ندب وانتداب
حدثنا الأستاذ صلاح اللبابيدي عن الأستاذ عبد الله اليافي قال: إن أحد الألمان الذين أخرجهم حزب النازي (تُلفظ نَتْشي) من الخدمة، دخل على الوزير متظلمًا لإبعاده من الحكومة بداعي أن جده الخامس يهودي، فقال: إنه رجلٌ ألماني، خدم ألمانيه سنينًا طوالًا، وأنه مظلوم في ما ظُن به وفي عزله لذلك، وليس له مورد غير راتبه يعيش به هو وعائلته، وأنه لا يستطيع عملًا آخر.
قال ذلك وبكى، فانتفض الوزير انتفاض الناشط من عقالٍ وقال: لقد برهنت أن الدم اليهودي لا يزال يجري في عروقك؛ لأن الألماني الحق لا يبكي في الشدائد، وطرده من مجلسه.
وقد سمعنا من يحدث أن رجلًا من الإنكليز سمع مرةً بعض المصريين يغنون، وكأنهم ينحبون:
فسأل ما معنى ما يغنون، فقيل له فرفع يده كمن يريد الملاكمة وقال: «من يأخذ حبيبي أجري وراه وأكسر رأسه، أما أنتم المصريون فتقعدون وتنوحون».
وقال ظريف سمع القصة: كان الفرنسيس يغنون في أيام الحرب مثل المصريين أغنية اسمها «روزالي» فيقولون:
ولكن الفرنسي في محنته هذه هو غير الإنكليزي وغير المصري، وقد يكون هجر «روزالي» أخف المحن عنده، فهو يلوح بيده وبروحه الظريفة، إلى الجيران كأنه يقول: من رأى بقرتي أو شاتي الشاردة ليردها من فضله.
وإني لا أشك في أن عقليته في ما يجدّ له، ويعده من خطير الأمور، هي في المحن كعقلية الألماني والإنكليزي، فهو لا يبكي وإذا اعتُدي عليه أو حرم عزيزٍ لديه، يشمر عن ذراعه ويقاتل ليظفر بأمله المنشود.
أجل؛ إن الفرنسي والإنكليزي والألماني سواء من هذا القبيل، أما نحن فنئن ونتأوه ونندب وننوح، ثم ننام على ظهورنا مستسلمين مسترحمين.
حبيبي راح يا من يرد لي حبيبي.
حريتي راحت يا من يردها لي.
استقلال بلادي راح يا من يرد لبلادي استقلاله.
نحنا ونمنا وتوكلنا على الله، وجاء شعراؤنا يرثون لحالنا — يرثوننا، وجاء المغنون يعزون كل بنغمةٍ جديدة — قديمة — من أنغام الأسى والحنين والضنى والأنين.
لا والله، لا والله، نقول هذا وننام، ننام ونحلم بنوح الحمام، وإذا استفقنا متألمين نتذكر مثل ابن المعتز هجر الحبيب فنفرج كربتنا بالندب والنحيب.
والحرية والاستقلال والقومية المنشودة؟
حبيبي راح من يرد لي حبيبي.
وا حريتاه! وا قوميتاه!
فهل تعيش أمة في هذا الزمان وهذه نفسيتها؟ وهل تنال أمة استقلالها المغصوب وهذا معقولها؟
هو ذا بيت القصيد في خطبتي بعاليه، وإني أعود إليه في ختام هذه الصفحات؛ لأن الأدباء في الحوار والجدال، يعدوا منه، وكادوا ينسونه.
إننا أيها الناس لفي المحنة الكبرى التي فيها موتتنا كأمة، وفيها حياتنا فكيف نعمل لنخلص من الموت، وكيف نعمل لنظفر بالحياة؟ أنغني: حبيبي راح ونذرف الدمع ونرتاح — نموت؟
ألا يثير الألم فينا غير الدموع؟ ألا يثير فينا الدم والغضب والنقمة والتمرد؟ ألا يستفزنا للعمل للجهاد، أو في الأقل للعصيان المدني؟
قلت وأعيد ما قلت إننا سائرون إلى الاستعباد — الاستعباد الاقتصادي، إن الربقة لهي اليوم أمام عيوننا ولهي غدًا في رقاب أبنائنا وإن النخاسين يصفقون لأغانينا المحزنة المبكية ويتمنون لنا الزيادة منها، كيف لا والدموع بنات الذلة والخنوع.
ونحن نتحاور ونتجادل في الأدب الباكي والأدب الثائر — أدب الضعف وأدب القوة — وأيهما أنفع لنا، والله لو كان حالنا حال غيرنا من الأمم المستضعفة لما اختلف في المسئلة اثنان.
وهل في مثل حالنا يجوز البحث في ما إذا كان الشعر المبكي والأغاني المحزنة أعظم فنيًّا من تلك التي تحرك في النفس الخفة والطرب؟
وهلا يكفي أن أقول لكم: إن النخاس يحب في عبيده الشعور الرقيق، والإحساس اللطيف؟ أفلا تنتبهون أفلا تفقهون؟ واعلموا وقاكم الله خير النخاسين أن التاريخ لا ينبئ بأمةٍ واحدةٍ كانت في أيام جهادها وتكونها على شيءٍ كبير من الإنتاج الفني، وكل ما كان فيها من فنٍّ وشعرٍ وعلمٍ وأدب كان يسخر للغرض الأكبر من جهادها، يسخر لحريتها ولاستقلالها؛ ولتعزيز القومية والوطنية فيها.
نحن اليوم هذه الأمة وقد بدأ يشعر الكثيرون منا بأن أدب القوة هو ألزم لنا، وأن أدب الضعف لا يفيد غير المسيطرين علينا.
إن أمر هؤلاء المسيطرين عجيب، قد يظن البعض من المتفائلين أنهم في النهاية راحلون، وهم يعللوننا بيوم المعاهدات؛ يتلوه يوم الجلاء.
إني أظن بأنهم في ما يعللون غير صادقين، فهم في قلوبهم راغبون باحتلالٍ يدوم، وعاملون له في سرهم — وفي جهرهم عندما الجهر يفيد، قلت: إني أظن — أحس بسوء القصد — ويجب أن أضيف إلى ذلك ما فيه الدليل، مما شاهدت على أني في ظني وفي حسي متحفظ معتدل.
أجل، قد شاهدت في رحلتي السورية الأخيرة ما يرفع بظني وحسي إلى منزلة اليقين، فما هذه الصروح الفخمة التي يبنيها الفرنسيس في المدن السورية الكبرى؟ لمعاهدهم التهذيبية، إنها تكذب سياسة المعاهدات والجلاء.
رأيت في الشام وحمص وحلب بنايات للبنك السوري اللبناني كبيرة جميلة فخمة، تعيد إلى الذهن كلمةً من الكلمات النبوية: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا — اعمل لانتدابك كأنه دائم! اعمل لاحتلالك كأنه أبدي!
فهل أنت في ريبٍ من ذلك؟ لولا يقين القوم أنهم ثابتو القدم في البلاد، أو أن الانتداب في الأقل ثابت وطيد، ولا يتغير — إذا ما تغير — إلا اسمًا، لما كانوا يبنون هذه الصروح في المدن السورية الكبرى لمعاهدهم المالية والاقتصادية، ولما كانت المدرسة العلمانية الفرنسية تشيد هذه الأبنية الكبيرة الجميلة في حلب وفي الشام.
فهلا انتبهنا وهلا فقهنا؟
هو ذا الانتداب، وربقته اليوم أمام عيوننا، وغدًا تصير في رقاب أبنائنا، هو ذا الانتداب ونيره الثقيل علينا كلنا أجمعين — على تدمر ودمشق وعلى الأرز وصنين. فهل نظل أبدًا منقسمين متنابذين متخاذلين؟ وهل نداوي أدواءنا القومية بالبكاء والأنين؟ وهلا يجب علينا أن نسهل لأبنائنا في الأقل سُبُل الجهاد، لإنقاذ البلاد وتحريرها من الاستعباد؟
ولسنا وحدنا في هذه المحنة الكبرى، لسنا وحدنا سائرين إلى الاستعباد، فالمصري والفلسطيني والعراقي يشكون ما نشكوه، ويئنون مما نئن وإن عندهم كما عندنا من يسمون روح الضعف شعورًا لطيفًا وإحساسًا دقيقًا، وينكرون هذا الإحساس وذاك الشعور، على ما يناضلون ويكافحون، ويجاهدون؛ ليخلصوا البلاد من الأدب الباكي، وهو للمسيطرين كإحدى كتائب جنودهم الاستعمارية.
وهب أن المجاهدين قساة القلوب، كما يزعمون غلاظ الرقاب، وأنهم لا يقدرون الشعور الرقيق في الشعر وفي الغناء فإن اليوم يومهم، ويا مرحبًا بهم.
وما أصدق ما قاله أحد هؤلاء القساة القلوب: دانو نزيو الشاعر الإيطالي مهد السبيل للحركة الفاشستية، وكتاب الأسبان وشعراؤهم مهدوا السبيل للجمهورية الإسبنيولية، فلا يجب أن تكون الزعامة في الأمة للسياسيين وحدهم إذن، ولا الصحافيين والسياسيين فقط، بل يجب أن يشترك معهم ويتقدمهم الأدباء والشعراء الحقيقيون الذين يفرحون بما يضمحل من شخصياتهم في سبيل الشخصية الوطنية القومية الكبرى.
أما الشعراء والأدباء الذين يعيشون لأنانيتهم يدللونها؛ ويكتبون وينظمون لتمجيدها؛ ضمنًا أو صراحةً ويتخيلون أنفسهم من «الأولمب» أبناء الآلهة، أو المندوبين عنهم فينا، ويظنون أن الأمة لا تنهض إذا لم تحلم أحلامهم، وتردد قوافيهم فتحزن لحزنهم، وتبكي لبكائهم، وتضفر بعد ذلك أكاليل المآتم لها ولهم، فلهؤلاء الشعراء والأدباء نقول: إننا في هذا الزمن العصيب لفي غنًى عن شعركم وأدبكم، ولو كان الأمر لنا لسخرناكم والله للعمل المفيد في أمةٍ تنشد الأعمال المفيدة.
إخواني أنتم فاسمعوا لوجه الإخاء هذه الكلمة، إنكم لذو تبعة لأنكم أذكياء وذكاء المرء محسوبٌ عليه، فلو تشيعتم لحقٍّ وطني قومي، وناضلتم عنه بكل ما أوتيتم من قوة ومن علمٍ وبيان، لتجددت فيكم الآمال، ولعادت إليكم لذة الحياة الكبرى — لذة العمل الصالح المفيد للوطن.
لقد أنكرتم علينا القول: إن زينة الحياة القوة، فقلتم وقد فاتكم ما شمل من كلامنا: إن في الحياة غير القوة مما يستوجب الرعاية والإجلال، أي: إن فيها للعبقريين من رقة الشعور، وعذوبة الأرواح، ما يتألف منه روعة الفن وطهارة الدموع، وأمام تلك الرقة والعذوبة وعند قدمي الروعة والطهارة، يجب أن نخر ساجدين.
وإني أقول لكم: إن من ينشدون فنًّا لا وطن له يمسون ولا فن لهم ولا وطن.
القوة العقلية العلمية، والقوة الروحية اللاطائفية، والقوة المادية الاقتصادية.
يوم نظفر بهذه القوى كلها، نصير أمةً حرة مستقلة، عزيزة النفس، عزيزة الجانب، بدون الأجانب.
فسقيًا ليومٍ لا ندب فيه، ورعيًا ليومٍ ليس فيه انتداب.
•••