الفصل الثالث
من الخلق إلى النشوء
(١) العالم المنظور
من بين مجموعة النقوش الكاتدرائية التي تعبر عن كثير من حقائق اللاهوت في العصور
الوسطى، نقش يمتاز بالتعبير من مذهب لاهوتي في أصل الكون، ظل موضوع الاحترام والإجلال
أزمانًا طوالًا.
الواحد القهار — في صورة بشرية — جالس بوداعة ولين، يصنع الشمس والقمر والنجوم،
ويعلقها في القبة الصلبة التي تحمل من فوقها «السماوات العلا» وتظلل الأرض
«السفلى».
أما علائم التفكير الظاهرة في تقطُّب جبينه فتنم على أنه أجهد نفسه إمعانًا في التدبر
والاستبصار، كما يدل انتفاخ عضلات ذراعيه على أنه قد اضْطُرَّ إلى أن يكد وينصب، ومن
الطبيعي أن يكون المثَّالون والمصورون — خلال القرون الوسطى وفي بدء العصور الحديثة —
قد عمدوا إلى تمثيله على مقتضى ما تصوره كتاب ذلك العصر؛ إذ كانوا يقولون بأنه استراح
في اليوم السابع واضطجع في هدأة، مصخيًا إلى تراتيل الثناء التي زفتها إليه سكان
السماء.
من حول هذه الفكرات العتيقة التي فاضت بها الكاتدرائيات، وفي غيرها من الآراء التي
عبَّرت عنها النقوش والصور وتلوين الزجاج وزخارف الفسيفساء والحفر خلال العصور الوسطى،
وقرنين فَرَطا من بعد تلك العصور، وتكثَّفت نواةٌ من الاعتقاد كانت قد أخذت تتكون خلال
ألوف من السنين، ومضت محتكمة في كل ما أبرز العقل الإنساني من صور الفكر حتى عصرنا هذا.
١
أما بدايات ذلك الاعتقاد فترجع إلى أعرق عصور التاريخ قِدَمًا؛ فإننا نجدها في أوليات
كل مدنية من المدنيَّات العظمى، بيد أنها شغلت في كل الكتب المقدسة التي ذاعت في نواحي
العالم — على تعددها وكثرتها — مكانًا عليًّا؛ ففي كل المدنيات تقع على فكرة وجود خالق،
ليس الإنسان إلا صور منه غيرة كاملة، وأنه خلق الكون المنظور بطريقة مباشرة مستخدمًا
في
الخلق يديه وأصابعه.
من بين تلك النظريات عدد غير صغير مضى محتكمًا في اللاهوت الكلداني، ومن الواجب أن
نخصه بشيء من العناية والتقدير؛ فإن النقوش الآشورية التي استكشفت حديثًا ونقلها إلى
العالم الإنجليزي أعلام من أمثال «لايارد» Layard
و«جورج سميث» George Smith و«سايس» Sayce وغيرهم، لترينا أنه قد تغلغلت في تضاعيف الأديان
الكلدانية والبابلية قصة في حقيقة الخلق، من أهم مزاياها وأخطر دقائقها أنها لا بد من
أن تكون النواة التي فرخت منها تلك القصص التي نقع عليها في كتبنا المقدسة، ولقد ظهر
بأجلى بيان أن تلك الفكرات التي تشغل أعلى مكانة في أسفار العبرانيين، قد استمدَّت من
ذلك النبع الذي فاض على المدنيات الكلدانية-البابلية والآشورية والفينيقية بتلك القصص
التي وُضِعَتْ في حقيقة خلق العالم؛ ففي تينك القصتين اللتي تخالطتا في سِفر التكوين،
وفي تلكم الرواية التي يمكن أن يُستدل عليها بأشياء في سفر «أيوب» Job. يتمثل لك — بكل ما يستطاع أن تتخيل من العظمة والقدرة — نفس
ذلك التصور في حقيقة الخالق والخلق، وهو تصور خليق بالمدنية وهي بعدُ في مهد طفولتها
وغرارتها؛ إذ يبرز لك الخالق في صورة بشرية مكبَّرة، وهو يكد في العمل بأطرافه ويمثل
لك
الخلق «مصنوعًا بيده»، ولقد نشأ — تعقيبًا على هذا التصور — اعتقاد في الخالق على أنه
شخص بعد أن «قذف من راحة يده إلى الفضاء بكل السيارات لتجواب أنحاء المكان» جلس في
العلاء فوق العرش المستقر «على فلك السماء» جادًّا أبدًا في أن يحكم سيرها ويهديها
طريقها.
ومن هذه النظرية الموضوعة في حقيقة الخلق، نشأت مع الزمان فكرة أخرى، أكثر ارتقاءً
وأنبل قصدًا؛ فمفكرو القدماء ومفكرو مصر على الأخص، كما اتضح منذ عهد قريب، قد مضَوْا
معتقِدين بأن السبب المباشر في الخلق ليست يد الخالق ولا أصابعه، بل صوته؛ ومن هنا
تخالطت بالمعتقدات الفطرية الأولى التي ذاعت في أصل الأرض والأجرام السماوية بقدرة الحي
القيوم، فكرة أكثر للشعور مسًّا وأعمق في التصور تغلغلًا، فقيل بأنه «تكلم وأنها
خُلِقَتْ» وأنها قد برزت إلى عالم الوجود بتأثير «الكلمة».
أما هذه النظرة العامة في أصل الخلق فقد مضت مستبدة بأمرها في تصوُّرات آباء الكنيسة
الأولى، وأصبحت معتقدًا أساسيًّا من معتقداتهم، حتى إنهم ألزموا النصرانية — تدرجًا
وعلى مَرِّ الزمان — الثباتَ على الاعتقاد بأن الكون قد خُلِقَ تامًّا كاملًا بيد الله
أو صوته.
بين آونَةٍ وأخرى ظهر من اللاهوتيين «خوارج» امتازوا بشيء من رجاحة العقل وسعة النظر،
حاولوا أن ينظروا في خلق بعض أجزاء من مفصلات الكون نظرة أمعن من سابقتها تغلغلًا في
صميم الرُّوحانيات، وعلى الأخص «غريغوري
النياسي» Gregory of Nyassa والقديس أوغسطين st.
Augustine وكانوا على استعداد لأن يقبلوا النصوص الحرفية التي
جاءت في المتون المقدسة؛ لهذا ثاروا ضد ذلك التصور، تصور أن العالم خُلِقَ بتأثير ذاتٍ
كلية القدرة، كوَّنته بيدها وأصابعها وتابعهم في ذلك «بيده» Bed، وقليل غيره غير أن آراء أكثر من غيرها إمعانًا في الماديات،
كانت لا تزال سائدة على العقول؛ حتى إنك تجد آثارها ظاهرة في النقوش وزخارف الفسيفساء
وتلوين الزجاج في الكاتدرائيات، وفي الرسوم التي تحلى بها كتب القداس والمزامير، حتى
في
الأناجيل المصورة، وكتب المعرفة العامة التي ظهرت خلال القرون الوسطى.
أما في العالم الأنجلو سكوني فقد أحكم عُرَى هذا التصور المادي القديم شاعران خضعت
أشعارهما بالتوقيع على أوتار تلك المشاعر الدينية العميقة. ففي القرن السابق فسر الشاعر
«كادمون» Caedmon الأقوال التي جاءت في سِفر
التكوين وفصَّلها تفصيلًا أفرغ به ذلك التصور المادي في خلق الكون في حلة محبوكة
الأطراف على ظاهر المتون المقدسة، وبعد ذلك بألف سنة أخذ «ملتون» Milton من النصوص الكثيرة التي جاءت في كتب العهد القديم قدرًا مزجه
بفكرة لاهوتية في «الكلمة الخالقة» استمدت في أصلها من كتب العهد الجديد، ومضى على ذلك
يصف كيف خُلِقَ الأقنوم الثاني من الثالوث الإلهي العالم بتفاصيله، فجاء وصفه صورة من
الأفكار اللاهوتية والنصوص المقدسة لا تدانيها صورة أخرى لزومًا لظاهر الجمل والألفاظ.
قال في أسلوب شعري رائع:
أخذ البيكار الذهبي الذي كان معدًّا في خزائن الله الأبدية السرمدية ليخطط
حدود الكون وكل المخلوقات، ووضع أحد طرفيه في المركز وأدار الطرف الآخر دورة
حول تلك الأغوار البعيدة القَصِيَّة ثم قال: إلى هنا تمتد حدودك، وإلى هنا
ينتهي محيطك، أيها الكون.
هذا هو التصور الأورثوذكسي في الأسلوب الذي خلق به العالم.
أما المسألة الثانية التي أنشأها ذلك التصور اللاهوتي، فكانت ذات علاقة «بالمادة»
التي صور منها العالم، ومضت الأغلبية العظمى من أهل اللاهوت قانعةً بأنه لم توجد مادة
ما قبل خلق الكون، وأن «الله خلق كل شيء من لا شيء.»
من اللاهوتيين فئة خُصَّتْ بشيء من الشجاعة والإقدام، أشاروا — اعتمادًا على النصوص
الأولى التي وردت في سفر التكوين — إلى فكرة أخرى مغايرة لتلك الفكرة، ومؤاداها أن
الكتلة المادية قد وُجِدَتْ قبل وجود الكون، ولكنها كانت «بلا صورة وفي خلاءٍ لا
متناهٍ» غير أن هذا المذهب اكتسح صراعًا من عالم المعرفة.
أما معتند آباء الكنيسة فكان جليًّا واضحًا إزاء هذا الأمر؛ فإن «ترتيليان» Tertllian قد انتحى أكثر الطرائق حزمًا وشدة إزاء
الذين كانوا يعتقدون بأية فكرة مضادة للفكرة التي اعتنقها زعماء الأورثوذكسية، بل أعلن
بأنه إذا وُجِدَت أية مادة أولية صُنِعَ منها الكون، فلا بد من أن تكون الكتب المقدسة
قد أشارت إليها، أما وأن هذه الكتب لم تشر إليها، فإن الله قد أمدَّنا بأنصع برهان
يدلنا على أنه لم يوجد قبل الخلق شيء كهذا، وعلى أسلوب فيه من العسف قدر لم يعرف له
مثيل في أي خلاف لاهوتي آخر هدد «هرموجينيس» Hermogenes وكان من مؤيدي الرأي القائل بقدم المادة، «بالويلات التي
تَنْصَبُّ على أولئك الذين يزيدون على الكلمة القديمة أو ينتقصون منها.»
أما القديس «أوغسطين» — وكان ممن أشار تلميحًا إلى الاعتقاد بوجود المادة قبل الخلق
—
فقد وَفَّقَ بين ما كان يرى وبين المعتقد السائد في حدوث المادة ببرهان ساذج بسيط؛ إذ
قضى «بأنه على الرغم من أن العالم لا بد من أن يكون قد صُنِعَ من مادة ما، فإنه من
المحتوم أن تكون هذه المادة ذاتها قد خُلِقَتْ من العدم بداءة ذي بدء.»
في الطريق التي رسمها هؤلاء العظماء سارت الكنيسة العظمى هادئة مطمئنَّة، ولقد صرح
المجمع اللاتيرني الرابع Fourth Latran Council
بأن الله قد خلق كل شيء من لا شيء. وإنك لتجد حتى اليوم أن أرهاط المؤمنين سواء أكانوا
كاثوليك أم بروتستانت، لا يلقنون إزاء هذا الأمر من شيء سوى ما يوحي به هذا المذهب.
وعلى هذا الأمر اتفق البابا «بيوس التاسع» Pius IX في
مختصره الديني، وكنيسة وستمنستر في كتاب «أصول الإيمان».
وبعد أن فرغ اللاهوتيون من الكلام في طريقة خلق الله الكون ومادته، رجعوا إلى الكلام
في «الزمان» الذي تم فيه ذلك العمل العظيم.
هنا اعترضتهم مشكلة؛ فإن أولى الروايتين اللتين جاءتا في سِفر التكوين تنص على أن
عمل
الخلق قد تم في ستة أيام، كل يوم منها نهار وليل بما في ذلك تفصيل ما تم في كل منها،
على صورة تامة من الدقة والضبط، أما الرواية الثانية فتذكر «اليوم» الذي صنع فيه «اللهُ
الأرضَ والسماوات»، ولقد كان ما اتصفت به الرواية الأولى من الدقة، وملاءمتها لطبيعة
ما
تكونت عليه عقول العديد الأوفر من متقدمي اللاهوتيين، قوة حازت بها قسطًا من الأسبقية
وقوة البقاء، غير أن مفكري اليهود من أمثال «فيلو» Philo، ومفكري النصارى من أمثال «أوريغن» Origen، وقد حاولوا أن يكونوا في الخالق وخلقه تصوُّرات أرقى نزعة
وأنبل قصدًا، لم يقنعوا بهذا فألقوا في بحر اللاهوت النصراني المضطرب المتدافع القوات،
بفكرة أن الخلق كان موقوتًا وفي لحظة واحدة، ولم تستمد هذه النظرية عناصر القوة من
الجزء الثاني من أساطير سِفر التكوين وحدها، بل كان يؤيدها النص القائل: «تكلم فخلقت
العوالم، وأمر فبرزت ثابتة.» أو كما جاء في النسخة اللاتينية من الكتاب المقدس: «تكلم
فصُنِعت العوالم، وأمر فخلقت.»
كان من نتائج ذلك أن برزت في ثنايا العقل فكرة أن أقوم طريق وأسلم سبيل يتبعه
المؤمنون هو الاعتقاد الكامل بكلتا النظريتين، وأن الله بطريقة خفية قد خلق الكون في
ستة أيام، بيد أنه أبرزه إلى الوجود فجأة وفي لحظة واحدة، وعلى الرغم بما أهاب به عدد
عديد من عظماء اللاهوتيين مثل «إفرايم سيروس» Ephraem
Syrus وغيره، من الكون قد خُلِقَ في ستة أيام تامة، كل منها
أربعة وعشرون ساعة، فإن نزعة التوفيق بين تلك الروايتين المتناقضتين قد أيدها
القديسان «أتناسيوس» st. Athanasius و«باسيل» st.
Basil في الغرب.
ولقد نشأت صعاب اعترضت سبيل اللاهوتيين في التوفيق بين هاتين النظريتين، اللتين لن
تقوما معًا في عقل قياسي، لما بينهما من الخلاف والتناقض، غير أنهم بما خُصُّوا به من
المهارة والحذق في تأويل النصوص وقلب ظواهرها، وبما جلبوا عليه من القدرة على اللعب
بالألفاظ والجمل، وبما لجَئُوا إليه من طريقة الجنوح إلى الأساليب الغيبية وكثرة ما
استخدموا من نظريات ما بعد الطبيعة، استطاعوا أن يصِلوا إلى التوفيق بينهما، حتى أصبح
الناس وهم يعتقدون بأنهم اعتقدوا، بأن خَلْقَ الكون كان فجأة وفي برهة واحدة، بيد أنه
امتد إلى ستة أيام سويًّا.
من الجهود التي بذلها اللاهوتيون في سبيل التوفيق بين هاتين النظريتين نزر يسير كان
خصب الإنتاج متعدد الآثار، حتى لنجده خليقًا بأن يخص بقسط من عناية الذكر؛ فإن آباء
الكنيسة في الشرق وفي الغرب، قد كوَّنوا من مجموع ما كان بين أيديهم من روايات سِفر
التكوين، والإشارات التي وردت في المزامير؛ والأمثال، وسفر أيوب Job هيكلًا ضخمًا من العلم المقدس، كل جزء منه يمت إلى هذه النظرية
بسبب، أما خلق الكون جملة، فقد لجَئُوا لدى النظر فيه إلى القول بما تصوروا من قوات
سرية خفية منبثة في تضاعيف بعض المكوِّنات العددية؛ فإن «فيلو يهوذاوس» Philo Judaeus بينما مضى معتقدًا بنظرية الخلق
الفجائي، قد أعلن بجانب هذا الاعتقاد أن الكون قد صور في ستة أيام؛ لأن «العدد ستة —
من
بين كل الأعداد — هو الأكثر إنتاجًا» ولقد أظهر أن خلق الأجرام السماوية لم يقع إلا في
اليوم الرابع، «لما في العدد أربعة من صفات الألفة والاتساق» وأن خلق الحيوانات كان في
اليوم الخامس؛ إشارة إلى الحواس الخمس، وأن خلق الإنسان في اليوم السادس، فيه تلميح إلى
ما في العدد ستة من الفضائل التي وضعت ذلك العدد كحَدٍّ نهائي للعمل الخلقي الكبير، ثم
عمد إلى ما هو أكبر من كل هذا، فأشار إلى أن راحة اليوم السابع إنما تشير إلى تلك
الفضائل العظيمة السرية الكامنة في العدد سبعة.
ولقد أيقن القديس «جيروم» st. Jerome بأن السبب في
أن الله لم يَصِفْ ما تم من العمل في اليوم الثاني من أيام الخلق بأنه «حسن» إنما يرجع
إلى شيء هو شر بذاته مفروض وجوده في العدد اثنين، وهذا الرأي قد تردَّد صداه عن طريق
«بيده» Bede وفي جنبات بريطانيا العظمى، بعد عصر
«القديس جيروم» بقرون طِوال.
أما القديس «أوغسطين» فقد ألزم الكنيسة بهذا الاعتقاد متبعًا طريقة التدليل الآتية،
قال:
يوجد ثلاث فصائل من الأرقام: الأكمل والكامل والناقص، وهذا بنسبة ما يكون في
مجموعها من الزيارة أو المساواة أو النقص عن العدد الأصلي، والعدد ستة هو أول
عدد كامل، وعلى هذا لا يجب علينا أن نقول إن العدد ستة كامل لأن الله قد انتهى
من كل أعماله في ستة أيام، بل لأن الله قد أنهى كل أعماله الخلقية في ستة أيام؛
لأن العدد ستة هو العدد الكامل.
ولقد ظلت جنبات الكنيسة تتجاوب بأصداء هذه الأقوال طوال القرون الوسطى حتى لقد ردد
صداها «النورمبرج كرونكل» بعد أن استكشفت أمريكا بعام كامل، مصبوبة في القالب الآتي:
إن خلق الأشياء قد تتضح حقيقته بالعدد ستة، الذي تشير أجزاؤه الثلاثة الأول،
واحد واثنين وثلاثة، إلى صورة مثلث.
هنا أصبح الاعتقاد بأن الخلق قد حدث فجأة في حين أنه تم في ستة أيام، كل منها نهار
وليل، واعتقادًا عامًّا شاملًا، حتى لقد أجازه «بطرس لومبارد» Peter
Lombard
و«هوغو
السانفكتوري» Hugo of st.
Victor وكلاهما جهبذ ذو وزن وصيت، بل ألزما العقل الكنسي أن
يمضي له خاضعًا عصورًا طوالًا.
على أن الأمر لم يَقِفْ عند هذا الحد؛ فإن طرق هذا التأمل الذهني — من القول بأن
كل
شيء قد خلق من لا شيء، والتوفيق بين الخلق الفجائي والخلق في ستة أيام — قد نما وتطور
من طريق فئة أخرى من كبار المفكرين في القرون الوسطى؛ فإن القديس «هيلاري بواتييه»
st. Hilary of Poitier قد وفق بين
التصورين فقال:
على الرغم مما هو واضح فيما جاء به موسى من الظواهر الدَّالَّة على اتباع
نظام مطَّرِد في تثبيت القبة الزرقاء، وفي تمهيد الأرض اليابسة، وفي تجميع
المياه بعضها مع بعض، وفي تكوين الأجرام السماوية، وفي قيام الكائنات الحية من
الأرض والماء؛ فإن خلق السماوات والأرض وبقية العناصر قد رؤي أنه نتيجة عمل وقع
في برهة واحدة.
أما القديس «توماس أكونياس» st. Thomas Aquinas فقد
استخلص ممَّا جاء به القديس «أوغسطين» تفصيلًا دقيقًا فيه حذق ولباقة، ذلل — خلال عصور
طوال — كثيرًا من الصعاب التي كانت تعترض هذه القضية؛ إذ قال بأن الله إنما خلق مادة
الأشياء في لحظة واحدة ولكنه قضى ستة أيام في العمل الخَلْقي مفرِّقًا بين العناصر،
مصورًا للأشكال، منمقًا في التفاصيل.
ولقد قبل متقدمو المُصلِحِين هذا الرأي ونمَّوْه، وكان «لوثر» في مقدمتهم مثبتًا
أنه
خير كفء لهذا العمل الكبير، فأعلن — بما عُرِفَ فيه من شجاعة وإقدام — أن موسى «قد تكلم
في صراحة وجلاء، ولم يلجأ إلى المجاز والاستعارة» وعلى هذا «يكون العالم وكل ما فيه من
المخلوقات قد خُلِقَ في ستة أيام»، ولكنه مضى بعد ذلك مُظْهِرًا كيف أن كل الموجودات
بتأثير معجزة كبرى، قد خلقت فجأة وفي لحظة واحدة. وكذلك «ميلانكوتون» Melanchoton؛ فإنه صمم على القول بأن العالم قد خُلِقَ من لا شيء
وبطريقة خفية في لحظة واحدة وفي ستة أيام معًا، معتمدًا على النص القائل: «تكلم
فخلقت.»
أما كالفن
Calvin فقد رفض الاعتقاد بفكرة أن الخلق
قد تم فجاءة، ومضى مثبِتًا أنه وقع في ستة أيام. وبعد أن وجه الأنظار إلى أن التاريخ
الإنجيلي يُظْهِرُ بجلاء أن عمر الدنيا لا يزيد عن ستة آلاف سنة، وأنها قاربت الفناء
قال: «إن العمل الخلقي استمر ستة أيام حتى لا تضنينا التأملات طول أعمارنا إذا ما أردنا
أن نقف على حقيقته.»
٢
ولقد أثبت «بطرس مارتر» Peter Martyr هذا الأمر
قائلًا: «إن معرفة مسألة الخلق أمر ذو خطر كبير، حتى إن معتقد الكنيسة إنما يتخذه نقطة
ابتداء وركيزة أولى، ولو أنه تعذَّر علينا إثبات هذه المسألة، لما استطعنا أن نقرر وجود
خطيئة أولى، ولأصبح وعد المسيح بالخلاص لغوًا باطلًا، ولتحكمت بذلك كل القواعد الأساسية
التي يقوم عليها ديننا.» أما زعماء الدين في وستمنستر فقد رفضوا لدى تحديدهم قانون
الإيمان Confession on Fatih الخاص بهم، قانعين بأنه من
الضروري أن يعتقدوا بأن كل الأشياء المنظورة وغير المنظورة قد خُلِقَتْ من لا شيء، وفي
ستة أيام سويًّا، ولم يكن رؤساء الدين من تابعي الكنيسة الرومانية بأقل عنادًا من مصلحي
البروتستانت إزاء القول بضرورة الاعتقاد في صحة قصة الخلق الموسوية كما يقولون، ولقد
ظلت هذه الروح سائدة روع الناس؛ حتى إن طائفة السوربون اللاهوتية قد أجبرت «بافون»، في
أواسط القرن الثامن عشر — وكان قد بدأ يقرر أوليات جيولوجية بسيطة — أن يكتب وينشر في
الناس إنكارًا مشينًا جاء في نهايته: «إني أرجع عن كل شيء جاء في كتابي خاصًّا بتكوين
الأرض، وعلى وجه عام كل ما يمكن أن يكون مناقضًا لقصة موسى.»
وبعد أن فرغ اللاهوتيون من تقرير طريقة الخلق، ومادته والزمان الذي استغرقه، رجعوا
إلى الكلام في تحديد التاريخ الذي وقع فيه الخلق.
إن سلسلة الجهود الطويلة التي بذلها رجال خصوا بأوسع المدارك وأرجح الأحلام، من
«إيوسبيوس» Eusebius إلى يوشر Usher في سبيل تحديد التاريخ الذي وقع فيه الخلق، قد تركت الكلام فيها
إلى فصل آخر. ويكفي أن نذكر أن النتيجة الأخيرة التي وصلت إليها الأغلبية العظمى ممن
يُعْتَبَرُونَ أقدر الذين أَكَبُّوا على درس الأقوال التي جاءت في الكتاب المقدس، قد
أسلمت إلى القول بأن الخلق قد وقع في زمان تُعَدُّ سِنُوهُ بعدد عشري، ويقع حوالي سنة
٤٠٠٠ق.م وفي القرن السابع عشر ذكر الدكتور «جون ليتفوت» John
Lightfoot وكيل جامعة
كمبردج، ومن أشهر من نبغ ممن درسوا العبرانيات، أن نتيجة أبحاثه القصية المستفيضة في
التوراة والإنجيل قد أدت به إلى حقيقة أن «السماء والأرض، والمحيط والمركز، قد خُلِقْنَ
معًا وفي وقت واحد، حيث كان الغمام الكثيف مملوء بالماء وأن هذا العمل قد وقع، وأن
الإنسان قد خلق بقدرة الثالوث الأقدس، في ٢٣ أكتوبر سنة ٤٠٠٤ قبل الميلاد، حيث كانت
الساعة التاسعة من الصباح» وكان هذا انتصارًا لأسلوب «لاكتانتيوس» Lactantius وهو نتيجة الدرس العميق في الإنجيل والتوراة مئات من
السنين وغاية لجهد الفكرة اللاهوتية منذ أن ظهر «بيده» في القرن الثامن إلى زمان
«فنسنت
بوفييه» Vincent
Beauvais حيث أعلن في القرن الثالث عشر أن الخلق لا بد أن يكون قد وقع
في فصل الربيع، لكن وا أسفاه! فإنه لم يمضِ قرنان على ما بذل الدكتور «ليتفوت» من جهد
في درس العبارات المنزلة ليستخلص منها حقائق يحدد بها ساعة الخلق وتاريخه، حتى استكشف
الباحثون أنه في تلك الساعة التي حددها هذا اللاهوتي، كانت أمة من أرقى الأمم مدنيةً
وأمثلهن تهذيبًا، رافلة في أبهى حلة خلعتها الحضارات على الأمم في الأزمان القديمة، بل
كانت منذ عهد عهيد، تجوب أنحاء العواصم المشيدة في مصر على ضفاف النيل، وأن أممًا أخرى
لا تكاد تقل عن هذه مدنية وعلمًا، قد بلغن درجة خطيرة من النشوء والارتقاء تحت سماء
آسيا.
ولكن الأغرب من كل هذا أنه بعد أن فرغ اللاهوتيون من طريقة الخلق والمادة التي
اتُّخِذَتْ خميرةً للعمل، والزمان الذي استغرقه التاريخ الذي وقع فيه، بقي سؤال هو في
الواقع أنكى وأعظم سؤال يقتضيه النظر في هذا الأمر. ولم يكن هذا السؤال بشيء سوى النظر
في: «من في الواقع خلق الكون؟»
لقد ظل العقل الكنسي أزمانًا طِوَالًا غرضًا لنظريات تختلف نسبة التشويش والإبهام
فيها بنسبة رجاحة العقول التي كوَّنتها، وقد اتفقت كلها على أن تتخذ متون التوراة
والإنجيل لها ركيزة ودعامة.
قال بعض اللاهوتيين: إن الفعل الواقعي في الخلق راجع إلى الأقنوم الثالث من الثالوث
المقدس، حيث ذكر في أول قصة الخلق الشعرية الرنات «أنه كان يرف على وجه الماء»
٣ وقال آخرون بأن الخالق الفعلي هو الأقنوم الثاني، وقد استخلصوا من أسفار
العهد الجديد نصوصًا كثيرة تؤيِّد فكرتهم، في حين أن غيرهم عمدوا إلى القول بأن عامل
الخلق كان الأقنوم الأول، وكان هذا الرأي منبثًّا في تينك القاعدتين الاصطلاحيتين
المعروفتين في قانون الإيمان الخاص بالمذهب الرسولي والمذهب النيقاوي؛ ذلك المذهب الذي
أثبت أن الخلق هو من عمل «الله الأب القادر على كل شيء، مبدع السماوات والأرض»، وغير
أولاء وهؤلاء فئة رأت أن هنالك معنى عميقًا تتضمنه كلمات «قال الله: ليكن» تلك التي
وردت في سِفر التكوين منسوبة إلى الخالق، فمضوا قانعين بأن الثالوث الأقدس في مجموعة
هو
السبب المباشر في الخلق، ولجأ آخرون إلى مقولات غيبية غريبة، فوصلوا إلى فكرة أن
أقنومين اثنين تَسَانَدَا واندمجا حتى أتمَّا العمل الخلقي الخطير.
وإنك لترى أن كل هذه المذاهب تنطوي على مقدارٍ عظيم من الشجاعة والإقدام والجرأة
إذا
ما تذكرت بجانبها تلك اللعنات التي يصبها مذهب «أتناسيوس» المصري Athanasius على أولئك الذين «يخلطون بين الأقانيم والذين
يفصلون بين مادة الثالوث الأقدس.»
هذه الحالات التي تدرج فيها اللاهوت المدرسي قد ظهرت ممثَّلة في الفن المقدس، وعلى
الأخص في النقوش الكاتدرائية وتلوين الزجاج وزخارف الفسيفساء والصور التي تزين بها كتب
القداس.
وعلى هذا تجِد أن الذات الخالقة قد مثلت مرة في الأقنوم الثالث «الروح القدس»، فوضعت
في صورة حمامة ترف فوق العماء Chaos ومثلت أخرى في
الأقنوم الثاني «الابن»، فكانت في صورة يافع تام الفتوة، ومثلت مرة ثالثة في الأقنوم
الأول «الآب»، فكانت شخصًا تتراءى فيه مخايل الأبوة وصفات الاحترام، ومرة رابعة في
الأقنومين الأول والثاني «الآب والابن» فكانت في صورة شخصين أحدهما يافع والآخر كهل،
ومرة خامسة في الأقانيم الثلاثة «الآب والابن الروح القدس»، فكانت في صورة شخصين يافع
وكهل، يحمل كل منهما فوق رأسه التاج البابوي، وكلاهما ممسك بين شفتيه بطرف القوادم من
جناح الحمامة، حتى تظهر كأنها مستمدة منهما معًا وتظل معلقة في الفضاء الواقع
بينهما.
على أن هذا لم يكن أكمل وجه من النشوء وصلت إليه الفكرة اللاهوتية في العصور الوسطى،
أن الخالق كان يمثِّل في بعض الأحيان بصورة بشرية ذات بدن واحدة وثلاثة وجوه، وفي هذا
دليل قاطع على أن المعتقد النصراني قد تطوَّر في عقول بعض الأنقياء متدرِّجًا من نفس
تلك الحالات التي تمشَّى فيها معتقد أهل الهند القديمة منذ أبعد العصور؛ إذ كانوا
يمثلون «الذات العليا» في صورة جسم بشري ذي ثلاثة وجوه، أحدهم لبراهما والآخر لفيشنو
والثالث لشيفا.
وفي بداءة الأعصر الحديثة اضطُر العالم النصراني — تحت تأثير أنبغ نابغة في الفن
أقلته الأرض وأظلته السماء — أن يلزم ظاهر ذلك الرأي محبوكة أطرافه على تلك الصورة التي
مثلتها الفكرات العبرانية الأولى؛ ففي سنة ١٥١٢، دشن «ميكل أنجيلو» Michel Angelo بعد أربع سنوات أنفقها كدًّا ونصَبًا، رسومه التي حلى
بها قبة المعبد السستيني.
أما تلك الروسم فقد صُنِعَتْ بأمر من البابا «يوليوس الثاني» Julius
II وتحت عينه وبإجازة
منه، لا لشيء إلا ليمثل بها حقيقة التصوُّر الذي مضى سائدًا على اللاهوت النصراني في
ذلك العصر، ولا تزال حتى اليوم قائمة بكامل بهائها وعظمتها عنوانًا على أرقى قمة بلغت
إليها الفكرة القديمة تلقاء أصل الكون المنظور.
في منتصف السماوات العريضة ترى الآب — أقدر القادرين، والأقنوم الأول من الثالوث
الإلهي — في صورة بشرية تحيط بها العظمة ويَحُفُّها الاحترام، ومن حوله الملائكة يقومون
بتنفيذ أوامره تحملهم الرياح الزعازع القوية مكتسحة سطح الهاوية العظمى، متنقلًا في
منازل صُوِّرَتْ على جنبات تلك القبة العظيمة، وهو يجد في كل منزلة منها في إتمام جزء
من العمل الخلقي الخطير، وبإيماءة واحدة يفصل بين النور والظلام، ويحمل إلى العلاء
القبة الزرقاء، ويجمع من تحتها البحور المتلاطمة، ويبرز الشمس والقمر والكواكب إلى
الوجود، ثم يضعها حيث تدور من حول الأرض.
في هذا العمل الفني العظيم تركزت الفكرة التي ظلت أجزاؤها متناثرة خلال ألف من
السنين، ولقد مضت أرشد العقول قانعة بها أو على الأقل متظاهرة أنها بها قانعة، وبعد
مُضِيِّ قرنين من الزمان على وجه التقريب، قام «بوسوية»
Bossuet ليُلزِم الناس العكوف على ظاهر هذا التصور، مصبوبًا في قالب
استمد من أولى الروايتين اللتين وردتا في سفر التكوين، وبذلك عادت إليه قوة جديدة من
الحياة فظل ثابتًا في تضاعيف الكنيسة بقسميها كاثوليك وبروتستانت، وإلى هذه المماحكات
تضاف مماحكات أخرى بدأت في الوجود خلال الأزمان التي انتعشت فيها الكنيسة الأولى، وظلت
متنقلة في منازل البقاء حتى زالت وفنيت من عقول اللاهوتيين في عصرنا هذا.
٤
ففي الرواية الأولى من روايتَيْ سِفر التكوين تجد أن الضوء قد خُلِقَ أولًا، وأن
الفصل بين النور والظلام قد تم في اليوم الأول من أيام الخلق، بينا تجد أن الشمس والقمر
لم يُخْلَقَا إلا في اليوم الرابع، ومن حول هذه الروايات تكوَّنَت فكرات لاهوتية عميقة
وآراء لا علمية زائفة، فكرات وآراء تراكم بعضها من فوق بعض خلال الأزمان متكاثفة حول
تلك الحقيقة العظمى، حقيقة أن المتون الأصلية ليست إلا وحيًا تاريخيًّا يُثْبِتُ أنها
مستخلصة من أقدم المعتقدات المروية عن القدماء، حتى لقد حجبت تلك التصورات اللاهوتية
هذه الحقيقة عن الأنظار والعقول؛ فقد كان معتقد القدماء محصورًا في أن لكل من النور
والظلام ذاتيةً مستقلة عن طبيعة الأجرام السماوية، وأن الشمس والقمر والنجوم لم توجد
لتزيد الضوء لا غير، بل «لتفصل بين النهار والليل والأبراج الفلكية والفصول والأيام
والسنين»، «ولتحكم الليل والنهار.»
ولقد نجد أن لهذا الاعتقاد وثبات في عقول آباء الكنيسة الأولى، وعلى الأخص في عقل
القديس «أمبروز»
st. Ambrose فإنه يقول في كتابه
الذي خصصه للكلام في مسألة الخلق:
يجب علينا أن نعي أن نور النهار شيء، وضوء الشمس والقمر والنجوم شيء آخر، فإن
الشمس بأشعتها الذهبية لا تظهر إلا لتزيد النهار ضياء ولمعانًا؛ لأننا نرى أنه
قبل شروق الشمس يتنفس النهار، ولكنه لا يكون في كامل بهائه؛ لأن الشمس من شأنها
أن تزيده نورًا وضياء.
ولقد أصبحت هذه الأقوال «كنزًا من كنوز الفكرة المقدسة التي تقوم عليها معتقدات
الكنيسة» فاعتنقها أهل القرون الوسطى ومَضَوْا بها مؤمنين. على أن حفلات العشاء الرباني
Mysteries والروايات التمثيلية التي ذاعت خلال
العصور الوسطى لتزودنا بأمثال غريبة تؤيد ذلك. ففي رواية تمثل طريقة خلق العالم عندما
أراد الله أن يفصل بين النور والظلام، يذكر في الإرشادات التي تُعْطَى لمديري المسرح
في
صُلب الرواية. «هنا يجب أن يُكشَف للنظارة عن قماش — ستار — نصفه أسود ونصفه أبيض»
وكذلك زود هذا التصور بعوامل جعلته أكثر استقرارًا مع الزمان؛ فإن زخارف الفسيفساء في
كنيسة «القديس مرقص» st. Marc في مدينة البندقية،
والرسوم التي زُيِّنَ بها موضع العمادة Baptistry في
فلورنسا وفي كنيسة القديس «فرنسيس» st. Frances في
«أسيزي» Assisi وفي نقوش المذبح في «ساليرنو» Salerno تعطينا جماعها أمثالًا حية على هذا المعتقد،
فترى الخالق قد وضع في السماوات قُرْصَيْنِ أو شبحين حيين في حجم واحد، قد لون كل منهما
بلونٍ ملائم أو نقش بما يدل على أن أحدهما يمثل النهار والآخر يمثل الليل، وما لا خفاء
فيه أن هذا التصور هو بلا ريبة تصور ذلك الشخص أو الأشخاص الذين جمعوا من الأساطير
الكلدانية، وغيرها أعرق منها قدمًا، تلك القصص التي بُنِيَتْ عليها روايات الخلق التي
ذكرت في السِّفر الأول من الأسفار المقدسة وإلى عهد قريب جدًّا، لا يكاد يغرب عن ذاكرة
الأحياء، كان المعتقد على وجه الإطلاق «دائمًا وفي كل مكان وعند كل شخص» أن الكون كما
نراه الآن قد خُلِقَ مباشرة من طريق صوت الواحد القهار أو بيده أو بكليهما، من لا شيء،
وفي لحظة واحدة أو خلال ستة أيام أو فيهما معًا، وأن ذلك وقع في سنة ٤٠٠٠ قبل بدء
التاريخ الميلادي، وأن هذا الخلق لم يحصل إلا ليمتع به سكان الأرض التي هي القاعدة
والأساس الذي قام عليه كل الهيكل الكوني.
غير أنه منذ أزمان بعيدة فرخت في ثنايا العقل الإنساني جراثيم لفكرات أخرى قد يرجع
بعضها إلى زمان أبعد من ذلك الزمان الذي أينعت فيه المدنية البابلية. فقد نجد في النقوش
الآشورية آثارًا تدل على تلك الفكرة الكلدانية البابلية التي تشير إلى «نشوء» الكون في
جوف «الغور الأبعد» أو «الفيضان الأول»، وإلى خلق الحيوانات في البر والبحر. وهذه
الفكرة ترجع بنا سعيًا — ولو بشكل جزئي — إلى الصورة التوحيدية في الدين، تلك التي
انتقلت بطريق اللقاح إلى الكتب المقدسة التي اختص بها العبرانيون، جيران الكلدانيين
وتلاميذهم، غير أن نشوء هذه الفكرات في العالم النصراني فيما بعد، قد أعاقت خطاه — كما
سنرى — روايات وأقوال أعظم تأثيرًا وأبلغ خطرًا، ورثت من نواحٍ أُخر وكانت أكثر ملاءمة
لما انطوى عليه العقل الكنسي في بدء نشوء الدين المسيحي.
ومما يدعو إلى النظر والتأمُّل تأثير تلك الفكرة التي عادت إلى الحياة في عقول
الفلاسفة الأيونيين Ionian Philosopheers وقد يرجح
أن تكون قد نُقِلَتْ إليهم عن الكلدانيين من طريق الفنيقيين. ففي عقول رجال من الفلاسفة
أيونيا أمثال أنكسنميدر Anaxmander وأنساكسيمنيس Anaximenes قد نمت هذه الفكرة نماءً عظيمًا؛ فإن
الأول منهما قد رأى أن الكون نتيجة لأسلوب من النشوء، في حين أن الثاني قد مضى متبعًا
خطوات سلفه عاملًا على أن يخطو بهذا الأسلوب التفكيري خطوات أخرى، معتمدًا في فكراته
على مؤثرات من النشوء الكوني أيدها العلم الحديث.
هذه الفكرة العامة التي تثبت أن الطبيعة إنما تتبع في أساليبها طريق النشوء لا طريق
الطفرة، قد استمرت ثابتة في الفكر اليوناني وتشعبت في طرائق كثيرة، منها الزائف ومنها
الصحيح. على أنه من المحقَّق أن أفلاطون قد قاوم هذه الفكرة، غير أن أرسطوطاليس قد أقام
من نواحيها وشيَّد من نقائصها متبعًا أساليب كثيرًا ما تذكرنا — إذا ما وقعنا عليها —
بوجهات من النظر أقرها العلم في العصور الأخيرة.
أما في العصر الروماني فإن «لوكريشيوس» Lucretius قد
عرف كثيرًا من حقائقها؛ حتى لقد طبق الأسلوب النشوئي على كل الموجودات.
ولقد رأينا من قبلُ كيف أن الفكرة في الخلق المادي المباشر، وعلى الأساليب التي
يتبعها الإنسان في أعماله العادية، قد تملَّكت عقول رجال الكنيسة الأولى حتى اكتسحت
منها كل التصورات التي قامت على فكرة النشوء. ومن تلك الآراء الأولية التي ذاعت في
الخلق منبثَّة في تضاعيف الأساطير البابلية ومن ثَمَّ اندمجت في تضاعيف سفر التكوين،
استمدت الفكرات الأورثوذكسية تلقاء هذا الموضوع الخطير، وأخذت تنمو حتى أصبحت فيضًا
عرِمًا ظل ينساب تياره الجارف طوال القرون الوسطى إلى الأعصر الحديثة، غير أن أمواج ذلك
التيار الجارف المتلاطمة كثيرًا ما كانت تتكسر بين آنٍ وآخر على صخور صلدة من الأفكار
الحرة اعتنقها رجال خصوا بقدرٍ عظيم من البأس وشدة المراس؛ فإن «سقوطس إرغينا» Scotus Erigena و«ذنزسقوطس» Duns
Scotus بين فلاسفة العهد
المدرسي، على ما حَفَّ بهما من أسباب الحيرة والارتباك قد استنارا بشيء من تلك الخيوط
المشعة التي كانت تنبعث من بين طيات الماضي البعيد، فنقلا للخلائف من بعدهما مذاهب في
الأسلوب النشوئي في خلق الكون محوَّرة تحويرًا ما.
في النصف الأخير من القرن السادس عشر أخذت هذه النظريات النشوئية تتحيز على صورة
أدق
وبشكل أظهر في عقل النابغة الكبير «جيور دانو
بروند» Jiordano Brund أول واضع للفكرة الأساسية التي قامت عليها النظرية التي
تُسَمَّى في الأعصُر الحديثة بالرأي السديمي Nebular Hypothesis غير أن استشهاده بحكم محكمة التفتيش في روما كان سببًا في أن
تختفي هذه النظرية وتزول تمامًا، كما لو كانت قد أحرقتها النيران المتلظية التي التهمت
جثمانه سنة ١٦٠٠ على «الكامبو دي فيوري».
غير أنه لم يمضِ قرنان على استشهاد «برونو» حتى خطا الناس إلى عالم من الفكر كان
من
المحتوم أن تفرخ فيه في جوه جراثيم نظرية نشوئية في أصل الكون المنظور سريعًا وبلا مهل،
فقد تتابع في الظهور خمسة من رواد الفكر الإنساني الذين لم تَجُدْ بأمثالهم بطون
الأمهات الواحد تلو الآخر، فكانت سلسلة من العظمة والخلود مثل حلقاتها الخمس كوبرنيكوس
وكبلر وغاليليو وديكرت ونيوتن، فلم يصلوا إلى نهاية عملهم العظيم حتى فَنِيَ التصور
اللاهوتي في حقيقة الكون وزال من عالم المعرفة العامة، «فالقبة الزرقاء الفسيحة
الرحاب»، و«الدوائر البلورية» والواحد القهار متوجًا «على دائرة السماوات» واستخدامه
يديه أو الملائكة في حفظ الشمس والقمر والسيارات في دورتها المرسومة لخير الأرض
وسكانها، وفتح «نوافذ السماء» وغلقها؛ لتنصب على الأرض «المياه المعلقة فوق القبة
الزرقاء» و«تعليق قوسه على صفحة السحاب»
٥ وإظهار «الإشارات والعجائب» وإرسال المذنَّبات و«انقضاض الصواعق» انتقامًا
من الأشقياء، و«هز الأرض» هزة العنيف من الغضب؛ كل هذه أشياء قضى عليها هؤلاء الرواد
قضاء لا قيام بها بعده.
لقد زود هؤلاء الخمسة العظماء العالم بوحي قدسي جديد. أما نيوتن فقد أبدع تصورًا
نبيلًا قدر له أن يكون سهمًا مسدَّدًا يصوب إلى قوام النظرية القديمة في حقيقة الخلق،
بأن أثبت أن نواحي الكون يحكمها قانون شامل ثابت القواعد، بدلًا من قواسر إرادة واحدة
تمثل في ذات كلية القدرة، أما اضطهاد عالم اللاهوت، للأربعة الأول من حلقات هذه السلسلة
فأمر معروف ذائعة حقائقه، ولكن حقيقة أن «نيوتن» قد اضطُهِد وعوجل بالعدوان على الرغم
من الروح الدينية الحساسة التي كانت تملأ جوانحه، فحقيقة قليلًا ما عُرِفَتْ، وبكثير
من
الشدة والصرامة في القول وُجِّهَ إليه من الانتقادات إزاء أفكاره التي بشر بها في حقيقة
قانون الجاذبية نقد محصله «أنه انتزع من الله التأثير المباشر في خلقه وعمله الكوني،
ذلك التأثير الذي تُنسبه إليه الكتب المقدسة، وبدله بقوة مادية ميكانيكية»، وأنه «أبدل
العناية الإلهية بالجاذبية» على أنه فضلًا عن العمل المباشر الذي قام به هؤلاء الرجال،
فإنهم مهَّدوا السبيل ووضعوا القواعد التي قامت عليها نظرية النشوء، ناقضة لنظرية
الخلق.
ومما لا يجب أن نغفل عن ذكره أن «رينيه
ديكارت» Descartes على الرغم ممَّا أحاط بكثير من استنتاجاته من الأغلاط، وعلى
الرغم مما كان في زمانه من تأخُّر الفوسيقى وضعف المعرفة بكثير من مبادئها، قد أثر عمله
العظيم الذي قام به تأثيرًا كبيرًا في إضعاف التصوُّر القديم؛ فإن نظريته في الكون على
اعتبار أنه نتاج تفاعل مادة شاملة نواحيه تضبطها في نظام محبوك الأطراف حركات خاضعة
لنواميس طبيعية، لم تكُن سوى فرض نظري صِرف، قد أثرت في العقول تأثيرًا حرَّفها عن
التصوُّر اللاهوتي القديم في خلق العالم، لقد كانت نظرية «ديكارت» مثالًا من الكد
الذهني؛ إذ يوصل إلى خطأ لا إلى صواب، ولكنه في الوقت ذاته يمهد الطريق لظهور الحق
الخالد، وعلى الرغم من أن «ديكارت» كان في ذلك الزمان مقيَّدًا بمخاوفه من الكنيسة
مغلول اليد بتهديداتها، فإن ذلك الجزء من مؤلفاته — وهو الذي تناول فيه تكوين العالم
—
لم يكن بضعيف الأثر في توجيه العقل الإنساني في ذلك المتجه الذي أدى إلى تقبُّل فكرات
فاض بها على العالم مفكِّرون أقل منه خوفًا وأصلب عودًا.
بعد هذا العهد بثلاثين عامًا ظهر في إنجلترا جهد جديد، إن اختلف عن جهد «ديكارت»
في
ماهيته، فإنه يتفق وإياه في النتائج. ففي سنة ١٦٨٧ نشر «رالف كادورث» Ralph Cudworth كتابه «نظام الكون العقلي» ولا
ريبة في أن هذا الباحث يعتبر إلى الآن من حيث سعة العقل والاستعماق في الدرس وقوة
التفكير والتسامح والأمانة، من أكبر مفاخر الكنيسة الإنجليزية، وكان كتابه جديرًا بأن
يصدر عن مجموع هذه الصفات معًا، وكان غرضه من هذا الكتاب أن يبني قلعة تحتمي وراءها
النصرانية من غوائل كل الخطرة المهدمة التي ذاعت لعهده في أصل الكون قديمًا وحديثًا.
أما الأساس الذي قامت عليه هذه القلعة الحصينة فقد بُنِيَ من فكرات قديمة صبت في صور
حديثة أخاذة بالألباب. غير أن البناء العلوي كان كلما أخذ في الظهور للأنظار شيئًا
فشيئًا، ظهرت فيه مخايل كانت لا بد من أن تثير في نفوس الغارقين في بحار الأورثوذكسية
هواجِسَ وريبًا، ولو أن النبوغ والعبقرية قد تركا آثارهما الخالدة في كل جزء من أجزاء
ذلك البناء المُشْمَخِرِّ، فلقد رفض تلك النظريات القديمة التي كانت توحي إلى الناس
بفكرة أن الله الواحد القهار قد صنع الكون بجهد ذاته وشخصه، ومضى قانعًا بنظرية
النواميس الطبيعية وأثرها، وأنحى على القول بتواتُر وقوع المعجزات وتدخُّلها في شئون
هذا العالم، وأشار إلى حقيقة أن في طبيعة الخلق «أغلاطًا» و«مخارق»، ودلَّل بأقصى ما
فيه من قوة على حقيقة أن الأصل في تكوين العالم وحفظه على هذا النظام، يرجع إلى أسلوب
في النشوء التدرُّجي، وأن هذا الأسلوب يخضع لنواميس ثابتة منبثَّة في تضاعيف
الطبيعة.
في أواخر القرن التالي ظهر في أفق البحث نابغة مفوق هو «عمانوئيل كانت»، وكان من
بواكيره أن عكف على الرأي السديمي يقوي من دعائمه معتمدًا على ما كشف نيوتن من نواميس
الطبيعة وما وضع من نظريات؛ فأيد ذلك الرأي بما ثبَّته وجعله أشد استقرارًا عن ذي قبل،
وفي الوقت نفسه ظهر «لابلاس» فعضد ذلك الرأي بمبادئ رياضة بلغت أقصى حدود القوة
والتأثير، حتى لقد غرس في الفكر الحديث فكرة أن نظامنا الشمسي وغيره — بما فيها من
الشموس والسيارات والأقمار وحركاتها المختلفة وأبعادها وأقدارها — تنتج بالضرورة من
خضوع الكتل السديمية لقوانين طبيعية ثابتة.
هنا علت الصيحة من جانب اللاهوتيين في وجه «الإلحاد»، وأعلنت الحرب صراخًا واندلعت
ألسنتها النيرانية، غير أن العلامة «هرشل» قد كشف مع غيره من الفلكيين عن كثير من البقع
السديمية التي تدل ظواهرها على أنها من طبيعة غازية، بل أظهروا بكثيرٍ من البراهين
الطبيعية والرياضية أن النظرية السديمة تعلل قسمًا عظيمًا من الحقائق الكونية، وكانوا
على الرغم من الضجيج والإرعاد يذللون كل عقبة ويجنون كل يوم ثمرة، حتى إذا ما بلغ
التلسكوب من حسن التركيب مبلغًا جعله أكثر رقيًّا، وأضبط كشفًا، حققوا أن تلك البقع
المكونة من المادة السديمية ما هي إلا عديد وافر من النجيمات المتقاربة الأبعاد، على
مناهضي الرأي السديمي لم يلبثوا إلا قليلًا حتى أخذوا بهزات الفرح والسرور وبهروا بها،
بل بدءوا يرتلون أناشيد الابتهاج بعلم الفلك؛ لأنه — كما كانوا يقولون — قد أثبت حقائق
الكتب المقدسة بالبراهين القاطعة، وسرعان ما وصلوا إلى نتيجة هي عند قولهم بأن كل السدم
لا بد من أن تكون متماثلة، وأنه إذا كان بعض السدم مكون لدى الحقيقة من كوكبات من
النجيمات، فإن كل السدم لا بد من أن تكون كذلك، ولا يمكن أن يكون بعضها عبارة عن ركام
من المادة الغازية؛ لأن بعضها ليس من هذه الطبيعة.
هنا وقفت خطا العلم قليلًا؛ فإن المذهب الذي ساد إذ ذاك كان يتلخص في القول بأن السبب
في أن كل السدم لا تظهر في صورة نجيمات مستقل بعضها عن بعض، إنما يرجع إلى أن قوة
التلسكوب لم تكن كافية للكشف عن حقيقتها، على أن الزمان كفيل بإظهار الحق؛ فإن الحق رد
في نصابه سريعًا باستكشاف الاسبكتروسكوب وطريقة الحل الطيفي ثم باستكشاف «فرونهوفر» Frannhofer إذ عرف أن الحل الطيفي لجسم غازي في
حالة الاشتعال يكون غير متواصل، بل تقاطعه خيوط تعترض تواصله، وباستكشاف «درايبر» Draper إذ ظهر له أن الحل الطيفي لجسم صُلب في حالة
الاشتعال يكون متواصلًا بلا خيوط تقاطعه، وما وجه الاسبكتروسكوب إلى السدم حتى عرف أن
كثيرًا منها غازي التركيب، ومن هنا شبت تلك النظرية القائلة بأن هذه الكتل السديمية
ليست سوى درجات مختلفة من التكثُّف؛ إذ يكون بعضها عبارة عن بقعة من الضباب وبعضها ذات
مراكز مشعة. نستنتج منها أن خُطَا النشوء التكويني لا تزال دائبة الفعل جارية التأثير،
وأن مشاهدات مثل تلك التي وقع عليها لورد روس Lord
Rosse وأرست Arrest من شأنها أن
تزيدنا اعتقادًا بصحة هذه النظرية، ومن بعد كل هذا حبانا العلم بأعظم ميراث خلفه
العلماء للقرن التاسع عشر في الفوسيقى، ذلك الميراث الذي ساعد على تعليل كثير من معضلات
النظام الكوني، بنظرية أن الحرارة إنما هي أثر ميكانيكي صرف.
ولم يزِد الرأي السديمي بالبحث العلمي إلا قوة على قوته؛ ففي سنة ١٨٥٠ أجرى
«بلاتو» Plateau تجربة في دوران الكرات المائعة؛
فكانت برهانًا إن لم يثبت حقيقة الرأي السديمي بالاختبار، فلا أقل من أنه مثله في
الواقع الملموس تمثيلًا صحيحًا، حتى إن رجلًا من أكبر مناصري المذاهب الأورثوذكسي كمستر
«غلادستون» قد اعترف بعد لَأْيٍ بأن وجهًا ما من أوجُه الرأي السديمي لا يبعد أن يكون
صحيحًا.
هنا ظهرت بوادر تلك الحالة التي تسلم فيها الأفكار اللاهوتية سلاحها لقوة العلم تحت
عنوان إن العلم إنما يؤيد من مذاهب اللاهوت، وتلك صورة في التراجُع كثُر ما رأينا من
أمثالها في كثير من الميادين التي تناحر فيها العلم واللاهوت، ولا غضاضة في أن نأتي على
مثال، إن كان محدود المرامي قاصر الغايات، إلا أنه من أفضل الأمثال التي تُوقِفُنَا على
تلك الطرق الغريبة التي كان ينتحيها اللاهوتيون ليصلوا إلى مثل هذه الهزائم ملثمين؛ فمن
منذ سنوات قليلة
٦ ألقى أستاذ من أشهر أساتيذ الكيمياء في مدينة نيويوريك — إجابة لطلب رءوس
كنيسة من كنائسها الحديثة — محاضرة أذيعت في الجرائد وفي الإعلانات الكبيرة التي غطيت
بها جدران المدينة، أن الغرض منها إظهار أن العلم يؤيد نظرية الخلق التي ترويها الكتب
المقدسة المنسوبة إلى موسى، فاجتمع عدد عظيم من السامعين، وبدأ المحاضر في إجراء عدة
تجاريب فذة كان من أدواتها الأوكسجين والهيدروجين والحامض الكربونيك على الطريقة التي
اتبعها «بلاتو»، والحق أن تلك التجاريب قد أيَّدتها المهارة، ولم ينقصها الحبك العلمي.
ولما ظهرت الكرة الزيتية الملونة التي تمثل الأرض في بيئة شفافة متعادلة الكثافة من كل
جهاتها، ثم تسطحت لدى القطبين وانبعجت من الوسط فخرجت من حولها المناطق التي تشابه
مناطق زحل، ثم تكسرت متطايرة ودارت حولها، ثم تكونت هذه بعد ذلك أقمارًا بأن تمزقت مرة
ثانية، فظلت برهة تدور حول الكتلة المادية الأصلية، عج المستمعون بصياح الفرح وراحوا
يصفقون بأشد ما أُوتُوا من قوة، فقام رجل من أغنياء المدينة وعبر عن شكر الجموع التي
كانت تستمع للمحاضر على ما أظهر «لهم من صورة تنطبق كل الانطباق تفصيلًا وإجمالًا على
العبارات التي وردت من السفر المقدس وعلى نتائج العلم الأخيرة»، وما زال عجيج السامعين
يشق الأجواء وتصفيقهم يصم الآذان، حتى انصرف الجمع شاعرًا بأن هذه الكنيسة قد خدمت
الأورثوذكسية أمتع الخدمات وأبقاها.
وما تظهرنا عليه هذه الحادثة في هذا الميدان على ضيق مجاله، قد تكرر مرات مديدة في
مواطنَ أخرى حيث برز على مرسحها ممثلون أتم قدرة وأبعد جولة؛ فإن عشرات من اللاهوتيين
—
ولا نذكر من مشهوريهم كمثال يحتذى في الفطنة والحماسة إن لم يكن في العلم؛ إلا مستر
غلادستون — قد بذلوا جهدًا كبيرًا في سبيل «التوفيق» بين روايتي سِفر التكوين بعضهما
وبعض؛ ومن ثَمَّ بينهما وبين الحقائق التي استُكشفت في أصل الكون من طريق علم الفلك:
الجيولوجيا والفوسيقى والكيمياء، وقد ذكر لاهوتي من المشهورين، وهو أستاذ اللاهوت في
جامعة كمبردج، نتيجة ذلك الجهد العظيم، فأعلن أنه «ما من محاولة قصد بها التوفيق بين
سِفر التكوين وبين الحاجات التي تتطلبها العلوم الحديثة قد عرف أنها نجحت من غير أن
تلجأ إلى قدرٍ عظيم من الضراعة والتوسُّل أو التأويل الإجباري، تلك الأشياء التي تلزمنا
بديهة العقل أن نبتعد عنها جهد البعد في مثل هذه المشكلات.»
على أن ما أوحت به مستكشفات طائفة أخرى من العلوم التي كانت تعارض اللاهوتيين حينًا،
وحينًا تُرضِي نزعة التأويل التي نزعوا إليها، قد مهدت السبيل لبلوغ حالة اطمأن إليها
الذين شغلتهم هذه المشكلة، فجاء في أول الأمر نقاد إنجيليون — وهم لدى الواقع باحثون
مسيحيون عمدوا إلى خدمة الحق وأحبوا الوصول إليه — وبرهنوا بما لا يحف به ريب ولا
يعتريه شك، على وجود روايتين مستقلتين للخلق على الأقل في سِفر التكوين، وأن هاتين
الروايتين قد يمكن أن يعمد إلى التوفيق بينهما من طريق القس والإجبار، ولكنهما — في
مفصلاتهما — متناقضتان تناقضًا صريحًا، ولقد أظهر هؤلاء الباحثون الأمناء فضلًا عن ذلك
أن تينك الروايتين ليستا نتاجًا لمخاطرات القساوسة ولا لمماحكات الرهبان ومكرهم، بل هما
لدى الواقع المُشاهَد أجزاء متناثرة من أساطير وخرافات ومذاهب لاهوتية قديمة العهد،
خوطب بها اليقين المصفَّى من أكدار الشك واللاأدرية فقبلها، وإنها لم تجمع بين دفتي
معتقد ما إلا لتخدم أسمى الأغراض التي رمى إليها أولئك الذين أكبوا بداءة ذي بدء على
وضع تلك الصورة التي صبت في قالبها كتبنا المقدسة.
وعقب على هؤلاء اللاهوتيين علماء الأرخيولوجيا واللغويون والباحثون في العاديات
القديمة من أمثال رولنسون وجورج، سميث وسايس وأوبرت وجنسن Jeusen وشارد وديلتش، وفئات من أمثالهم المنقطعين للدرس والبحث فحلوا
رموز الكثير من النقوش التي عُثِرَ عليها في مكتبة آشوربانيبال في مدينة
Nineveh وهنالك وقعوا على رواية أو قصة في أصل
الكون تُطابِقُ في أهم مفصلاتها، وأدق صورها تلك الأقاصيص الأخيرة تعثر بها في سفر
التكوين.
لقد كان في هؤلاء الأفذاذ من الشجاعة ما جعلهم يشيرون إلى هذه الحقائق وأن يصلوها
بحقيقة أن تلك الأساطير والخرافات والنظريات التي ذاعت في بلاد الكلدان وبابل، هي لدى
الواقع أقدم بكثير من تلك التي نقع عليها في أسفار العبرانيين على الرغم من أنها
تشابهها، وعلى الرغم من أننا نعثر عليها متناثرة خلال كتبنا المقدسة، ولقد أظهروا فضلًا
عن ذلك أنه من الطبيعي أن تكون الروايات اليهودية التي قصت في حقيقة الخلق قد استمدت
منها خلال أزمان بعيدة، وذلك عندما نشأ أول أنصار اليهودية بين الكلدانيين، بل أبانوا
كيف أن قصص الخلق اليهودية التي مستها روح الشعر، قد اشتقت من التقاليد المقدسة التي
ذاعت بين هذه الشعوب، أو من منابع سابقة نراها شائعة بين كثير من الأمم القديمة على
اختلاف أصولها.
ولقد ألم المحترم دكتور «درايفر» Dr. Driver أستاذ
العبرانيات ورئيس كنيسة كريست في أكسفورد — في ملخص فيه من عمق الفكرة والشجاعة
والترابط ما هو جدير بأن يشرف اسمه كما يشرف المركز الذي كان يشغله — بهذه الحالات
إلمامًا فائض الجوانب، فبعد أن ذكر أن العبرانيين كانوا شعبًا من كثير من الشعوب التي
فكرت في حقيقة الكون وأصله، قال «بأنهم نسجوا من الخيال روايات وقصصًا حاولوا أن يعللوا
بها أصل الأرض والإنسان»، وأنهم «كانوا يضعون تلك الروايات وضعًا من عند أنفسهم حينًا،
ولجَئوا إلى أخذها عن جيرانهم حينًا آخر»، وأن «نتفًا من النظريات التي ذاعت بين
الآشوريين والفينيقيين قد احتفظ بها اليهود، وأن في هذه النتف من المشابهة لما جاء في
القصص الإنجيلية، ما يؤيد لنا زعم الزاعمين بأن كلتيهما مدينتان بالانشقاق إلى أصل
تقليدي واحد.»
وبعد أن أتى على مقطوعات كلدانية في أصل الخلق قال: «إذا استنرنا بنور هذه الحقائق
صعب علينا أن نتعامى عن النتيجة التي تترتب عليها، والتي توحي إلينا بأن القصة
الإنجيلية قد استمدت من نفس النبع الذي استمد منه غيرها من القصص، ومن الجلي أن
المؤرخين الإنجيليين قد أخذوا المواد التي اعتمدوا عليها من أخص التخيُّلات الإنسانية
التي ذاعت في عهدهم؛ فالمواد الأولية التي تجمعت في عقليات أمم أخرى فأخرجت أشد
النظريات الكونية قربًا من الغرارة وإمعانًا في البساطة، أو اقترنت بصورةٍ من صور
التكثير، قد أعاد إليها الحياة، وحوَّر فيها نبوغ العقل اليهودي وعبقريته، التي اختص
بها مؤرخوه الأولون، فاستطاعوا أن يخلقوا من تلك الأشياء بيئة أينعت فيها دوحة من
الحقاق الدينية ثبتت أصولها، وذهبت فروعها في السماء».
ولقد أتى الدكتور «ريل» Dr. Ryle أستاذ الإلهيات في
جامعة كمبردج على حقائق تزجي إلى هذه الجامعة، وإلى مؤلفها من الشرف ما أزجت من قبل
كتابات «درايفر» لجامعة أكسفورد، فقال بأننا إذا قلنا بأن المسيحي «إما أن يلغي ثقته
في
منتجات البحث العلمي، وإما أن ينبذ معتقده في الأسفار المقدسة، كان هذا أقرب الأشياء
إلى العسف والابتعاد عن روح الحرية التي يسوق إليها المعتقد النصراني.» ثم قال: «إن
الموقف الذي كان يقِفه قدماء اللاهوتيين لم يصبح الوقوف فيه اليوم مستطاعًا، وإن موقفًا
آخر لا بد من أن تلجأ إليه في العصر الحاضر، بل يجب أن نضرع إلى الله لكي يلهمنا ما هو،
وأن نستمسك به مملوئين أملًا.» ومن ثَمَّ بدأ يقارن بين قصة الخلق العبرانية وبين
أقاصيص أعرق منها قدمًا كانت قد ذاعت بين شعوب تمت إليها بصلات الدم، وعلى الأخص
بالكونيات الآشورية البابلية التي وُجِدَتْ من قبلها، وأظهر في النهاية أن جماع هذه
الروايات مشتقة من أصل واحد، بل إنه لم يَقِفْ عند هذا الحد من البحث، بل قضى بأن كل
محاولة يراد بها تأويل نواحٍ خاصة من تلك الأقاصيص لتصبح من طريق التأويل في ألفة من
الآراء العلمية الحديثة، تقضي حتمًا باللجوء إلى تفسيرات لا علمية زائفة، وقال بأننا
إذا أردنا أن نحتمي وراء تفسير علمي «وجب علينا أن نعتبر الوصف العبراني للكون المنظور
وصفًا غير علمي إذا حكم فيه من ناحية المثل الحديثة في العلم، وإنما هو يشاطر تمامًا
حدود المعرفة القاصرة خلال ذلك العصر الذي كتب فيه» ولما وصل إلى الكلام في رواية سِفر
التكوين في أصل الإنسان الطبيعي قال إنها «تفسير في عبارات بسيطة لخرافات ذاعت قبل زمان
التاريخ، وما هي لدى الواقع إلا أوصاف تصويرية بعيدة عن روح العلم.»
من هذه الأقوال وكثير غيرها ممَّا فاه به باحثون مسيحيون في ممالك أخرى، يمكننا أن
نستنتج إلى أي مدى ذهب انتصار العلماء على رجال اللاهوت القديم.
ولقد كان للأبحاث التي تناولت الآثار الآشورية، وغيرها من المنابع الأخرى، آثر حمل
أوسع العلماء الذين درسوا في المعاهد النصرانية علمًا وأعمهم شهرة على التسليم بأن
أقاصيص الخلق التي ظل اللاهوتيون يعملون أزيد من ألفي سنة على التوفيق بينها وبين
المستكشفات العلمية، تلك الأقاصيص التي سدت الطريق في وجه كوبرنيكوس وغاليليو ونيوتن
ولابلاس، قد نقلت نقلًا أو نشأت محوَّرة عن مجموعة تلك الأساطير والخرافات التي انتحلها
العبرانيون من طريق علاقاتهم القديمة ببلاد الكلدان؛ ومن ثَمَّ صُبَّتْ في قالب توحيدي،
وأدمجت بعضها في بعض إدماجًا غير تام التآلُف، ثم صيغت في تلك القوالب الشعرية التي تقع
عليها في الكتب المقدسة التي ورثناها عن أسلافنا الأولين.
هنا نجد أن العلماء قد انقسموا قسمين؛ الأول: يتكون من تلك الطوائف التي وقفت نفسها
متوافرة على درس العلوم الطبيعية، وعملت متضافرة في سبيل تلك الحقيقة العظمى، حقيقة أن
الكون على الصورة التي نراه عليها الآن، ليس إلا نتيجة لأسلوب من النشوء؛ أي أثرًا لفعل
النواميس الطبيعية التدريجي في الحالات التي اختصت بها كتلة من المادة الأولية.
والثاني: يتكون من طوائف خطيرة من العلماء أَكَبُّوا على العلوم التاريخية واللغوية
والأرخيولوجية ليستخلصوا منها براهين تثبت بالواقع المحسوس أن كل الأقاصيص المقدسة التي
رُوِيَتْ في أصل الكون كانت نتيجة تحول تحريفي استمد من فوضى الآراء العقيمة الساذجة
التي ذاعت خلال العصور الأولى.
أما جموع اللاهوتيين الذين قاوموا نتائج العلم عصورًا طِوَالًا فقد ادَّعَوْا بأنهم
إنما جاهدوا وصارعوا في سبيل أن ينصروا «حقائق الكتب المقدسة»، حتى لقد كان جوابهم
الأخير الذي أجابوا به على ما أظهر العلم من نتائج أوَّلية بسيطة في حقيقة نشوء الكون
المادي قد انطوى على قولهم: «إن الإنجيل حق وصدق»، وإنهم لصادقون، ولو أن صدقهم هذا لدى
الواقع أنبل وأقوم مما خيل إليهم أنه صدق حقًّا؛ فإن العلم في حملته التي هزم بها
اللاهوتيين، قد وقع في كتبنا المقدسة على حقيقة أنبل وأروع، بل أعظم وأمتع من لزوم
الظواهر التاريخية والتفسيرات الحرفية التي عكف عليها اللاهوتيون وجاهدوا في سبيلها
طويلًا، وكلما تقدمنا في بحث النتائج التي ترتبت على الصراع الذي وقع في هذا الميدان،
زِدْنا يقينًا بصحة تلك النتيجة التي تُلقِي في رُوعنا دائمًا بأن القيمة الحقيقية في
كتبنا المقدسة، تلك القيمة التي لا يمكن أن يقدرها عقل أو يزِنها خيال، وإنما تنحصر في
أنها عرَّفتنا الطريق التي يجب أن يجاهد فيها النوع الإنساني ليصل إلى تصوُّات
ومعتقدات، وأن يتشبث بآمال أرقى مما بين يديه وأهدى، سواء أفي الآداب أم الدين، فإذا
حللنا طبيعة تلك الجهود واستعرضنا صورها على تتالي الأجيال والعصور، بان لنا ما في كل
كتاب من الكتب المقدسة من القيمة، واتضح لنا أنه ثمين غالٍ، وأن كلًّا منها حق وصدق على
اعتبار ما. على أن الحقيقة التي لا يجب أن نَغْفُلَ عنها هي أنه ليس واحد من هذه الكتب
فيه ما يتفق، وتلك الأوليات الصحيحة التي وصل إليها النوع الإنساني في العلم والتاريخ،
كما أنه من أكبر العبث أن تحاول أن تَصِلَ إلى التوفق بين الطرفين؛ فإن أقل ما في أمثال
هذه المحاولة من حمق، تعرض من يشرئب إليها، ونفس الكتب المقدسة التي يفرغ هذا الجهد في
سبيلها، إلى أخطار هوجاء، أقلها أن يزول أثرها المنشود من صدور الناس.
أما ما رمت إليه الكتب المقدسة التي ظهرت في هذا العالم، وكُتُبنا على الأخص، فهو
السير بأرقى التصورات والمعتقدات والآمال التي اختص بها النوع الإنساني في طريق تدرُّجي
من النشوء ينتزعها من غرارتها الأولى وطفولتها خلال تلك المزالق الكبرى والانقلابات
الخطيرة التي تقع عليها في تاريخ الإنسان، وعلى الرغم من أننا نعتقد بأنها في غالب
أمرها ذات قيمة كبرى على اعتبار أنها مدوَّنات كبرى لحقائق التاريخ المعروفة، وعلى
الرغم من أن الأبحاث الحديثة قد زادت لدينا من قيمتها على هذا الاعتبار، فإننا إنما
نذهب في تقديسها خطوة أخرى إذا عرفنا بأن قيمتها العظمى لا تنحصر في أنها مدونات
تاريخية وثقى لا غير، بل مرآة تنعكس عليها صور النشوء والتطور التي أصابت قلب الإنسان
وعقله ورُوحه، إننا نعتبر أنها حق وصدق؛ لأنها نشأت على مقتضى القوانين التي احتكمت في
تطور الحق في تاريخ الإنسان، ولأنها كيفما ظهرت وعلى أية صورة برزت، فكانت شعرًا أو
ذكرًا للحوادث التاريخية أو تقنينًا أو تشريعًا أو أساطير أو خرافات أو مضربًا للأمثال
أو قصصًا، قد أبانت لنا عن أنبل ما صادف الإنسانية من صور النشوء خلال الأزمان، فإذا
ادَّعى إنسان بأنها غير صحيحة كان مَثَلُه كمثل من يدَّعي أن وجود زهرة أو شجرة أو سيار
من السيارات أمر غير حقيقي، وأنك إذا استهزأت بهم فإنك إنما تستهزئ لدى الواقع بناموس
الكون العظيم، فإن استجماع صور جميلة من تصوُّرات الرجال الذين وقعوا تحت تأثير
مُوحِيَات عريقة في القِدَمِ، سواء أكانوا في مصر أو الكلدان أو الهند أو فارس، على
الصورة التي تراها في سِفر التكوين أو المزامير أو سِفر أيوب أو غير ذلك، لعمل خدم به
جامعو الكتب المقدسة الحديثة الإنسانية أكبر خدمة؛ إذ زودوها بكنز يزداد قيمة على مر
العصور، كما أن العلم الحديث باستبداله السماوات والأرض القديمتين بسماواتٍ جديدة وأرضٍ
جديدة، وحكم القانون بحكم الإرادة القاسرة، وفكرة النشوء بفكرة الخلق، قد أضاف — ولا
يزال يضيف — صورًا من وحي جديد تمدنا بها العناية القدسية.
في ظلال هذا الضوء الذي انبعث من هذين النشوءين؛ الأول نشوء الكون المادي، والثاني
نشوء خرافة مقدسة في الخلق، يمكن للعلم واللاهوت — إذا خصت عقول أهلهما معًا بقدرٍ كاف
من السعة والعبقرية — أن يوفق بينهما، وأن تهدأ ثورتهما إزاء بعض. فإن خطوة من أكبر
الخُّطَا التي سوف تُحدث هذا التوفيق قد خطاها أكبر معهد للفكرة اللاهوتية في العالم
الإنجليزي؛ إذ اعترف في مجموعة المقالات المسماة «لوكس
ماندي» Lux Mundi والتي خرجت من بين جدران أكبر معقل للأورثوذكسية في جامعة
أكسفورد. بأن الأقاصيص التي رُوِيَتْ في الخلق إنما استمدت من نبع خرافي؛ لهذا تساءل
رئيس أساقفة كنتر بري: «ألا يتفق أن يكون الروح القدس قد استخدَم — في أزمنة ما —
الخرافات والأساطير؟»
(٢) التعاليم اللاهوتية في أصل الحيوانات والإنسان
في إحدى نوافذ كاتدرائية «أولم» Ulm نقش على الزجاج
يرجع تاريخه إلى القرون الوسطى، يمثل فيه الواحد القهار منهمكًا في خلق الحويانات، وفي
تلك الفترة بالذات خرج من بين يدي العناية القدسية «فيل» كامل الأوصاف، وهو مثقل
بالدروع وعليه سرج وغطاء كأنه على أتم الأهبة للقتال. ولقد وردت أمثال من هذه التصورات
في مخطوطات علمية، وفي الكتب المطبوعة القديمة، وتجمعت كل هذه التصورات والآراء في نواة
واحدة، ظهر فيها العزيز القدير مجدًّا في تصوير أول إنسان من «صلصال كالفخار»، منتزعًا
من جنبه — بكل مشقة وقوة — أول امرأة ظهرت في الوجود.
على أن هذه النظرة العامة في أسلوب الخلق قد انحدرت إلينا في خلال الأزمان القديمة،
حيث كانت ظهرت لابسة صورًا شتى من آراء كونية عتيقة مختلفة الصور والألوان. فأنت ترى
حتى اليوم في المعابد المصرية القديمة بفيلة ودندرة أمثالً تريك كيف يجبل آلهة النيل
كتلًا من الصلصال فتخرج من بين أيديهم رجالًا، وكذلك تقع في الألواح الآشورية على مثل
هذا العمل منسوبًا إلى آلهة بابل. حتى إذا انحدرت بك السنون إلى عصرنا هذا وقلبت الكتب
المقدسة ألفيت أن هذه الآراء والتصورات بعينها قد اتخذت قاعدة لتطور جديد أسبغت ذيوله
على اللاهوت الحديث.
مضى آباء الكنيسة قانعين بأن يعكفوا على النص الحرفي الذي صِيغت فيه أسطورتا الخلق
المتناقضتين في سِفر التكوين، وبعد أن أفرغوا جعبة الجهد والبحث في سبيل التوفيق بين
هاتين الروايتين، وأن يدمجوهما لتكونا كلًّا واحدًا، رضوا بأن يعتبروهما آخر مَحَكٍّ
للرأي ومجس للفكر في أصل الكون وكل ما فيه. وفي بداية القرن الرابع الميلادي وضع
«لاكتانتيوس» أول قاعدة لتلك الطريقة التي لم يقصد بها من شيء اللهم إلا إخضاع كل
الأشياء الأخرى التي اتخذت وسيلة لدرس الخلق ومنشئه، للمتن الحرفي الذي جاء في الكتب
المقدسة، وأيد فكرته في خلق الإنسان بإشارة لغوية قائلًا بأن آخر مخلوق سُمي بالإنسان
لأنه صنع من الأرض Homo ex humo.
وفي النصف الثاني من القرن الرابع بذاته أيد القديس أمبروز
st.
Ambrose أسلوب النص الحرفي
الذي جاء في المتون المقدسة خاصًّا بالخلق، وهو ذلك الرجل الذي أعلن في كتابه الذي بحث
فيه أصل الخلق «أن موسى قد فغر فاه وصب منه كل ما قال الله له.» ولكن رجلًا أعظم من
هذين قد استطاع أن يربط هذه الفكرة باللاهوت النصراني وأن يوثق لها منه؛ فإن القديس
«أوغسطين» في كتابه «تعليقات على سِفر التكوين» قد وضع في جملة واحدة قانونًا جامعًا
ظل
للكنيسة دستورًا حتى عصرنا هذا؛ إذ قال: «لا يمكننا أن نقبل من شيء إلا إذا أيدته الكتب
المقدسة بسلطانها؛ لأن هذا السلطان أعظم من كل القوات التي يختص بها العقل الإنساني.»
على أن قوة السَّبك التي تراها في الجملة الأصلية قد جعلت أصداءها ترن خلال القرون المتعاقبة.
٧
وعلى الرغم من ذلك الانقلاب الكبير الذي أثار غباره القديس «أوغسطين» نفسه وتابعه
فيه
سلسلةً من أعظم رجال الكنيسة، محاولين — كما سنرى بعدُ — أن يحوروا في الآراء التي سادت
في أصل الكون؛ فإن قولة «أوغسطين» قد ظلت مغشية على عقول الناس أشد الغشاوة طوال القرون
الوسطى، أما «فنست بوفيه» الدومينيكي، ومن أكبر الإنسيكلوبيذيين، فعلى الرغم من أنه مضى
في كتابه «مرآة الطبيعة» يخرج آراء استمدها من أرسطوطاليس بآراء أخذها من الإنجيل، فإنه
وقف يؤيد أولى الروايتين اللتين وردتا في سفر التكوين، وأظهر الفضائل العظمى التي يختص
بها العدد «ستة» ليتخذ ذلك سبيلًا إلى القول بأن هذا هو السبب في أن كل الأشياء قد
خُلِقَتْ في ستة أيام. وفي أواخر القرون الوسطى قبِل العلَّامة الثبت الكردينال «دايلي»
كل شيء جاء في الكتب المقدسة خاصًّا بالخلق قبولًا حرفيًّا بلا تبديل أو تحوير. وإنك
لا
تقع خلال كل هذه العصور المتطاولة على نزعة إلى إنكار شيء من هذا، اللهم إلا فيما كتب
ثقة آخر من الثقات هو «غريغوري ريش» Gregory Reisch
فقد ذكر في كتابه الذي خصه بالكلام في بدايات الأشياء — بعد أن وضع فيه صورة من الحفر
على الخشب مثلت الواحد القهار ينتزع حواء من جنب آدم، كما مثلت كل الطبيعة المخلوقة في
ستار اللوحة — ما يظهره بمظهر القانع بفكرة القديس «أوغسطين» من الاعتقاد بوجود مادة
سبقت فعل الخلق في الزمان.
وفي عصر الإصلاح الديني ألقى «لوثر» بسلطانه العظيم في ذلك الميدان مؤيدًا لفكرة قبول
النصوص الحرفية التي جاءت في الكتب المقدسة، واعتبارها النبع الأوحد لكل العلوم
الطبيعية. ولقد رفض كل التفسيرات المجازية أو التصوفية التي قال بها متقدمو اللاهوتيين
قائلًا: «لماذا يلجأ موسى إلى المجاز بينما هو لا يتكلم في مخلوقات مجازية أو في عالم
مجازي، بل يتكلم في مخلوقات حقيقية أو عالم منظور يمكن أن يرى وأن يلمس وأن يدرك أن
موسى إنما دعا الأشياء بأسمائها الحقيقية، كما يجب علينا أن نفعل. وإني أعتقد أن
الحيوانات قد وُجِدَتْ دفعة واحدة في عالم الله، كما وُجِدَتِ الأسماك في جوف
البحار.»
ولم يكن تشبُّث «كالفن» بفكرة قبول النص الحرفي لرواية الخلق في سِفر التكوين، بأقل
من تعنُّت «لوثر»، ولقد أنذر الذين يجرءون على الاعتقاد بوجهة من النظر تُخالِفُ ما
يذهب إليه بأنهم بذلك إنما «يسيئون الخالق، وأنهم يكونون على نظرة من قاضٍ عدل ينسفهم
نسفًا.» ولقد مضى معتقدًا بأن كل أنواع الحيوانات قد خُلِقَتْ في ستة أيام كل منها نهار
وليل، وأنه لم يظهر منذ ذلك العهد أي نوع جديد على إطلاق القول. ولقد قال بأن الطيور
قد
استُحدِثت في الماء، ذاكرًا أن هذا القول تجيزه بعض نصوص من الكتب المقدسة، ولكنه يضيف
إلى ذلك «بأنه إذا كان لا بد من أن يجاب على هذا السؤال من ناحية القواعد الفوسيقية؛
فإننا نعرف أن الماء أكثر قربًا للهواء منه للأرض.» ولقد علَّل بعض الصعاب التي واجهته
في لزومه لظاهر رواية الخلق كما وُضِعَتْ في الكتب المقدسة بقوله إن الله «رغب بتلك
الصعوبات أن يبرهن لنا على قوته وسلطانه، فأفرغ علينا الدهشة والعجب.» ولقد تشبثت بهذه
الفكرة كل العقول الفذة في الكنيسة الرومانية. وفي القرن السابع عشر أسبغ «بوسويه» Bossuet عليها من ضياء عقله الكبير أنوارًا كَسَتْها
أبهى الحلل. ففي كتابه «أبحاث في التاريخ العام»، ذلك الكتاب الذي ظل القاعدة الأساسية،
لا للتعاليم اللاهوتية وحدها، بل لكل التعاليم التاريخية في فرنسا حتى عصر الجمهورية
الأخيرة، نجده وقد عمد إلى تنبيه الأذهان إلى ما يعتبره آخر ما نزل به الوحي في حقيقة
الخلق، مؤيدًا القول الحرفي بأن الأرض لم تُخلق إلا للإنسان «وأن يد الله هي التي تحفظ
على المادة القابلة للفوضى نظامها المحكم المرسوم.»
ولم يكن تعنُّت البروتستانت في التمسُّك بهذه الفكرة بأقل من تشبُّث الكنيسة
الرومانية. ففي القرن السابع عشر حاول الدكتور «جون ليتفوت» Dr. John
Lightfoot
— وكيل جامعة كمبردج ومن أكبر من اشتغل بالعبرانيات من أبناء عصره وأثبتهم فيها قدمًا
—
أن يوفق بين أسطورتي الخلق في سِفر التكوين فقال «بأن أنواع العجماوات النظيفة قد خلق
سبعة من كل منها، ثلاثة أزواج للتوالد، والفرد السابع ليضحي به آدم عند هبوطه من الجنة،
كما سبق في علم الله.» وزاد إلى هذا أن العجماوات القذِرة لم يخلق منها إلا زوج واحد
من
كل نوع.
ولقد كان لزوم هذه التصورات لظاهر ما جاءت به الكتب المقدسة كبيرًا، حتى إننا مهما
بلغ بنا الخيال وسَمَا بنا الوهم في هذا الزمان، فإننا لا نستطيع أن ندرك إلى أي حَدٍّ
بلغ بهم الإكباب على لزوم النص الحرفي لهذه الآيات. ولقد مثَّل الواحد القهار في كل ما
ظهر من كتب اللاهوت وفي الأناجيل المصوَّرة وفي كل كتب الفن على اختلاف ألوانها في صورة
مكبرة يحف بها الجلال ولكن على نمط صانع من صناع «نورمبرج» الذين يحترفون صنع الدمى
وألاعيب الصبية. ولقد مرت أزمان مثل فيها للعبارات التي وردت في سِفر التكوين بصور أشد
من هذا لزومًا لظاهر النصوص. فاعتمادًا على عبارة معروفة في المتون المقدسة مثل الخالق
في صورة حائك جالس والإبرة في يده، مُجِدًّا كل جِدٍّ في أن يحيك من جلود الحيوانات
سترًا لآدم وحواء. على أن مثل هذه الأمثولات لم تكن لتعترضها أية صعوبة تحول دون ولوجها
إلى ثنايا العقول في القرون الوسطى. وفي عصر الإصلاح البروتستانتي وبنفس هذه العقلية
وخضوعًا لهذه الروح، قيل — عندما بدأ استكشاف الحفريات يغزو نواحي الفكر بموحيات جديدة
— بأنها «لم تكن إلا نماذج لعمله، وافق المهندس الأعظم على بعضها ولم يوافق على البعض
الآخر»، أو أنها «تصاميم لصور من المخلوقات سوف تُخلق في المستقبل»، أو أنها «من ألاعيب
الطبيعة»، أو أنها أشياء بثت في طبقات الأرض لتستثير عجب الإنسان. وما زالت أمثال هذه
التعليلات تنتقل في منازل البقاء شاقة لنفسها طريقًا في بحور الزمان، حتى إن عالمًا
طبيعيًّا من الإعلام في عصرنا هذا — وقد استثارته الحماسة وأخذته الغيرة على أن يُنجي
من الزوال طريقة الإكباب على النص الحرفي لسِفر التكوين — قد عمد إلى الاعتقاد بأن الله
قد لوى الطبقات الجيولوجية ليًّا وصدعها تصديعًا، ثم أمالها وعقصها بعد أن نثر في جوفها
صور الحفريات وخدش في ظاهرها خدوشًا تمثل المجاري الجليدية، ونشر من فوقها العلامات
التي تدل على التآكل الذي تُحدثه المياه، ثم أمر شلالات نياجرا بأن تنصب بكل ما يتصور
من قوة، وأن كل هذا تم في برهة واحدة، بل في غمضة عين؛ وبذلك ألغز الدنيا وحوَّطها
بالأسرار؛ «لغرض لا يمكن تعليله، ولكن ليظهرنا على جلاله وعظمته.»
أما الناحية التي مضت فيها العقلية اللاهوتية، وكان لها فيها تطور ونشوء، فانحصرت
في
تقسيم مملكة الحيوان.
من الطبيعي أن يكون الفرق بين المخلوقات المفيدة والمؤذية من أبكر التقاسيم التي يقع
عليها العقل النازع إلى البحث والتنقيب؛ لهذا قام في العقول سؤال فذ: كيف أن إلهًا
خيرًا حكيمًا يخلق النمور والأفاعي والشوك والقتاد؟ أما الجواب فقد عثر عليه في
الاعتبارات اللاهوتية قائمًا على فكرة الخطيئة، فقيل بأنه عندما وقعت خطيئة الإنسان
الأولى حَقَّتْ على الإنسان كل الشقاوات، وكتبت عليه كل المصائب. وظل رجال من أعظم من
أقلت الأرض نُهًى وحكمة يؤيدون — على مدى ثمانمائة من الأعوام الطوال — نظرية أنه قبل
معصية آدم لم يكُن موت، فلما وقعت المعصية تبعتها الوحشية والتقتيل.
على أن بعضًا من الأقوال التي تمثِّل الأساليب التي تطورت فيها هذه الفكرة جديرة بأن
نعرض لها بذكر؛ فإن القديس «أوغسطين» بكثير من الطلاوة وحسن السَّبك قد أيَّد بل أكَّد
حقيقة القول بأن عالَمَيِ الحيوان والنبات قد صبت عليهما اللعنة استتباعًا لخطيئة
الإنسان. وبعد أن قيل هذا القول بقرنين من الزمان، وبعد أن ظل متنقلًا من قديس إلى
قديس، ومن لاهوتي إلى لاهوتي انحدر إلى عصر «بيده» وهناك قَبَضَ عليه هذا اللاهوتي
وتشبث به، لا لشيء إلا ليقول بأنه قبل سقوط الإنسان كانت كل الحيوانات وادعة غير
مضرَّة، ولكنها أصبحت بخطيئة آدم إما مُسِمَّة وإما مفترسة ثم قال: «لهذا خُلِقَتِ
الحيوانات المفترسة والحيوانات المُسِمَّة لتزعج الإنسان — لأنه سبق في علم الله أن
الإنسان سيخطئ ويعصي — حتى يكون على حذر من أن يناله عقاب جهنم الأخروي.»
وفي القرن الخامس أدمج «بطرس لومبارد» هذا الرأي في كتابه اللاهوتي الكبير الذي أسماه
«الجمل» Sentences ذلك الكتاب الذي أصبح فيما بعدُ
متنًا للاهوت طوال القرون الوسطى. ولقد أيَّد فكرة أنه «ما من شيء مخلوق قد أُعِدَّ لأن
يكون مضرًّا للإنسان مؤذيًا له ما لم يكن قد أخطأ. إنما أصبحت الحيوانات مضرة مؤذية
لتزعج الإنسان وتعاقبه على رذائله، ولتحضَّه على الفضيلة وتكملها في نفسه. لقد خُلِقَتِ
العجماوات غير مؤذية، فلما أن وقعت المعصية انقلبت مضرة أبلغ الضرر.»
أما هذه النظرية اللاهوتية التي وُضِعَتْ في الحيوانات فقد أيدها «جون ويزلي» John Wesely في القرن الثامن عشر بكل ما أوتي من
قوة. ولقد أعلن بأنه قبل خطيئة آدم «لم يحاول شيء من ضروب الحيوان أن يضر أو يأكل غيره
أو أن يُوقِعَ أيَّ ضرب من ضروب الأذى بأية وسيلة على حيوان آخر» ولم يقتصر الأمر على
«ويزلي» وحده. بل إن الشهير دكتور «آدم كلارك» Adam
Clarke ودكتور «رتشارد وطسون» Richard
Watson وهما
اللذان كان لآرائهما أكبر الوزن بين المنشقِّين على
الكنيسة Dissenters بل بين أكبر مفكري الكنيسة الرسمية
Established Church قد وثِقا كل الثقة بهذه النظرية
ومَضَيَا بها مؤمنين، ولقد ظل هذا الرأي سائدًا على أكبر العقول وأرجح الأحلام أزمانًا.
أما بعد أن زودَنا علم الجيولوجيا بحقائق دلتنا على وجود عدد عديد من الحيوانات
المفترسة، وعلى أن كثيرًا منها قد عُثِرَ عليه وفرائسه نصف مهضومة في معداتها، وأنها
انقرضت من الوجود قبل أن يوجد الإنسان فوق الأرض بأزمانٍ موغلة في القدم، فحينذاك
استطاع العلم أن ينتصر على اللاهوت في هذا الميدان الفسيح.
ولقد تطور هذا المذهب تطورًا آخر تركَّز حول مُعْتَقَدِ متقدِّمي المفسرين الذي قام
حول اللعنة التي صُبَّتْ على الأفعى في سِفر التكوين. وهو اعتقاد من الضروري أن يصبح
طبيعيًّا ما دامت الظواهر تدل على أنه معتقد أصيل ثبت في يقين الذين كتبوا تلك الرواية
التي حُفِظَتْ في أول كتبنا المقدسة. أما ذلك الاعتقاد فقد انحصر في أنه حتى الوقت الذي
لعن فيه الواحد القهار الأفعى المغرية، كانت كل الثعابين والأفاعي تقف منتصبة وأنها
كانت تمشي وتتكلم.
وما زال هذا المعتقد ينحدر من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل على اعتبار أنه جزء من
خميرة الإيمان المقدس، حتى جاء «وطسون» أكبر منتجي الكتاب الذين ظهروا في عصر الإصلاح
الإنجيلي في القرن الثاني عشر، وأكبر عَلَم من أعلام اللاهوتيين الذين ضمنهم حزب
الإنجيليين وأعلن «بأنه ليس لدينا من بيِّنة تحملنا على الاعتقاد بأن الحيوان كان ذا
صورة ثُعبانية على أي أسلوب وبأية درجة حتى أدركته الاستحالة والتغيير، أو الاعتقاد
بأنه إذ ذاك قد مُسِخَ زاحفة تدب على كشحها فيستدل به، على الضد ممَّا نعتقد على فقدان
كامل وتغيير محض للصورة الأصلية.» ومن هذا المعتقَد زود الأسلوب اللاهوتي العقول بنتائج
ناضجة استوعبتها أصفى العقول التي نشأت بين أحضان الكنيسة خلال ألفين من السنين. غير
أن
هذه «الخميرة المقدسة» قد ذابت عندما عثر الجيولوجيون على ثعابين وأفاعٍ حفرية دبت فوق
الأرض من قبل أن يكون للإنسان على ظهر البسيطة أثر بأزمان متطاولة.
ولقد قامت بين اللاهوتيين مناقشات عديدة تتعلق بالحيوانات التي صرفوا عليها اسم
الحيوانات «الزائدة عن الحاجة»، أما القديس «أوغسطين» فقد كان ذا ميزة خاصة امتاز بها
في هذا الميدان. قال: «إني أعترف صراحة بجهلي وقصوري عن إدراك السبب الذي من أجله
خُلِقَتِ الفيران أو الضفادع أو الذباب أو الديدان. إن كل الحيوانات إما أن تكون نافعة
أو مضرة أو زائدة عن الحاجة بالنسبة إلينا. أما المخلوقات المضرة فنعلل وجودها بأنها
إنما خُلِقَتْ لتعاقبنا أو لتنظمنا أو لتزعجنا حتى لا نتمادى في حب هذه الحياة» أما
الحيوانات الزائدة عن الحاجة فقد قال فيها: «إن هذه الحيوانات وإن كانت غير لازمة
لخدمتنا، إلا أن مجمل تصميم الكون قد انتهى عندها وفرغ منه بها.» أما «لوثر» وقد اتبع
ما قال القديس «أوغسطين» في بحث كثير من المشكلات اللاهوتية، فقد نفر من أن يتابعه
تمامًا إزاء هذا الإشكال. فقد اعتقد بأن الذبابة ليست فقط زائدة عن حاجة الخلق، بل هي
مضرة أيضًا. فإنها كثيرًا ما يرسلها عليه الشيطان لتشغله عن القراءة وتقطع عليه تيار
فكره.
ولدينا موضوع آخر كان سببًا في كثير من البحث في نصوص الكتب المقدسة، حتى لقد نشأ
عن
هذا البحث كثير من مختلف ضروب الفكر اللاهوتي وانحصر هذا الموضوع في الفرق الكائن بين
خَلق الإنسان وخلق الأحياء العضوية الأخرى.
ولقد علَّق اللاهوتيون جميعًا — حتى القديس توماس أكويناس وبوسويه، ومن لوثر إلى
ويزلي — أهمية عظمى على الفرق البَيِّنِ الذي نص عليه سِفر التكوين؛ إذ ذكر بأن الله
قد
«خلق الإنسان على صورته».
أما المعنى الذي انطوت عليه هذه العبارة فقد أبان عنه نص مقدس آخر في سِفر التكوين
جاء فيه.
٨ عن آدم أنه «ولد ولدًا على شبهه كصورته ودعا اسمه شيثًا.»
٩
واعتمادًا على هذا القول وعلى نصوص معروفة انتحلت عن أساطير خلقية قديمة أدمجت في
الكتب العبرانية المقدسة، ذاع الاعتقاد بأن الإنسان إذا فطر وصور بيد الله مستقلًّا عن
بقية الخلق جميعًا؛ فإن الحيوانات إطلاقًا قد برزت من الأرض والبحار ملبية صوت الخالق
وكلمته.
وهنا قام سؤال معضِل تناول مسألة «التفريق بين أنواع الحيوانات» على أن الغالبية
العظمى من اللاهوتيين متفقون على القول بأن الحيوانات قد خُلِقَتْ «منذ البدء»، وسماها
آدم، وأنها حملت في السفين وأنها استمرت من بعد ذلك معينة بأنواعها المعروفة حتى الآن.
ولقد تنقَّل هذا الاعتقاد مع الزمان حتى نضج فصار مذهبًا. وهو ككثير غيره من مذاهب
الكنيسة بشعبتيها، من كاثوليك وبروتستانت، تجد أن العثور على أصله الأول بالبحث في
ثنايا الفلسفة الوثنية، أكثر سهولة مما هو في الكتب النصرانية المقدسة. وإنك لتجد أن
لهذا الاعتقاد أكبر آصرة بأفلاطون وأرسطو طاليس منه بموسى والقديس بولص. غير أن هذه
الحقيقة لم يُلتفت إليها ولم تلقَ اهتمامًا، وهكذا مهدت السبيل شيئًا فشيئًا حتى أصبح
من الضروري أن يعتقد أن كل نوع من الأنواع على اختلافها وأن كل الفروق الكائنة بينها
قد
طبعها الخالق على صورها «منذ البدء» وأنه لم يطرأ عليها أي تغيير، بل إن التغيير
والنشوء لم يكُن من الممكن أن يطرأ عليها.
ولقد نشأت بعض الصعاب تبعًا لارتقاء علم الزولوجيا — الحيوان — وعلى الأخص عندما
أظهر
ذلك العلم أن عدد الأنواع التي تُعرف يزداد يومًا بعد يوم، غير أن اللاهوتيين استطاعوا
أن يستقوُوا على هذه الصعاب بسهولة خلال العصور الوسطى — وحتى عهد طويل بعد قيام حركة
الإصلاح البروتستانتي — بأن يوسعوا من حجم سفينة نوح يومًا بعد يوم بنسبة استكشاف أنواع
الحيوانات الجديدة، وبأن يلجَئُوا إلى القول بأن هنالك خطأ إنسانيًّا
١٠ وقع في قياس حجمها.
غير أنه كان من الطبيعي أن تقوم بين أهل اللاهوت — وبين عامة الناس على السواء — شهوة
إنسانية تتجه إلى البحث في أشياء أبعد غورًا من هذه الأشياء في تاريخ الكائنات الحية.
شهوة ساقتهم إلى البحث وراء معرفة «ما هي الخليقة» في حقيقتها؟
على أن الخرافات السائدة والروايات المتضاربة وأقاصيص السائحين — على الرغم مما كان
فيها من الاختلاف والضعف — قد فعلت فعلها الأقوى في إحياء روح الاستطلاع في هذا
الميدان.
قبل بدء التاريخ الميلادي بثلاثة قرون قام أرسطو طاليس بأول جهد حقيقي رمى إلى إيفاء
شهوة الاستطلاع التي اتجهت في هذه السبيل، فبدأ أبحاثًا مستفيضة في التاريخ الطبيعي،
لا
تزال حتى اليوم عنوانًا على أقصى قمة من الإنتاج العقلي وصل إليها الإنسان خلال عصور
التاريخ.
غير أن ذلك الشعور الذي رأينا من قبلُ كيف كان تأثيره في الكنيسة خلال عصورها الأولى،
شعور أن البحث والدرس لا فائدة منهما، وأنهما لغو باطل على اعتقاد أن نهاية العالم قد
قربت، وقد عبرت عنه نصوص «العهد الجديد» — الأناجيل — بأجلى بيان، وردده بأعلى صوت رجال
عظام مثل لاكتانتيوس والقديس أوغسطين، قد صدر تيار ذلك الفكر العلمي عن أن ينبعث في تلك
السبيل القيمة قرونًا عديدة. غير أن الميل الأقوم من صفات الإنسانية قد ظل محقَّقًا
وجوده خلال الأزمان. والحقيقة أن تأثير شب من ثنايا الكتب العبرانية المقدسة قد دفع
الإنسانية بقوة نحو تلك الغاية؛ فإنك ترى أنه على الرغم ممَّا كان من الممكن أن يقول
لاكتانتيوس أو القديس أوغسطين في حماقة الإكباب على درس الطبيعة؛ فإن تلك المقاطع
الضخمة التي تتضمنها المزامير في وصف جمال الخلق وعجائبه، مصبوبة في ذلك القالب الشعري
الرائع، قد أظهرت للناس نبالة الإكباب على درس الطبيعة حتى بين أولئك الذين كان يُبعدهم
منطقهم عن الاهتمام بدرسها.
غير أنه كان من الطبيعي أن تصب كل هذه الدراسات — وعلى الأخص في أحضان الكنيسة الأولى
وخلال العصور الوسطى — في قالب لاهوتي صرف؛ فإن الاستعماق في درس أسرار الطبيعة لم يكُن
في نظر أهل الدين إلا ضررًا تتناول آثاره الجسم والروح. حتى لقد كان يعتبر هذا الدرس
سقيمًا لا قيمةَ له ما لم يكن الغرض منه تقرير شيء جاءت به الأناجيل أو تفسير شيء
روحاني. ولم يكُن ينظر في هذا الأمر نظرة اعتبار جديرة به إلا إذا اتَّجه الباحثون فيه
إلى إظهار عظَمة الله والأغراض التي رمى إليها عندما فكَّر في الخلق وأوجد الخليقة. أما
مؤلف أرسطوطاليس الخالد فقد غشِّي عليه وأهمل ولم يُعِرْهُ متقدمو المفكرين من أهل
الكنيسة اهتمامًا ولا عرَفوا له مقامًا؛ حتى لقد تجِد أنه قليلًا ما حاول اللاهوتيون
أن
يمسخوه إلى شيء مخالف تمام المخالفة لروحه العامة ولأسلوبه؛ إهمالًا لشأنه وعَمًى عمَّا
فيه من الحق الثابت. ولقد استعاضوا عنه بالفزيولوغوس
Physiologus١١ والزولوجيا الخرافية
Bestiaries — أي علم
الحيوان الخرافي — جامعين في ذلك بين نصوص من الكتب المقدسة، وخرافات القديسين، وتخيلات
ما نزل بها من سلطان، جمعت بين روح التقوى وبين الغفلة التي هي لزام روح الطفولة في
غرارتها. ولقد حلت السلطة — سلطة الكتب المقدسة كما فسرها الفزيولوغوس والزولوجيا
الخرافية — محل البحث العلمي. أما هذه الكتب فقد ظلت نبع الفكر الذي استقى منه المعرفة
تلقاء العالم الحي أكثر من ألف شداد من السنين.
ولقد ظهر بعض الخوف حينًا بعد حين بين زعماء الكنيسة ورءوسها من بحث في الخليقة بلغ
هذا المبلغ من الضعف والفساد. ففي القرن الخامس قرَّر مجمعٌ ضم رؤساء المذاهب الدينية
تحت رئاسة البابا «غيلاسيوس» Gelasius وانتهر
الفزيولوغوس، بل وجَّه إليه لومًا وتعنيفًا. غير أن نزعة البحث في الطبيعة كانت قوية
فتية، حتى إن الكتاب الكبير الذي وضعه القديس «باسيل» في الخليقة Creation قد استمد من الفزيولوغوس أمثالًا كثيرة تعبر عن العظمة
القدسية. وكان من نتيجة ذلك أن أجازه البابا «غريغوري الكبير» Greogry The Great أشد البابوات الأول حزمًا وأشدهم بطشًا.
بهذا تَكَوَّنَ عِلم مقدس للخليقة وللقصد القدسي الذي يسيِّر الطبيعة، ومضى ينشأ
ويتطور منذ بداءة القرن الرابع الميلادي إلى القرن التاسع عشر! أي منذ ظهور القديس
باسيل إلى القديس أزيدور الإشبيلي، ومن ازيدور الإشبيلي إلى فنسنت بوفيه، ومن فنسنت إلى
رئيس الأساقفة «بالي» Paley ومقالات «بردجووتر» Bridgewater ولقد نشأ هذا العلم — كما نشأ كل شيء
غيره خلال القرون الوسطى — خاضعًا للأساليب اللاهوتية. على أن الطبيعيين الذين أقاموا
أسس هذا العلم، مع إهمالهم للحقائق الجلي التي كان من الممكن أن يقعوا عليها من تشريح
أحقر حشرة من الحشرات، فقد حاولوا أن يفسروا حقائق الطبيعة بنصوص يستمدونها من المتون
المقدسة، بأن يبحثوا في سير القديسين وتراجم حياتهم، وبتطبيق الكثير من مقولات
الميتافيزيقا.
ومن هنا جاء السبب في أن رجالًا عِظامًا من طابع القديس إزيدور الأشبيلي قد جمعوا
فيما كتبوا أوصافًا «لذي القرن»
Unicorn١٢ وهو حيوان خرافي يشبه الحصان، ويمتاز عليه بقرن في جبهته، والدراغون
Dragon وهو ما يعبر عنه في العربية بلفظة تنين، وقد
ذكرتها المتون المقدسة، أو يتناولون بالوصف طير العنقاء
Phoenix والأفاعي الخرافية «البزليق»
Basilisks١٣ التي ذكرتها الكتب الموضوعة. ومن هذه السبيل ذاعت الخرافات والأضاليل مثل
القول بأن «البزليق» يقتل الثعابين بزفيره، والناس بمجرد النظر إليهم، وأن السبع إذا
طُورد فإنه يمحو آثاره بطرف ذنبه ليضلِّل المطاردين، وأن البجع
Pelican يغذي أفراخه بدمه، وأن الثعابين تلقي بسمها بعيدًا قبل أن ترِد
الماء للشرب، وأن السمندل يطفئ النار، وأن الضبع — المرفعين — يتكلم مع الرعاة، وأن
أنواعًا معينة من الطير تُولَد على ثمر من أنواع الشجر مخصوصة عندما تكون على وشط
السقوط إلى الماء … إلى غير ذلك من مكنونات العلم التي لا تقِل عن هذه قيمة ولا تنزل
قدرًا.
أما الأسلوب الذي وُضِعَ به العلم ليكون موافقًا للكتب المقدسة، فإن «الفزيولوغوس»
يعبَّر عنه أحسن تعبير بأن يلجأ في التمثيل إلى تلك المقطوعة التي ذُكِرَتْ في سِفر
أيوب Job عن السبع العجوز الذي قضى جوعًا لنُدرة
الفرائس. ولقد كان للمحاولات التي أُرِيدَ بها تفسير كلمة غير عادية وردت في النص
العبراني أثرًا تراكمت من حوله الأخطاء بعضها تلو بعض؛ حتى إن خُطَى التطور قد مهدت
السبيل إلى رواية «النمل السبعي» الذي يساعدنا على أن نفهم ما هو السبع الذي ذُكِرَ في
سفر أيوب إذ قالوا: «أما النمل السبعي فإن أباه كانت له صورة السبع وأمه صورة النمل.
وكان الأب يعيش على اللحوم والأم على الأعشاب، ومن هنا نشأ النمل السبعي مزيجًا بين
كليهما، وإن كان يشابههما في الأجزاء؛ لأن جزءه الأمامي كان كالأسد، وجزءه المؤخر كان
كالنمل. أما وأنه كان على هذه الصورة، فإنه لم يقدر أن يأكل اللحوم كأبيه ولا العشب
كأمه؛ وبذلك هلك ومات.»
في أواسط القرن الثالث عشر انتصر هذا الأسلوب اللاهوتي انتصارًا كبيرًا بنشر كتاب
عظيم ألَّفه بارثولوميو Bartholomew الفرنسيسكاني
الإنجليزي، والذي سماه «خصائص الأشياء» The Properites of
Things
أما الأسلوب اللاهوتي لدى تطبيقه على العلم فليس في أكثر الأمر بشيء سوى أن يَقبل
الإنسان التقاليد، وأن يتقبل البراهين التي توافقها وتساعدها على البقاء. وكان
«بارثولوميو» فارسًا من فرسان هذا الميدان. فقد بدأ بفكرة أساسية هي أن يستخلص من الكتب
المقدسة كل الإشارات التي أُشِيرَ بها إلى الأشياء الطبيعية، غير أنه لم يلبث أن عمد
إلى وصف الطبيعة وصفًا عامًّا متخذًا من المنطق دعامة. ولما أن أراد أن يتكلم في
الأفعوان cockatrice الذي ذكرته الكتب المقدسة
قال: «إنه ييبس أوراق الشجرة الخضراء أو يحرقها إذا لمسها، وإن سمه زعاف قاتل حتى إنه
يقتل كل من يقترب منه بلا تلكؤ أو توانٍ. ومع كل هذا فإن ابن عرس يتغلب عليه؛ لأن عضة
ابن عرس تقتله قتلًا. والأفعوان على الرغم من أن سمه قاتل وهو حي، حتى إنه لا يوجد دواء
يشفي من يصاب به، فإنه يتجرد من كل مضاره إذا أُحْرِقَ حتى يصير رمادًا. أما بقاياه بعد
الاحتراق فتفيد في الألكيمياء Alckemy وعلى الأخص في
تغيير المعادن وتبديل خصائصها.»
على أن «بارثولوميو» لم يقف هنا، بل حاول أن ينير الأذهان بأن يتناول بالوصف حيوانات
مصر فقال: «إن التمساح إذا عثر بإنسان واقف على حافة الماء فإنه يقتله؛ ومن ثَمَّ يبكي
عليه ثم يزدرده.»
ولا يفوت مثل هذا الطبيعي الفرنسيسكاني أن ينفق الكثير من الجهد في وصف «التنانين»
التي ذكرتها الكتب المقدسة، فقال: «إن التنين هو أعظم الأفاعي كلها، وغالبًا ما يقوم
من
وكره ويطير في الجو فيحرك الهواء، وكذلك البحر فإنه يطغى ويتهيج من سمومه، وإن له عرفًا
(كالدجاج) وإنه يرفع لسانه الأعلى وإن أسنانه كالمنشار، وإن فيه قوةً وبطشًا، وإن قوته
لا تكون في أسنانه وحدها بل في ذَنَبِه أيضًا، وإنه يرسل مضراته عضًّا ولدغًا. وغالبًا
ما تجتمع أربعة أو خمسة تنانين معًا، ثم يرتبطون بأذنابهم ويرتفعون إلى العلاء رءوسهم
ثم يسافرون فوق البحار لكي يحصلوا على اللحم الجيد. على أن بين الفيل والتنين عداء
مستحكمًا وجِلادًا مستمرًّا؛ فإن التنين يلدغ بِذَنبه الفيل. والفيل بخرطومه يسقط
التنين ويلقيه صريعًا. أما السَّبَب الذي من أجله يرغب التنين في دَمِ الفيل فبرودته
التي يرغب في أن يرطب نفسه بها. ويقول «جيروم»: إن التنين حيوان متعطش للدماء كل
تعطُّش، حتى إنه يفغر فاه في مَهَبِّ الريح ليطفئ شيئًا من عطشه المتسعر؛ ولهذا السبب
يرتمي على شراع المراكب التي تمخر في ريح طيبة ليحصل على قليل من الهواء البارد فيقلب
السفينة ويغرقها.»
هذه الآراء التي أتى بها الراهب «بارثولوميو» قد ذاعت بين الناس أشد ذيوع ورسخت في
أذهانهم رسوخًا. ولقد ترجم كتابه إلى كل لغات أوروبا الحية، وكان من الكتب التي أكب
الناس على قراءتها كل إكباب خلال عصور الإيمان النصراني. ولقد احتفظ الكتاب بمكانته طول
ثلاثمائة من السنين الطوال. حتى لقد احتفظ بمكانته بعد اختراع الطباعة؛ فقد بلغت طبعاته
عشرًا في اللاتينية وأربعًا في الفرنسوية، كما تُرْجِمَ عدة مرات إلى اللغة الفلمنكية
والإسبانية والإنجليزية. وكذلك الوُعَّاظُ فإنهم وجدوا فيه ضالتهم؛ إذ عمدوا إليه
يتخذون منه الأمثال التي يُعَبِّرُونَ بها عن الطريق التي اختارها الله لتكون صلة له
مع
الإنسان. وظل هذا الكتاب حافظًا لسلطانه على العقول حتى عصر الاستكشاف البحري؛ إذ بدأت
الحقائق تحل شيئًا فشيئًا، محل الاستنتاج اللاهوتي. حينذاك فقد الكتاب أهميته ونزل عن
سلطانه.
ولقد فشا هذا النوع من العلم في كتب «الزولوجيا
الخرافية» Bestiaries التي كانت تتناولها الأيدي في كل مكان، وعلى الأخص أبدى
الذين كانوا يَعِظُونَ من فوق المنابر في الكنائس ليهدوا جموع المؤمنين سواء السبيل،
ويثقفوا عقولهم بالطرق المثلى. ولقد نقع في كل هذه الكتب — كما نقع في كتاب جمعه في
أوائل القرن الثالث عشر الميلادي «وليم
النورماندي» William of Normandy — أحد رجال الكنيسة المعروفين — على الدرس الآتي: تلد
اللبؤة جراء يظلون ثلاثة أيام بلا حياة، وبعد ذلك يأتي السبع فينفخ فيه فتلابسهم الحياة
… وعلى هذا النمط ظل المسيح عيسى ثلاثة أيام محرومًا من الحياة، غير أن الله الآب قد
أنهضه حيًّا منصورًا.
ولقد استخدم هذا العلم في سبيل نشر التقوى، وعلى الأخص إذا حدث أن يكون العاملون على
بَثِّهَا في الصدور رهبانًا واعظين فقالوا بأن في بعث العنقاء إلى الحياة بعد أن يصير
جسمها رمادًا، دليل على يوم النشور، وأن تركيب القرود وتشويه خلقهم يبرهن على وجود
الشياطين، وأن وجود قردة بلا أذناب برهان على أن إبليس جرد عن عظمته الأولى، وأن بنات
عرس — إذ تغير دائمًا محلها ولا تستقر في مكان — مثل لمن فسق عن عهد الله، فلا يجد
مكانًا يستريح فيه.
أما المقالات الأدبية التي ظهرت في ذلك العهد فقد أخذت صورة كتب في التاريخ الطبيعي،
ليتسنى لواضعيها ومنشئيها أن يكونوا أكثر بيانًا للناس عن حقائق تلك التعاليم الدينية
المُقتَطَعة من الطبيعة؛ ففي كتاب الراهب الدومنيكي «توماس الكانتمبري»
Thomas of Contimpre «في النحل» نقع على
تعاليم تبث في روعنا «أن الزنابير تطارد النحل وتعلن عليها الحرب؛ لأن بينهما عداءً
طبيعيًّا موروثًا»، وأن هذه الزنابير تمثل لنا الشياطين الذين يعيشون في الجو، وأنهم
مع
الصواعق والأعاصير الجوية يهبطون على النوع الإنساني بالمصائب والمضرات. ومن ثَمَّ
يستطرد في فصل طويل ذاكرًا حوادث وأمثالًا لحرب الشياطين التي تعلنها على الذوات
الفانية. وعلى هذا السَّنَن سار رصيفه الدومنيكي «نيدر»
Nider عضو محكمة التفتيش في كتابة «تل النمل»
The Ant Hill فعلمنا أن نمل «إثيوبيا»
Ethiopia الذي يذكر أن له قرونًا، وأنه ينمو حتى يصير في حجم الكلب،
هو في الواقع رمز وإشارة للهراطقة المرذولين أمثال «ويكليف»
Wyclif والهسيون
Hassites١٤ «الذين ينبحون على الحق ويعَضونه بأنيابهم. في حين أن نمل بلاد الهند، الذي
يستخلص الذهب من الرمل بأقدامه ويستجمعه من غير أن ينتفع به، مثل للعمل البائر الذي
يبذله الهراطقة؛ إذ يحفرون كنوز الكتب المقدسة ويدمجونها في كتبهم للا غاية ولا
قصد.
إن هذه الروح — روح التقوى والخضوع — ولم تَغْزُ العلم وحده. بل تعدته إلى الفن وعلى
الأخص في الكاتدرائية، ففي الميازيب الرمزية
Gargoyles١٥ التي كانت تعلق على الجدران، وفي الأشكال المجونية التي كانت تعلق على
الأبراج أو التي تُرى جاثمة على القباب، والتنانين التي تُرى دابة تحت العقود المشيدة
على الطرق، أو المتسللة من خلال الأعشاب والوحوش السرية التي كانت تحفر عادة على منصات
التلحين، والتي كانت تنقش على الزجاج، أو تغزل في الطنافس أو ترسم بين سطور كتب القداس
وكتب التراتيل أو على حواشيها: عامة هذه الأعاجيب الخلقية كانت تعتبر عند الناس ضروبًا
من الآداب والسلوك استمدت من الفزيولوغوس وكتب الزولوجيا الخرافية ومضارب الأمثال
Exempla.
من بين الرجال الذين لم يكُن للكنيسة عليهم من سلطان ظهرت فئة في مختلف البقاع
والأزمان أبرزت للوجود مؤلفات أرقى نزعة وأثمن قيمة. ففي القرنين الثاني عشر والثالث
عشر دوَّن «عبد اللطيف»،
١٦ ملاحظاته في تاريخ مصر الطبيعي؛ فكان في هذه الملاحظات قدر غير ضئيل من
الروح العلمي البحت، كما أن الإمبراطور فردريك الثاني قد حاول أن يشجع الناس على البحث
في الطبيعة بحثًا أوفى إنتاجًا وأعلى قدرًا. غير أن أحد هذين قد اتُّهِمَ بأنه مسلم،
والثاني بأنه فاسق عن الدين. غير أن «جيرالدوس كمبرنسيس»
Giraldus
Cambrensis
وهو من رجال الكنيسة المعروفين، كان فيما ألَّف أكثر تلاؤمًا من هذين مع روح ذلك العصر.
فإنه في كتابه المعروف باسم «طبوغرافية
إيرلاندا»
Tcpography of Ireland قد أبدى اهتمامه بالحيوانات التي تقطن الجزيرة، ولكنه
قَلَّمَا غفل عن أن يستخلص من كل منها حالة يستعين بها على استخلاص صورة من صور الأخلاق
أو السلوك، فيقول مثلًا إن «النسور في إيرلندا تعيش أعمارًا مديدة حتى ليخيل إلينا أنهم
مساهمون في الأبدية. وكذلك الحال في القديسين؛ فإنهم بتركهم صفاتهم القديمة واتخاذهم
الصفات الجديدة التي أهَّلَت بهم إلى القداسة، يحوزون تلك الثمرة السعيدة، ثمرات الحياة
الأبدية، ويقول أيضًا: «كثيرًا ما تبلغ النسور في طيرانها ارتفاعات عظيمة حتى إن الشمس
قد تلفحها فتشيطها. وهكذا الحال في الذين يحاولون أن يقفوا على تلك الأسرار الدفينة
القَصِيَّة التي تتضمنها خفايا السماوات لأكثر مما تسمح به الكتب المقدسة؛ فإنهم
يُذادون عنها ويُدفعون إلى الحضيض، كما لو كانت أجنحة خيالاتهم السحرية التي تحملهم إلى
تلك الأجواء القصية البعيدة قد لفحت فاحترق ظاهرها وارتدَّت كليلة متعبة.»
من بين الرجال الذين ظهروا في القرن التالي كان «ألبرت الكبير»، وفيما كتب نقع على
روح انتقادية فيها شيء من مظاهر الرشد. فإن «البرت» في كتابه الذي تناول الكلام في
الحيوانات قد رفض القول بالاعتقاد السائد في أن بعض الطيور تتولد من الأشجار وأنها
تغتذي بالعصارة النباتية، كما أنه لم يؤمن بنظرية أن بعض الطيور قد تتولد في البحار من
بقايا الأخشاب المنحلة التي تطفو فوق سطحها.
غير أنه كان لزامًا أن تمر عدة أجيال حتى تثمر تلك الشكوك ثمرة طيبة وتحدث أثرًا
فعالًا. فإننا نقع مثلًا في الأمثال التي حليت بها كتب «مندفيل» Mandeeville، وقد طبعت عشية القيام بحركة الإصلاح الديني Reformation على صور، بله المقاطع والعبارات
تمثل طيورًا ووحوشًا تنشأ متولدة من بذور الأشجار.
على أن هذه النزعة العامة التي رمت إلى استخدام العلم الطبيعي في أغراض دينية تدعو
إلى التقوى والصلاح، قد عاشت إلى ما بعد عصر الإصلاح البروتستانتي. وكثيرًا ما استخدمها
«لوثر»، فكان في هذا الأمر مثالًا احتذاه أتباعه، ونسج عليه تلاميذه؛ ففي سنة ١٦١٢ نشر
«وولفانج فرانز» wolfang franz أستاذ اللاهوت في
جامعة لوثر كتابه الذي ألَّفه في تاريخ الحيوانات المقدس، وهو كتاب طُبِعَ عدة مرات
متوالية، وقد تضمن هذا الكتاب تقسيمًا فائضًا للحيوانات، وصفت فيه التنانين الطبيعية
التي لها ثلاثة صفوف من الأسنان في كل من الفكين، مضيفًا إليها في رهبة وتقوى قوله:
«أما التنين الأعظم فهو الشيطان.»
وقبل نهاية هذا القرن، قبض الأب «كيرخر»
Kircher —
وهو أستاذ من عظماء اليسوعيين في روما — على زمام الشك مرة أخرى، فأخضعه للتقاليد
راجعًا بالناس إلى النظريات الأورثوذكسية، حتى لقد ذكر بين الحيوانات التي حملها نوح
في
السفين «جنيات البحر»
Sirens وهن في الميثولوجيا فتيات
جميلات سابيات للعقول، ثم «الغرفين»
Griffin١٧ وهو حيوان خرافي برأس نسر وأجنحته وجسم سبع كبير.
غير أننا نلحظ — حتى بين اللاهوتيين — في مختلف الأزمان والأمكنة؛ روحًا من الشك
تغزو
العقل الإنساني من طريق العلم الطبيعي. ففي أوائل ذلك القرن عينه — السابع عشر — نشر
«إيوجين روغر» Eugene Roger كتابه «سياحات في
فلسطين»، أما تلقاء الأقوال التي جاءت في الكتب المقدسة فإنه من أخص أهل الأورثوذكسية.
ولقد صدر كتابه بخريطة تظهر من بين الأشياء التي أشير إليها في التاريخ الإنجيلي المكان
الذي قُتِلَ فيه شمشون ألفًا من الفلسطينيين بفك حمار، والكهف الذي عاش فيه آدم معه
حواء بعد أن طُرِدَا من الجنة، والبقعة التي تكلم فيها حمار «بلعام» والمكان الذي صارع
فيه يعقوب أحد الملائكة، والمرتقى الوعر الذي دخلت فيه الشياطين أجسام الخنازير فاندفعت
حتى ألقت بنفسها في البحر، والموضع الذي قام فيه التمثال الملحي الذي كان يومًا امرأة
لوط، والمكان الذي ابتلع فيه الحوت يونس في البحر، «وتعيين المكان الذي قبَض فيه القديس
بطرس على مائة وثلاثة وخمسين سمكة.»
أما في التاريخ الطبيعي، فإنه يصف «البزليق Basilisk
الأفعى الخرافية» بدقة وبكثيرٍ من الضبط اللاهوتي. فيقول إن الحيوان يبلغ قدمًا ونصف
في
الطول، وهو على صورة التمساح، وإنه يقتل الآدميين بنظرة واحدة. أما البزليق الذي رآه
فكان لحسن حظه ميتًا؛ لأنه في عصر البابا «ليو الرابع» Leo
iv — على ما يذكر المؤلف
— ظهر «بزليق» في روما وقتل كثيرًا من الناس بمجرد نظره إليهم. غير أن البابا قتله
بصلواته وبرسم علامات الصليب. ويذكر المؤلف أن العناية القدسية قد شاءت بحكمتها ورحمتها
أن تحمي الإنسان بأن جعلت هذا الحيوان لا يبرح وجره ولا ينشط منه قبل أن يرسل صوتًا
عاليًا مرتين أو ثلاث مرات، وأن الحكمة الإلهية تظهر أيضًا في أن هذا الحيوان العظيم
يُضطر إلى أن ينظر في عين فريسته وعلى مسافة خاصة قبل أن تنفذ نظرته من خلال مخ الفريسة
إلى القلب، حيث يكون القضاء المحتوم. ومن ثَمَّ يتدرج في ذكر الحكمة الإلهية إلى القول
بأنها — رحمة وحنانًا — قد خصت صياح الديك بالقدرة على قتل البزليق.
غير أننا مع هذا نجد في ثنايا إيمان هذا الرجل الطيب، والمبشر المسلم بما جاءت به
الكتب المقدسة، آثارًا تنم عن روح «باكون» منبثَّة في تضاعيف عقله، وعلى روح التجاريب
في العلم تتغلغل في طيات نفسه. فإنه بعد أن استسقى عدة روايات عن السمندل salamander فتَّش حتى عثر على فرد منه، ثم وضعه حيًّا
على فحم يحترق، وحكم بأن الأساطير التي تُذكر أن في مستطاع السمندل أن يعيش في النار
غير صحيحة. وكذلك أجرى تجاريب عديدة في «الحرباء» chameleon وحكم بأن الأقاصيص التي كانت تُروَى عن هذا الحيوان إنما
كانت تتقبل بكثيرٍ من حسن الظن، غير أنه كان لا يحاول الحكم في النصوص التي تتضمنها
الكتب المقدسة، ولو أنه كان يلجأ إلى عقله يستدرُّ منه الوحي العلمي على القواعد
الحديثة فيما عدا ذلك.
في النصف الثاني من القرن السابع عشر بدأ الأستاذ «هوتنغر» Hotinger في كتابه «بحث تاريخ الخليقة من الوجهة اللاهوتية» طريقة
جديدة بأن رفض الاعتقاد بوجود العنقاء phoenix غير أن
شكًّا كان قد ساوره في تلك الحدود التي تأذن بها الكتب المقدسة؛ فقد بنى شكَّه أولًا
على «أن الله قد خلق الحيوانات أزواجًا، بينما يزعم بأن العنقاء فرد واحد لا زوج له»،
وثانيًا «لأن نوحًا عندما دخل السفينة أخذ من كل نوع من الحيوانات سبعًا، بينما لا
نستدل على وجود هذا العدد من نوع العنقاء»، وثالثًا «لأنه لا يوجد إنسان يجرؤ على أن
يدَّعي بأنه رأى هذا الطائر»، ورابعًا «لأن الذين يؤكدون وجود العنقاء يناقضون بعضهم
بعضًا.»
فلا عجب إذن — بعد أن بدأ الشك يغزو العقل في حقيقة السمندل والعنقاء — إذا رأينا
الشك يتغلغل في النفوس تلقاء البزليق، قبل أن يودع القرن السابع عشر الوجود؛ فإن
الأستاذ الكبير «كرخماير»
Kirchmaier من جامعة
«فوتمبرغ» قد تناول العنقاء والبزليق بالكلام، ولكن على اعتقاد أنهما من الخرافات التي
لم يقُم عليها دليل، أما العنقاء فأنكر وجودها، لا لأن نوحًا لم يحمل معه في السفينة
طائرًا بهذا الاسم فقط، ولكن على حد قوله لأن «الطيور إنما تخرج من البيض لا من الرماد»
أما «ذو القرن»
Unicorn فلم ينكر وجوده، ولكنه مع هذا
لم يعتقد بأنه شيء سوى الكركدن
Rhinoceros، ولقد عمد
إلى «أيوب» وإلى «ماركوبولو» ليستدل بأقوالهما على وجود هذا الحيوان، ويثبت أنه كائن
حقيقي ثم يقول: «من ذا الذي لا يخاف إنكار «الأونيقور» ما دامت الكتب المقدسة تذكره
بكثيرٍ من الثناء المستطاب.» أما غير ذلك من الحيوانات الكبرى التي تذكرها الكتب
المقدسة؛ فإنه كان إزاءها من أخص أتباع الطريقة العقلية، فذكر أن «البيهموث»
Behemoth١٨ كان فيلًا وأن «اللوياثان»
Leviathan١٩ كان حوتًا غير أن بذور الشك قد أنتجت وآتت أُكُلَها؛ فإننا لا نلبث على هذا
غير قليل حتى نقع على «دانهوور»
Dannhauer، وقد اقتحم
السبيل فخطا خطوة أخرى إلى الأمام معلنًا شكه في وجود «الأونيقور» موقنًا بأنه الكركدن
بعينه، ولا شيء غيره. وحتى ذلك الوقت وبعد أن بدأت بذور الشك تثمر هذه الثمرات، كان
تيار الفكر لا يزال يتحرك بقوة اللاهوت. ففي سنة ١٧١٢ نشر «صموئيل بوخرت»
Samuel
Bochart كتابه في
حيوانات الكتاب المقدس. أما روح الكتاب فلا نستطيع أن تنقل صورة منها إلا بذكر رءوس بعض
الفصول:
- الفصل السادس: اسم الحصان في العبرية.
- الفصل السابع: لون الأحصنة التي ذكرت في سِفر زكريا.
- الفصل الثامن: الخيل التي ذُكِرَتْ في سِفر أيوب
- الفصل التاسع: خيول سليمان والمتون التي يذكر مؤلفوها فضائل الخيل.
- الفصل العاشر: خيول الشمس المقدسة.
ومن العناوين التي تقع عليها في الفصول الأخرى ما يأتي. في أتان بلعام،
٢٠ في الألف من الفلسطينيين الذين قتلهم شمشون بفك حمار، في العجل الذهبي الذي
صنعه هارون
٢١ والعجلين الذهبيين اللذين صنعمهما
يربعام
Jeroboam٢٢ في مأماة الشياه وألبانها وأصوافها وأعضائها الداخلية والخارجية كما ذكرت
في الكتب المقدسة، في الأشياء ذوات الخطر التي ذُكِرَتْ في الكتب المقدسة عن الأسد، في
حمامة نوح والحمامة التي ظهرت عند تعميد المسيح. ولقد امتزج في خلال الكتاب كثير من
الحقائق التي أتى عليها الطبيعيون خلال أبحاثهم المستفيضة في الحيوانات. غير أنها
امتزجت بالأقوال اللاهوتية امتزاجًا أضاع قيمتها، وأصبح الكتاب في مجموعه عبارة عن جملة
من الفصول تفيض بالروح اللاهوتية الرسيسة.
بعد أن ظلت الأبحاث الطبيعية خاضعة للروح اللاهوتي طوال ألفين كاملات من السنين،
نقع
في أواسط القرن السادس عشر على بدايات جديدة تنم عن أسلوب حديث لم يكن قد عُرِفَ من
قبلُ — هو الأسلوب العلمي في بحث معميات الطبيعة — وهو أسلوب ينطوي في جوهره على البحث
وراء الحقائق لذاتها، ويتنكب جهد المستطاع الجري وراء المزينات العقلية والنفسية. ففي
ذلك الحين بدأ «إداورد ووطون» Edward Wotton في
إنجلترا و«كونراد غسنر» Conrad Gesner في القارة
الأوروبية يقتحمان السبيل بملاحظات طبيعية، كان فيها من الاستفاضة والإطناب بقدر ما بث
فيها من العناية والدقة، وأثر الفكرة العلمية في التبويب والنسق.
ولقد كان لذيوع هذا الأسلوب العقلي في بحث الطبيعة واستقصاء أسرارها نتائج أدت إلى
تكوين جمعيات قامت على فكرة البحث منتحية هذا الأسلوب. ففي سنة ١٥٦٠ تألفت «أكاديمية
البحث الطبيعي» في نابولي. غير أن اللاهوتيين وقد تولاهم الانزعاج والفزع أمروا بحلها.
ومرت من بعد ذلك مئة سنة على وجه التقريب حتى عادت فكرة التعاون على البحث العلمي تختمر
في الرءوس مرة أخرى، فالتأمت في لندن سنة ١٦٤٥ تلك الاجتماعات العلمية التي تمخضت من
بعدُ عن الجمعية الملكية Royal Society ثم تلت هذه
أكاديمية العلوم في فرنسا، ومن بعدها «الأكاديميا دل
سيمنتو» Academia
del Cimento في إيطاليا ثم انتشرت جمعيات البحث العلمي ومنتدياته من بعد
ذلك في كل بقاع الأرض، وبذلك بدأت نهضة جديدة لها أثرها الخالد في تاريخ العلوم
والمدنية.
وسرعان ما خيل للاهوتيين أن في هذه النهضة خطرًا وأن وراءها تكمن كارثة، ففي إيطاليا
رشى اللاهوتيين الأمير ليوبولد ده مديتشي Leopold de
Medici بأن منحوه «قبعة» الكردينالية، وكان يعتبر حاميًا
لذمار أكاديمية فلورنسا؛ ليرفع عنها حمايته. ومنذ زمان البابا أربان الثامن حتى عصر
بيوس التاسع Pio nono سادت الكنيسة مثل هذه الرُّوح.
أما في فرنسا فقد تدخل رجال الكنيسة في أبحاث العلماء مرات عديدة، لم تكن إهانة العلامة
«بافون» Buffon لتقريره بعض الحقائق العلمية، إلا
مثلًا لها وعنوانًا عليها. وكذلك كانت الحال في إنجلترا؛ فإن البروتستانتية لم تكن
هنالك بأكثر عطفًا على الجمعية الملكية لدى أول تكوينها من غيرها من شعب الكنيسة؛ حتى
لقد أنكرها دكتور «سويث» Dr. Soath ورماها بأنها خارجة
على الدين ومن حسن الحظ أن قام في تلك الأزمان حائل واحد منع الاصطدام العلني بين
اللاهوت والعلم. وانحصر هذا الحائل في نزعة علمية كانت بدورها خطأ كبيرًا. فإن الباحثين
في حين أنهم نبذوا الأسلوب القديم الذي جرى عليه أسلافهم في العصور الوسطى، وكان من أعز
ما عند الكنيسة عليها، قد مَضَوْا عاكفين على فكرة الخلق المباشر وعلى فكرة القصد
والغاية التي تكمُن وراء كل صور المخلوقات، وأن هذا القصد لم يَرْمِ إلى شيء اللهم إلا
إلى فائدة الإنسان وتثقيفه وإدخال المسرة والجذل على نفسه بكل الوسائل.
على هذا وجدت الميول اللاهوتية — على ما فيها من نزعة طبيعية إلى الجِلاد والصراع
—
سببًا قويًّا لتسالم العلم. في حين أن العلم ولو أنه كان قد تحرر من كثير من القيود
الثقيلة التي قيدته من قبل، قد أصبح ساعد اللاهوت الأيمن؛ إذ كان يزود اللاهوتيين بما
يُفَسِّرُونَ به مذهب القصد الخلقي، ولكن مع إبداء الاحترام والتبجيل — ولو في الظاهر
—
لتلك الأساطير والخرافات الكلدانية وغيرها ممَّا تتضمن الكتب العبرانية المقدسة.
حوالي منتصف القرن السابع عشر انتصر العلم على اللاهوت انتصارًا تامًّا في معركة
فاصلة. ففي ذلك العهد نشر «فرانشسكوريدي»
Francesco
Redi نتائج أبحاثه التي عقدها في مذهب «التولد الذاتي»
Spontaneous generation٢٣ فقد مضت عصور وكَرَّت دهور والناس يعتقدون بصحة مذهب محصله أن الماء
والأقذار والجِيَف قد وهبها الخالق القدرة على توليد الديدان والحشرات وعديد وافر جِدَّ
الوفرة من الحيوانات الدنيا. ولقد رحب القديس أوغسطين وكثير من آباء الكنيسة بهذا
المذهب ما دام أنه يكفي الله الواحد القهار مئونة خلق هذه الأنواع الحقيرة الوافرة
العدد، كما أنه ينقذ آدم من متاعب تسميتها، وينحي نحوًا من أن يعيش في الفلك معها. غير
أن «ريدي» قد قضى بأبحاثه على هذه التُّرَّهَات؛ فإنه مضى في أبحاث مستفيضة لا محل
لذكرها هنا، أظهر من طريقها أن كلًّا من هذه الحيوانات إنما يتولد من بيضة، وأن هذا يدل
على أن أفرادها لا بُدَّ من أن تكون نتاجًا لحيوان خلقة الله، وسماه آدم، وحمله نوح،
منذ بدء الخليقة إلى الآن.
وظهرت في إنجلترا مؤلَّفات شبيهة بهذه. ولكنها كانت أكثر خضوعًا للروح اللاهوتية؛
ففي
القرن ذاته — السابع عشر — نشر الباحث الطبيعي «جون راي» John
Ray كتابًا حاز شهرة
وانتشارًا واسعًا. وكان «راي» أحد أعضاء الجمعية الملكية وألَّف عددًا من الكتب في
النباتات والأسماك والطيور. غير أن أعم هذه الكتب انتشارًا وأكثرها ذيوعًا بين الجمهور،
كان كتابه الذي أسماه «الحكمة الإلهية كما تظهر في أعمال الخلق»، ولقد طبع هذا الكتاب
عشرين طبعة متوالية ما بين عامي ١٦٩١ و١٨٢٧.
أما «راي» Ray فقد استدل على حكمة الله بضروب
المكافآت التي رآها في الحيوانات؛ لا من جهة فائدتها للإنسان لا غير، بل من جهة
العلاقات الواقعة بين حياة بعضها وبعض، وكذلك بينها وبين بيئاتها التي تعيش مكتنفة
بها.
في السنين الأولى من القرن الثامن عشر نشر الدكتور «نحمياه غرو»
Dr.
Nehemiah Grew أحد
أعضاء الجمعية الملكية كتابًا أسماه «الكونيات المقدسة»
Cosmologia
Sacra، حاول فيه أن ينقض كل الآراء التي ذاعت مناقضة لما جاء في
الكتب المقدسة، وعمد في تدليله إلى البرهنة على القصد والغاية من وجود المخلوقات. ولما
أراد أن يدلل في سياق مؤلفه على «الغايات التي رمت إليها العناية الإلهية» قال:
إن الكراكي — وهي طيور لحومها غير جيدة — لا تضع إناثها إلا بيضتين في السنة
— في حين أن الطواويس والحجلان تنقف خمس عشرة أو عشرين بيضة؛ لأنها طيور جيدة
اللحم.
ولقد أشار بعد ذلك إلى أن الطيور التي تضع قليلًا من البيض، إذا كانت ذات فائدة،
كدجاج الأرض والحمام، فإنها تحضن أسرع من غيرها. ومن ثَمَّ حاول أن يناقض فكرة
القائلين: بأن الأشياء المضرة في الطبيعة قد خُلِقَتْ تبعًا لخطيئة الإنسان، بأن
ادَّعَى بأنها ذات فائدة، فذكر أن «لدغ القريص إنما يحفزنا إلى البحث عن دواء يشفي
الأطفال والماشية وأن «العوسج والقتاد إذا أَضَرَّا بالإنسان من ناحية، فإنهما يفيداه
في أن يتخذ منهما سياجًا يحتمي به» وأن «هذه الأشواك إذا أضرت بعض الشيء بصاحبها، فإنها
تمنع عنه غوائل اللصوص»، وأن «بنات عرس والحدادي وغيرها من الحيوانات المضرة تحفزنا إلى
التنبُّه والحذر»، وأن «القمل يحفزنا إلى نظافة أجسامنا، والعناكب إلى نظافة بيوتنا،
والبراغيث إلى نظافة ثيابنا.»
وهذه النظرة التفاؤلية، بعد أن انتصرت على النظرية اللاهوتية القائلة بأن الأشياء
المضرة قد خُلِقَتْ تبعًا لخطيئة الإنسان، والتي أذاعها القديس أوغسطين وظلت في أوجها
عهد «ويزلي» Wesley قد مضت متطوِّرة فتكونت في صورة
أكثر إلى رُقِيًّا وأنبل مرمًى خلال القرن الثامن عشر؛ إذ تعهدها بالتهذيب كثير من
المفكرين وعلى الأخص «بالي» Paley كبير الأساقفة، في
كتابه «اللاهوت الطبيعي» Natural Theology الذي ظل
مؤثرًا في صورة الفكر إلى عهدٍ قريب. ولقد ظهرت ميول مشابهة لهذه الميول الحرة في ممالك
أخرى غير إنجلترا، ولو أن كثيرًا من الفلاسفة قد أبانوا عن كثير ممَّا فيه من أوجه
الضعف، وعلى الرغم من أن «جوته» قد هزأ بها في بعض أشعاره المعروفة، بأن شكر الله لأنه
وضع تصميم شجر الفلين ليتخذ منه في المستقبل سدادات نسد بها زجاجاتنا!
قبل أن ينتصف القرن التاسع عشر بقليل، انتهت هذه الحركة بنشر تلك المقالات المشهورة
التي عُرِفَتْ باسم «مقالات بردجووتر» Bridgewater
Treatises وقصة هذه المقالات أن رئيس الجمعية الملكية —
إجابة لرغبة إرل بردجووتر الثامن — قد انتخب ثمانية أشخاص، خصص لكل منهم ألفًا من
الجنيهات الإنجليزية تلقاء أن يكتب كل منهم مقالًا مستفيضًا في «قوة الله وحكمته
وخيريته كما تظهر آثارها في المخلوقات»، وكان من أمتع ما طُبِعَ من هذه المقالات خاصة
بعالم الحياة مقالة العلامة «توماس
شلمرز» Thomas Chalmers وعنوانها «تكافؤ الطبيعة الخارجية مع حالات الإنسان العقلية
والأدبية ومقالات «شارلز بل» Charles Bell، وعنوانها
«القدرة مظهرة في القصد»، ومقالة «روجت» Roget
وعنوانها «الفسيولوجيا النباتية والحيوانية من طريق علاقتها باللاهوت الطبيعي» ومقالة
الأستاذ «كربي» Kriby، وعنوانها «عادات الحيوانات
وغرائزها من طرق علاقتها باللاهوت الطبيعي».
وفضلًا عن هذا فقد ظهرت مقالات أخرى كتبها هيوويل Whewell وبوكلاند Buckland،
وكد Kidd وبروت Prout†. ولقد نجح هذا العمل نجاحًا كبيرًا دل على رقي كبير بَزَّ كل ما
تقدم من نوعه مادة وأسلوبًا وروحًا. أما إذا نظرنا إلى هذه المقالات اليوم فإنا لا
يسعنا أن نقول فيها أنها كانت أكثر من أشياء تمهيدية مرهونة بأوقاتها، ولو أنها أدت
بدورها إلى استكشاف حقائق ما. ولا يجدر بنا أن ننسى قولة العلامة «داروين» المعروفة؛
إذ
يقول بأن النظريات إذا كانت خطأً أدى البحث فيها ومناقشتها إلى الحق واليقين. على الضد
من المشاهدات إذا كانت فاسدة فإنها دائمًا تضل الباحثين ضلالًا كبيرًا.
إن جهدًا كهذا، كله نبالة في القصد وسُمُوٌّ في الروح، لا يستحق أن يستهدف إلى ما
استهدف إليه من السخرية. ومن العجيب أن يكون من أقذع ما سدد إليه من سهام النقد ما وجهه
إليه حديثًا أحدُ كبار المدافعين عن الأورثوذكسية الممتلئين حَمِيَّةً المشبوبين بحماسة
اليقين، فإن علمًا من رافعي ألوية الإيمان، ونعني به المحترم الأستاذ «زوكلر» Rev. Prof. Zockler قد قال عن هذه
الحركة التي رمت إلى إظهار القصد والغاية في الخلق كما قال في القائمين بها: «إن الأرض
قد ظهرت في أقوالهم كأنها حانوت تباع فيه الملابس الخلِقة وفندق لبيع الحساء. أما الله
فقد صُوِّرَ على أنه أحد الأساتذة العقليين Rationalistic مجسم تجسيمًا. ولا جرم أن هذه الأقوال يبعد أن تكون إنصافًا
لما تصوره بطلر وبالي وشملرز، مع قطع النظر عن مقدار ما فاتهم به العالم الحديث من
التقدم في الفكرتين العلمية والفلسفية.»
ولكن على الرغم ممَّا كان في عمل هؤلاء الأفذاذ من نبل وجلال، فإن الحقائق التي أسسوا
عليها نظرياتهم قد أخذت مع الزمن تفقد كثيرًا من قوتها، وتتزعزع أركانها.
فمنذ القرن السابع عشر أخذ كبار اللاهوتيين يشعرون بأن متاعب كبرى قد أخذت تعترض
سبيلهم هي أنكى وأبعد أثرًا من كل ما واجهوه من قبل. فقد بان مع مَرِّ الزمن وكر الدهر
أن الأنواع المختلفة التي عمرت الأرض، هي أكثر عددًا مما خيل إلى الناس. ومن ثَمَّ زادت
صعوبة القول بأن هذه الأنواع الكثيرة المختلفة البِنَى والتكوين قد خُلِقَتْ خلقًا
مستقلًّا بقدرة الله المباشرة. وكذلك القول بأن الأنواع قد حُشِرَتْ أمام آدم ليسميها.
وكذلك الزعم بأنها حُشِرَتْ في سفينة نوح أزواجًا أو سبعات، أي سبعة أفراد من كل نوع.
غير أن الصعاب التي قامت في هذه الطريق لم تكن شيئًا مذكورًا إذا قورنت بما قام في طريق
البحث في توزيع الحيوانات والنباتات الجغرافي Geographical
Distribution.
إذا رجعت إلى الأيام الأولى التي شيدت فيها الكنيسة النصرانية، فإنك تجد أن البحث
في
هذا الموضوع قد أثار فكرات ذات أثر، وعلى الأخص في عقل القديس أوغسطين؛ فقد شرح في
كتابه المسمى «مدينة الله» هذه الصعوبة في القالب الآتي: «هنالك صعوبة تواجهنا تلقاء
البحث في كل أنواع البهائم التي لم يتمكَّن الإنسان من تأليفها، ولم تنشأ من الأرض كما
تنشأ الضفادع — كالذئاب من أنواع السباع — وعلى الأخص إذا تساءلنا كيف استطاعت أن تشق
طريقها إلى الجزر النائية بعد ذلك الطوفان العظيم الذي أعدم كل الأحياء التي لم تحفظ
منها «عينات» في الفُلك المشحون؟ لا جرم أن بعض الحيوانات يمكن أن تصل الجزر سابحة في
الماء، في حالة ما إذا كانت تلك الجزر قريبة من اليابسة. غير أن بعض الجزر بعيدة عن
الشاطئ بعدًا شاسعًا؛ حتى إنه من المتعذِّر على أي مخلوق أنه يصل إليها سابحًا. على أنه
لا يبعد عن التصديق أن تكون بعض هذه الحيوانات قد اقتنصها الإنسان وحملها معه إلى تلك
الجزر التي أراد أن يستعمرها ليلهو بها في الصيد ويتخذها وسيلة للتسلية. كذلك لا يمكن
أن ننكر أنه من الجائز أن يكون نقلها قد تم بفعل الملائكة، وقد أمرهم الله أو حملهم على
أن يقوموا بهذه المأمورية.»
غير أن هذه المشكلة الطبيعية قد وصلت حدًّا لم تقُم منه صورة ولو ضعيفة في عقل القديس
أوغسطين. وكان من أكبر الأشياء التي أمدتها بالقوة وعززتها بالغلبة والسلطان، تلك
السياحات الكبيرة اليت قام بها كولومبوس وفاسكودي غاما وماجلان وأمريجو فسبوتشي وغيرهم
من الأفذاذ الذين ظهروا في عصر الاستكشاف البحري. وزادت أهميتها عندما استكشفت جزائر
البحار الكبرى التي تغشاها مياه الميحطات الجنوبية؛ فإن كل مستكشف قد نقل معه بعد إتمام
سياحته أخبارًا عن أنواعٍ جديدة من الحيوانات، وسلالات جديدة من سلالات النوع البشري
تعيش في بقاع من الأرض، طالما أعلن اللاهوتيون — اعتمادًا على ما قال القديس بولص من
أن
صوت الكتب المقدسة قد انتشر في كل بقاع الأرض — أنها غير موجودة أصلًا. ولقد زاد ضغط
هذه الحقائق على التصوُّر الكنسي؛ حتى لقد نزع اللاهوتيون إلى القول بأن الملائكة —
طوعًا لإرادة الله، وقد هموا بأن يوزعوا الحيوانات على وجه البسيطة — قذفوا بالمغاثيروم Megatherium في جنوب أمريكا والأرخيوبتريك Archeoepetryx في أوروبا، وخلد الماء الأورنيثورنكس Ornithorhynchus في أستراليا، والأبسوم Opossum في شمال أمريكا!
كان أول من كشف القناع عن هذه المشكلات الممضة «يوسف أكوستا» Joseph
Acosta أحد مبشري
اليسوعيين؛ فقد ظهر في كتابه المعروف باسم «تاريخ جزائر الهند طبيعيًّا وأدبيًّا» الذي
نُشِرَ في سنة ١٥٩٠، بمظهر الأمانة والتفكير المستقيم. وعلى الرغم من أنه ظل مقيدًا
بكثيرٍ من التفسيرات القديمة التي فسرت بها الكتب المقدسة، فإنه تخلص من الكثير منها.
غير أن توزيع الحيوانات الجغرافي كان من الأسباب التي أتعبته وأعنتته تفكيرًا وبحثًا.
فإنه بعد أن أظهر أن بيانات القديس أوغسطين عقيمة ولا قيمة لها تساءل: «من ذا الذي
يتصوَّر أن الإنسان خلال هجرة طويلة إلى بلاد «بيرو» Peru قد يفكر في أن يتحمل المشقة ويحمل معه الثعالب إلى تلك البلاد
النائية، وعلى الأخص ذلك النوع المعروف هنالك باسم «آشياس» Acias وهو أقذر ما رأيت من نوعه؟ ومن ذا الذي يجرؤ على القول بأنه
حمل معه النمور والأسود؟
ولا جرم أن هذه الأقوال لجديرة بأن يُضحك منها ويهزأ بها. ولا شبهة مطلقًا في أن
الناس وهم معرَّضون لخطر البحار في سفر طويل كهذا، لا يعنون بشيء إلا بإنقاذ أرواحهم
أولًا، من غير أن يحملوا معهم الذئاب والثعالب، وأن يغذوهم ويعتنوا بهم، وهم بعدُ بين
ظفر البحر ونابه!»
ولقد كان لنشر هذه الحقائق آثار جليلة حفزت «إبراهام مليوس»
Abraham
Milius أن ينشر في
جينيف سنة ١٦٦٧ كتابه المعروف «أصل الحيوانات وهجرة الأمم». وهذا الكتاب يظهر بوضوحٍ
كافٍ، كما أظهر من قبل كتاب «أكوستا»، عظم تلك الصدمة الشديدة التي أصابت نظام الأشياء
على ما عرفت في العالم اللاهوتي بعد استكشاف أمريكا. ولقد نشر هذا الكتاب بمصادفة خاصة
صدرت من أسقف «سالزبرج» أشارت إلى إمكان العثور على حَلٍّ ينتفي معه كل ما يترتب على
هذا الإشكال الكبير، إذا رجعنا إلى نص المتن الأصلي في سفر التكوين؛ إذ فيه: «وقال الله
لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها.»
٢٤ ولقد مضى «ميليوس» في كتابه محاولًا أن يُظهر أن قدماء الفلاسفة يتفقون مع
موسى وأن «الأرض والمياه، وعلى الأخص حرارة الشمس والأرض الأصلية مع ما فيها من صفات
اللُّزوجة والتعفن، تلك الصفات التي يَلُوح لنا أنها من الصفات الخصيصة بطبيعة الأرض،
قد يُمكِنُ أن تكون العلة التي نشأت عنها الأسماك والحيوانات الأرضية والطيور.» غير أنه
من جهة أخرى يقسو كل القسوة على أولئك الذين يقولون بأن الإنسان يشارك الحيوانات في
نشأتها وأنه يعود وإياها إلى أصل واحد. أما الموضوع الذي أنفق فيه مليوس كل جهده فكان
«توزُّع الحيوانات الجغرافي»، ولقد أثرت فيه حقيقة وجود تلك الأنواع الكثيرة التي تأهل
بها أمريكا وكثير من الجزائر النائية المنبوذة في جوف المحيطات العظمى، تلك الأنواع
التي لم تُعرف في القارات الأخرى، كما كان وجود تلك الأنواع في تلك البقاع النائية
البعيدة من كرة الأرض وعدم وجودها بالقرب من جبل «أرارات» أكبر المشاكل العلمية التي
شغلته وحوطته بمتاعبها. ولقد كان ذلك سببًا في أن يعترف هذا «المؤلف بأن تعليل توزُّع
الحيوانات الجغرافي أشكل المشكلات وأشق المعضلات. ولقد ساءل نفسه: إذا كان من الممكن
للطيور أن تصل إلى أمريكا طائرة وللأسماك أن تصلها سابحة، فكيف تعلل وصول السوائم التي
لا تطير ولا تسبح؟»
وعاد فساءل نفسه في الطيور فقال: «ألا يوجد من بين ذوات الأجنحة تنوعات لا عداد لها
لا تطير إلا ببطء عظيم وتثاقُل، وهي على ذلك شديدة الخوف من الماء، حتى إنها لا تجرؤ
على أن تسلم بنفسها طائرة فوق نهر قليل الاتساع؟» ولما رجع إلى الأسماك قال: «إنها تنفر
في العادة نفورًا شديدًا من مغادرة مياهها الأصلية.» وأظهر بعد ذلك أن كثيرًا من أنواع
الأسماك التي تعيش في مياه أمريكا ومياه الهند الشرقية لم تُعرَف من قبلُ في القارات
الأخرى، وأن وجودها في تلك المواطن لا يمكن تعليله بأية نظرية من النظريات التي يعلل
بها توزع الحيوانات الطبيعي على وجه الأرض.»
أما إزاء القائلين بأن حيوانات الأرض من الجائز أن تكون قد توزعت في أنحاء الكرة بفعل
الإنسان، إما للانتفاع وإما للتسلية بها فإنه يتساءل: «من ذا من الجنس البشري يرغب في
أن يحمل معه على ظهر مركب سباعًا ودببة ونمورًا وغير ذلك من الحيوانات المفترسة المضرة؟
ومن ذا الذي يأمن على نفسه معها؟ من ذلك الذي يَوَدُّ أن يوجد جماعات كثيرة منها في
بقاع جديدة اتجهت إرادة الإنسان إلى استعمارها وكانت خلوًا منها؟»
أما النتيجة الأخيرة التي وصل إليها فكانت القول بأن النباتات والحيوانات إنما تتأصل
في نفس البقاع التي توجد فيها. وهي فكرة أخذ يؤيدها بمقاطيع من تينك الروايتين اللتين
وردتا في سِفر التكوين، واللتين تشيران إلى صفة «التأصيل» — أي الخلق — التي اختصت بها
الأرض والمياه.
غير أن الحالات التي قامت خلال القرن الثامن عشر كانت على وجهة النظر اللاهوتية أشد
قسوة وأَمَرَّ ثمرًا، ولقد عمد «دوم كالت» Dom Calmet
البنديكتي المعروف في تعليقاته Commentary ليستقوي على
الصعاب التي واجهت اللاهوت النصراني في ذلك الزمان، إلى الاعتقاد بأن كل الأنواع التي
تلحق بجنسٍ ما من أجناس الأحياء كانت تكوِّن في الأصل نوعًا واحدًا. ولقد تشبث بهذا
الاعتقاد على اعتبار أنه السبيل الأوحد الذي يمكن أن يعلِّل به الباحثون إمكان جمع زوج
من كل نوع من أنواع الحيوانات في سفينة نوح. غير أن هذا الرأي على الرغم ممَّا فيه من
خطر واضح على الفكرة الأورثوذكسية، وعلى ما يتضمن من مناقضة صريحة للمذهب الذي استمسكت
الكنيسة بعُراهُ، فالظاهر أنه كان كثير الذيوع بين المفكِّرين خارج الكنيسة، حتى لنجد
أن رجالًا من طبقة «لينيوس» Linneaus قد عمدوا إلى
التفكير فيه خلال النصف الأخير من القرن الثامن عشر. ولقد كان من الضروري في ذلك الحين
أن تنشأ نظرية لاهوتية أخرى متطوِّرة عن النظريات الأولى بعد أن نضج الزمان لظهورها.
ولقد حدث أن «لينيوس» العظيم — على الرغم مما أعلن عنه من شدة اقتناعه بثبات الأنواع
وخلقها مستقلة — قد قذف النظرية القديمة بقذيفة ذهبت بها بددًا وحطمتها تحطيمًا. ففي
كتابه المعروف باسم «النظام الطبيعي» Systema Naturae
الذي نشر في أواسط القرن الثامن عشر، أحصى أربعة آلاف نوع من أنواع الحيوانات؛ فظهرت
إذ
ذاك الصعوبة التي صادفت آدم في تسميتها والصعوبة التي قامت من جراء حملها في سفينة نوح،
ظاهرة لكل المفكرين ظهورًا جعل حل المعضلة أقل سهولة وأكثر صعوبة.
وتراكمت الصعاب حتى أصبحت مُمِضَّة معنتة؛ فإن عدد الأنواع المعينة قد مضى في الزيادة
زيادة كبيرة حتى إن أحد كبار الزولوجيين وثقاتهم المجرِّبين من معاصرينا قد ذهب إلى أنه
«بجانب كل نوع من الأنواع التي أحصاها «لينيوس» قد عرف الطبيعيون خمسين نوعًا آخر، وأنه
ممَّا لا شك فيه أن عدد الأنواع التي لم تُعرف بعدُ يزيد على عدد الأنواع التي عُرِفَتْ
بالفعل.»
على أنه كانت قد قامت في الأذهان صِعاب أخرى من جراء ما عمدت إليه الكتب المنزلة؛
إذ
كان من الضروري — على مذاهب اللاهوتيين — أن يحدث ٣٦٠ فعلًا خاصًّا من أفعال الخلق
المعجزة يقوم بها الخالق ليوجد ٣٦٠ من الأصداف الأرضية التي تعيش في جزيرة «ماديرا»
وحدها على صِغَرِ مساحتها، وأن يحدث ١٤٠٠ فعلًا من أفعال الخلق المستقل ليوجد الخالق
العدد الموجود من صور نوع واحد من الأصداف المعروفة.
كذلك ازدادت الصعاب عندما عرض للمفكرين البحثُ في توزيع الحيوانات الجغرافي
واستيطانها على سطح الكرة الأرضية. وكانت كلما ازدادت الاستكشافات الجغرافية، ازداد ذلك
الخطر الذي داهم الفكرة اللاهوتية. ولقد كان العثور على آثار «السلوث» Sloth في أمريكا الجنوبية سببًا في قيام أسئلة ممضة إذ قيل: كيف
يمكن لحيوانات تبلغ من ثقل الجثة مبلغ هذه أن تهاجر من أرارات — حيث رست سفينة نوح —
وأن تسافر إلى مثل هذه البقاع الضئيلة؟
وكان للاستكشافات التي وقع عليها الرواد في أستراليا وما يجاورها من الجزائر آثار
أشد
مرارة. فقد عثر الباحثون في تلك البقاع على عالم من الحيوان يختلف جهد الاختلاف عن عالم
الحيوان الذي عرف في بقية بقاع الأرض.
أما الإشكال الذي قام في وجه اللاهوتيين، فكان محاولة تعليل وجود «الكنغر» Kangaro في سفينة نوح في حين أنه لا يوجد الآن إلا في
أستراليا وحدها دون بقية البقاع المعروفة. وعلى الرغم من أن قدرة هذا الحيوان كبيرة،
فإنه يبقى أمام اللاهوتيين أن يظهروا كيف استطاع هذا الحيوان، وبأي قدر من القفزات
المتوالية، أن يجتاز الجبال والوديان، وأن يعبر المحيطات التي تفصل هذه القارة البعيدة
عن بقية قارات الأرض؟ أما إذا قيل بتلك النظرية التي يزعم أصحابها بأن طريقًا للاتصال
كان يَصِلُ في الأزمان الأولى ما يفصل الآن بين تلك القارة وأقرب قارة إليها، فإنه يبقى
أمام القائلين بهذه النظرية أن يُظهروا لماذا لم تستطع الأسود والنمور والجمال والزراف
أن يَجِدُوا طريقًا أو يقتحموا الحواجز إليها.
منها ترى أن النظرية اللاهوتية قد تحطَّمت وذهبت بددًا وأجزاء في أواخر القرن الثامن
عشر، أما عقلاء اللاهوتيين فقد تريَّثوا متلبِّثين. أما الحمقى منهم فقد نزعوا إلى
الإنذار والتهديد ليقتلعوا جذور الإنكار والكفران، وأنكروا «العلم» الذي يسمى علمًا
بطريق الخطأ معلنين في كثير من النزق «أن الأناجيل صحيحة» في حين أنهم لم يُعْنَوْا
بقولهم إن الأناجيل صحيحة إلا أن الفهم المحدود الذي فهموا به الأناجيل والذي ورثوه عمن
سبقهم صحيح استتباعًا.
لم ينتصف القرن التاسع عشر حتى بان لكل المفكرين بجلاءٍ كافٍ أن النظرية اللاهوتية
في
الخلق قد نقضت تمامًا، ولو أنها كانت تردد في جنبات الكنائس احتفاظًا بالشكل دون
الموضوع. ولقد نهض رجال عظام من رجالات الكنيسة أمثال الكردينال «ويزمان» في الكنيسة
الرومانية، والأسقف بوكلاند في الكنيسة الأنغليكانية، وهيوموللر في الكنيسة الأيقوسية،
يعملون بجهد اليائس لعلهم يفوزون بإنقاذ شيء من ذلك المعتقد، ولكنها كانت جهود ضاعت سدى
وذهبت هباءً، وهنا ظهرت صفة الأمانة الصُّلبة القوية التي تمشت في صدور التيوتون
والأنجلوسكسون، والتي هي لدى الواقع أنبل ميراث أورثته العصور الوسطى للعالم، تحقق
وجودُها في القلاع القديمة التي احتمت وراء حصونها المذاهب اللاهوتية، ونعني بها
الجامعات. فلا منطق الأسقف «بطلر» على قوته، ولا معقولات رئيس الأساقفة «بالي» Paley على روعتها، قد أغنت عن الكنيسة شيئًا. فكما
استطاع مفكرو الفلكيين من كوبرنيكوس إلى نيوتن أن يحطموا النظام الفلكي القديم الذي
كانت الأرض فيه مركز النظام الكوني، والله الواحد القهار جالس فوق الجلد السماوي، على
أنه السبب المباشر الذي يحرك الأجرام السماوية بيديه، كذلك استطاعت سلسلة منظومة من
عظماء البيولوجيين أن ينقضوا الفكرة القديمة التي تركزت من حول خالق يعمل جاهدًا في أن
يصور الحيوانات، ويصُبها في قالب خاص لتكون مفيدة للإنسان أنهم وضعوا للحياة نظامًا
جديدًا. وهذا ما سوف نتكلم فيه بعد.
(٣) النظريات اللاهوتية والعلمية في تطور الطبيعة الحية
رأينا حتى الآن كيف تثبت في عقلية النوع البشري فكرة خلق الكون المنظور، وما يأهل
به
من الأحياء خلقًا موقوتًا كاملًا، وفكرة وجود خالق على صورة بشرية وبخصائص بشرية، تكلم
فبرزت المادة إلى الوجود فعلًا بأن حرَّك أوتار صوته وشفتيه، أو أنه صوَّر المادة بيديه
وأصابعه ووضعها حيث هي موجودة الآن.
ورأينا أيضًا أن هذه الفكرة قد ورثت منذ أزمان بعيدة، وأنها كانت إحدى المعتقدات
الشائعة في المدنيات الكلدانية البابلية ومدنية مصر القديمة، وأنها ربما كانت موجودة
في
مدنيات أولى يفصلها عن زماننا هذا أبعد عهد يمكن أن يقدره التاريخ المعروف. وعرفنا أن
صور هذه المعتقدات قد انتقلت إلى كتب اليهود المقدسة؛ ومن ثَمَّ إلى الكنائس النصرانية
الأولى، التي عمل لاهوتيوها على تنمية هذه المعتقدات خلال العصور الوسطى، واحتفظوا بها
خلال العصور الحديثة.
غير أن هذه النظرية بينما كانت تنمو وتتطور بجهد سلسلة من عظماء الرجال الذين اتصفوا
برجاحة العقل ونبل المقصد على طول آلاف كثيرة من السنين، نشأ بجانبها تصوُّر آخر كان
يُناوِئُ هذه النظرية حينًا أو يختلط بها حينًا آخر. ذلك هو تصور أن الكائنات الحية،
كليًّا أو جزئيًّا، هي نتيجة نظام يبعث على النماء والتغاير، أو بالأحرى فكرة في تطور
الأحياء.
وهذه الفكرة قد تطورت في صور مختلفة جِد الاختلاف، وكانت ذات أثر كبير واضح في كل
الصور اللاهوتية والفلسفية التي نشأت خلال المدنيات القديمة على وجه التقريب. فإنك تجد
أنه قد انتشرت بين كل الشعوب القديمة، التي امتازت بقوة الفكر والتأمُّل، فكرة أنه
مطاوعة لحكم قوة قدسية، قد برزت الأرض من العماء الذي كان سُداه مياهًا متلاطمة، وأن
الأرض والبحر بدورهما قد ولدا الأحياء التي تغشاهما.
وتظهر هذه الفكرة بوضوح من الآثار الكلدانية البابلية التي قُرِئَتْ معمياتها في
العهد الأخير. وقد أشرنا إليها من قبل. وفيها نجد آثار عماء سداه المياه التي بلا
نهاية، وأن هذه المياه تحت تأثير قوة قدسية قد أنشأت الأرض وأحياءها وكانت حيوانات
الماء أسبق بالظهور على حيوانات الأرض التي تَلَتْ تلك في الظهور، وأن هذه كانت منقسمة
إلى ثلاثة أقسام كبرى، على نفس الطريقة التي قسمت بها حيوانات الأرض في الآثار
العبرانية. ونجد فوق هذا أن «الخالق الكلداني» قد أعلن في عدة مواضع من قصة الخلق
المنسوبة إليه أن خلقه «جميل» على نفس النمط الذي يَصِفُ به «الخالق العبراني» خلقه إذ
يصفه بأنه «حسن».
وفي كلتا الروايتين — الكلدانية والعبرانية — تجد قبة زرقاء صُلبة القوام مقعرة
الشكل. وفي كلتيهما تجد أن النور خُلِقَ أولًا، وأنه بعد ذلك علقت الأجرام السماوية
لتؤدي الإشارات القدسية وتشير إلى الفصول السنوية، وفيها تجد أن العدد «سبعة» قد خص
بالقداسة على صورة خاصة، وأن تقديس هذا العدد قد أدَّى إلى تكوين أقسام مقدسة في الوقت
وفي غيره من الاعتبارات الإنسانية.
أضف إلى ذلك أنه فضلًا عمَّا نجده في القصة العبرانية من الصور الذهنية التي تتفق
والأساطير الكلدانية، فإن قصة الخلق في كليهما — أي العبرانية والكلدانية — قد عقب
عليهما بأسطورة في «هبوط الإنسان» وفي «الطوفان»، تلك الأشياء التي نَجِدُ أن كثيرًا
من
تفاصيلها قد نقلت من الكلدانية إلى العبرانية بصورٍة قد حُورت بعض التحوير.
ولا جرم كانت تصبح معجزة حقيقية لو أن هذه التصوُّرات الأولية التي صبت في ذلك القالب
الشعري القوي خلال تلك المدنيات القديمة والتي نشأت على ضفاف الدجلة والفرات، لم يتأثر
بها العبرانيون على مدى تلك العصور التي خضعوا فيها لجيرانهم الكلدانيين، وعلى الأخص
إذا تذكرنا أنهم كانوا في ذلك العهد قد خَطَوْا في التدرُّج والارتقاء خُطُوات طويلة
ثابتة. ومنذ أن برزت إلى الوجود أبحاث لايارد وجورج سميث وأوبرت وشاردر وجنسن وسايس
والذين عاونوهم في تلك الأبحاث الطويلة، لم يبقَ مجال للشك في أن هذا التصوُّر القديم
في حقيقة الكون — والذي يمكن أن يكون قد تحور إن لم يكن قد نشأ في طيات تلك المدنيات
القديمة — قد أصبح للعبرانيين ميراثًا، فأخذوه ثم صبوه في صورة توحيدية مخلخلة الاتصال،
ثم أسبغوا عليه ثوبًا شعريًّا جعله كلًّا، هو لدى الواقع كنز من أثمن الكنوز التي وصلت
إلينا من مخلفات «الفكر القديم» حفظ بين دفتي سِفر التكوين.
وبينما كانت الفكرة في إبراز خلق مادي مصنوع بيد خالق وأصابعه أو صوته مبدأ لتكوين
مذهب لاهوتي بالغ التأثير، وبينما كان تيار هذا المذهب يندفق من جيل إلى جيل مستمدًّا
خلال كل جيل قوة من مجهودات آباء الكنيسة ودكاترة اللاهوت وقديسي الكنائس المبرزين في
علوم الدين، كاثوليك وبروتستانت، أخذ نهر ضئيل من نهيرات الفكر الإنساني ينساب بقوة قد
تخفى حينًا، وقد نستبينها أحيانًا، ناقلًا في طيات الفكر جيلًا بعد جيل، فكرة في أسلوب
من النشوء حاول أن يعلل بها الكون والمخلوقات.
أما المحترم الأستاذ سايس Rev. Prof. Sayce ذلك
الباحث الإنجليزي الذي لن نؤمن بأن من الباحثين في هذا الموضوع من يبزه سعة اطلِّاع أو
رصانة حكم، فقد أعلن معتقده في أن النظرية الكلدانية البابلية كانت بلا أقل شك النبع
الأوحد الذي استُقِيَتْ منه مقومات نظرية أخرى أخذ بها الفيلسوف الأيوني «أناكسمندر»
ونماها، ودافع عنها، وأن فلاسفة اليونان القدماء قد استمدوا هذه النظرية عن البابليين
من طريق أهل فينيقية. وكذلك قضى بأن هذا النبع عينه كان مستقًى نقلت زبدته في الروايات
التي قصت في كتبنا المقدسة. وبهذا الاعتقاد يؤمن كل علماء الآثار الآشورية من أهل
النصرانية.
والحقيقة أن تلك الروايات التي تُقَصُّ في كتبنا المقدسة تناقض إحداها الأخرى؛ ففي
ذلك الجزء من الرواية الأولى — أو الرواية الألوهية
٢٥ التي نعثر بها في الإصحاح الأول من سفر التكوين — نجد أن «المياه» أخرجت
الأسماك والحيوانات البحرية والطيور (تكوين ١ : ٢٠). غير أننا في الجزء الثاني المعروف
باسم «الرواية اليهووية»
٢٦ والتي نعثر عليها في الإصحاح الثاني من سِفر التكوين، نجد أن حيوانات
اليابسة والطيور قد خُلِقَتْ لا من «الماء» بل من الأرض (تكوين ٢ : ١٩).
إن المهارة الجدلية التي اتصف بها آباء الكنيسة قد استطاعت أن تستقوي على هذا التناقض
فتُؤِّوله تفسيرًا. غير أن تيار الفكر القديم — على الرغم من هذا، وقد عضدته هاتان
الأسطورتان — قد خدرهم فتنقل منسابًا في طيات العقول، عقول أقدر من أبرزت الكنيسة من
رجالها خلال القرون، ودمغ الفكرة اللاهوتية بدامغ واضح الأثر، ظل ظاهرًا في جبينها طوال
دهور؛ إذ وجهها إلى القول بنظرية ما في نشوء الكائنات.
بل كان هنالك نبع آخر فاض بالفكرات النشوئية. فإن المفكرين من أهل المدنيات الأولى،
تلك المدنيات التي اهتزت وربَت على ضفاف الأنهار في مناطق الأرض المعتدلة، قد لاحظوا
كيف أن «الإله الشمس» عندما كان يطَّلع على الأرض في قوته وجبروته، قد استطاع أن يولد
من الأرض صور الحياة الدنيا. ففي مصر على الأخص قد رأى الناس كيف أن طمي النيل — تحت
تأثير تلك العناية القدسية — قد أنشأ من «الدواب» الصغيرة ما لا عداد له. ومن هنا نشأ
المعتقد القديم في أن الحيوانات ومعه الإنسان قد خُلِقَتْ «في البدء» من المادة الميتة
بأمر العناية الإلهية، تلك الفكرة التي حلت محلها فكرة أن بعضًا من الحيوانات الصغيرة
—
وعلى الأخص الحشرات — قد نشأت فيما بعدُ بتطوُّر آخر؛ حيث استمدت على حسب النموذج
الخلقي الأولي من منابع متفرقة، ولكن على الأخص من مادة في حالة الانحلال.
وهذا المعتقد القديم على ما كان به من مظاهر التخلخل، قد ساعد على تفريخ جرثومة في
التطور أرقى من الجرثومة الأولى، أسلم بها إلى اليونانيين القدماء. فالفلاسفة أمثال
أنكسيمندر وإمبيذقليس وأناكساغوراس، وعلى رأس الجميع أرسطوطاليس — كما رأينا من قبل —
قد عمدوا إلى تنمية هذه الجراثيم القديمة، وقد شقوا الطريق إلى الحقائق حادسين تلك
الحقائق التي أيدتها من بعدُ المشاهدات. ولقد وصل أرسطوطاليس — بالمشاهدة حينًا والتأمل
حينًا آخر — إلى نتائج لو أن حرية الفكر اليونانية قد استمرت كما كانت؛ إذن لوصلت
الإنسانية منذ زمان بعيد إلى ما وصلت إليه الآن من حقائق علم البيولوجيا. فإنه قد وصل
إلى أعماق من الفكرة العلمية أدت به إلى القول بنشوء العضويات العليا تدرجًا من تصور
دنيا، وقال بذلك الفرض المنتج، فرض أن في الطبيعة «مبدأ يسوقها إلى الكمال».
فلما أربت فكرات اللاهوت النصراني، صُدَّ الميل الذي كان يحفز الباحثين إلى الوصول
إلى نظريات نشوئية أكثر صدقًا، عن الاستمرار في طريقه المرسوم. غير أن الفكرة القديمة
الناقصة في التطوُّر قد ظلت ثابتة. ومثالًا على ذلك نرجع إلى فكرة القديس «باسيل»
الكبير الذي عاش في القرن الرابع الميلادي. فإنه لما أراد أن يناقش روايات أعمال الخلق
قد أعلن بأمر من الله «قد خصت المياه بقوة إنتاجية، وأنه من الطمي والطين اللازب نشأت
الضفادع والهوام والبعوض؟»
ثم أشار في النهاية إلى أن ذلك «الصوت» نفسه الذي خَصَّ الأرض والمياه بتلك القوات
الإنتاجية، سَيَظَلُّ مختصًّا بهذه القوة ذاتها حتى نهاية العالم. وعلى هذه الفكرة —
أو
ما يشابهها — سار القديس غريغوري النياسي.
وهذه الفكرة التي استمكنت من عقلية آباء الكنيسة الشرقية العظام، قد أصبحت أشد
استمكانًا من عقلية الأبِ الأكبر للكنيسة الغربية؛ فإن القديس أوغسطين — على الرغم من
استمساكه بالنص الحرفي الذي صُبَّتْ فيه الكتب المقدسة — قد رجع عن مذهبه المعروف في
قَبول التنزيل بنصوصه كما هي، ورفض المعتقد السائد في أسلوب خلقي يشابه ذلك الأسلوب
الذي يتبعه صانع اللُّعَب التي يلهو بها الأطفال من عمل صندوق به مختلف الصور
والألاعيب. فقال في مقالته المعروفة «تعليقات على سِفر التكوين»: «إن الفرض بأن الله
قد
خلق الإنسان من التراب بيدين عضويتين لفكرة صبيانية. فإن الله لم يبرأ الإنسان لا بيدين
عضويتين، ولا بأن نفخ فيه ريحًا خرج من حلقومه أو من بين شفتيه.»
بعد هذا تجد أن القديس أوغسطين قد جنح إلى الاعتقاد بالنظرية التطورية القديمة التي
عُرِفَتْ بنظرية «الانبثاق» Emanation وهي التي تقول
بانبثاق جميع الأشياء من الله، فقال «بأن حيوانات صغيرة معروفة من الممكن ألا تكون قد
خُلِقَتْ في اليوم السادس من أيام الخلق، بل من المرجح أن تكون قد تأصَّلت بعد ذلك
اليوم من المواد المنحلَّة، مثبتًا أنه وإن كان هذا هو الواقع، فإن الله ولا شك يكون
خالقها، مستندًا إلى إمكان الخلق بالتبعية إلى حقيقة إيجاد المخلوقات بالفعل. ومن ثَمَّ
يتكلم في «الحيوانات التي برزت بعددها المقدر لها فيما بعد اليوم السادس من أيام
الخلق.»
وفي مقالته الكبرى في التثليث Trinity وهو مؤلَّف
أنفق فيه ثلاثين سنة من أطيب أيام عمره، نقع على هذه الفكرة في أجلى مظاهر نمائها. فإنه
في النهاية يعمد الى القول بفكرة أن خلق العضويات كان خاضعًا لأسلوب من النشوء Growth وأن الله هو المكوِّن الأول، ولكنه يعمل من طريق
أسباب ثانوية. ويختم القول في ذلك بأن موادَّ ما، قد خصها الله بقوة، تستطيع من طريقها
أن توجد صورًا خاصة من الحيوان والنبات.
وهذه الفكرة التي ترمي إلى إمكان نشوء الأحياء بوساطة أسباب ثانوية منفصلة عن أعمال
الخلق الأصلي، قد ساعدها على البقاء والنماء ضرورات لاهوتية لم يكُن عنها من محيص. فإنه
شيئًا فشيئًا وعلى مقدار ما كان يتسع مجال النظر في مخلوقات العالم العضوي، أصبح عدد
الحيوانات الدنيا والكائنات المجنحة والأشياء الزاحفة Creeping
Things مصدرًا
للشعور بعبء ثقيل ينوء على قصة الخلق المقدسة بكل ثقله. وشيئًا فشيئًا أخذ الشعور
يتحوَّل نحو إمكان التوفيق بين ما يقتضى لله القاهر من عظمة وكرامة، وبين عمله في خلق
هذه الكائنات الحقيرة وحشْرها أمام آدم ليسميها، وكذلك إمكان التوفيق بين مقدرة آدم
المحدودة بصفته الإنسانية وبين استطاعته أن يسمي «كل كائن حي» أو التوفيق بين اتِّساع
فلك نوح وبين ما يحتاج حملها من الفراغ الكبير، ومقدار الغذاء الضروري لتقويم حياتها
على مختلف ضروبه، سواء أكان ما حمل منها أزواجًا أو سبعات، كما ذكرت في موضعين مختلفين
من الكتاب المقدس.
ولقد كانت الفكرة في اتساع الفلك مصدرًا لكثير من الاضطرابات. فإن «أوريغن» قد عمد
لدى الكلام في ذلك إلى فرض أن الذراع Cubit كان ستة
أضعاف مقداره المعروف في عصره. وأبان «بيده» عن قدرة نوح ليبني مثل هذا الفُلك بأن فرض
أنه ظل يعمل في بنائه مائة من السنين. ولما أراد الكلام في مقدار الغذاء الذي كان من
الواجب أن يحمله فيه، أعلن أنه لم يكن هنالك من حاجة لأن يحمل معه من الغذاء إلا ما
يكفي يومًا واحدًا، ما دام أنه في قدرة الله أن يُلقي على الحيوانات سباتًا عميقًا، أو
أن يصنع بها غير ذلك من معجزة تجعل غذاءَ يوم واحدٍ كافيًا لحفظ حياتها، وكذلك حاول أن
يُخَفِّفَ ضغط الحقائق على الإيمان فخفض من عدد الحيوانات التي حملت في الفُلك، مستندًا
في ذلك إلى نظرية أوغسطين التي سبق شرحُها، من القول بنشوء الحشرات من المواد المتعفنة
والجيف.
وممَّا لا رِيبَةَ فيه أن هذه الضرورة اللاهوتية كانت من بين الأسباب ذات الخطر التي
حفزت القديس «إيزيدور الإشبيلي» في القرن السابع، أن يدمج هذه النظرية، مستعينًا
بالقديس باسيل والقديس أوغسطين، في مؤلَّفه الإنسيكلوبيذي الكبير الذي ظل في منتجع
الفكر ومرجع الطلاب في حقيقة الله والطبيعة أجيالًا عديدة. ولقد مهر هذا القديس، عالم
اللاهوت بمذهب الخلق بأن جعله أكثر ذيوعًا وانتشارًا بين المؤمنين؛ إذ قرَّبه إلى
الأذهان بأمثال ضربها فقال: «إن النحل إنما يَحْدُثُ من لحم الثور المنحل، والخنافس من
لحم الحصان، والجراد من البغال والعقارب من السراطين.» ومن أجل أن يؤيد هذا المذهب بقوة
جديدة تلوح معها مثل هذه الاستحالات العضوية في حَيِّزِ الإمكان، يعمد إلى الرواية التي
جاءت في الكتاب المقدس عن «نبوخذ نصر» Nebuchadenezzar
وهي رواية من الظاهر أنها كانت ذات أثر واضح في الفكر العلمي خلال العصور الوسطى،
معلنًا أن كثير من بني آدم قد استحالوا حيوانات فصاروا على الأخص خنازير أو ذئابًا أو
بومًا.
إن مذهب «المخلوقات البعدية» — أي المخلوقات التي ظهرت «بعد» اليوم السادس من أيام
الخلق — قد مضى يستجمع الأسانيد والقوى الفكرية من حوله، حتى إذا كان القرن الثاني عشر،
ظهر بطرس لومبارد في ملخصه اللاهوتي المسمى «الجُمَل» Sentences أبعد ما يكون اقتناعًا وقوة في تصوير الفكرة الكَنَسية،
مبينًا الفرق بين الحيوانات التي تنشأ من الجيف والحيوانات التي خُلِقَتْ من التراب
والماء؛ ليقول بعد ذلك بأن الحيوانات الأولى خُلِقَتْ «بالقوة»، وأما الثانية فخُلِقَتْ
«بالفعل»!
وفي القرن التالي تناول القديس «توماس أكويناس» هذه الفكرة وعلى يديه صبت في قالبها
الأخير. ففي كتابه المسمى Sumna Theologia الذي لا يزال
معتبرًا حتى الآن أثمن ما أخرج الكاتبون في العصور الوسطى، تراه يقبل مذهب أن صنوفًا
خاصة من الحيوانات قد تنشأ من أجسام منحلَّة نباتية وحيوانية، ويعلن في صراحة أنها إنما
تتكوَّن خضوعًا لكلمة الله، إما بالفعل وإما بالقوة. ثم يتوسع في هذه الفكرة مُثْبِتًا
«أنه ما من شيء خلقه الله بعد ستة الأيام الأولى من أيام الخلق فكان جديدًا بمعنى
الجِدَّة، بل لا بد من أن يكون مندمجًا في الأعمال التي تمت في تلك الستة أيام» وأنه
«حتى الأنواع الجديدة — إذا ظهر شيء منها — فلا بد من أن تكون قد وجدت في خصائص معينة،
كما تستحدث بعض الحيوانات من المواد المنحلة.»
على أنك تَجِدُ أن التفريق الحاصل بين الخلق بالفعل والخلق بالقوة، أو الخلق بالمادة
والخلق بالصورة، قد نمَّاها وكثرها أصحاب التعليقات من بعد ذلك. فقد قال «كورنليوس ألابيدا» Cornelius a Lapide إن بعض الحيوانات لم
تُخلَق «إطلاقًا» بل «بالاشتقاق». وبعد ثلاثة قرون أخذ «أوغسطينوس أيوغيبينوس» Augustinus Eugubinus هذه الفكرة
وتوسَّع فيها فقال بأنه بعد أن دعت القوة الخالقة الأرض والماء إلى الوجود، خلق الله
القادر الضوء، وهو الأداة التي استخدمت في كل ما تلا ذلك من أعمال الخلق، وأن الضوء دعا
من بعد ذلك كل الأشياء إلى الوجود فوُجِدَتْ.
هذا العلم — كما يُدعَى علمًا من طريق الخطأ — حتى بعد أن نمته أكبر العقول التي
ظهرت
بين جدران الكنيسة، على الرغم من أنه علم «عقيم»، كان إلى هذا الحد غير ضار على الأقل،
غير أنه كان في نظر اللاهوتيين ممن أقاموا أنفسهم حَفَظَةً على كنوز العلم الكنسي،
وكانوا ينددون بأقَلِّ انحراف عن الفكرة الأصلية المقدَّسَة، ذا خطرٍ عظيم؛ فقد ظهر لهم
أن هؤلاء إنما يذهبون بمذهب «الخلق البعدي»، بمقتضى الأسباب الثانوية إلى غايات كبيرة
الخطر. لهذا تجد في بداية القرن السابع عشر أن اليسوعي الإسباني المعروف «شوارز» Suarez وهو لاهوتي ذو شهرة كبيرة، قد رفض هذه الفكرة،
معلِنًا أن القديس أوغسطين «هرطوق»؛ لأنه أخذ بها وعضدها.
غير أنه لم يكن هناك من خطر على الفكرة القديمة حتى بعد أن بلغ الناس من التفكير هذا
المبلغ؛ فإن الميول اللاهوتية الأساسية كانت من القوة بحيث مضى الناس بها
مستمسكين.
وكان اللاهوت الإنجيلي لا يَنْفَكُّ عاملًا على نسج شبكته السحرية يجر خيوطها من
أمعائه الواسعة، فكان ذُبابُ اللاهوت يعلق بها أينما صادفته وأينما صادفها. غير أنك ترى
فوق ذلك أن من هنا ومن هناك حامَ من حول الشبكة مفكِّرون أقوياء الحجة ثابتو البديهة،
استطاعوا أن يحلوا أنفسهم من أغلالها، بل حلوا معهم أغلال غيرهم ممن كانوا قد تساقطوا
عليها.
في نهاية العصور الوسطى، وعلى الرغم من تشبُّث الكنيسة البروتستانتية بنص الكنيسة
المقدسة، خلقت نهضة الآداب والسياحات البحرية جوًّا جديدًا انتعش فيه الفكر وتقدَّم
خطوات واسعة من حيث النظر في مشكلات الطبيعة، فكان أقوم سبيلًا وأثبت قيلًا. فأينما
وليت وجهك وحيثما أدرت عينيك، بل وفي كل مجال، كنت ترى رجالات أفذاذًا قد وقفوا على
مستكشفات كان من شأنها أن تظهر المذاهب اللاهوتية، أقل مسايرةً للحقائق وأشد مناهضة
للواقع المحسوس.
إن أول ما يجدر بنا ذكره من أولئك الذين يجِب أن نخصهم بالاحترام والتبجيل، كمثال
لتلك الفئة التي أخذت تُحيِي تيار الفكرة الإغريقية، تلك الفكرة الفذة التي خلخلتها
وصدعت أركانها أساليب العلم التي استمدها من كتبنا المقدسة آباء الكنيسة خلال ألف كاملة
من السنين، هو ذلك الجهبذ النادر «جيوردانو برونو» Giordano
Bruno إن
أقواله كانت ولا شك غامضة مبهمة، بل لا نبالغ إذا قلنا إنها كانت ملغزة إلغازًا. غير
أن
هذا يمكن أن نتسامح فيه؛ لأنه بلا ريب كان يرى عن كثب ما سوف يُكافَأ به إن هو أعلن ما
أضمر، وصارح بما أَسَرَّ في نفسه. غير أن هذا لم يُفِدْهُ شيئًا، فنال على يَدِ الكنيسة
عقابه الأكبر، تلقاء أقواله المبهمة الملغوزة المشحونة بالأخطاء العلمية، فأُحْرِقَ
حيًّا وذُرِّيَتْ مع الريح بقاياه الترابية. على أنه جوزي في نهاية القرن التاسع عشر
خير الجزاء؛ إذ اجتمع لفيف من أكبر مفكري الأرض وأجمعوا أمرهم على أن يقيموا له تمثالًا
يُنصَب حيث أُقيمت المحرقة التي أُحْرِقَ عليها بأمر مجلس التفتيش الروماني، بعد أن مضى
على ذلك زُهاء ثلاثة قرون كاملة.
بعد موت «جيوردانو برونو» وفي خلال النصف الأول من القرن السابع عشر، ظهر «ديكارت»
ليرفع راية الإمامة في مجال الفكر الإنساني. فإن نظرياته — ولو أنها نقضت الآن — قد
حفزت العقول إلى البحث والاختبار بالمشاهدة إذ ذاك. فإن نبوغه قد ظهر في أجلى مظاهره
بتلك النظرية التطوُّرية الميكانيكية التي وضعها في تكوين النظام الشمسي، كما كان
أسلوبه التفكيري سببًا في أن يقوى تيار المذهب التطوُّري — النُّشُوئي — على وجهٍ عام.
غير أن الاضطهاد المستمر الذي ناله من الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية على
السواء، جعله يُلغِزُ أفكاره ألغازًا، بل حَمَلَه على أن يترك أكثرها جائلًا في ثنايا
نفسه من غير أن يجرؤ على المصارحة به. ولقد أُحرِق «برونو» عندما كان «ديكارت» في طول
الطفولة، ولما بلغ مبالغ الرجولة تعقب بانتباه معركة غاليليو، وتتبع حوادثها جملة
وتفصيلًا. ولقد رأى مؤلفاته تلعنها الجامعات واحدة تلو أخرى تحت تأثير اللاهوتيين، بل
رآها تُضم إلى الفهرست الروماني. وعلى الرغم من أنه زود الفكر الإنساني ببراهين قوية
يثبت من طريقها وجود الله، واضطر أن يمتهن نفسه إزاء اليسوعيين، فإنه لم يَسلم من اتهام
الكاثوليك والبروتستانت على السواء. حتى إنه من الحق أن نقول إنه منذ عصر «روجر باكون» Roger Bacon لم يمتهن اللاهوتيون مفكرًا كبيرًا
بقدر ما امتهنوا «ديكارت» بل إنهم استبدوا به وحقَّروه تحقيرًا.
وفي أواخر القرن ذاته ظهر المفكر الكبير ليبنتز Leibnitz وعلى الرغم من أنه لم يبشر بنظرية نشوئية كاملة، فإنه أعطى
الفكرة سندًا جديدًا بأن بث نظرية تُنَاوِئُ الاعتقاد المقدَّس في ثبات الأنواع، ذلك
الاعتقاد الذي كان يلزم المؤمنين بأن يؤمنوا تسليمًا بأن كل نوع في عالم الحيوان، إنما
تلابسه ذات الصورة التي خرج بها من يد الخالق. والتي سماه بها آدم، والتي فارق بها فُلك
نوح!
غير أن الكنيسة لم تتركه من غير أن تنزل به العقاب، فبعد سنين قلائلَ في سنة ١٧١٢
تمكن اليسوعيون من أن يُحبِطوا مشروعه في تكوين أكاديمية علمية في فيينا. وعلى الرغم
من
أن السلطات الإمبراطورية قد منحته أعلى درجات الشرف وحوَّطته بأقصى ما تستطيع من عناية،
فإن القساوسة وهم المتحكِّمون من فوق المنابر وفي نواميس الإيمان، لم يُمَكِّنُوهُ هو
والذين انتهجوا سبيله من طلاب العلم، من أن يكشفوا عن بعض الحقائق التي بثها الله في
ثنايا الطبيعة.
ولا يجدر بنا أن نُغفِلَ ذكر «سبينوزا وهيوم وكانت» بين الذين هم كان من المستطاع
أن
يكون لفكراتهم — ولو كانت خطأ — أثر في تنشئة نظريات جديدة أصدق برهانًا وأقوى أساسًا،
لو لم يفعم جو زمانهم بريح اللاهوت القاتل. غير أنه بعد أن مات «ليبنتز» ببضعة أعوام،
ظهر في فرنسا مفكر ممَّن اتخذوا علم الطبيعة مجالًا لجهدهم. على أنه لم يكُن من الشهرة
في المكانة التي نزلها أولئك الأعلام. غير أنه استطاع مع هذا أن يخطو بالعلم إلى الأمام
خطوة ثابتة.
ففي بداية القرن الثامن عشر ظهر «بنوا ده ميليه» Benoist de
Maillet، وهو رجل
دنيوي عرك الحياة وعرفها، وكان بجانب هذا واسع المشاهدة دقيق الملاحظة صادق الفكر عميقه
كثير الشغف بالطبيعة، فبدأ يتأمل في تأصُّل الصور الحيوانية على الأخص وكيفية نشوئها؛
حتى أدى به تأمُّله إلى فكرة تغاير الأنواع، ومن ثَمَّ إلى الاعتقاد بتطوُّرها على صورة
يصح أن يقال إنها من الأسس التي بُنِيَتْ عليها الفكرة الحديثة في النشوء. ولقد آمن
إيمانًا صادقًا مفروغًا منه، ولو أنه لم يكن بيِّنًا صريحًا في بعض المواطن، بأن
الأنواع الحالية مشتقات تحولت عن أنواع أخرى بتوالي التغاير الوصفي على أعضائها. ومن
البَيِّن فوق ذلك أنه قبل مبدأ من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها اليوم علم
الجيولوجيا؛ إذ آمن بأن تركيب الكرة الأرضية يجب أن يخضع في درسه للمؤثرات الطبيعية
التي تجري تحت أعين الباحثين في العصر الحاضر.
على أنه لم يلبَث غير قليل حتى وقع بين نارين. فكانت الأولى السلطات الكنسية: تتهمه
بأنه حر الرأي Freethinker وكانت الثانية سلطة
فولتير Voltaire الأدبية إذ رماه بأنه مغالٍ في
رأيه متعصب له، ولما شعر بأن الخطر الأكبر آتٍ من ناحية لاهوتيي الأورثوذكسية، حاول «ده
ميليه» أن يحمي نفسه من أذاهم بأن ينشر كتابه تحت اسم مستعار يرمز له رمزًا في الصفحة
الأولى، وبأن يجري في المقدمة والإهداء على قاعدة «التلاعب بالألفاظ» حتى إذا حاولت
السلطات اضطهادَه، استطاع أن يُعلِن أن الكتاب ليس بأكثر من هلاس خيالي. لهذا تجد أنه
أشار إلى أن الكتاب عبارة عن أشياء أفضى بها حكيم هندي إلى مبشر مسيحي. غير أن هذه
المناورة لم تُفِدْهُ شيئًا؛ فإنه جعل «الحكيم الهندي» يرجح أن أيام الخلق التي
ذُكِرَتْ في سِفر التكوين لم تكُن إلا عصورًا متطاولة ودهورًا متلاحقة. وهذه الفكرة —
مع غيرها من الفكرات التي لا تنزل عنها أثرًا من حيث التأثير في اللاهوت النصراني؛ —
كانت كافية لأن تعتبر مسممة للأفكار. وعلى هذا لم ينشر الكتاب قبل سنة ١٧٤٨، أي بعد موت
مؤلفه بثلاث سنوات، وكان قد طبع سنة ١٧٣٥.
وترى من جهة أخرى أن لاهوتية «فولتير» الإلحادية الإنكارية قد تحركت من مكمنها لتضرب
في أصول الفكرة الجديدة. فإن «ده ميليه» عندما رأى آثار الحفريات التي كشف عنها في رءوس
الجبال، قضى بأن وجودها دليل على أن هذه الجبال كانت يومًا من الأيام تحت سطح البحر.
ولما تراءى لفولتير أن في هذه الفكرة تأييدًا لطوفان نوح أخذ يهاجم المفكر الجديد ويهزأ
به بلا شفقة أو هوادة. ومن سوء الحظ أن بعض ما وقع فيه «ده ميليه» من الأخطاء، وما قال
به من احتمالات، فَتَحَتْ لفولتير المجال واسعًا وأفسحت له سبيل الاستهزاء والسخرية.
ولا مشاحَّة في أن «فولتير» لن يجد من مادة للسخرية أوسع مجالًا من نظرية قال بها «ده
ميليه» في جِدٍّ وصلابة، من أن أول إنسان وُجِدَ فوق سطح الأرض قد ولدته «مرمادة».
٢٧
ومن هاتين الصورتين اللاهوتيتين، صورة اللاهوت الأقدس ممثَّلًا في الكنيسة، واللاهوت
الإلحادي الكاذب ممثَّلًا في فولتير، لم يظهر «لده ميليه» من أثر أو يُعتَرَف له بفضل
إلا منذ عهد قريب، عندما قام رجالات العلم في فرنسا وإنجلترا ليُوفوه من التكريم حقه.
غير أنه على الرغم من كل هذا فإن مؤلَّفه لم يقض على أثره بتة حتى في حال حياته وبين
أبناء عصره؛ فإن «روبينيه» Robinet وبونيه Bonnet قد خطا كل منهما بالنظريات خطوات ثابتة، كانت
للعلم انتصارًا جديدًا.
في خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر قام في وجه هذا التيار المجيد سَدٌّ «منيع»
استجمع لَبِنَاتِهِ العلامة «لينيوس» Lineaus وكان
أبعد علماء الطبيعة في عهده صِيتًا وأكثرهم شهرة وأنفذهم نظرًا وأوسعهم اطِّلاعًا
ومشاهدة وأدقهم فكرًا. غير أن الجو الذي عاش وانتعش فيه، كان مسمَّمًا بفضلات اللاهوت
الإنجيلي، فكان له أكبر الأثر في تفكيره العلمي.
إن من يزور قبر «لينيوس» الآن، ميمِّمًا شطره من باب كاتدرائية أوبسالا الجنوبي،
يرى
منقوشًا فوق أحجاره تنويهًا بخرافة الخلق العبرانية؛ ففي سلسلة من الأطباق المنقوشة،
ترى الخالق في صورة بشرية يتم عمل كل يوم من أيام الخلق. وتراه في ترتيب العمل يضع
القبة الزرقاء الصُّلبة ومن فوقها المياه، ويثبت فيها الشمس والقمر والنجوم، ومن تحتها
السوائم والطيور والنباتات، ويُتِمُّ مهمته بأنه يخرج الرجل الآدمي من كثيب من الأرض
السفلى، والمرأة من أحد جنبيه. ومما لا شك فيه أن «لينيوس» عندما كان يذهب إلى الكنيسة
ليؤدي واجبه الديني، كان ينحرف قِيدَ أنملة عن الفكرة التي تتضمنها هذه الخرافة. وغالب
ما كان يُضطر إلى التسليم ببعض الأشياء، كلما يزداد ضغط الكوارث التي نزلت بالنظرية
الأورثوذكسية. على أنه عندما بلغ أواخر سِنِيه، بشَّر متهيِّبًا بنظرية أن أنواع كل جنس
من أجناس الأحياء كانت في بَدءِ الخليقة نوعًا واحدًا. بل إنه في الطبعة الأخيرة من
كتابه «النظام الطبيعي» Systema Naturae قد انصرف عن
الزعم الأورثوذكسي من القول بثبات الأنواع، بعد أن كان قد تشبَّث به كل تشبُّث في
مؤلفاته الأولى. غير أنه لم يعلن عن ذلك صراحة وجلاء. أما ما كان ينتظر من جزاء فيها
لو
صارح بنظرية جديدة ينميها ويشفعها بالبراهين، فقد ساقت إليه مقدمات معروفة نتائجها. فإن
التحذيرات — مصبوبة في قالب التهديد — قد تناوحت من حوله تحملها رياح البروتستانت
والكثلكة.
في الوقت الذي مضى فيه رعاة الكنيسة القديمة يقرظون الفَجَرة الخلعاء من الأمراء
أمثال «لويس الخامس عشر» ويكيلون لهم الثناء جُزَافًا، متَّبِعين تلك الأساليب السفيهة
الساقطة المرذولة التي اختطَّ خطتها اليسوعي «سانشيز» Sanches في تعليم الكهنة والقساوسة كيفية علاقة الرجل بالمرأة من
ناحية جنسيته، ارتاعت الكنيسة كل ارتياع، بل اهتزت سلطاتها فزعًا ورعبًا عندما برهن
«لينيوس» على حقيقة النظام التناسلي في النباتات؛ حتى لقد حُظِرَ نشر كتاباته في
الولايات البابوية سنوات عديدة. كما حُرِّمَتْ على القراء في كثير من بقاع أخرى في
أوروبا كانت لا تزال السلطة الكهنوتية فيها من القوة، بحيث تستطيع أن تُجبِر الناس على
مثل هذا الحرمان، وأن تقف حائلًا في وجه التيار العلمي الحديث. ولقد ظل الحال على هذا
المنوال إلى سنة ١٧٧٣ عندما قام كردينال واسع العقل بعض الشيء، وهو الكردينال
«زنلاندا» Zenlanda فنجح في الحصول على أمر يبيح
للأستاذ «ميناسي» Minasi أن يلقي دروسًا في نظام
«لينيوس» النباتي في روما.
ولم تكن البروتستانتية أقل عسفًا أو أهون استبدادًا. ففي خطاب إلى «إلوويس» Elouis يذكر «لينيوس» مدى الاحتقار الذي وُجِّهَ إلى
العلم على يد الأسقف «سفيد برج» Svedberg أحد رعاة
الكنيسة اللوثرية العِظام، وقد وصل إلى أكاديمية العلوم الملكية تقارير عديدة، وفي
أنحاء مختلفة من أوروبا مؤادها أن المياه قد انقلبت إلى دماء. وأن رجال الكهنوت الذين
هم «يعلمون» والذين هم «يعنون ما يقولون قد رأوا في هذه الظاهرة دلالة على غضب «الله»
على البقاع التي حدثت فيها هذه الخوارق بالذات، كما يجوز أن تكون علامة على غضبه على
النوع البشري في مجموعه. ولقد حدثت مثل هذه «الخارقة» في أسوج فامتحنها «لينيوس»، ووجد
أن السبب في احمرار الماء راجع إلى تكاثُر نوع من الجيوينات فيه. ولما وصل إلى الأسقف
أن «لينيوس» قد علَّل احمرار الماء بهذه الطريقة؛ جاهره بالعداء واقتحم الميدان، فقال
في هذا الاستكشاف العلمي إنه «غمرة شيطانية» Abyssum
Satanae وأعلن «أن احمرار الماء غير راجع إلى سبب طبيعي» وأن
«الله عندما يسمح بحدوث مثل هذه المعجزة يحاول الشيطان متخذًا من أعوانه البعيدين عن
الله المعتمدين على أنفسهم، المكتفين بقواهم العقلية، وسائل تظهر معها المعجزة كأنها
لا
شيء» ولقد اضطر «لينيوس» أمام هذه الجملة الشنيعة إلى النكوص والتقهقر. فذكر لأحد الذين
كاتبوه «أنه من الصعب أن يصارح بشيء إزاء هذا الأمر» مستخفيًا وراء القول «بأنها لمعجزة
أن تنشأ ملايين عديدة من الجيوينات فجأة وفي أقصر زمان» وأن هذه المعجزة إنما «تظهرنا
بلا أقل شك، على القدرة العاقلة البالغة التي يختص بها الله الذي لا يحد بزمان ولا
مكان.»
وكان الطبيعي الكبير قد طعن في السن وأنهكته الجهود التي بذلها في سبيل العلم، فلم
يَقْوَ على أن يقاوم تيار اللاهوت الذي انساب في عصره، فاستنام مطيعًا لقوته. وبينما
كان التغير الظاهر الذي استولى على كل ما كان يراه من فكرة أورثوذكسية في أول حياته،
وقد تسلل في هوادة وسكون إلى الصيغة الأخيرة من كتابه العظيم كما رأينا، فإنه لم يبذل
جهدًا محاولًا أن يطبع العالم بطابع فكرته التي استخلصها من جهاده العلمي الطويل. وظل
متظاهرًا بأنه من أنصار الفكرة القائلة بأن كل الأنواع الحية قد خلقها الله القادر على
كل شيء في البدء، وأنه منذ «البدء» لم تظهر أنواع جديدة على إطلاق من القول.
غير أن نفوذه العلمي العظيم لم يقِف الاستكشاف العلمي. فقد ازداد عدد الأنواع
المستكشَفة يومًا بعد يوم. وكذلك أخذت الحقائق المستكشَفة في علم الاستيطان التوزيع الجغرافي Geographical Distribution تصبح شيئًا بعد
شيء غير مفهومة بل بعيدة عن بديهة العقل لدى تطبيقها على النظرية القديمة، كما أن
العقول قد اتَّجهت وهنًا على وهن نحو الاعتقاد بأن الكون والعضويات الحية قد وجدت
خضوعًا لنظام بعيد عن فكرة الخلق المستقل — في البدء — حتى لقد أصبح سؤال العلم الأوحد:
«بأية وسيلة وُجِدت الأشياء؟»
ولم يكن في القرن الخامس عشر كله من رجل اشتغل بالتاريخ الطبيعي، بحيث كان من المنتظر
أن تنتج جهوده نتاجًا يمكن به الإجابة على هذا السؤال سوى «بافون» Baffon الفرنساوي، فقد خص بقدرٍ كبير من موهبة القدرة على البحث
وعمق التفكير، وكانت كفايته على استظهار نتائج أبحاثه واستعماقه الذهني، من أكبر
الدلائل على عبقريته. ولقد استضاء فكره بنظرية التطور بتغاير الأنواع، وكان المنتظر أن
يخطو بها خطوات ذات بال. غير أنه لم يَصِلْ إلى هذا الحد حتى أدركه نفوذ اللاهوت، فشعر
بقوته الثقيلة تنوء على كاهله.
ولقد رحبت الكنيسة بأبحاثه طالما كانت مقتصرة على وصف الأحياء، ولكنه لم يَكَدْ يدلف
من الوصف إلى استنتاج حقائق ذات قيمة فلسفية، حتى انفجرت عليه بطاريات السوربون
اللاهوتية، معلنة له أن «الكنوز المقدسة التي عهد بها إلى الكنيسة» تنص «على أنه في
البدء خلق الله السماوات والأرض»، وأن كل «الأشياء قد خُلِقَتْ من بدء صنع الدنيا»، ومن
أجل تلك الاستعراضات العلمية البُدائية التي تُعَدُّ اليوم من الحقائق المتداولة، قد
اضطر «بافون» — خضوعًا لسلطان الكنيسة — أن يعتذر عنها علنًا وأن ينشر اعتذاره مطبوعًا
على الناس. ولقد قال في اعتذاره: «أعلن إقلاعي عن كل ما جاء في كتابي خاصًّا بتكوين
الأرض، وجملة عن كل ما جاء به مخالفًا لقصة موسى.»
غير أن كل هذه الانتصارات التي حازتها الأساطير الكلدانية البابلية، والتي ورثتها
الكنيسة النصرانية باللقاح، لم تُغْنِ إلا قليلًا.
ففي أواخر القرن الثامن عشر بدأت تلوح في أفق الفكر تقريرات، كلا بل شروح وافية جلية
في هذه الناحية أو تلك، من نظرية نشوئية كبرى، تناولتها العقول بالبحث والتقرير آنًا
بعد آنٍ، ومن جهات تختلف أمزجتها جهد الاختلاف، بل تتباين كل التباين. على أننا نخص
بالذكر من تلك الشروح والتقريرات ما أظهره «إراسموس داروين» Erasmus
Darwin في
إنجلترا. وموبرتوي Maupertuis في فرنسا، وأوكن Oken في سويسرا وهردر Herder، وعلى الأخص «جوته» Goethe في
ألمانيا لما اتصفت به تقريراته من الطلاوة والقوة.
على أننا نذكر من بين هؤلاء الأفذاذ رجلين يجب أن نوجِّه إليهما عناية خاصة، وهما
تريفيرانوس Treviranus في ألمانيا، ولامارك Lamarck في فرنسا؛ فإن كلًّا منهما مستقلًا عن الآخر،
قد جر العالم من هذه السبيل إلى حدود لم يبلغها مَن قبلهما.
ففي سنة ١٨٠٢ أخرج «تريفيرانوس» كتابَه في علم البيولوجيا وبث فيه فكرة أنه من صور
الحياة التي كانت في البداية بسيطة، قد نشأت كل النظامات العضوية الراقية متطورة
تدريجيًّا. وأن كل المخلوقات الحية فيها قدرة على قَبُولِ التهذيبات الوصفية التي تقع
على تراكيبها بفعل المؤثِّرَات الخارجية، وأن أي نوع من الأنواع المنقرضة لم يصبح
منقرضًا بالفعل، بل لا بد من أن يكون كل منها قد تطور فصار نوعًا آخر، كذلك أخرج
«لامارك» كتابه «الأبحاث»
Researches وبعد قليل كتابه
الكبير «فلسفة الحيوان»
Zoological Philosophy الذي
أدخل على نظرية النشوء عاملًا جديدًا، هو عامل فعل الحيوان ذاته؛ إذ يجاهد في سبيل أن
«يتطور» ليرضي بذلك حاجات جديدة تظهر في أفقه وبيئته، وأثبت في النهاية هذه النتائج:
- أولًا: أن الحياة تعمد إلى زيادة الحجم في كل جسم حي وفي كل أعضائه حتى يبلغ
من النماء الحد الذي تتطلبه حاجاتها.
- ثانيًا: أن الحاجات المستحدثة في الحيوانات تنشئ أعضاء جديدة.
- ثالثًا: أن نماء هذه الأعضاء يكون دائمًا بنسبة استعمالها.
- رابعًا: أن صور النشوء المستجدة في الحيوانات تنتقل إلى الأعقاب.
ولقد كانت أمثاله التي ضربها للتدليل على صحة مذهبه، كاستطالة عنق الزرافة باحتياجها
جيلًا بعد جيل إلى ارتعاء أوراق الأشجار العالية، واستطالة أرجل الكنغر الخلفية وقوتها
راجعة إلى احتياجه إلى الوثب. مثالًا للسخرية والاستهزاء. غير أن ما قوبلت به تدليلاته
هذه من السخرية كان سببًا في تعلُّق آثارها بالأذهان وتنطبع فيها.
على أن في المثلين اللذين أتينا عليهما، ولو أنهما ناقصين غير كاملين قد كونت حقائق
جدية، حقائق كان من المؤكد أن تنمو وتؤتي أكلها.
فإن ما أعلن عنه «لامارك»، وعلى الأخص قوله إن نشوء الأعضاء ونماءها إنما يكون بنسبة
استعمالها، وإشاراته التي وجه فيها القول إلى انتقال الصفات المكتسبة أو المفقودة من
الآباء إلى الأعقاب، كانت قوة كبرى عملت على تنشئة نظرية النشوء وتدعيم أسسها.
وكان «حفرو سانتيلير» Geoffroy st. Hilaire أكبر من
تبع «لامارك» من رواد هذه النظرية. ففي سنة ١٧٩٥ وضع نظرية أن الأنواع عبارة عن سلسلة
من التطورات المتتابعة واقعة على صورة أصلية Type أو
مثال أصلي. ولقد عمل على تنشئة هذه النظرية وتنميتها متدرجًا فيها على مر الزمن وبمقتضى
ما كان يكشف له من أسرار الطبيعة. ولقد كان من نصيبه أن يواجه في سبيلها عقبات شديدة
عاتية. وأن يخوض في سبيلها معارك مُمِضَّة مضنية سنين طوالًا.
أما الرجل الذي خاض المعركة في عصر «سانتيلير» فكان مرماه العلم، ولكنه خدم اللاهوت
لا عن قصد ولا عن شعور، فكان «كوفييه» أكبر الفوسيقيين في عهده، وحجة علماء الطبيعة في
عصره. وكان شهرته العلمية عن جدارة واستحقاق. ولقد ضفت عليه الألقاب العلمية من وطنه
ومن غير وطنه. فكان يحملها بحق وبوزن لا تطفيف فيه. فكان من رجال الحاشية الملكية في
عصر نابليون، ورئيس مجلس المعارف العمومية، ورئيس الجامعة في عصر البوربون بعد رجوعهم
إلى عرش فرنسا، وحامل لوسام اللوجيون دونور، ونبيل من نبلاء فرنسا، ووزير للداخلية،
ورئيس لمجلس الدولة في عصر لويس فيليب. ولقد حاز شهرة في كل مركز من هذه المراكز، ومع
كل ما حازه من مراقي الشرف باعتلائه هذه المناصب الإدارية. لم يكن شيئًا مذكورًا بجانب
ما عُقِدَ له من لواء الزعامة في عالم العلم الطبيعي. ولقد اعترف له «العلم» في كل
أنحاء الدنيا بأنه مالك زمامه وحامل لوائه، ولهذا الشرف الكبير عاش اسمه، وبحقٍّ سوف
يعيش. غير أنه كانت تكمُن في تضاعيف نفسه وفي تلافيف دماغه، كما كمنت في نفس لينيوس
جراثيم جعلته ينظر في الكون من ناحية تصوُّر لاهوتي بذاته في أصل الخليقة وتخطيط
تصاميمها الأولى. غير أن هنالك اعتبارات ذات بالٍ جعلته يقاوم النظرية الجديدة ويشدد
عليها الخناق بقوة. منها أن أخلاقه قد تكوَّنَت على أن يكون شاكًّا إزاء كل نظرية جديدة
في العلم لكثرة ما رأى في حياته من ولادة النظريات واستشبابها ثم موتها. ومنها بيئته
كعمدة من عمد الحكومة حاز الشرف ونال الحب والاحترام، بل عبده الأعظمون، وقدسه
الأنبغون، لا من رجال الحكومة وحدهم، بل من رجال الكنيسة أيضًا. ومنها حيدته وبعده عن
المجادلات العنيفة رغبة منه في أن يتحامى المعارك الشديدة التي كان لا بد من أن تحتدم
نارها ويتلظَّى سعيرها إذا قاوم العلم الكنيسة عِيانًا وبادرها بالعداء جهارًا. وعلى
الأخص بعد أن وقعت أوروبا في يد الكنيسة لقمة سائغة باردة بعد الثورة الفرنساوية
الكبرى، وجعلت من أعدائها موطئًا لقدميها؛ لهذا تراه قد ناوأ في جلبة المدائح التي أفاض
بها عليه أعاظم رجال الكنيسة، بكل سلطته العلمية ونفوذه، على نظرية النشوء مؤيدًا
النظرية القديمة، نظرية النكبات الجيولوجية، وما يتبعها من مذهب الخلق المستقل.
غير أن «جفردي سانتيلير» قاومه بمرارة وحرارة، محتملًا في سبيل ذلك كل ضروب الإنكار
وسوء المعاملة والسخرية. في حين أن «تريفيرانوس» بعيدًا في حجرة محاضراته الرياضية في
مدينة «بريمان» كان نسيًا منسيًّا.
ذلك في حين أن تيار الفكرة النشوئية ظل منسابًا جاريًا، ولم تستقوِ هذه الوسائل على
صدره والوقوف في سبيله. نعم إن مجرى الفكرة قد انتابته بعض الصعاب زمانًا ما، غير أن
الفكرة تحوَّلت في مجارٍ أخرى وفي طرق وأمكنة لم يكُن من المحتمل أن تتمشى فيها. فإن
هذه الفكرة كما بدأت في فرنسا ظهرت في إنجلترا على الأخص، حيث ظهرت سلسلة كون وحداتها
رجال من عظماء الحفريين والجيولوجيين، حتى انتهت بظهور الجليل شارلس ميل
Lyell ونهض الإخصائيون في أنحاء الدنيا فاستجمعوا
بجِدٍّ وجلد ومثابرة كثيرًا من الحقائق وقارنوها بعضها ببعض وفكروا فيها أعمق تفكير
متبعين طرقًا أخذت بعدها نظرية الخلق المستقبل تتوارَى وتتراجع شيئًا بعد شيء، ولما
اتسعت تلك النهيرات الفكرية واستقوت على شق طريقها في أرض الفكرة القديمة، لم تلبث إلا
قليلًا حتى تجمعت في ملتقًى واحد؛ لتكون نهرًا عظيمًا من الفكر أخذ يفيض ويتدفق بصور
التجديد الفكري والابتكارات الاستكشافية.
ففي سنة ١٨١٣ أذاع دكتور ويلز Dr. Wells الإنجليزي
نظريته في النشوء بالانتخاب الطبيعي؛ ليُعَلِّلَ بذلك ظهور السلالات المتغايرة في النوع
البشري وحوالي سنة ١٨٢٠ أذاع الأسقف
هربرت Sean Herbert — وكان من الثقاة المعدودين في علم زراعة الحدائق — معتقدَه في
أن الأنواع ليست سوى تنوُّعات ثابتة؛ أي غير ماضية في سبيل التغاير. كذلك تجد العلَّامة
«باتريك ماتيوز» Patrick Mathews قد قر رأيُه على
صحة مذهب الانتخاب الطبيعي في إحداث صور النشوء. في حين أن غير هؤلاء — سواء في أوروبا
أم أمريكا — قد ألمعوا إلى هذه النظرية إلماعًا ونظروا فيها إلمامًا.
غير أن هذه الفكرة لم يتأثر بها أحد ممَّن هم خارج دائرتها، وعلى الأخص إذا تذكرنا
أن
أفراد هذه الحلقة لم يكُن لهم تأثير ظاهر. وكانت الكنيسة هادئة ساكنة؛ ذلك لأنها كانت
باسطة نفوذَها الرجعي في القارة الأوروبية على الأبلطة الملكية وعلى الوزراء وعلى
الجامعات. وكان الأسقف «كوكبرن» Cockburn يقاوم رافضًا
نظريات «ماري سومافيل» Mary Somerville والجيولوجيين،
بين تهليل رجال الكنيسة وتصفيقهم. بينما كان المحترم «مليور براون» يفعل نفس الفعل،
مختطًّا ذات الخطة؛ ليشذب من قيادة المنشقِّين على الكنيسة.
أما في أمريكا فقد قوبلت تقريرات «سيليمان» Silliman
وأتباعه بمعارضة لاهوتيي «أندوفر» وعلى رأسهم موسى
ستيورات Moses Stuart، وليس في هذا من الغرابة بقدر ما في موقف الجامعات
الإنجليزية؛ فإنها على إطلاق القول لم تُعِرْ هؤلاء المجددين العظام أي الثقات. اللهم
إلا ليكونوا موضع سخرية أو ازدراء.
في سنة ١٨٤٤ لقح تيار هذه الفكرة بعنصر جديد عندما أخرج «روبرت شامبرس» Robert Chambers كتابه آثار الخلق Versiges of
creation كان في
الكتاب من الجاذبية وخفة الروح ما جذب إليه أنظار عديد وافر من القراء. فعم انتشاره
وذاع صيته. وكان من رأي مؤلِّفه أن سلائل المخلوقات الحية المتعددة من أبسطها وأقدمها
إلى أرقاها وأحدثها نتيجة مؤثِرِين مستقلين بثَّهما الخالق الأول وآخر مرة في تضاعيف
الطبيعة. فكأن المؤثر الأول عبارة عن قوة بثت في جبلة صور الحياة تدفعها إلى التدرُّج
في الارتقاء حالًا بعد حال. أما المؤثر الثاني فقوة تعمد دائمًا إلى تهذيب العضويات بما
يجعلها تلائم ظروف الحالات الخارجية. والمحصل أن محور الكتاب قد دار حول فكرة في النشوء
مصبوغة بصِبغة الإعجاز، أو هي تجويز لبسط أعمال الخلق خلال كل الأزمان. وإن شئت فقُل
تعبير ديني عن مذهب لامارك.
وكان من ذلك نتيجتان: لقيت الأُولَى رُوحًا من الفزع والخوف، وحركت الثانية نزعة
البحث الجِدي؛ فإن الأولى ظهرت بأجلى مظاهرها في خوف اللاهوتيين وفزعهم من الكتاب. فقد
علت الصيحة في جانبهم في حرارة وجد بأن الكتاب يساعد على ترويج الإلحاد وإنكار وجود
الله. على أننا إذا رجعنا إلى نهج الفكرة والسبيل الذي تمشَّت فيها العقول منذ ذلك
الحين حتى اليوم وما نشأ فيها من تطورات، لشعرنا بأنه كان من واجب قدماء أهل اللاهوت
أن
يُصَلُّوا إلى الله طاعةً وشكرًا على ظهور كتاب «شامبرس»، وأنهم كانوا أجدر بأن يضرعوا
إلى الله عسى أن يكون ما فيه صحيحًا. أما النتيجة الثانية فانحصرت في أن الكتاب قد هيأ
القول بقبول معتقد النشوء، باعتبار أن النشوء في صورة أو وضع ما ممكن على الأقل. وعندي
أن هذا الكتاب لم يكُن له قيمة عملية واقعية سوى في هذه الناحية وحدها.
بعد هذا العهد بثماني سنوات نشر العلَّامة الفيلسوف هربرت سبنسر مقالة قارن فيها بين
نظريات الخلق المستقل ونظريات النشوء، مؤيدًا بكثيرٍ من البراهين الراجحة القوية
النظرية الأخيرة، مُظهِرًا بما لا يحتمل الشك أن الأنواع لا بد من أن تكون قد تهذَّبت
وصفًا بتأثير ظروف الحالات. غير أن ما في هذه الثمرات الشَّهِيَّة من قوة وجاذبية لم
يدرك أهميتها إلا قليل من الأفذاذ. تلك الثمرات التي ظلت تتَّجه نحو النضج ببطء خلال
سنوات عديدة.
في الأول من شهر يولية سنة ١٨٥٨ قُرئ أمام جماعة لينيوس Lennaean
Society خطبتان: الأولى
لشارلس داروين والثانية لألفرد روسيل وولاس، وبقراءة هاتين الخطبتين، ولدت نظرية النشوء
بالانتخاب الطبيعي. وبهما فتحت ثغرة واسعة في حصن اللاهوت الآخذ بمذهب ثبات الأنواع على
صورها الحالية منذ بدء الخليقة.
أما تاريخ هذه المدوَّنات العلمية فإن أهل العصر الحديث يحفظونها عن ظهر قلب. فكيف
أن
شارلس داروين كان قد ألحق بجامعة كمبردج ليخرج في سلك الكهنوت الإنغليكاني، ثم تركها
ليلتحق في سنة ١٨٣١ يبعث حول الأرض فوق ظهر «البيجل»، وكيف أنه ظل سنوات خمسًا مكبًّا
على الدرس والتحصيل منقبًا في أدق مشاكل علم الحياة ومستعصياته كما ظهرت له آثارها فوق
الأرض وفي البحار، بين البراكين والجزائر المرجانية، في الغابات ومن فوق الرمال، وفي
الأقطار الاستوائية إلى البقاع المتجمدة، وكيف أنه في جزر رأس فيردوالغلاباغوس وفي
البرازيل وباتاغونيا وأستراليا، استطاع أن يسائل الطبيعة وأن يستدر وحي أسرارها بقوة
في
الفكر واستعماق في النظر لم يبزه فيهما عالم من قبلُ، وكيف أنه عاد إلى إنجلترا غير
معروف ولا مذكور بلسان، بل عكف هادئًا وادعًا مكبًّا على عمله، ثم سرعان ما وجَّه أنظار
العالم كله إلى التفكير في أمر مباحثه التي بثها في كتبه مثل كتاب جزائر المرجان Reifs Coral، ومقالته في الحيوانات السلكية الأرجل Cirripedes وكيف أنه في النهاية عرض مخطوطته
التي حاول فيها أن يكشف عن سر الأسرار في أصل الأنواع، وكيف أتبع ذلك بمقالاتٍ عديدة
رفعته إلى مصافِّ كبار الرواد في تاريخ الفكر الإنساني. كل هذه الحقائق ذائع أمرها
مذكورة غير منسية من طلاب العلم وأهل التاريخ.
ولقد أخذ عالم العلم يحقق شيئًا فشيئًا القوى الخلقية العظيمة التي أظهرها داروين
في
كل دور من أدوار حياته. فموهبة القدرة على الصمت والسكون، وتلك القوة العظمى التي
أظهرها في الاحتفاظ بفكرته الكبيرة — فكرة النشوء بالانتخاب الطبيعي — مستعرضًا إياها
في جو من الدرس الهادئ العميق والتأمُّل الواسع المستفيض — خلال حقبة من الزمان لا يقل
مداها عن العشرين عامًا على وجه التقريب — فلم يشر إليها بإشارة ولم يبشر بها للعالم
ولو تلميحًا، بل جال في كل مجال من العلم ليستجمع الأدلة والبراهين، إما لها أو عليها،
وليحصل على أكبر مجموعة في المادة العلمية التي تُمَكِّنُهُ من حل المشكلات التي عرضت
له. عامة؛ لذا حقق لدى العلماء ما كان لداروين من قوة الخلق وصلابة الأعضاء.
ولم يُفْشِ فكرته تلك إلا لرجل واحد؛ إذ باح بها للدكتور «يوسف هوكر» Joseph Hooker، فقد قدم له سرًّا في سنة ١٨٤٤
ملخصًا بالنتائج التي وصل إليها ومضى على ذلك أربعة عشر عامًا حتى سنحت الفرصة التي
أوحت إليه بأن زمان الإفصاح عن فكرته قد آن، وذلك بعد أن وصل خطاب من ألفرد روسيل وولاس Alfred Russell Waliace، وكان قد وصل بعد
أبحاث مبتكرة مستفيضة خلال عقد كامل من الزمان — ١٨٤٨ إلى ١٨٥٨ — قضاه متنقلًا بين بلاد
البرازيل وأرخبيل الملايو، إلى نفس الفكرة في النشوء بالانتخاب الطبيعي. ومن بين
البراهين الناصعة على أن الدرس العلمي لن يضر بشيء في مختلف صور العواطف الإنسانية، تلك
القصة العجيبة التي يرويها تاريخ العلم عن ذلك الخطاب الذي أرسل به «وولاس» لإنجلترا.
فقد أرسل «وولاس» مع هذا الخطاب مذكرة «لداروين» وسأله أنه يعرضها على جمعية لينيوس
العلمية. فلما استوعبها «داروين» وجد أن «وولاس» قد وصل مستقلًّا عنه إلى نتائج تقرب
من
النتائج التي وصل إليها. ومعنى هذا أنه كاد يحرمه من كل صيت علمي ظل يعمل له عشرين
عامًا طوالًا. غير أن داروين كان وفيًّا لصديقه كما ظل صديقه وفيًّا له فيما بعدُ وعلى
طول الأيام. فلم يتردد في أن ينشر مذكرة «وولاس» مشفوعة بالنتائج التي وصل إليها. وكان
تاريخ نشر هذه الوثائق — أول يولية سنة ١٨٥٨ — فاصلًا بين عصرين تاريخيين، لا في العلم
الطبيعي وحده بل في الفكر الإنساني برمته.
وفي السنة التالية — ١٨٥٩ — صدر الجزء الأول من مؤلَّفاته النشوئية كاملًا؛ إذ أصدر
كتابه «أصل الأنواع» The Origin Of Species، وفي هذا
الكتاب استطاع داروين أن يكشف على الأقل عن سِرٍّ واحد من أسرار النظام النشوئي الذي
كلَّت دون الإفصاح عنه جهود الباحثين والفلاسفة منذ عصر أرسطوطاليس؛ فإن مؤثر النشوء
الميكانيكي قد أفصح عنه خلال هذا الكتاب بثلاث حقائق دائمة التأثير في طبائع الكائنات
الحية. في التناحُر على البقاء بين العضويات، وفي بقاء الأصلح، وفي الوراثة. ولقد
استعرضت هذه الحقائق في قالب دقيق من البحث والتنقيب زكته قوة الملاحظة والصبر والأمانة
وصحة الحكم والقدرة على التمييز، فلم يمضِ على نشرها عهد قصير حتى استلفتت أنظار العالم
كله. وحسبك أنها نتيجة عمل ظل متواصلًا ثلاثين عامًا طِوالًا. وثمرة لتفكير نابغة من
النوابغ الذين قَلَّمَا يجود الدهر بأمثالهم. كلا بل كان أكثر من هذا. كان نتاجًا لجهد
رجل نابغة آخر عاش منذ خمسين سنة مضت قبل ظهور «أصل الأنواع» هو «توماس روبرت ملتوس».
فإن كتابه في «مبادئ الإحصاء وزيادة عدد السكان» الذي بناه على قاعدة أن الحيوانات إنما
تتزايد بنسبة رياضية. وأنها إذا لم يقِف سبيل زيادتها عاملًا من العوامل، فإنها تسد
فضاء الأرض بما وسع، كان قد نسي وترك أمره، بل كان يشار إليه بهزة كتِف أو ابتسامة
سخرية. غير أن نبوغ «داروين» قد استخلص منه معنى أعمق وفكرة أدق، وبجهده اشتركت فكرة
«ملتوس» في دفع التيار بأقصى ما جرى تيار من الفكر في كل العصور. فإن «داروين» لما أخذ
يتأمل في نظرية «ملتوس» ليطبِّقها على ملاحظاته ومشاهداته الطبيعية مع ما رأى من خصب
الطبيعة في إنتاج الأحياء؛ استطاع أن يصل إلى نظريته في الانتخاب الطبيعي وبقاء
الأصلح.
لما أن تصدع السد المذهبي الكبير الذي كان قائمًا بين وجهتي النظر القديمة والحديثة
تلقاء أصل الكون ونظامه، مد فيضان الفكر وعلَا فوق شواطئ الدنيا برمتها، فأحيا كثيرًا
من النباتات في كل حقل من حقول الفكر والاستنتاج العقلي؛ لهذا توالت طبعات الكتاب،
وتُرجم إلى اليابانية
٢٨ حتى لقد لاحظ العالم أن تحجُّرَ الفكر العلمي الذي نعاه المؤلف الكبير
«بوكل»
Bouckle منذ سنوات. قد اختفى متنحيًا من
الميدان ليحل محله نشاط فكري قبل أن أثمرت صورة من صور النشاط التي انتابت الفكر
الإنساني بمثل ما أثر في كل العصور. فإن مجموعات من الحقائق العلمية التي استجمعت على
مر الزمان، وظن من قبلُ بأنها عقيمة ولا فائدة منها، قد أُحيِيت وانتعشت، بل إن حقائق
ثابتة لم يعرف لها العلماء معنًى أو فائدة، قد فسرت وعرفت معانيها الصحيحة من معجم
الطبيعة. وتحت هذا التأثير الجديد هَبَّ فريق كامل من شباب المتعلِّمين واحتل كل منهم
ناحية من نواحي البحث الطبيعي وافقت مشربه ولاءمت هواه. وظهرت على إثر ذلك الكتب
المبتكَرة الناضجة، دبجتها أقلام رجال من مختلف الأمم. وحسبُك أن تعرف أن مؤلفيها كانوا
من أمثال سبنسر وولاس وهكسلي وغالتون وتندول وتيلور ولابوك وبيجهوت ولوويس في إنجلترا.
وفئة من أكبر كُتَّاب ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وأمريكا؛ فإنهم جميعًا قد أصبحوا
بمؤلَّفاتهم التي أخرجوها من كبار الثقات في كل فرع من فروع علم الحياة. على أن فئة من
شيوخ علماء فرنسا قد ظلوا مستمسكين بالفكرة القديمة متأثرين بما كان لكوفييه من سلطة
ونفوذ. غير أن هذا لم يُعِقْ شباب فرنسا عن أن يقتحم أفراده السبيل إلى عالم النور
والعرفان.
إن مصدرًا واحدًا من مصادر المعارضة لا يجب علينا إهمال أَمْرِهِ هنا؛ ذلك لأن هذا
المصدر مثله لويس أغاسيز Louis Agassiz.
كان أغاسيز من كبار الباحثين، ومعلمًا أوحي إليه بالعلم وأوحاه، وكان فوق ذلك رجلًا
نبيل النفس عالي الهمة، تلقى نظرية في الخلق العضوي وأخذ يلقيها ويلقنها، فلم يكن في
مستطاعه أن يتبدل منها بنظرية أخرى طواعيةً وبين عشية وضحاها. وظل عقله وقلبه جو تلك
الإبرشية السويسرية التي ولد فيها، وكانت ميوله الدينية وآدابه على ما كان فيهما من
جمال وروعة، قد جرحتها ونالت من عزتها شطحات بعض المتحمسين لنظرية النشوء ممن لا اختصاص
لهم بها؛ إذ كانوا يجهرون بأشياء كانت بطبيعتها ضد الدين، كما حملت بذورًا من الفكر
ظهرت لأول وهلة كأنها على نقيض شريعة الآداب. أضف إلى ذلك الاتجاه العقلي الذي ورثه عن
«كوفييه»؛ فإن هذين التأثيرين معًا قد اتحدا وتعاونا ليكونا سببًا في أن يرفض «أغاسيز»
الفكرة الجديدة في النشوء.
وكان «أغاسيز» ثالث ثلاثة من العظماء الذين أقاموا السد في وجه نظرية النشوء وأحكموا
بناءه بعد أن أقاموا من دعائمه. كان أولهم «لينيوس» في النصف الثاني من القرن الثامن
عشر، وثانيتهم «كوفييه» في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كما احتل «أغاسيز» مركز
سلفيه في النصف الأخير من ذلك القرن. على أن كلًّا من هؤلاء لا يزال يُذكر حتى الآن
ولقب العظمة والنبوع يتبع اسمه أينما يذكر. غير أنهم لم يستطيعوا مع ذلك أن يصدوا
التيار أو يحولوا مجراه. فإن الجهود التي بذلها «أغاسيز» في أمريكا على عظمتها والجهود
التي بذلها في أوروبا نفسها، كانت لدى الواقع سببًا في الترويج لمذهب النشوء، فمن دار
العاديات الطبيعية التي أنشأها في كمبردج ومن مدرسته التي أسسها في «بنكيز» Penikese، ومن قاعة محاضراته في جامعة «هارفارد»
وجامعة «كورنل» كان يخرج تلاميذه وأنصاره، وقد أفعم قلوبهم الحب والإعجاب بأستاذهم
الكبير، ومُلِئُوا حماسة للعلم يحرك أصولها في أنفسهم نحو الميادين التي يريد لهم أن
يرتادوها. غير أن قواهم التي عمل «أغاسيز» على تنبيهها وتعزيزها، قد انصرفت كلها إلى
تزكية الحقيقة التي عجز عن الاعتراف بها والترويج لها بكل طريق مستطاع. فإن شايلر
ومرفيل وباكاررد وهارت وويلدر وجوردان ولفيف غيرهم — وعلى الأخص ابنه الذي تشرف بأن
يحمل اسمه — قد أنصفوه كل إنصاف ومجَّدوا ذكراه كل تمجيد، بأن استخدموا كل ما تلقَّوْا
عنه من علم، إلى البحث مؤتمِّين بالوحي الجديد الذي هبطت عليهم به نظرية النشوء
الحديثة.
على أنه لا يجدر بنا أن نهمل ذكر رجل آخر ننصف؛ إذ نخصه بالتبجيل والاحترام، هو
«إدوارد لفنستون
يومانز» Edward Livingstone Yomuans؛ فإنه على الأرجح أول باحث في أمريكا أدرك ما للحقائق الجديدة
التي بشَّر بها داروين وزميلاه وولاس وسبنسر من خطر وكبير أثر. ولقد اعتنق هذه الحقائق
مضحيًا في سبيلها كل أمل له في نهجه الذي كان بدأه كمحاضر، مستهديًا بهدي هؤلاء الزعماء
الثلاثة رافعًا رايتهم، مكبًّا على الكتابة والنشر، معلنًا عن الحقائق الجديدة، مدافعًا
عنها بكل ما استطاع من قوة.
ولقد أيدت المذهب الجديد طائفة كبيرة من الحقائق الثابتة، كان أكبرها شأنًا ما كشف
«لداروين عنه في تلقيح بعض أنواع النباتات وما استمد من مبادئ علم الأمبريولوجيا —
تكوين الأجنة — وتبع هذه مجموعة من الاستكشافات التي وصل إليها وولاس وباتسن وهكسلي
ومارش وكوب وليدي وهيكل وموللر وجودري وغيرهم من النابهين في أقطار الأرض.
(٤) جهد اللاهوت الأخير
كان مثل كتاب «داروين» — أصل الأنواع — إزاء عالم اللاهوت، كمثل محراث صادَف قرية
من
قرى النحل في أرض مُرمِلة، فكنت ترى في كل مكان أولئك الذين صحوا من نومهم الهادئ
العميق قد تهافتوا جماعات أخذها الغضب وفعل بها الاضطراب. بالمجلات والمواعظ الدينية
والكتب كبيرة وصغيرة، أخذت تنهال على المفكر الجديد من كل جانب انهيالًا وتترامى عليه
تراميًا.
أما رحى اللاهوت فقد حملها توًّا ومن غير توانٍ مستر «ويلبر فورس» أسقف أوكسفورد،
وظهر بها على صفحات مجلة الكوارتارلي. فقد أعلن أن «داروين» قد أجرم أشنع جرم بأن «حاول
أن يحدد مجد الله في فعل الخلق» وأن «مبدأ الانتخاب الطبيعي لا يتفق بحالٍ من الأحوال
مع كلمة الله» وأنه «يناقض العلاقات المنزلة التي ربطت بين الخلق وخالقه» وأن هذه
النظرية «لا تتفق وما يقتضيه كمال المجد الإلهي»، وأنها نظرية في الطبيعة تحقر القائل
بها، وأن هنالك تعليل أبسط وأكثر بداهة يمكن أن يعلل به وجود تلك الصورة العضوية
الغريبة القائمة بين أعمال الله.»
أما ذلك التعليل فينحصر «في هبوط آدم»، ولم تقِف جهود الأسقف الكبير عند هذا الحد.
ففي اجتماع الجمعية البريطانية لتقدم العلوم زج الأسقف بنفسه في ذلك التيار الشديد.
ولما أشار إلى آراء «داروين» — وكان غائبًا عن الاجتماع لمرضه — حمد لنفسه في خطبة
ألقاها أنه ليس منحدرًا من القردة، فرد عليه هكسلي المعروف بقوله: «لو خُيِّرْتُ لفضلت
أن أكون من نساء قرد دنيء النسب، على أن يكون أبي رجلًا من البشر يستخدم معلوماته
ومعارفه وقوته الخطابية في تحقير أولئك الذين يُفنون أعمارهم الطيبة في سبيل البحث عن
الحقيقة.»
ولقد دَوَّتْ هذه القذيفة في أنحاء إنجلترا دويًّا تناقلته عنها أجواء البلاد
الأخرى.
على أن أقوال «ولبرقورس» وكان معدودًا من أنبه رعاة الكنيسة الإنغليكانية، قد تلقتها
الكنيسة الكاثوليكية الإنجليزية وجاوبت عليها بصوتٍ آخر. ففي خطاب ألقاه الكردينال
«ماننج» Manning أمام أعضاء «الأكاديميا» Acodemia، وكانت قد تكونت لمحاربة ما يدعى
«العلم» Science هوجم المذهب الطبيعي الجديد ورمي
بالتجديف ووصف بأنه «فلسفة وحشية إذ تقضي عقلًا بأن لا إله، وأن القرد هو أبونا
آدم.»
إن هذه الهجمات التي قامت بها مصادر اشتهرت في عالم اللاهوت ونبَه صيتها في جو
الكنيسة قد صبغت الفكر الكهنوتي بصبغةٍ ما بضع سنين. فقد ذهب كاتب كهنوتي معروف على
الرغم من السنوات الثلاثين التي أنفقها «داروين» في عمله الهادئ المستمر، وعلى الرغم
من
تلخيص أصل الأنواع تلخيصًا بلغ منتهى القوة والمتانة، إلى القول في إحدى مجادلاته؛ لكان
أجدر بداروين أن يكون أكثر نهى بأن يزودونا ببعض الأسباب الأولية التي تحملنا على نبذ
المذهب الذي يعتنقه الجميع.
ولديك لاهوتي آخر مشهور وكان نائبًا لرئيس معهد أسس لمحاربة «العلوم» المضرة أو
«الخطرة»، قد أعلن بأن مذهب داروين «محاولة يقصد بها إنزال الله عن عرشه.» وذكر ناقد
آخر أولئك الذين تقبلوا مذهب داروين وآمنوا بصحته بأنهم كمثل الذين وقعوا تحت تأثير وحي
جنوني أوحى إليهم به من استشم غازًا وبائيًّا كريهًا، كما قال في براهين داروين: إنها
«غابة ملتفَّة من فروض خيالية»، وتكلم آخر في مذهب داروين بأنه يفرض أن الله «قد مات»،
وأعلن أن مؤلفات داروين إنما تفتح باب الاضطراب في كل شيء من الأشياء التي أظهرها لنا
الله في كتبه المقدسة عن وسائلها ونتائجها في عمله. وقال ثقة آخر من رجال اللاهوت بأنه
إذا كان مذهب داروين صحيحًا؛ إذن فسِفر التكوين كذب، وبه ينهدم ذلك الهيكل العظيم الذي
نستقرئ آياته في كتاب الحياة ويتحطم تحطيمًا، ويصبح وحي الله للإنسان — كما نعرفه نحن
أبناء النصرانية — عبارة عن سخرية وخيال.
وقال آخر ممن أظهر صفات فذة أهلت به به لأن يكون من مستقرئي أسرار الطبيعة بأن المذهب
الدارويني «دعوى باطلة من أولها …»
ومن جو أمريكا ترددت الأصداء. فقد قالت مجلة من أكثر مجالات الفئات الدينية انتشارًا
في أمريكا: إن داروين «يحاول أن يزيد الإشكال ظلامًا على ظلامه.» ورفضت أخرى فكرات
داروين باعتبار أنها «خيانة» وعدم «أمانة». وأعلنت المجلة التي تمثل فرع الكنيسة
الإنغليكانية بعد أن أوسعت «داروين» تسفيهًا وتحقيرًا أن مذهبه «سفسطة وبعد عن المنطق.»
ومن ثَمَّ دلفت بقدمها في مناقشة خطرة قالت فيها: إذا صحت هذه النظرية الفرضية فهل تكون
الأناجيل خيالًا لا يمكن تصديقه؟ وهل ظَلَّ النصارى أكثر من ألفي سنة غارقين في لجات
يَمٍّ عميق من الكذب الفاضح؟ إن داروين يريدنا أن نكذب كلمة الخالق الأولى.
وحاولت جريدة أخرى تابعة لنفس هذا الفرع من أفرع الكنيسة أن تثبت أن نظرية النشوء
مناقشة للنصوص الصريحة التي أُعلِنَت في العهد الجديد، كما أنها تناقض نصوص العهد
القديم، ثم قالت: إذا كُنَّا جميعًا أناسي وقرودًا، أصدافًا وبزاة، قد نشأنا من جرثومة
أصلية واحدة فهل يمكن أن يكون تصريح القديس بولس العظيم من أن الأجسام مختلفة، وأن
أجسام الآدميين نوع غير أجسام البهائم والوحوش وهذين غير أجسام الأسماك والطيور؛ غير
صحيح؟
وارتفع صدًى آخر من أستراليا، حيث نشر الدكتور «بري» Dr.
Perry كبير أساقفة ملبورن كتابًا هو أشد الكتب مضاضة وأكثرها
مرارة عنوانه «العلم والإنجيل» أعلن فيه أن الغرض الأول الذي يرمي له شامبرس وداروين
وهكسلي، هو أن يزرعوا في قرائهم بذرة إنكار الإنجيل وعدم الاعتراف به.
وهل يمكن أن تظل فروع الكنيسة القديمة من خلف هذه الجلبة ساكنة هادئة؟ كلا، فقد صرح
«بيمان» Bayman في مجلة «عالم الكثلكة» قائلًا:
«لنا الحق في أن نعتقد أن داروين ليس إلا بوقًا ينطق عن تلك الفئة الكافرة المجدِّفة
التي ليس لها من غرض إلا أن تذهب بكل فكرة في حقيقة وجود الله.»
ومن الأشياء التي لا يجِب علينا أن نهمل الإشارة إليها لخطورتها في إظهار مقدار ما
بيت عليه الجانب اللاهوتي في ذلك العهد، كان تأسيس معاهد العلم القدسي التي هيئت
لمحاربة الفكرات الجديدة. ومن أولى هذه المؤسسات «الأكاديميا» Acodemia التي وضع تصميمها الكردينال «ويزمان» Wiseman، فقد نشر الكردينال رسالة دورية، وكان في العادة رصينًا
عادلًا، أنذر فيها الناس وختمها بقوله: «والآن يكون من واجب الكنيسة التي تملك وحدها
دون غيرها الحقيقة القدسية، أن ترأس بلا تردُّد ولا مواناة حركةً فعلية تقادم بها ما
تهدد بقايا أجزاء المعتقد النصراني في إنجلترا.» ولقد حصل على الإذن اللازم من «روما»
وأسست الأكاديميا وظهر «الحصافة القدسية» التي خصت بها الكنيسة في أقوال صدرت عنها،
كتلك الأقوال التي قذف بها الكردينال «ماننج» Manning،
والتي يَوَدُّ كل كاثوليكي مفكر أن يعيدها إلى ذكراه، وفي مماحكات الدكتور «لينج» Dr. Laing، وكلها أقوال لم تُثِرْ إلا ابتسامات
السخرية والازدراء. ولقد ظهرت في النواحي البروتستانتية جهود مشابهة لهذه. فقد تأسس
«معهد
فكتوريا» The Victoria
Institute ولا يبعد أن يكون أهم عمل صدر عنه هو ذلك النداء الذي أذاعه
نائب رئيسه المحترم
«وولتر متشل» Rev. Walter
Mitchell، وفيه قال: «إن المذهب الدارويني يحاول أن يخلع الله عن
عرشه.»
أما في فرنسا فإن الحملة كانت على الأرجح أشد وأقسى. فقد أخرج «فابر دنفيو» Fabre D’Envieu مدافع اللاهوت الفخمة من ثكناتها
القديمة، وفي سلسلة طويلة من الفروض المستفيضة قضى بأن كل نظرية غير نظرية ثبات الأنواع
وعدم تغايرها، إنما تناقض نص الكتب المقدسة مناقضة تامة صريحة. أما «ديسبورج» وكان من
قبل أستاذًا للاهوت قد دمغ داروين بطابع فقال: إنه «مُدَّعٍ» ونعت نظرية النشوء بأنها
«مظلمة معتمة». أما المونسنيور سيغور Segur فلما أشار
إلى «داروين» وأتباعه فقد أخذته الهستيريا فقال: «إن هذه المذاهب المرذولة لا يؤيدها
إلا أحط النزعات وأسفل المشاعر. فأبوها الكبر وأمها قذارة النفس وهذان لا يلدان إلا
الثورات. مذاهب ما خرجت إلا من جهنم ولن تعود إلا إليها، ومعها المخلوقات الغليظة التي
لا تعلوها حمرة الخجل عندما تعلن تلك المذاهب وتدافع عنها.»
أما في ألمانيا فإن الحملة إن كانت أقل إسفافًا فإنها لم تكن أقل شدة. فقد تكاتف
اللاهوتيون من كاثوليك وبروتستانت وعملوا معًا. فأعلن الدكتور «ميخيليس» Dr. Michelis أن نظرية داروين «صورة كاريكاتورية للخلق، وأكد
دكتور «هاجرمان» Dr. Hagermann» أنها «نفت الخالق
وطردته خارج الأبواب»، وصمم دكتور «شند» Dr. Schund
على القول بأن «كل فكرة في الكتب المقدسة من أول صفحة إلى آخر صفحة فيها، تناقض نظرية
داروين على خط مستقيم.» وأنه إذا كان داروين محقًّا في قوله بنشوء الإنسان من صورة
حيوانية منحطة، فلا شك في أن تعاليم الإنجيل في خلق الإنسان تتبدد وتذهب سدى.» ودعا
«روجمون» Rougemont في سويسرا إلى القيام بحرب
صليبية تعلن ضد هذا المذهب الخاطئ المفسد. أما «لوتاردت» Luthardt أستاذ اللاهوت في ليبزج فقد أعلن «بأن فكرة الخلق ملك
للدين لا للعلم الطبيعي. وأن الهيكل الأعلى للدين الذاتي إنما يقوم على مذهب الخلق.»
ثم
أظهر من بعد ذلك أن نظرية النشوء تناقض الحكمة القدسية مناقضة تامة.
غير أنه حدث في سنة ١٨٦٣ ما أوقع الاضطراب في معسكر اللاهوتيين. فإن سير «شارلز ليل»
Lyell أشهر جيولوجيي عصره غير منازع، وكان رجلًا
ذا ميول ومشاعر دينية رسيسة، على ما امتاز به من خلق الحذر والحيطة وعلى ما عارض به
نظرية «لامارك» النشوئية، وعلى ما أعلن عنه من انتمائه علميًّا إلى نظرية الخلق
والمتعاقب، قد أصدر إذ ذاك كتابه «قدم
الإنسان»
Antiquity of Man فأظهر فيه وفي غيره من الكتابات أنه من أنصار «داروين»
المؤيدين لنظريته المتابعين لمذهبه، مكرهًا لا مختارًا. وكانت هذه الضربة قاسية في كثير
من النواحي، وعلى الأخص في ناحيتين:
- الأولى: في أنها نقضت في الحقيقة كل أساس كانت تقوم عليه التأريخات
القدسية.
- والثانية: في أنها أنقصت الثقة بنظرية الخلق. بل كانت ضربة غير منتظرة ولا
محسوب حسابها. ففي كثير من المطالعات التي تناول بها اللاهوتيون نظرية
«داروين» فزع إلى «ليل» وبعض الأحايين في أسلوب يدعو إلى الإشفاق، «بأن
لا يرجع عن الحقائق التي أعلن عن اقتناعه بها من قبل.» غير أن «ليل» قد
سمت به أمانته إلى حيث أذعن بغير تحفظ إلى مجموعة البراهين الجديدة
التي أيدت نظرية النشوء قد نظرية الخلق.
وفي الوقت ذاته صدر كتاب هكسلي «مركز الإنسان في
الطبيعة» Man’s Place
in Nature، فأورد فيه كثيرًا من البراهين الثابتة القوية التي تؤيد
نظرية النشوء بالانتخاب الطبيعي.
وفي سنة ١٨٧١ نشر كتاب داروين «تسلسل الإنسان».
أما المذهب الذي ذهب إليه داروين في كتابه هذا فقد سبقه به غيره من النقاد الذين
تناولوا كتبه الأولى، غير أنه فضلًا عن هذا قد أحدث صُدُورُهُ رجَّة عظمى، تجمعت على
أثرها فلول الجيش المعارض، ولكنه لم يتزود بمثل ما تزود به من حرارة فيما مضى. على أن
البعض كان قاسيًا؛ فإن «مجلة جامعة
دبلين» The Dublin University
Magazine مُتَّبِعَةً الطريقة القديمة، قد اتهمت «داروين» بأنه يبحث كيف
يخلع الله عن عرشه بفعل مستمد من سورة الأوهام، وأنه يحاول أن يقتنص الله خارج العلم.
غير أن أخطر ما جاء عن الكنيسة القديمة كان ما رد به على داروين الحكيم الكاثوليكي
المعروف دكتور «قسطنطين
جيمس» Dr. Constantn
James الفرنساوي؛ ففي كتابه «الداروينزم أو الإنسان القرد» الذي نشر
في باريس سنة ١٨٧٧ لم يسفه دكتور قسطنطين العلامة «داروين» علميًّا، بل قذف كتابه بكل
أنواع الاحتقار ناعتًا إياه بأنه «أسطورة»، وظهر مقتنعًا بأن كتابًا كهذا بلغ ذلك
المبلغ من «الخيالية والانحطاط» لا يمكن أن يكون أكثر من أضحوكة كبرى مثل كتاب أراسموس
المسمَّى «مدح الجنون»، أو كتاب «مونتسكيو» المسمى «خطابات فارسية». ولقد اغتبط أمراء
الكنيسة، فقد أكَّد الكردينال أسقف باريس للمؤلف بأن الكتاب أضحى «مقرأته الروحانية»
ورجاه أن يرسل نسخة من الكتاب للبابا نفسه. ولقد رد قداسة البابا بيوس التاسع بخطاب
مُنَمَّقٍ على المؤلف مادحًا الهدية، بل وشكر لابنه المحبوب «أي المؤلف» كتابه الذي نقض
فيه بلباقة الزيغ «الدارويني»، ولقد أضاف قداسته إلى ذلك قوله: «إن مذهبًا يناقض
التاريخ من ناحية وتقاليد كل الأمم والعلم الصحيح والحقائق المرئية، بل والعقل نفسه من
أخرى لا يكون محتاجًا إلى نقض أو رفض، لولا أن الجنوح إلى الخروج على الله والنزعة إلى
المادية، التي لا سبب لها إلا الجهل، تمت دائمًا إلى هذا النسيج الخرافي محاولة أن
تستمد منه عونًا … على أن الخيلاء بعد أن رفضت الاعتقاد بالله موجد كل الأشياء، وبعد
أن
أعلنت على الملأ أن الإنسان مستقل، مهيبة به في أن يكون هو بذاته سيد ذاته، وأن يكون
هو
بذاته قسيس نفسه، وأنه يكون هو بذاته إله ذاته. إن الخيلاء بعد كل هذا قد خطت خطوات
أخرى حتى بلغت حدًّا عنده جردت فيه الإنسانية وأنزلته منزلة السوائم غير العاقلة، بل
ربما نزلت به إلى درك المادة الميتة؛ وبذلك حققت — على غير وعي منها — القول القدسي:
«حيثما تكون الخيلاء تكون الوقاحة.»
غير أن فساد هذا العصر ومحاولات الفسقة وطرائقهم، وخطر الغفلة البسطاء، كل هذه
الأشياء تتطلب أن تنقض أمثال هذه الأوهام، ولو أنها مضادة للعقل بالعلم الصحيح، ما دامت
هي تتقنع بقناع العلم، وبعد ذلك شكر البابا دكتور جيمس على كتابه قائلًا: «إن الحاجة
إليه كانت شديدة، وإنه من أَمَسِّ الأشياء لحاجات عصرنا هذا.» ثم منحه من بعد ذلك
البركة الرسولية. غير أن الأمر لم ينتهِ عند هذه «البراءة» فقد صحبتها أخرى إذ منح
المؤلف رتبة من سيامة القديس «سلفستر» البابوية. أما الكردينال أسقف باريس فقد أكَّد
للمؤلف بأن أحدًا غيره لم يَفُزْ بمثل هذا العطف البابوي، واقترح عليه أن ينظر في طبعة
أخرى نظرة أعمق في «العلاقة الكائنة بين قصص سِفر التكوين ومستكشفات العلم الحديث، على
طريقة يمكن بها إقناع أشد الناس إنكارًا بألَّا تناقض بينهما»، وكذلك لم يقف المؤلف عند
هذا الحد بل تطلع إلى ما هو أعلى. فإن تجاريب الطبعة الثانية عرضت كلها على فخامة
الكردينال، ثم ظهر الكتاب في سنة ١٨٨٢ تحت عنوان «موسى وداروين: رجل التكوين مقارنًا
بالرجل القردي. أو التربية الدينية إزاء التربية الإلحادية». ولا عجب بعد ذلك إذا عانق
الكردينال المؤلف شاكرًا إياه باسم العلم والدين معًا، قائلًا: «لقد حصلنا أخيرًا على
كتيب نستطيع أن نضعه بين أيدي الشبان آمنين.»
وفي الغالب أن حماة البروتستنتية من المحافظين لم يكونوا أقل حماسة وتطرُّفًا، فقد
جاء في خطاب ألقاه مستر غلادستون في ليفربول ما يلي:
على القواعد التي يبثها المذهب المسمى بمذهب النشوء، يتخلص الله من كل متاعب
الخلق، وباسم القوانين الطبيعية الثابتة أخرج من يده حكم الدنيا. ولما نبهه
مستر «هربرت سبنسر» إلى حقيقة أن «نيوتن» بنظريته في الجاذبية ومبادئه في علم
الفلك الطبيعي مُعَرَّضٌ لنفس هذه التهمة، تراجع مستر غلادستون في مجلة
«الكونتمبوراري» مختفيًا وراء سُحُبٍ كثيفة من الكلمات كما هي عادته في
المناقشات. أما المحترم دكتور «كولز» في «المجلة الإنجيلية لإنجلترا والخارج»،
فقد أعلن أن «إله» النشوء ليس هو بنفسه «إله» النصرانية. كذلك كانت خطبة مستر
«برجون» Burgon أسقف شيستر في موعظة
ألقاها في جامعة أكسفورد. فقد حذر الطلاب في استعطاف قائلًا: «إن الذين يحاولون
رفض الاعتقاد بصحة تاريخ خلق أبوينا الأولين، كما هو منصوص عليه حرفيًّا في
الكتب المقدسة؛ ليستبدلوا بها خيال النشوء الموهوم، إنما هم في ضلال.» ولقد
اقتحم دكتور «بيوزي» Puoey
المعركة مُهيبًا بالناس في جِدٍّ وأمانة أن
يرفضوا الأخذ بالمذهب الجديد، وكذلك المحترم «جافن كارليل» Garvin Carlyle، فإنه تبع نفس السبيل وانضم إلى ذات الحزب.
وطبعت جماعة تقدم
المعركة النصرانية Society of Promoting: Christian Knwledge كتابًا ألفه المحترم مستر «بركس» Briks أعلن فيه أن مذهب التطور «مضاد أولًا
وآخرًا للمعتقد الأساسي في الخلق».
أما «اللندن تيمس» فقد ذكرت في مراجعة نشرتها عن كتاب تسلسل الإنسان أنه
«عبارة عن نظرية وهمية مملوءة بقضايا لا أساس لها وأبحاث لعينة وتأملات لا تحدث
إلا التفكك في ألفة العقل»، وأن داروين نفسه ليس إلا رجلًا «كافرًا جاهلًا
بالعلوم».
ولكن لوحظ أن سلسلة الهجمات الثانية التي وجهت إلى كتاب «تسلسل الإنسان» قد اختلفت
في
اعتبار واحد ذي خطر — وذلك بقدر ما يهم إنجلترا — من تلك الهجمات التي وُجِّهَتْ من
قبلُ إلى كتاب «أصل الأنواع». فبينما كانت كل المساعي التي بذلت قد وجهت إلى إقلال
الثقة بداروين، وإلى صَبِّ أنواع الاحتقار والسخرية عليه، وإلى إظهاره بمظهر «المهاجم
للنظرية المضطهد لها»، وهو بعد أكبر من كانت تقل الأرض في أيامه من رجال النبوغ
والعبقرية مصروفة إلى العلم، هذا بينما كان أنصاره يصورون في الأقلام بصورة المنافقين
المكابرين — بينما كان هذا مفعمًا جو الجلاد الفكري — كنت ترى أن نصراء القديم كانوا
قد
تنكبوا القول بأن النشوء حتى على قاعدة الانتخاب التي قال بها داروين، مناقض لنص
التنزيل. ولقد كان انتصار «سيرليل» للنشوء سببًا في أن يثير التساؤل بين اللاهوتيين
الذين احتفظوا بشيء من التوازن العقلي في رءوسهم قائلين: ماذا يكون لو أن مذهب داروين
قد ثبتت صحته علميًّا؟ على أن ذكريات تلك المواقف التي وقفتها الكنيسة بعد أن ثبتت صحة
المذاهب التي استكشفها كوبرنيكوس وغاليليو، قد عادت إلى أذهان الذين هم أصفى عقلًا
وأقوم طريقة. غير أن هذا الاعتبار لم تظهر في ألمانيا آثاره سريعًا كما ظهرت في
إنجلترا. فإن أحد مشهوري رجال الكنيسة اللوثريين في «مجدبرج» مثلًا قد أهاب بسامعيه أن
يوازنوا مختارين بين داروين والدين. أما «ديلتش» Delitszch فقد حاول في تعليقات حديثة كان قد وضعها على سِفر التكوين،
أن يرجع بالعلم خطوات واسعة معترفًا بأن خطيئة الإنسان عامل من عوامل الخلق الأساسية.
أما الأستاذ «هنريش
إيوالد» Prof. Heinrich
Ewald فبعد أن حاول التخلص من كل اصطدام يمكن أن يحصل بين
التعاليم المبتذَلة وبين مذهب النشوء؛ قد أرضى ضميره
بأن أنزل بداروين وأتباعه كل صنوف الاحتقار والتحقير. وكذلك «كريستليب» Christlieb فإنه في خطابه الذي ألقاه أمام الجمعية
الإنجليزية في نيويورك سنة ١٨٧٣ قد لجأ ببساطة إلى القول بأن المتجهات التي تتمشى فيها
نظرية داروين إنما هي متجهات «تقود إلى الكفر»، ولكنه مع هذا تحاشى أن يثير معركة
انتقادية يتخذ الإنجيل فيها سلاحًا. أما في هولاندا فقد قام الأب «بيش» Pesch وكتب باللاتينية — شأن القدماء — استعراضًا عامًّا
لنظرية النشوء، كان ولا شك مثيرًا للعجب، فكان بمثابة فيلق من فرسان القرون الوسطى
ادَّرَعُوا الحديد، وحملوا القوس والنشاب في ميدان حرب من طراز القرن التاسع
عشر!
أما أمريكا فقد تجاوبت أنحاؤها بأصداء جديدة، على أننا نختار من بين الآلاف المؤلَّفة
من الهجمات التي وُجِّهَتْ إلى داروين من البروتستانت والكاثوليك على السواء، معركتين
اختص بهما رجلان من نُقَّادِ ذلك العصر. أما الأول فكان الدكتور «نوح بورتر» Noah Porter رئيس كلية «يال» وهو أحد مشهوري
الباحثين وكاتب من أمهر الكُتَّابِ ورجل من أنبل الرجال، كثير التسامح جمع في تفكيره
مزيجًا غريبًا في المغالاة في التطرف مع الإمعان في المحافظة؛ لذلك ترى أنه بينما أباح
لمذهب النشوء في الجامعة التي عهد إليه بها أكبر دائرة ممكنة من التسامُح، فإنه شعر بأن
من واجبه أن يصرح مرة واحدة بعدم اعتقاده من صحته. غير أنه كان من النُّهى واتزان العقل
حيث قال إنه لا يرى أن عداء بين هذه النظرية وبين النصوص المنزلة، بل إنه قد عمد فيما
كتب إلى الاقتصار على الإشارة إلى أن مذهب النشوء ينزغ في الصورة التي أظهرها به داروين
إلى اللاإرادية ووحدة الوجود. أما الذين عرفوا دكتور «بورتر» ومحضوه الحب والاحترام،
وتتبعوا باهتمام طريقته المعقولة التي اتبعها في إهمال شأن العلم وعدم إعطائه فرصة ولو
محدودة ليسمع صوته بين جدران معهده؛ فقد أخذوا من ذلك بأشد العجب الممزوج
بالإعجاب.
على مرمى حجر واحد من مقر الدكتور «بورتر» في معهد «يال» تقوم دار العاديات
البالنتولوجية التي رتب فيها البروفسور «مارش» جنبًا إلى جنب تلك الحلقات الحفرية
المتتابعة التي تثبت تطوُّر الحصان منذ أقدم أزمان الحياة، عندما كان في حجم الثعلب
وبأرجل ذات خمسة أصابع، متمشيًا خلال تلك الحلقات حتى بلغ صورته التي نراه عليها اليوم
شكلًا وحجمًا، تلك الحلقات التي قال العلامة «هكسلي» بأنها برهان لا ينقض على أثر
الانتخاب الطبيعي كعامل أساسي في النشوء. لهذا تجد أنه على الرغم من الاحترام والحب
الصادق الذي كان لدكتور «بورتر» في قلوب رجال جامعة «يال»، لم يكن ينتظر أن تصبح أدلته
التي جاء بها ذات أثر ثابت في عقولهم، ما دامت «دار الآثار الحفرية» تحتوي على مثل هذا
البرهان الناصع الذي يؤيِّد مذهب النشوء بما لا يترك مجالًا لريب أو فسحة لشك بحالٍ من
الأحوال.
ولكن بجانب هذا قام عدو لدود ثابت العقيدة هو المحترم دكتور «هودج» Dr. Hodge من جامعة «برنستون» Princeton، فإن غضبه على مذهب النشوء كان «حاميًّا»؛ فإنه رفض المذهب
باعتباره مذهبًا «إلحاديًّا»، وقال في يقين بأن النصارى لهم «الحَقُّ في أن يحتجوا على
نشر مثل تلك المرجحات الغامضة الخطيرة ضد الإيضاح الكامل والأدلة الثابتة التي تتضمنها
الكتب المقدسة. ولقد بلغ به التطرُّف في الجمود إلى حَدِّ أن هاجم الدوق «أرجيل» وهو
معتبر من أشد الكُتَّاب محافظةً على القديم، معلنًا أن نظرية داروين في الانتخاب
الطبيعي لا تتفق «بحالٍ من الأحوال مع نص التنزيل المقدس»، وأن «إلهًا غائبًا لا عمل
له
في الكون، لا يمكن أن يكون إلهًا بحالٍ ما»، وأن «إنكار القصد والغاية كما صُوِّرَا في
خلق الله، هو بمثابة إنزال الله عن عرشه»، وأن «إنكار الغاية والقصد على الطبيعة إنكار
لله بالاستتباع»، وأنه «لا يتسنى لمن يعتقد بالقصد في الخلق أن يكون
داروينيًّا.»
ولقد كان في هذه الجامعة نفسها رجل أشد مراسًا وأَمَرُّ تعصبًا» هو المحترم
دكتور «دوفيلد» Dr. Duffield، وكان من ثقات
المعلمين بها وأصحاب النفوذ بين جدرانها. فإنه لم يعلن الحرب ضد داروين وحده، بل وجهها
ضد رجال من طراز أغاسيز ولاكونت وغيرهما من الذين حاولوا التوفيق بين النظرية الجديدة
وبين النصوص المقدسة، قائلًا بأن «التوفيق بين مذهب النشوء وبين التنزيل فيما تختص
بنشوء الإنسان غير ممكن، وأن النظرية الداروينية «تعارض مواجهة تعاليم الرسل بأن كل
تنزيل هو كلمات الله التي لا تتبدل»، وأشار بعد ذلك في حملته على داروين في كتاب «تسلسل
الإنسان» وعلى «ليل» في كتابه «قدم الإنسان» أن صلة النسب الإنجيلية التي تصل
الإسرائيليين في مصر بآدم وحواء ببية لا يمكن التنازع فيها.» ولقد ختمت أقوال الدكتور
«دوفيلد» بإعلان أجدر بنا أن نشير به إلى أن في إمكان أحد رجال الكهنوت في المذهب
المسيحي أن ينتحل سلطة البابا والأساقفة في أن يعلن طرد البعض من الكنيسة دون بعض. فقد
قال في مجلة جامعة «برنستون»: «إذا تسنى لمذهب النشوء أن يطبق بعد قليل على أصل الإنسان
— وذلك أمر غير مشكوك فيه — مع ما يتبعه من التأمُّلات العلمية المتغجرة أو إتيانها في
هذا العصر؛ فإن الذين يقبلون نتائجه المنطقية سوف يكونون في الحياة الأخرى من زمرة
أولئك الذين لم يعرفوا الله في هذه الحياة ولم يطيعوا أوامر إنجيله كما أنزل على
ابنه.»
ولكن من حسن الحظ أنه في الوقت الذي أذاع فيه داروين كتابه «تسلسل الإنسان» رأس جامعة
«برستون» دكتور «جيمس ماكوش» Dr. James Maccoch ولم
يكد يعتلي رئاسة الجامعة حتى أذاع بأنه يضاد كل تلك التعاليم الخطِرة التي لا توجه
خطورتها لشيء بقدر ما توجه إلى النصرانية، تعالمي دكتور هودج ودكتور دوفيلد وأتباعهما.
ففي إحدى خطبه المعروفة أظهر للناس سر الخطورة في هذه التعاليم. فقد أظهر بما عرف فيه
من قوة الخلق الأيقوسي، ذلك الخلق الذي أشاد به الكاتب «ثاكوري» في أشعاره، أن أخطر
المخاطر التي تتعرض لها النصرانية في جامعة «برنستون» أن يُعاد من فوق منبر الخطابة
فيها وعلى مسمع في الطلاب أسبوعًا بعد أسبوع، قوله إن النشوء بالانتخاب الطبيعي، أو
النشوء على وجهٍ عام، إن ثبتت صحته انتفت صحة الكتب المقدسة. فقد أظهر أن هذه الطريقة
هي الطريقة المُثلى لغرس بذور الكفر في قلوب الطلبة؛ ولهذا فإنه لم يحظر مثل هذه
المواعظ فقط بل بشر بنظرية جديدة، اتخذت قاعدة للوعظ والإرشاد. فإن ابتداء عهده كان في
الحقيقة ابتداء عصر التوفيق بين الناحيتين، وعلى الرغم ممَّا رُمي به من أنه دارويني،
فإنه لم يأبه لشيء من هذا وشق طريقه ثابت القدم موفَّق السبيل. ومهما يكن من أمر ما يرى
العلماء في مذهبه الفلسفي، فإن أحدًا لا يستطعيع أن يُنكر أثره الثابت وخدمته العظمى
التي أدَّاها بالكف عن التبشير بتعاليم الذين سبقوه وأنصارهم، تلك التعاليم التي تناولت
خطورتها كل ما هو أساسي في تعاليم النصرانية.
ولم يكَد يخطو دكتور «ماكوش» هذه الخطوة حتى تابعه فيها كثير من رجال الدين قانعين
بأن المرء من الممكن أن يكون نصرانيًّا ومن أنصار داروين في آنٍ واحد، غير أنه على
الرغم من هذا ظهر بين آنٍ وآخر خوارج على هذا المذهب. ففي سنة ١٨٧٣ بشرت «مجلة الدين
الشهرية» التي تظهر في بوسطن قراءها بأن دكتور «بر»
Dr.
Burr قد استطاع أن «ينقض
نظرية النشوء، وأنه أخمد أنفاسها ورمى بها إلى الكلاب.» ولقد كرر ما ذهب إليه دكتور
«بر» بصورة محوَّرة أسقف يدعى الأسقف
«كينر»
Bishop Keeneer من «مجلس الكنيسة العمادية الأوكيوموني» في واشنطن سنة ١٨٩١.
ففي إحدى خطبه التي وصفتها الجرائد بأنها خطبة ممتعة شيقة، رفض الاعتقاد بمذهب النشوء
بقوله إن على النشوئيين «أن يسافروا اثنتي عشرة ساعة من المكان الذي يخطب فيه ليروا
عظام الأوبوسوم والكبروليب
Coprolite٢٩ والاختيوسور معًا في مكانٍ واحد»، ولقد أكد أن أغاسيز — الذي ظن الأسقف
وغيره من رجال الدين خطأ أنه نشوئي — عندما زار القيعان التي تتضمن هذا النظام قال: «إن
هذه القيعان القديمة قد هوشت رأسي. لقد هدمت بنظرة واحدة ما بنيت له في عمر كامل.» ثم
انتهى الأسقف العمادي بأن قال: «والآن أيها السادة وأيها الإخوان! انقلوا هذه الحقائق
معكم إلى دُوركم ثم تبصروا فيها. تلك هي الساعة التي كانت تحت المطرقة البخارية. تلك
هي
نظرية النشوء. وما المطرقة البخارية إلا رواسب قيعان آشلى.»
على أن مثل هذه المظاهرات لم تُجْدِ إلا قليلًا. فإنه بينما كان هذا الأسقف العمادي
يعرض نفسه لابتسامات السخرية بأن جعل أغاسيز من النشوئيين والكبروليت حيوانًا، كان رجال
العلم يستجمعون في كل أنحاء العالم حقائقَ تؤيد نظرية النشوء بالانتخاب الطبيعي. ففي
الوقت الذي أحاط فيه اللاهوتيون دكتور «بر» بهالة من المديح والثناء لأنه «ألقى بنظرية
النشوء إلى الكلاب»؛ كان الأستاذ «مارش» في جامعة «يال» يتم سلسلة الحلقات التي تظهر
صلة النسب بين الحصان وبين حيوان من ذوات الأظلاف ذي خمسة أصابع. وفي الوقت الذي كان
فيه دكتور «تيلور» Tayler في «يونيون» ودكتور هودج
ودكتور دوفيلد في برنستون كانوا دائبين على إظهار أن النشوء إذا صح انتفت النصوص
المقدسة، كان أستاذ جامعة «يال» — مارش — دائبًا مجدًّا في إظهار آثار الصورة
«الكريتاسية» ومن بينهم الإسبيرورنس Hesperorins
والأختيورنيس Ichthyornis ذوي الأسنان المنشارية.
وبينما كان لونهارد وشاند وأنصارهما في ألمانيا يقولون بأن الكتب المقدسة تتطلب
اعتقادًا ثابتًا في صحة الخلق الذاتي المستقل، استكشفت آثار طير «الأرخيوبتري» Archeoptryx التي أظهرت بجلاء العلاقة الكائنة
بين الزواحف والطيور، وبينما انصرف مسيو «سيغور» وأنصاره في فرنسا إلى حملات جدلية
يوجهونها إلى شخص يدعى «داروين»؛ كان الأستاذان جودري وفيلهول مُجِدِّينَ في استكشاف
عدة «حلقات مفقودة» تربط بين الحيوانات المفترسة.
أما فيما يختص بالبراهين التي كانت تستجمع لتأكيد النظرية الحديثة في النشوء، فإن
التغيُّر في نغمة اللاهوتيين إزاءها قد أصبح سريعًا. ولقد ارتفعت الأصوات من كل صوب
طالبة البحث عن طريق للتوفيق. أما المستمسكون بالنص الحرفي للأناجيل فاستمروا يلجَئون
إلى آيات سِفر التكوين التي نَصَّتْ على أن الأرض والبحار إنما صنعا ليخرجا طيورًا
وأسماكًا، وأن الإنسان إنما خُلق من تراب الثرى. على أن هنالك بعض رجال خصوا بسعة في
المدارك ونفاذ في البصيرة أمثال «كنجسلي» Kingsley
و«فرر» Garrar وغيرهما من مستنيري رجال الكنيسة في
إنجلترا وأمريكا، لم يتلكَّئُوا في أن يعلنوا انضمامهم إلى داروين. ناهيك بأن
«هيويل» Whewell نفسه قد حاول أن يظهر أنه ربما
يكُن هنالك شيء من الصحة في البراهين الداروينية يدل على أنها كانت من مقاصد الخلق في
الطبيعة. أما المحترم «صموئيل هوتون» S. Houghton عضو
الجمعية الملكية، فقد اقترح فروضًا يُعَبِّرُ بها عمَّا يمكن أن يكون في الخلق من أثر
القصد القدسي في النشوء.
كذلك نجد أن الكليتين الإنجليزيتين قد قَبِلَتَا التعاليم الجديدة على أنها أشياء
ثابتة. ففي أكسفورد وفي اجتماع رجال الكنيسة العليا في جامعة «كيبل» أعلن في خطاب جامع
أن مذهب النشوء «خطوة إلى الأمام في سبيل التفكير اللاهوتي.» أما «تمبل» Templ أسقف لندن — ومن المحتمل أنه كان أكبر ثقات
المفكرين من رجال الكنيسة الإنجليكانية في عصره — فقد قبل مذهب النشوء في هذه الكلمات:
«إنه لأكثر جلالًا وأليق بقدرة الله الذي أَلْفُ سنةٍ عنده بمثابة أمس الذي غبر، أن
يكون قد دمغ إرادته الأبدية أولًا وآخرًا دفعة واحدة في جبين خلقه، وهيَّأ لظهور كل
ضروب التباينات الخلقية اللامتناهية بفضل ذلك الطابع الأصلي الذي دمغ به الخلق؛ من أن
يكون قد أحدث الخلق بعدة أفعال مستقلَّة اضطر فيما بعدُ أن يغير من أوصافها ويهذب من
تراكيبها تتابعًا.»
أما في أيقوسيا فإن الدوق «أرجيل» رئيس الحزب الأورثوذكسي وإمامه الأوحد، فعلى الرغم
من أنه أبدى نفورًا من كثير من النتائج التي وصل إليها داروين؛ فإنه سلم بكثير من
الأشياء التي زعزعت المعتقد القديم وصدعت كثيرًا من أركانه.
ومن أعجب العجب أن يرتفع من جانب الكنيسة الرومانية — على الرغم مما أظهر بعضُ
كُتَّابها من عداء ومرارة — صوت يحاول إثبات أن المعتقد الكاثوليكي لا يصد أي إنسان عن
الاعتقاد بالنظرية الداروينية، وعلى الأخص تلك الإذاعة التي أعلنها ثقة ثَبت من
كاثوليكيِّي أمريكا، في أن «نظرية النشوء لا تعارض مذهب الكنيسة الكاثوليكية بأكثر مما
يعارضه مذهب كوبرنيكوس ومذهب غاليليو»، وهذا القول على الرغم مما فيه من غرابة الواقع،
لا يصح لنا أن ننزل من قدره أو نفتش عن نواحي الخطأ الكامنة فيه.
ولقد تقدم رجال ممن كان العلم ممزوجًا بالاعتبارات اللاهوتية طابعهم، أمثال دوسون،
وميفارت وويجاند، ببحوث حاولوا من جهتها الوقوع على سبيل للتوفيق بين الناحيتين. غير
أن
التيار كان شديدًا حتى إن كثيرًا من مشهوري رجال اللاهوت في كل قطر من الأقطار قد قبلوا
مذهب الانتخاب الطبيعي باعتباره — على الأقل — عاملًا مهمًّا في ميكانيكا
النشوء.
لما مات «داروين» شعر كل الناس بأنه لا يوجد في إنجلترا من مكان يصح أن يضم جثمانه
إلا مكان واحد، وأن هذا المكان هو الموقع المثالي لقبر «إسحاق نيوتن» في كنيسة
وستمنستر. أما الخطاب الذي فاه به الأسقف «فرر» Farrar
فقد تجاوبت بمعاينة أعواد المنابر في أوروبا وأمريكا؛ حتى لقد اعتبر أنه آخر ضربة
وُجِّهَتْ إلى روح العداء اللاهوتي لمذهب النشوء. على أنه قد ظهر بين آونة وأخرى مظاهر
من الشعور القديم؛ فإن المحترم دكتور لينج Dr. Laing
قد أشار إلى دفن «داروين» في كنيسة وستمنستر فقال: «إنه برهان على أن إنجلترا لم تصبح
بعدُ بلادَ نصرانية.» وأضاف إلى ذلك أن دفنه فيها كان تدنيسًا، وأن هذا الشرف لم ينله
«داروين» إلا لأنه كان «الزعيم الذي قام بنشر المذهب الهزلي في نشوء الأنواع وتسلسل
الإنسان عن القرد.»
هنالك ظهر نبي آخر من أولئك الأنبياء المخدوعين، ممثَّلًا في شخص «توماس كارليل»؛
فإنه بما شعر في قرارة نفسه من حقد ومرارة، شبيهة بتلك الروح التي حملته على أن يجد في
آفاق مثل «فيكنج»، أو في قائد من قواد فردريك الأكبر، من الشجاعة والشهامة أكثر ممَّا
وجد في ووشنجطون أو لنكولن أو جرانت، والتي جعلته يرى في الحرب الأمريكية الأهلية أنها
عبارة عن دخان تقذف به مدخنة متهدمة، قد هاجم «داروين» قائلًا: «إنه … رسول عبادة
قذرة.»
أما الأصداء الأخيرة فقد تجاوبت بين أيقوسيا وأمريكا، ففي الأولى — وفي سنة ١٨٨٥
—
ظهر المحترم دكتور «لي» Dr. Lee معلنًا بأن مذهب
داروين إذا كان صحيحًا فإنه «لا يكون هنالك من مكان لله»، وأنه «لا يمكن بأي أسلوب من
أساليب التفسير أن تُؤَوَّل لغة الكتاب المقدس بتوسع يحتمل القول: بنظرية «الأوران
أوتان» في تاريخ الإنسان الطبيعي» وأن «المذهب الدارويني يقلب وحي الله رأسًا على عقب»،
وأنه «يتضمن تجديفًا صريحًا يناقض الصفات الإنسانية والإلهية المنسوبة إلى الله
المتجسد.» واغتبط بعد ذلك بأن نعت داروين وأتباعه بأنهم
«مبشروا البلاليع القذرة»، ولقد ظهر في إحدى الدوائر
الفكرية الأمريكية أحد محرري المجلات، وكان يحرر المجلة المسماة «النصراني» The Christian فقال مقتنعًا في حرارة بأن «المعركة
يجب أن يحتدم أوارها ليرى الناس الفريقين: من منهما في جانب الله، ومن في جانب القردة
والشياطين.»
ويجب علينا أن نثبت هنا أن للكنيسة الإنجليزية الشرف الأكبر حيث قاوم عدد كبير من
مشهوري رجالها مثل هذه التُرَّهَات المُسِفَّة. ويكفينا أن نذكر واحدًا منهم هو «فرر»
رئيس أساقفة وستمنستر؛ إذ اعترض على هذه الأقوال وأمثالها في كلمات جديرة بأن يكرر
ذكرها على الدوام؛ ففي حين أنه اعترف بعدم قدرته على قَبول المعتقد العلمي قبولًا
كاملًا، قال: «يجب أن نعتبر أنه ممَّا لا يليق بالكرامة، بل مما هو مُزْرٍ بالنفس، أن
نحاول جاهدين أن نهز أسس المعتقد العلمي الحديث ببراهين خطابية منقولة، أو بأن نستعطف
من فوق المنابر جماعات بلغوا من الجهل أبعد المبالغ واحتدمت في صدورهم العداوة لأهل
العلم إلى غير حَدٍّ، إننا يجب أن نخجل من أن نواجه مثل هذه الحالة بالاستهتار أو
بابتسامة تحقير.»
على أن كل ضروب المقاومة لم تُجْدِ فتيلًا؛ فإن مؤلف داروين وصيته كلاهما كان بمأمنٍ
عن التصدع. ولما رجع الناس إلى تاريخ حياته التي قضاها في بساطة وأمانة وتسامُح وعطف
إنساني، وعاودتهم ذكريات الجهود العظيمة التي بذلها في سبيل البحث عن الحقيقة، تبخرت
كل
صنوف العداء وذهبت بددًا.
على أننا في هذا التاريخ لا يجب أن نُهمل ذكر بعض نقاط سوداء تزداد سوادًا على مر
الأزمان. ففي كلية «التثليث» في كمبردج حظر «هيوويل» Whewell «الحكيم الكلي الحكمة» ومؤلف الكتاب الخالد «تاريخ العلوم
الاستقرائية» أن توضع نسخة من كتاب «أصل الأنواع» في المكتبة. كذلك نقع في كثير من
المعاهد التي كانت تحت حكم اللاهوت من بروتستانت وكاثوليك، على محاولات أُرِيدَ بها حظر
التعاليم النشوئية أو تحقيرها. ولقد انتشرت هذه الروح زمانًا في أمريكا. وإن حادثة
الكلية الأمريكية في بيروت بسوريا — والتي طرد فيها كل الأساتذة الذين مثلوا العنصر
الحديث بانضوائهم تحت لواء داروين — لجديرة بأن نعيد ذكراها. أما المعاملة التي لقيها
الدكتور «ونشل» في جامعة «فاندربلت» بتنيسي، فقد ظهرت فيها مثل هذه الروح؛ فإنه على
الرغم من إكبابه على العلم وتعمُّقه فيه، وعلى الرغم من أنه كان بجانب هذا ذا مشاعر
نصرانية عميقة؛ فإنه طرد من الجامعة لأنه أبدى آراء تقوم على أساس النظرية
الداروينية.
وعلى هذا الحال مع دكتور «وودرو» Woodrow فإنه حوالي
سنة ١٨٥٧ عُيِّنَ أستاذًا للعلم الطبيعي من حيث علاقته «بالدين المنزَّل» في المعهد
المشيخي بكولومبيا في كارولينا الجنوبية. وكان رجلًا نصرانيًّا مخلصًا للنصرانية. كما
أن تعليمه قد قاده إلى انتحال المذهب المشيخي في الدين. ولقد تَزَوَّدَ بقدرٍ كبير من
المقدرة على الدرس العلمي وزار أوروبا، وأَكَبَّ على دراسة المسائل الأساسية في العلم
والتي كانت موضع السِّجال والمناقشة في ذلك الحين، فاعتنق عن يقين وعقيدةٍ المبادئَ
الأساسية في النشوء على قاعدة الانتخاب الطبيعي. على أنه سرعان ما احتدم أوار معركة
كبرى؛ فإن حركة معادية له أخذت في الظهور والتكوُّن ونَمَت شيئًا بعد شيء، حتى إنه على
الرغم من الجهود التي بذلها في سبيله دكاترة المعهد وأساتذته وأقلية من رجال المذهب
المشيخي خُصُّوا بسعة العقل ورجاحة الحكم، عصفت من حوله رياح المحافظين التي أثارها
رجال من مختلف المعاهد المشيخية، أقصته عن مركزه العلمي.
إن هذه التجربة التي جرَّبها الإيمان بفضل البروتستانتية الأمريكية، قد رنت أصداؤها
في جو الكثلكة الإسبانية. ففي سنة ١٨٧٨ نشر إسباني من رجال المستعمرات المشتغلين بالعلم
هو الدكتور «شيل ي مارانجو» Dr. Chil y Marango
مؤلَّفًا عن جزر الكاناري. غير أن الدكتور «شيل» — لسوء حظه — قد ضمن مقدمة الكتاب
استعراضًا لخص فيه نظرية النشوء، وذكر بعض البراهين التي عثر بها في جزيرة الكاناري عما
كان في الأزمان القديمة من بربرية الإنسان البدائي. ولقد فزعت السلطات الكنسية، وعلى
رأسهم الأسقف «أوركوينا
ووناي بيدوت» Urquinaona y
Bidot من الاستكشاف الجديد، معلنًا في حماسة أنه «خطأ فاضح
بعيد عن التقوى»، ولقد صدرت الأوامر إلى كل الذين كانوا يحوزون نسخًا من الكتاب أن
يسلموا كل النسخ التي لديهم للسلطات الكنسية، كما طرد المؤلفات من حظيرة
الكنيسة.
غير أن هذه الصور العدائية يمكن أن تعتبر آخر صور الحمى التي انتابت النظرية
اللاهوتية ورجالها. والدليل على هذا أن جامعة واشنجطون الحديثة بأمريكا قد أعلن من
ناحيتها قوال تؤيد النظرية الجديدة، كما أن جامعات كثيرة في الْعَالَمَيْنِ القديم
والحديث قد تقبلت نظرية النشوء بالانتخاب الطبيعي، وأكب رجالها على المذهب يدرسونه بما
يستحق من العناية والتقدير. وفضلًا عن هذا فإنه من الظاهر الجلي أن رجال الكنيسة العظام
لم يقفوا فقط سير المعركة التي دارت ضد العلم، بل عملوا في أمانة وإخلاص؛ لكي يضعوا
قواعد جديدة للتوفيق بين الناحيتين. ففي محاضرتين لهما منزلتهما وخطرهما، ألقاهما في
كنيسة «روتشدايل» سنة ١٨٩٢ المحترم «ويلسون» Wilson
رئيس أساقفة مانشستر، أعلن عن تقبله المذهب الدارويني باعتباره مذهبًا صحيحًا، غير أنه
حاول أن يصله بوجهة النظر النصراني، معتمدًا على قوته في الشرح والتعبير. ولقد نشرت هذه
الخطب على نفقة نفس الجمعية التي كانت منذ عهد قريب تنشر أَمَرَّ ما كُتِبَ ضد النظرية
الداروينية وهي: «جمعية تقدم المعرفة النصرانية». كذلك ترى أنه في خلال سنة ١٨٩٣ كون
البروفسور «هنري درموند» الذي يمتدحه كل رجال الكنائس المُنشقَّة، وجهة من النظر مصبوبة
في قالب جميل من قوة الفكر ألقاها في مجموعة من المحاضرات في مدارس «شوتوكوا»
الأمريكية، ونشرت في إحدى الصحف الأورثوذكسية الواسعة الانتشار.
مهما يكُن من أمر العوامل التي يمكن إضافتها إلى الانتخاب الطبيعي — ولقد سلم داروين
نفسه بأنه من الممكن أن تكون هنالك عوامل أخرى تؤثِّر في نشوء الأنواع — فإن نظريته في
النشوء الكوني ونشوء الصور الحية قد وضعت وثبتت قواعدها، كما أن نظرية الخلق المستقل
القديمة قد اضمحلت وفنت من عالم الفكر الإنساني. ولقد تبدل الإنسان منها بما أوحى العلم
الحديث من تصورات ثابتة أبعد مدى وأنبل قصدًا، فتحت الباب لتكوين فكرة في «القصد
والغاية» أجمل من كل الفكرات التي كوَّنها التصور اللاهوتي على مدى الأزمان.
القاهرة في ٥ يناير سنة ١٩٣٠