس اعتقادُهم باطلًا بيأجوج
ومأجوج. وقليلًا ما تجد في العهد القديم — التوراة — من مقاطيع تفوق في عظمتها وروعتها
تلك التي أوردها «حزقيال» في تعذيب هؤلاء الأعداء الألِدَّاء. ناهيك بتلك المقطوعة
المعروفة في سفر رؤيا «يوحنا» اللاهوتي Apocalypse
فإنها قد ربطت بين الشعور العبراني تلقاء يأجوج ومأجوج، وبين تصور جديد ثبتت أصوله في
صميم الكنيسة النصرانية الأولى. ولهذا تجد أن واضعي الخرائط الجغرافية في القرون الوسطى
قد عانَوْا أشد النَّصَبِ في تصوير هذه المسوخ المفزعة، وتحديد مواطنهم على الخرائط.
ومضت قرون طوال والناس يعتقدون أن أيَّة خريطة جغرافية خالية من ذكرهم، لا يمكن أن تنال
رضاء المحافظين من أصحاب الكنيسة.
أما التصوُّر «الثاني» فمُسْتَمَدٌّ ممَّا ذُكِرَ في الأسفار المقدسة عن «الرياح
الأربعة». ولقد قام على هذا التصوُّر اعتقاد ثابت في حقيقة وجود هذه الرياح، فظهرت
رموزها على الخرائط الجغرافية في صورة أدمغة عظيمة الحجم، منتفخة الوجنات، ترسل رياحًا
زعازع في اتجاه أورشليم.
ولقد نجد — حتى بعد أن زالت هذه التصورات واكتسحت من عالم الفكر الإنساني — دلائل
توحي إلينا بين حين وحينٍ، أن الناس قد عانَوْا أشد الصعاب وأمض الشكوك في رفض تلك
الفكرة التي قامت على تفسيرات فُسِّرَتْ بها الأسفار المقدسة، والتي كانت تُلزِمهم
الاعتقاد بأن سلطات السماء إنما تتدخل تدخلًا فعليًّا مباشرًا في تسيير الظاهرات
الطبيعية الواقعة من حولهم. وآية ذلك أنك تقع على خريطة جغرافية وُضِعَتْ في القرن
السادس عشر مثَّلت الأرض بكُرَةٍ وفي كل من قطبيها ذراع ملتوٍ، وبجانبه ملك يَجِدُّ
عاملًا على تحريك الأرض بهذا الذراع حول محورها. وترى في خريطة أخرى أن يد الله قد
امتدت من بين السحب رافعة الأرض بحبل متين يفتله بين إبهامه وسبابته لتدور الأرض. حتى
إذا ما انحدرت مع الزمان إلى أواسط القرن السابع عشر ألفيت «هايلين» Heylin أشهر ثقات الجغرافيين من الإنجليز، قد نزع طافرًا إلى المزج
بين العلم واللاهوت؛ فقد حاول أن يجعل أحدهما يؤيد الآخر على الطريقة التالية.
«المياه مع الأرض كتلة واحدة، ولكن المياه أعلى من الأرض؛ أولًا: لأن الماء إن كان
جسمًا إلا أنه أقل من الأرض ثقلًا، وثانيا: لأن المسافرين بحرًا قد لاحظوا أن سفنهم
تسرع حركتها كلما أقدمت على الشاطئ كما تقل إذا مضت مبتعدة عنه، وأن لا سبب لذلك إلا
أن
المياه أعلى من الأرض، وثالثًا: إذا وقفنا على الشاطئ نجِد أن المياه تأخذ في الارتفاع
شيئًا فشيئًا حتى إذا بلغت الأفق ظهرت كُتَلًا مستديرة تحجب ما وراءها، وعلى هذا لا
يمكننا أن نعلل ارتفاع ماء البحر عن الأرض من غير أن يغشاها، إلا بإرادته القدسية التي
اقتضت أن تقف المياه كتلة واحدة، وأن لا تعود تغشى الأرض مرة أخرى.»
(٣) سكان الأرض
بينما كان المذهب في كروية الأرض لا يزال يهتز متراوحًا بين متناوح رياح الفكر،
بُعِثَ من العدم سؤال آخر خُيِّلَ إلى اللاهوتيين أنه أشد من كروية الأرض خطرًا وأبلغ
أثرًا، فإن القول بكروية الأرض قد أدى بطبيعة الحال إلى التفكير في سكانها الآهلة بهم،
وهنالك أفرخت جرثومة قديمة من جراثيم الفكر الخالد، فانتعشت عائدة إليها الحياة في صورة
فكرة، هي فكرة الأنتيبود Antipode ويقصد بهم الخلائق
البشرية الذين يقطنون في الجهات المقابلة لمواطننا من كرة الأرض.
ولقد لقيت هذه الفكرة في كلا العالمين — اليوناني والروماني — مؤيدين ومفكرين، وكان
«شيشرون» Cicero و«بلينيوس» Pliny من مؤيديها، كما كان «أبيقور» Epicurus و«لوكرشيوس» Lucretius
و«بلوتارك» Plutarck من منكريها. وعلى هذا تنقلت
هذه النظرية في منازل الزمان حتى بلغت إلى الكنيسة الأولى محتاجة إلى حل يبلغ بها معارج
اليقين.
ممن بادر من رجال الكنيسة إلى الكلام في هذه النظرية في الشرق القديس «غريغوري نازيانزن» Gregory Nazianzen فمضى مظهرًا أن السفر
بحرًا إلى ما بعد بوغاز جبل طارق مستحيل. ولقد جاراه في الغرب «لاكتانتيوس» متسائلًا:
«هل يوجد من شخص عدم قوة التمييز إلى درجة أن يعتقد بوجود أناس مَوَاطِئُ أقدامهم أعلى
من رءوسهم؟ وأن المزروعات والأشجار تنمو إلى أسفل؟ وأن المطر والجليد يصيب سطح الأرض
من
تحت إلى فوق؟ وإني لشديد الحيرة كيف أقول في أولئك الذين أخطَئُوا في الفكر مرة، ثم
مَضَوْا على خطئهم عاكفين مدافعين عن شيء بأشياء أخرى، وكلها باطلة.»
وليس لنا أن نأسف على شيء من ذلك النزاع الذي رفع ألويته «غريغوري» و«لاكتانتيوس»
فإن
هذين الرجلين مهما كانت منازعهما، فإنهما لم يفعلا من شيء سوى أنهما دافعا عن معتقدهما
الموروث القائم في رأيهما على القانون الطبيعي والمرجحات العقلية.
غير أنه لسوء الحظ لم تقِف موجة المناقشة عند حدود العلم والفلسفة فلم تخطها؛ فإن
كثيرًا من مفكري النصارى قد ظهروا في الميدان، متسلحين بنصوص من الأسفار المقدسة،
وسرعان ما أصبح النزاع لاهوتيًّا تجري في تضاعيفه أساليب أهل اليقين. وعلى هذا تسعرت
نيران التعصُّب ضد معتقد «الأنتيبود» وأصبح أمرًا مذهبيًّا صرفًا. وهبت الكنيسة العظمى
تقاومه وتنوء عليه بقواتها، وفي المقدمة آباء الكنيسة يقودون فيالق المؤمنين.
لقد ثبت الاعتقاد عندهم جميعًا بأن الفكرة خطرة، كما ثبت عند أكثريتهم أنها محرمة
منبوذة. أما القديسان «باسيل» Basil و«أمبروز» Ambrose فقد بلغ بهما التسامح إلى حد أن يقولَا بأنه
من الممكن أن ينال الخلاص الأخروي، رجل يرى أن الجانب الآخر من الأرض مأهول بالناس
والخلائق. غير أن العديد الأوفر من آباء الكنيسة قد أبدَوْا كثيرًا من الشك في خلاص
أولئك الذين يَرَوْنَ ذلك الرأي، على اعتبار أنهم فاسقون عن عهد الإيمان.
أما البطل الأعظم الذي تكثفت من حوله قوة الدفاع عن وجهة النظر الأورثوذكسية فكان
القديس «أوغسطين»
Augustine وعلى الرغم من أنه قد أظهر
بعض الميل إلى الاعتقاد بكروية الأرض، فإنه حارب فكرة وجود أناس على الجانب الآخر منها
حربًا عَوَانًا مستندًا إلى القول بأن «التوراة لا تَذكُر من أبناء آدم سلالة كهذه.»
ولقد مضى قانعًا بأن الله القادر على كل شيء لا يسمح لأناس بأن يعيشوا في تلك البقاع؛
لأنهم لا يستطيعون أن يروا المسيح لدى عودته ثانية هابطًا على الأرض من السماء مجتازًا
أطباق الهواء. غير أن أقوى ما لجأ إليه من البراهين، كان المزمور التاسع عشر، وما أيده
من النصوص في الرسالة إلى الرومانيين وأنه لبرهان تنقل صداه من لاهوتي إلى لاهوتي خلال
ألف كاملة من السنين، رجع إلى نص في ذلك المزمور يقول: «في كل الأرض خرج منطقهم وإلى
أقاصي المسكونة كلماتهم.»
٨ ومن ثم عمد — بأقصى ما أوتي من قوة — إلى حقيقة أن القديس «بولص»
st. Paul قد بنى نظرية من أقوى نظرياته إقناعًا،
وأشدها بالألباب أخذًا، على هذا النص عندما تكلم عن المبشرين بالإنجيل، وأنه أعلن
بإيضاح تام في رسالته إلى الرومانين قائلًا: «بلى إلى كل الأرض خرج صوتهم وإلى أقاصي
المسكونة أقوالهم.»
٩ وعلى هذا تجده يصرح في اعتقاد ويقين بأن هؤلاء المبشِّرين ما داموا لم
يصلوا إلى مقر «الأنتيبو» فلا يمكن أن يكونوا موجودين على سطح الأرض. ويترتب على هذا
أن
يكون المؤيدون لهذا المذهب إنما يفترون على الملك داود وعلى القديس بولص، ومن ثَمَّ على
الروح القدس. وعلى هذا يكون أسقف «هيبو»
Hippo١٠ العظيم قد أوحى إلى الناس — وظل وحيه هذا ألفًا من السنين ثابتًا في رُوعهم
— بأن التبشير بالإنجيل ما دام لم يصل إلى الناحية المقابلة في الأرض، فلن يمكن أن يكون
هنالك من السلالة البشرية أثرٌ ما.
ولقد كان لنفوذ «أوغسطين» وثبات قدمه في تفسير الأسفار المقدسة أثر كبير أوقف الكنيسة
موقف الحزم الشديد إزاء مذهب «الأنتيبود». وهنالك اتفقت كل مدارس التفسير اتفاقًا
تامًّا، ولم ينتَبْها خلاف ولا وقع بينها جدل. فكان أتباع مدرسة الإسكندرية على ما عرف
عنهم من الجنوح إلى المجاز والتأويل، والمتبعون لطريقة التفسير الحر في سوريا،
وانتقاتيوا اللاهوتيين Eclectic Theologians في
الغرب شرع تلقاء هذا المذهب. ولقد ظل معتقد «أوغطسين» ألفًا من السنين سائدًا على
الكنيسة وفي «كل مكان وآنٍ وعند كل إنسان.» معتقد أنه لا يمكن أن توجد ذوات بشرية على
الجهة المقابلة من الأرض؛ بفرض أن للأرض جهة مقابلة. وكان العديد من المؤمنين منذ بداءة
القرن الرابع إلى نهاية القرن الخامس عشر، إذا ناقضهم مناقض أو أنكر عليهم حجتهم منكر،
يلجَئون إلى تلك الحكمة المهدئة، التي كان لها أكبر الأثر على أعصاب «جون هنري نيومان» J. H. Newman في القرن التاسع عشر، حيث
كانوا يقولون: «للدين رب يحميه.»
وعلى الرغم من هذا فإن المفكرين كانوا يظهرون على مسرح الزمان بين حين وحين. ومما
يدلك على أن مذهب «الأنتيبود» كان لا يزال حيًّا، أن «بروكوبيوس الغَزي» Procapius of Gaza في القرن السادس قد هاجم
ذلك المعتقد بكل ما أوتي من قوة العلم، وناهض الحجة والقدرة على الإطناب، وقضى بأنه إذا
كان على الجهة المقابلة في الأرض أناسٌ، لوجب أن يذهب المسيح إليهم وأن يقضي صَلبًا في
سبيل خلاصهم مرة ثانية، ولا نبغي أن يكون هناك — مقدمة لوفوده إليهم — مثال من جنة
الخلد وآدم والأفعى والطوفان.
وكذلك هاجم «قوزماس أنديكوبليوستيس» هذا المذهب بشيء من الحرارة خاص به، موردًا لنصوص
في إنجيل «لوقا» st. Luke ليثبت أن وجود «الأنتيبود»
منقوض لاهوتيًّا.
وفي أواخر القرن السادس عاش رجل كبير هو القديس «إزيدور الإشبيلي» Isidore of Seville كان من المنتظر أن يعمل
لصالح العلم عملًا مجيدًا. فلقد كان ثابت القدم في المعرفة بعلم القدماء وبآرائهم، وكان
من حرية الفكر بحيث أقدم — كما رأينا من قبل — على أن يعلن عن ثبات يقينه بكروية الأرض،
ولكنه مع الأسف وقف عند هذا الحد؛ فإن نفوذ النبي داود The
Psulmist والقديسين «بولص» و«أوغسطين» قد ألجمه تلقاء معتقد
«الأنتيبود»؛ ولذلك تراه يترك كل المسألة على اعتبار أنها خارجة عن الناموس والقانون.
ومن ثَمَّ يخضع العقل لليقين، معلنًا أن الناس لا يمكن — بل ولا ينبغي — أن يوجدوا في
الجهة المقابلة من كرة الأرض.
لقد يخيل للبعض خطأً أن الحقيقة العلمية قد زالت وفنَت، تحت تأثير مثل هذا الاضطهاد
الكبير. والواقع أنها ظلت مختفية كامنة في تضاعيف العقل البشري قرنين كاملين من الزمان.
ولم تكَد تشرق شمس القرن الثامن حتى أصبحت كروية الأرض معتقَدًا عامًّا ثابتًا بين جلة
المفكرين ورواد العلم، وهنالك ظهر الأسقف «فرجيل السولزبرجي» Virgil of
Salzburg
يؤيد مذهب «الأنتيبود» مرة أخرى.
كان في ألمانيا خلال السنين الأولى من القرن الثامن رجل من أرجح الرجال عقلًا وأنبلهم
نفسًا، هو القديس «بونيفاس» st. Boniface أما تثقيفه
فكان على أتم ما في الإمكان خلال تلك العصور. وأما متاعبه ومشقاته فقد استحق بها أن
يعتبر خليفة الرسل والحواريين. وأما غيرته على الدين المسيحي ونبوغه في تعرف أصوله
وقواعده قد أدَّيا به — على قصد منه ورغبة — إلى الاستشهاد. وفي ذلك الوقت شغل عرش
البابوية سياسي من أقدر الرجال ومسيحي من أعظم المسيحيين، هو البابا «زاخاري». غير أن
«بونيفاس» — وهذه صفاته — لم يتلكأ برهة في أن يعلن أنه يربأ بالناس أن تقوم بينهم
هرطقة القول «بالأنتيبود» مرة ثانية، معتقدًا أنه لا يمكن أن يوجد أناس لا يستطاع أن
تبلغهم وسائل الخلاص المسيحية، وهاجم من ثَمَّ «فرجيل» نادبًا البابا «زخاري» إلى
معاضدته والأخذ بيده.
ولقد أجاب البابا على دعوة «بونيفاس» باعتباره معلم المسيحية المعصوم من الخطأ، إجابة
تجلَّت فيها القوة شدة المراس. فذكر آيات من سفر «أيوب» Job، وحكم عن «سليمان» يناقض بها معتقد «الأنتيبود»، معلنًا أن
هذا المذهب «عريق في الضلال أصيل في الإجرام، مفسد لنفس فرجيل ذاتها.» وهدد بطرده من
أسقفيته. وسواء أنفذ هذا التهديد أم لم ينفذ، فإن المعتقد اللاهوتي القديم — مؤيَّدًا
بأوامر البابا القدسية ومحميًّا بعصمته — قد عاد إلى الوجود ثانيًّا. معتقد أن الأرض
مأهولة في جانب واحد من جوانبها، حتى لقد أصبح أكثر غورًا في الوجدان الأورثوذكسي،
وأثبت تأصُّلًا في عقلية رجال الكنيسة.
ولقد اعتبر هذا القرار نهائيًّا غير قابل لنقض ولا إعادة نظر، حتى إن «فنسنت بوفييه»،
أكبر إنسيكلوبيذي في القرون الوسطى، مضى قانعًا — بعد صدور ذلك القرار بخمسة قرون كاملة
— بأن مذهب «الأنتيبود» ينقصه البرهان؛ لأنه مناقض لنصوص التوراة؛ ذلك على الرغم من أنه
كان يعتقد بكروية الأرض. ولكن المذهب قد ظل حيًّا على الرغم من كل هذا. وكما أنه كان
قد
ظهر إلى عالم الوجود بجهد «وليم الكونشي» William of
Conches ثم اختفى، كذلك عاود الظهور ثانية خلال القرون الثاني
عشر، تحت تأثير «ألبرت الكبير» Albert The Great أكبر
رجال العلم في ذلك العصر. ولكن الظاهر أنه تعمَّد أن يُلغِز أقواله تلقاء هذا المعتقد.
فكان ذلك سببًا في أن تختفي أنوار الحقيقة وراء ستار اللاهوت. وبعد مُضِيِّ مائة عام
اضطر «نيقولاوس الأورسيمي» Nicolos Oreseme — والذي
كان جغرافيًّا لملك فرنسا أحد أقطاب العلم إذ ذاك — أن يحني رأسه لتعليم التوراة كما
فسرها القديس «أوغسطين».
ولم يقِف الأمر عند هذا الحد من الفساد؛ ففي أوائل القرن الرابع عشر خُيِّلَ إلى
رجال
الكنيسة في إيطاليا أن الضرورة تقضي عليهم بأن يعالجوا أمثال هذه المذاهب بالمخلعة والسندان.
١١ ففي سنة ١٣١٦ لم يفلت «بطرس
ألبانو»
Peter of
Albano — وكان مشهورًا كطبيب — من يد
محكمة التفتيش إلا بأن أدركته الوفاة من قبلِ أن تمتد يدها إليه؛ تلقاء ما روج من مذهب
«الأنتيبود» وغيره من مذاهب العلم، وفي سنة ١٣٢٧ طُرِدَ «شيكوداسكولي»
Cecco
d’Ascoli — وكان
فلكيًّا ذا شهرة وعلم — من أستاذية جامعة «كولونيا» وأُحرِق حيًّا في «فلورنسا»؛ لأنه
علم مذهب «الأنتيبود» وغيره من حقائق العلم، فظُنَّ بأنه ساحر وأنه يعلم السحر. ولقد
خلد المصور «أوركانيا»
Oreagna — الذي لا تزال نقوشه
المفزعة قائمة حتى اليوم على جدران «كامبو سانتو»
Campo
Santo في «بيزا» — ذكرى «سيكو» بأن صوَّره في جنهم تلتهمه
ألسنتها النيرانية.
وانحدرت السنون حتى إذا ما كان القرن الخامس عشر، ظهر رجل من الأفذاذ الذين كان
يُنتظر أن يجني منهم العالم الإنساني خيرًا كثيرًا؛ فإن «بطرس دايلي» Peter d’Aily قد استطاع — بما أوتي من بسطة العلم
وقوة الفكر — أن يصبح عميدًا لكلية القديس
«دييه» st. Die في اللورين. وكانت مقدرته سببًا في أن تضحي تلك القرية مركزًا
للفكرة العلمية في كل أوروبا؛ ومن ثَمَّ أهلت به لأن يكون رئيس أساقفة في «كامبري» Cambray ثم كردينالًا. وفي أواخر القرن الخامس عشر
طبع ما كان قد كتب الكردينال «دايلي» من قبل ذلك بزمان طويل تلخيصًا لمجمل آرائه
ومباحثه العلمية، وهي مجموعة مقالات نشرت تحت عنوان «يوماجو ماندي» Yomago Mundi وهذه المقالات تعطينا أعظم مثال من المُثُل التي
يرويها التاريخ في عالم عظيم أسدلت عليه أثواب اللاهوت. فإنه عندما بلغ في الكلام إلى
مذهب «الأنتيبود» شرحه أوفى شرح وفصَّله أحسن تفصيل، حتى إنه ليخيل إليك بعد ذلك أنه
سوف يقضي بأنه حَقٌّ ثابت. ولكن هنالك تقوم براهين القديس «أوغسطين»، والآيات
الإنجيلية، وآيات المزامير وأقوال القديس «بولص» إلى الرومانيين. «بلى، إلى كل الأرض
خرج صوتهم وإلى أقاصي المسكونة أقوالهم.» فما استطاع دايلي وقد أراد أن ينزل على حكم
العقل، أن يفيض على عالم العلم بشيء، وقد ناء بما حملته مذاهب اللاهوت.
غير أن مذهب «الأنتيبود» بقي حيًّا يدب في ثنيات العقل. بيد أن اللاهوتي الإسباني
الكبير «توستاتوس» Tostatus قد شعر بوجوب مقاومته فقضى
بأنه مذهب «غير مأمون الجانب». وكان ذلك في عصر «كولمبوس»، وقد صب براهين القديس
«أوغسطين» في القياس المنطقي الآتي: «إن الرسل قد أُمِروا بأن يذهبوا في كل نواحي الأرض
ليبشروا بآيات الكتاب المقدس. ولكنهم لم يذهبوا إلى ذلك المكان الذي يقطن به
«الأنتيبود» ولم يبشروا بالآيات لكائن ما هنالك. وعلى هذه المقدمات، ينتج أن
«الأنتيبود» وَهْمٌ لا حقيقة.»
وما الحرب ضد «كولومبوس» بشيء بعيد عن الأذهان. وليس بغائب عنا كيف أهانه أسقف
«سيوتا»
Seuta وازدراه في البرتغال. وكيف جلبه
رجال من أقدر من أنبتت إسبانيا رجاحة عقل في تلك الأزمان بتلك النصوص المعروفة في
المزامير وفي رسائل القديس «بولص»، وفي براهين القديس «أوغسطين». وكيف أن الكنيسة حتى
بعد فوزه، وبعد أن قوت رحلته إلى العالم الجديد فكرة كروية الأرض تلك الفكرة التي تمَّت
بأكبر آصرة لمذهب «الأنتيبود» قد مضت وعلى رأسها الحبر الأقدس، جانحة إلى اتِّباع طريق
ما كان يؤدي بها إلا إلى التعثُّر في وعثاء الخيال. ففي سنة ١٤٩٣ لُجِئَ إلى البابا
«إسكندر السادس»
Alexaner VI ليكون حَكَمًا يفصل
في ما تدعيه كل من دولتي إسبانيا والبرتغال من حَقٍّ في البقاع المستكشفة حديثًا، فأصدر
أمرًا بابويًّا واضعًا على كرة الأرض خطًّا وهميًّا يفصل بين ممتلكات الدولتين. ورسم
هذا الخط — ويدعى اصطلاحًا خط التحديد — من الشمال إلى الجنوب واقعًا على مائة غلوة
١٢ غربِي جزر «الأزورس»
Azores. ولقد أعلن
«البابا» — في كثير من الثقة بما أوتي من العلم والحكمة — أن كل البقاع التي تستكشف
شرقي هذا الخط تكون من حق البرتغال، وكل ما يُستكشف غربيه يكون من حق إسبانيا. ولقد هلل
لهذا الحكم المؤمنون كأنه صادر من قوة قدسية محبوَّة بكل كمالات العلم والحكمة التي
استمدتها الكنيسة من عالم الغيب. ولكن العقبات توالت وشيكًا؛ حتى إن البابا «يوليوس الثاني»
Juluis II قد حاول مرة ثانية سنة ١٥٠٦ أن يغير
خط التحديد فيجعله على بعد ٢٧٠ غلوة غربي جزر «رأس فيرد»
Cape Verde
Ialands وهنا
عاود المؤمنون الاعتقاد بأن الحكمة القدسية هي التي أمدتهم بذلك الحل الثابت. ولكنهم
لم
يلبثوا على ذلك إلا قليلًا حتى عصفت رياح الخلاف وتشابكت حلقات الفوضى؛ لأن البرتغاليين
زعموا أن من حقهم امتلاك البرازيل، وكان في إمكانهم أن يثبتوا — بالضرورة — أن في
مستطاعهم أن يصلوا إليها بأن يبحروا من شرقي خط التحديد، على شريطة أن يُمعِنوا في
سفرهم طويلًا، ولا يبعُد أن نرى الخطين اللذين رسمهما البابوان إسكندر السادس ويوليوس
الثاني، على الخرائط التي وُضعت في ذلك العصر. غير أن أمريهما القديسين قد انحدرا مع
الزمان إلى حيث نُسِيَا وأُهمل أمرهما، مع ما يماثلهما من الأخطاء التي ثبتت أن الإنسان
جدير بما نزل به من وكوارث وملمات.
ومع كل هذا فإن الحواجز اللاهوتية التي كانت تحجب هذه الحقيقة الجغرافية عن البصائر
لم تزل إلا تدرُّجًا. وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة كانت قد أصبحت جليَّة واضحة لأعين
طلاب العلم والباحثين؛ فإنهم تلكَّئُوا في إعلانها والتبشير بها للناس زمانًا. فإن مائة
وألفًا من السنين كُنَّ قد مضين منذ أن برهن القديس «أوغسطين» على أنها مناقِضَة لنصوص
الكتاب المقدس، حتى أذاع «غريغوري
رييش» Gregory Reysch موسوعته المشهورة التي أسماها «مارغار نيتا
فيلوزوفيقا» Marganita
Philosophica ولقد توالت طبعات هذه الموسوعات الطبعة بعد الأخرى، فلم
تُغفِل طبعة منها ذكر الفكرة الأورثوذكسية إزاء هذه الحقيقة. غير أن تلك الآراء
اللاهوتية كانت قد أخذت في الاضمحلال والسقوط؛ فإن «رييش» على الرغم من أنه ذكر بكل
احترام وإجلال أن القديس «أوغسطين» قد مضى معارضًا لهذا المذهب فإنه كان حريصًا على أن
لا يذكر شيئًا من نصوص الكتاب المقدس ليتخذها برهانًا على فساده، ولم يكن بأقل حرصًا
على أن يذكر الحقائق الجغرافية التي تؤيد صحته.
غير أن العلم قد انتصر انتصارًا فاصلًا في سنة ١٥١٩؛ فإن «ماجلان» Magellan كان قد أتم سياحته المعروفة، فبرهن على أن الأرض كروية؛ لأن
بعثه قد دار حولها. كما برهن على أن مذهب «الأنتيبود» صحيح؛ لأن رفقاءه في السياحة قد
رأوا بأعينهم أولئك الخلائق. غير أن هذا لم يُنْهِ الحرب ولم يخمد جذوتها. فإن كثيرًا
ممَّن مَضَوْا مشايعين لحكم المشاعر دون العقل، قد ظلوا مائتين من السنين ينكرون هذه
الحقيقة ويقاومونها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. وفي ذلك الوقت نجح فلكيو فرنسا في مقاس
الدرجة الأرضية في الأنحاء الاستوائية والقبطية، وأضافوا إلى براهينهم ذلك البرهان
المستمد من استطالة الرقاص. وبعد أن وقع ذلك، وبعد أن رأى رجال الكنيسة أن استقراءات
العلم قد تقرَّرت بوسائل بسيطة كمقياس الدرجات، على أكمل وجه وأتم صورة، وبعد أن أرسل
كثير من السياح — ومن بينهم فئة من متحمسي المبشرين — إلى أوروبا وصفًا كاملًا لخلائق
«الأنتبيود»، بعد هذا كله نامت عاصفة الحرب بين العلم واللاهوت بعد أن ظلت عاتية هوجاء
اثني عشر قرنًا من الزمان.
على هذه الصورة كانت نتيجة تلك الحرب الطويلة الممضة. غير أنه حدثت نتائج لم تكن لها
إلا ثمرات مريرة؛ فإن جهود «إيوسبيوس وباسيل ولاكتانتيوس» التي بذلوها في سبيل إخفات
صوت العلم، وجهد «أوغسطين» في مقاومته واضطهاده، وجهد «قوزماس» في تحطيمه من طريق
اللاهوت المذهبي، وجهد «بونيفاس وزاخاري» في تقويض دعائمه بالقوة الغاشمة، وكلهم رجال
لا يمكن أن يساورنا شك في صادق يقينهم وحسن نيتهم، قد أحدث نتيجة واحدة، هي أن يثبت في
عقول الرواد من أهل العلم والدين، اعتقاد بأن بين الدين والعلم عداء وصراع.
على أنه يمكننا أن نتساءل من جهة أخرى: أي جنى جناه المحاربون من أجل العلم لصالح
الدين؟ جَنَوْا تصوُّرًا ثابتًا نبيلًا في حقيقة العالم، تصورًا آخر لا يقل عنه نبلًا
ولا ينزل عنه شرفًا، في جلال تلك القدرة الشاملة التي تسيطر على العالم وتدبر أمره. وقد
نتساءل ثانية أيها أكثر ملاءمة لعقيدة دينية عليا: أكونيات «قوزماس» أم كونيات «نيوتن»؟
وأيهما يهيئ للفكرة الدينية مرتعًا خصيبًا وبيئة فيها ألفة واتساق، أجدليات
«لاكتانتيوس»، أم تقريرات «همبولد» الهادئة العميقة.
(٤) حجم الأرض
منذ زمان بعيد هز موضوع جغرافي آخر عقول النابهين هزًّا عميقًا، وكان هذا الموضوع
محصورًا في النظر في حجم الأرض.
لقد وصل كثير من باحثي القدماء بوسائل مختلفة من مقاس الأبعاد إلى نتائج تكاد تقرب
من
الحقيقة تلقاء حجم الأرض. ولقد ظلت هذه الوسائل حية حتى أسلم بها الزمان إلى القرون
الوسطى؛ فتزودت بآراء جديدة، وكان من بين النتائج التي هي أكثر من غيرها في العقل
الإنساني تأثيرًا وأزكى طبيعة، تلك النتائج التي وصل إليها «روجرباكون» Roger Bacon و«غربرت» Gerbert الذي تبوَّأ من بعدُ عرشَ البابوية باسم «سلفستر الثاني»؛
فإنهما قد أسلما إلى الخلائف من بعدهما ذخيرة العلم كاملة غير منقوصة. غير أنهما لم
يجنيا من معاصريهما إلا ثمرة أجاجًا، فنُعِتَا بأنهما ساحران واتُّهِمَا بترويج السحر
والشعوذة.
لقد كان اللاهوت في القرون الوسطى روحًا سارية في الجماهير ما يلائمها إلا حلول
لمسائل العلم تستمد من نصوص الكتاب المقدس، ويحق لنا أن نذكر ذلك الحل الذي استمد من
تلك النصوص تلقاء حجم الأرض، وما نذكره إلا كمثال نعبِّر به عن مقدار ما غشي العقول من
مغالطات المذاهب اللاهوتية وأخطائها. فإن السفر الثاني من أسفار «عزرا»
Esdras قد اعتبره كثير من نابهي رجال الكنيسة القديمة
وحيًا منزَّلًا. وعلى الرغم من أن «جيروم» قد نظر في ذلك السفر نظرة الشك والارتياب؛
فإن «كليمان الإسكندري» و«ترتليان»
Tertullian
و«أمبروز» قد اعتبروه من الأسفار المنزَّلة المُوحَى بها إلى الرسول السماوي، وتابعتهم
الكنيسة قانعة بزعمهم هذا. وقد شغل هذا السِّفر في الكنيسة الشرقية مكانًا عاليًا. أما
في الكنيسة الغربية فقد اعتبره كل الجهابذة والثقاة جزءًا لا يتجزأ من الشريعة المقدسة.
وكان هذا قبل قيام حركة الإصلاح البروتستانتي. وإنك لتجد في الفصل السادس من هذا السفر
تلخيصًا لأعمال الخلق مصبوبًا في السياق التالي:
أمرت في اليوم الثالث أن تجتمع المياه في الجزء السابع من الأرض، فجففت ستة
أجزاء منها وحفظتها بقصد أن تحرث وأن تقوم مخلوقاتها بتسبيحاتك.
وفي اليوم الخامس قلت للجزء السابع الذي تجمعت فيه المياه، ليخرج منك خلائق
من دجاج وسمك وهكذا كان.
١٣
ولقد أيدت هذه النصوص في فصول أخرى من ذلك السِّفر، فكان من الطبيعي أن تصبح من
الأسانيد الدينية ذات الحَوْلِ والسلطان.
وكان الكردينال «بطرس دايلي» أحد أولئك الباحثين الذين ائتمُّوا بهذه الأقوال
وبغيرها، وعكفوا عليها قصد تنمية العلم وزيادة ثروته، ولقد رأينا من قبلُ أنه بينما كان
ينكر وجود «الأنتيبود» إخلادًا لفكرة القديس «أوغسطين»، مضى ثابت الاعتقاد في كروية
الأرض، فلما عمد إلى تفسير هذه النصوص التي التوت عليها دفَّتَا سفر «عزرا»، وأراد أن
يوفق بينها وبين معتقده الثابت في كروية الأرض، قضى بأن سُبُع الأرض فقط كانت تغشاه
المياه؛ فإن المحيط الواقع في غربِيِّ أوروبا وشرقي آسيا، لا يمكن أن يكون مفرط
الاتساع. وعلى اعتقاد أنه يعرف — كما خيل إليه — مقدار امتداد اليابسة فوق الكرة
الأرضية، شعر بأنه خضوعًا لهذه النصوص الدينية لا بد من أن تكون الأرض أصغر بكثير ممَّا
قدر لها، وأن أرض «زيبانجو» Zipango التي بلغها
«ماركوبولو» Marco Polo في نهاية الطرف الشرقي من
شاطئ آسيا، يجب أن تكون أكثر قربًا ممَّا يتوهم الناس.
وعلى هذه الفكرة عكف الكردينال «دايلي» في كتابه العظيم المسمى «يوماجو ماندي» Yomago Mundi وكان قد ظهرت طبعة من هذا الكتاب
في تلك الأيام التي كان يفكر فيها «كولمبوس» تفكيرًا جديًّا في إمكان السفر غربًا. ولا
مشاحة في أن فكرة «دايلي» قد استغرقت قسطًا كبيرًا من تفكيره وتأمُّلاته، وليس بين
مخزونات مكتبة «إشبيلية» من شيء هو أثمن قيمة من نسخة من ذلك الكتاب قد علقت عليها
حواشٍ بخط كولمبوس نفسه. ولا ريبة في أن «كولمبوس» لم يقنَع بفكرة أن طريق اجتياز
المحيط إلى أرض «زيبانجو» التي بلغها «ماركوبولو» في آسيا قصير، إلا من إكبابه على
دراسة هذه النسخة. ولولا ذلك الخطأ الكبير الذي بُنِيَ على نص في كتاب ديني ظَنَّ أنه
منزل موحًى به، لما استطاع «كولمبوس» أن يحصل على ما حصل عليه من تأييد جعل سياحته في
حيز الإمكان. ومن غرائب المحادثات أن هذه الغلطة اللاهوتية الغريبة، كانت سببًا في
القيام برحلاتٍ عديدة لم يكن لها من نتيجة إلا تحطيم هذه الغلطة نفسها، مع بقية الأغلاط
التي قامت على تصورات جغرافية بُنِيَتْ على كتابات دينية منذ أبعد العصور.
(٥) طبيعة سطح الأرض
ليس من الإنصاف في شيء أن نختم الكلام في قصة التنازُع على البقاء حول الحقائق
الجغرافية من غير أن نستطرد قليلًا في شرح تاريخ الكنيسة البروتستانتية؛ فإن ذلك
التاريخ يظهرنا جليًّا على تلك الصعاب التي وقفت في سبيل أبسط الحقائق الجغرافية التي
تصارعت، وما أتى في الأسفار المقدسة من نصوص.
ففي سنة ١٥٥٣ وقف «ميخائيل
سيرفيتوس» Michael
Servetus ليُحاكَم في جينيف وقد كاد يفقد حياته لاتهامه بتهمة
«الأريوسية» Arianism وقد خدم «سيرفيتوس» كثيرًا
من حقائق العلم خدمة صادقة. وكان من خدماته الجليلة طبع نسخة من كتاب جغرافية «بطليموس»
تكلم فيها عن أرض «يهوذا» Judea فلم يذكر أنها «بلاد
تفيض عسلًا ولبنًا» مجاراة للرأي اللاهوتي، بل عرج إلى الحق وجاراه، ذاكرًا أنها بلاد
«بور» مجرودة غير مأهولة. ولقد اتخذ «جون كالفن» — ألد أعدائه وأقواهم نفوذًا — جنوحه
إلى الاعتقاد بهذه الحقيقة الجغرافية سببًا في أن يحمل عليه أثناء المحاكمة بكل ما أوتي
من قوة الدليل والبرهان. وعبثًا حاول «سيرفيتوس» أن يُثبِت لقضاته أنه إنما نقل هذا
القول عن نسخة أخرى من كتاب «بطليموس». وسُدًى ضاعت كل جهوده ليثبت أن هذه الأقوال ليست
إلا حقيقة جغرافية بسيطة قامت على صحتها براهين طبيعية عديدة. فلم يكن هنالك من رد عليه
سوى القول: بأن كلامه «تَحِدٍّ» بالضرورة لموسى، وانتهاك سافل لسلطة الروح
القدس.
ومحصل القول أن أعمال الكنيسة في مقاومة علم الجغرافية قد انحصرت في أن المذاهب
اللاهوتية قد مضت متطورة، ولكن على أشد ما يكون مراعاة لنصوص الكتاب المقدس، وأن
التصورات التي استمسكت بها الكنيسة خلال قرون عديدة كانت «في كل وقت ومكان، وفي صدر كل
إنسان» وعلى وجه عام، منافية لحقائق العلم. غير أنه لا يحق لنا أن نترك هذا الباب
مفتوحًا من غير أن نضم مصراعيه على بحث نتناول فيه الفرق بين الروح الدينية والروح
اللاهوتية.
إن علم الجغرافية مَدِينٌ للروح الدينية بعدة رحلات، تُعَدُّ من أبر الرحلات
الاستكشافية وأعظمها خطرًا؛ فإن الرغبة الشديدة التي قامت في صدر البرنس «يوحنا»
البرتغالي لينشر النصرانية ويرفع صوتها كانت سببًا في سلسلة تلك الرحلات المشهورة في
شواطئ أفريقية، وفي رحلة «فاسكو داجاما» Vasco da Gama
في الدوران حول رأس الرجا الصالح ورحلة «ماجلان» حول الأرض. ولا شك في أن ذلك الشعور
كان سببًا في تهيئة الظروف التي مهَّدت لكولمبوس أسباب القيام برحلته الكبيرة.
وعلى هذا نرى أن تفوُّق الروح اللاهوتية كان سببًا في تزكية النزعة إلى الصورة
المذهبية في الدين، تلك الصورة التي برزت في كل عصر من العصور لابسة ثياب الجلاد
والصراع، لا لتحارب العلم وحده، بل لتصارع الروح الدينية العليا، بينما نجد أن نزعة
البحث عن الحقيقة لذاتها، تلك النزعة التي كانت سببًا في كل ما أُوحِيَ به للناس من
ثمار العلم، لم تنتج في مختلف العصور إلا خيرًا، ولم تثمر إلا أشهى الثمرات للدين وغير
الدين.