الدموع
لصديقي الشاعر الشيخ فؤاد الخطيب بيت في الدموع، كان يردده يوم كنا بجدة، وهو يشدو على طريقته البدوية المشجية فينسينا، ونحن نهتف: الله، الله! أننا في بلدٍ تُغتفر فيه اللهفات، ولا يُسأل فيه صاحب العبرات، وكأني الآن وتلك الذكرى تعود في لبنان، أسمعه ينشد كذلك في عمان:
ولكني وأنا في هذا الملجأ القصي، من سحر شدوه البدوي، أرفع قضيتي إلى محكمة العقل، وأسأل مستأنفًا حكم الشاعر: هل الدموع في البلاء مفيدة؟ بل أسأل إطلاقًا: هل تنفع الدموع؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال، يجب أن نعرف ما هو الدمع، ويجب أن يكون البحث علميًّا؛ لنثبت فوق كل ريب الحقيقة في الموضوع، ونظهر فوق كل ريب ما قد ينطوي عليه من وهمٍ وسخافة.
جاء في القاموس: الدمع ماء العين من حزنٍ أو سرور، ولكن التعريفات العلمية تجيء ناقصة في قواميسنا العربية.
لذلك نلجأ إلى قواميس الإفرنج، فهاك ما جاء في القاموس الإنكليزي: الدمع هو الماء المالح الذي تفرزه الغدد الخاصة به؛ ليرطب سطح العين ويغسلها مما يغشيها من ذرات الغبار، وهو يجري من قبائل الرأس (القاموس العربي)، ثم يمر في مسايل الأنف (القاموس الإنكليزي) ويمتزج بمفرزاته المخاطية، إما في أوقات التهيج أو الابتهاج — في السعال الشديد مثلًا أو الضحك — فتتقلص أعصاب العين فيسيل الدمع على الوجنتين.
- (١)
ماءٌ مالح.
- (٢)
غدده في قبائل الرأس.
- (٣)
فائدته أن يبقي العين نظيفة ويرطب سطحها.
- (٤)
يظهر في ساعات السرور الشديد أو الحزن الشديد سائلًا فوق الخدود.
الدموع إذن ليست الحزن بعينه، ولا هي دليل الحزن فقط، على أنها حسب اعتقاد الناس، تخفف من الحزن وتفرج الكرب والغم.
وهذا الاعتقاد — وإن تصعب إثباته علميًّا — ينزله الكثيرون من أهل الأدب والعلم منزلة اليقين فيقولون: إن في البكاء راحةً من كربٍ أو حزنٍ أو مرض، وفيه تنكشف الغموم.
فهل هذا صحيح يا ترى، أم هل هو وهمٌ من الأوهام؟ إننا نلفت نظر القارئ إلى هذه الحقائق الراهنة: إن البكاء في بعض الشعوب الشرقية أكثر منه في الشعوب الغربية، وإنه في الشعوب اللاتينية أكثر منه في الشعوب الأنكلوسكسونية، وإن في الشعوب القاطنة الشمال، مثل أهل أسوج ونروج، يضعف فيهم الميل إلى البكاء، ويكاد يزول فهم قلما يبكون في الملمات.
فهل في الطقس عامل من عوامل البكاء؟ إذا قلنا: نعم كذبتنا شواهد الحال، فالعرب في شبه الجزيرة — وخصوصًا أهل نجد — هم مثل الأسوجيين، وإن تعاكس طقس البلادين، فلا يحزنون حزنًا شديدًا على موتاهم، وقلما يبكون.
هل للتقاليد والتربية إذن فعلها في البكاء؟ إني أعتقد ذلك، بل أقول: إنها من عوامل البكاء الشديدة.
وإني — فوق ذلك — أسترعي نظر القارئ إلى هذه الحقائق الأخرى الثابتة: الصغار أسهل دمعًا من الكبار، والنساء أكثر بكاءً من الرجال، والرجال في الشعوب الهمجية والمتأخرة في التمدن، هم أسرع إلى ذرف الدموع والنحيب من الرجال المتمدنين، تنبئنا بذلك المنادب الإفريقية، وما لا يزال من أثرها في بعض البلدان، وقل في جبل لبنان.
إن في ذرف الدموع إذن، وفي فيضها وشحاحها، غير تهيج العواطف حزنًا أو سرورًا، وقد قدمنا الدليل على علاقتها من وجهةٍ واحدة بدرجة الرقي والتمدن في الشعوب.
وهاك من وجهةٍ أخرى ما يسترعي النظر، الولد يبكي حينما تصطدم إرادته اصطدامًا شديدًا بإرادة أمه أو أبيه أو أخيه الأكبر، والمرأة تبكي إذا اشتد عليها كيد الزمان، أو كيد زوجها، أما الرجل فهو على الإجمال أقل بكاءً من المرأة، فإذا كانت الدموع تفيد فلماذا تُخص فائدتها بالأطفال قبل الأولاد، وبالأولاد قبل النساء، وبالنساء قبل الرجال، ويكاد يُحرم الرجال خيرها، الآن الأولاد أضعف من النساء والنساء أقل قوةً وتجلدًا من الرجال؟ قد يكون ذلك، وقد تكون مسايل الدمع في الأطفال والأولاد والنساء أطرى وأرقّ منها في الرجال.
ومما لا ريب فيه أن الرجال إجمالًا يحكمون العقل في الشدائد، والنساء يحكمن العاطفة، والأولاد مسيرون بالغريزة، يرى الطفل القمر فيمد يده إليه — يطلبه ثم يطلبه — فتعريه سورة من البكاء؛ لأنه أبى أن يجيه وبعد صراخه ودموعه يهدأ جأشه، وينسى أن القمر عصاه.
فهل أفادت الطفل الدموع بعد أن حرق ملحها وجنتيه ومآقيه؟ أم هل كانت الدموع نتيجة ملازمة لتهيجه واضطرابه؟
في الجواب على السؤال الأول سلبًا أو إيجابًا مجال للبحث، أما الجواب الإيجابي على السؤال الثاني فلا ريب فيه؟
أيحق لنا أن نقول إذن: إن الدموع نتيجة ملازمة لتهيج العواطف، حزنًا أو ابتهاجًا وهي قلما تفيد؟
حدثتني سيدة مهذبة قالت: كدت أختنق مرة من شدة الغيظ والكمد، وأنا أحاول أن أحبس دموعي، ولكني عندما استسلمت إليها، أحسست أن شيئًا ثقيلًا متجمدًا في صدري أخذ يذوب، فذاب بالبكاء فانفرجت.
ولكن الرجال يفرجون كربتهم بغير الدموع، يفرجونها إما بالصبر والتجلد، وإما بالقوة، وإما بحسن التدبير.
إن الغيظ والكمد والحزن لا تفعل بالرجال إذن ما تفعله بالنساء؛ ذلك لأن فعلها بالنساء منشؤه العواطف، وفعلها بالرجال منشؤه العقل والإرادة — العقل في التدبير، والإرادة في ضبط النفس، أو القوة في إشفاء غليلها.
ولا أظنك تنكر أيها القارئ المفكر أن للتربية مفعولها بالدموع، فالأم لا تزجر ابنتها إذا رأتها تبكي كما تزجر ابنها، فهي توبخه وتذكره بأنه رجل — والرجال لا يبكون.
فإذا كان البكاء حقًّا مفيدًا، فلماذا يُحرم الولد فائدته ولا تُحرمها الفتاة؟
يظهر إذن فوق كل ريب أن في عقيدة من يقولون: بفائدة البكاء شيئًا بل أشياء من الوهم والسخافة، وإن الشاعر في قوله: «إن الدموع يد اللَّه بيضاء» هو شاعر فقط، على أنه قد يكون له تعالى يدٌ في الدموع بيضاء، إذا أسعفها الوهم في تقليدٍ ورثناه، أو في عادةٍ ألفناها.