دموع الشاعر
لا أظنك تجد من الدموع في شعر الأمم الأوروبية كلها مقدار نصف ما عندنا في الشعر العربي، ولا أظنني في ما أقول مبالغًا، جُلْ في ربوع الشعر أو في بواديه، تجد هناك من الدموع بحيراتٍ ومستنقعات، خذ أي ديوانٍ تشاء وافتحه على بركة الله، تحظ بقصيدةٍ شاكية أو بقافيةٍ باكية، وخذ أي كتابٍ من كتب الأدب القديم، تر صفحاته مزدانة بالأشعار، وفيها دائمًا من النوع الذي يسيل دمعًا سخينًا سخيًّا، قصائد هي السواقي — قوافي هي الشلالات — دواوين هي الينابيع المعدنية.
ويظهر أن الذين يتذوقون الشعر ويروونه أو يعنون بنقله والاستشهاد به في بث فكرة، وتزيين مقالٍ أو إعلان، هم شغفون بدمعة الشاعر فيفضلونها غالبًا على ابتسامته، أو على غيرها من ظاهرات مزاجه، هاك ما قرأت في ورقة اليوم من الروزنامة:
كأن جري الدمع على الخد لازم للصحة والهناء لزوم جري السوائل الأخرى في الجسم البشري، وإننا نرى الشاعر ها هنا مثل الطبيب يعالج المتعسر العاصي منها بالأدوية، فقد اكتشف دواءً لنفسه أسماه «هجر الحبيب» فعله عجيب، خذ ملعقةً واحدةً من «تذكر الحبيب الهاجر»، تتفتح مجاري الدمع فيك، فتلين عينك القاسية العاصية فتأتيك بالعبرات في الملمات.
وما أكثر أنواع العبرات وما أكثر العبر فيها، فقد عدد أحد أرباب الشعر الباكي مئة دمعة ودمعة، بادئًا بالطفل وخاتمًا بالمسيح على الصليب، وهو يحمد الدمعة التي «قلبت العالم»! إنما فاته — دامت دمعته — أن المسيح في تلك الساعة لم يفكر بالعالم، بل بنفسه إذ قال: إلهي، إلهي، لماذا تركتني تباركت في كل حال دمعة المصلوب، وهي الوحيدة — الأولى والأخيرة منه، أما شعراؤنا فهم لا يصلبون ولا يهانون ودائمًا يبكون، وقد تخيلوا حتى السواقي والينابيع دموعًا.
أجل إن الطبيعة نفسها لتبكي معهم، سبحان من بكى واستبكى وأبكى، فهاكم الورد الباكي، وطل الصباح دموعه، وهاكم الشفق الشاكي وفي الغمائم غمومه، وهاكم الحمام النوَّاح، والبوم الصيَّاح، والضفادع تنق طول الليل حتى الصباح، والخرفان الحزينة المعدة للذبح، وهي أحق أنصار الشعراء بالبكاء، فقد تقرحت مدامعها فبكى حتى الذئب عليها ومعها، إننا حقًّا لفي وادي الدموع، والشاعر مرآته الجلية ودمعته الكبرى المركزية، التي تنعكس فيها كل دمعة وكل بلية.
لله من دموع الشعراء، قال المتنبي يندب شيبه في صباه:
والمتنبي سيد الكذابين؛ لأنه لم يشب في سن العشرين، وكان في الأرض من المتكبرين.
ومن عجيب اختراعاتهم الدمِعة أن دموع بعضهم تجري من غير عيونهم — تجري من أعضاء الجسم الأخرى، ومن كل حواسه. فتبكي اليد مثلًا على الأذن، وتبكي الضلوع على الصدر، والصدر على الكبد، والكبد على الكليتين، اسمع ابن المعتز يقول في موشحٍ له:
ثم قال في المقطع التالي مكذبًا نفسه:
وهذا لعمري حال الأكثرين من شعراء الدموع، فهم إما مقلدون وإما سباقون للحوادث المفجعة فيبكون قبل أن تقع، ومتى وقعت — إذا ما وقعت — ماذا يفعلون؟ قد قيل لنا، بالرغم من ذلك: إن أطهر الدموع بعد دموع الأمهات دموع الشعراء …
ومن مزايا الأدب في تلك الأيام، وقل من أمراضه الإكثار من لفظة العظمة، التي استخدمت لوصف العصر بحذافيره من لصه إلى أميره، ومن أعلامه إلى آلامه ومع أن هذه المدرسة الرومنطقية (اللامنطقية؟) قد اضمحلت، فلا بد من كلمةٍ وجيزة في ده موسه، الذي استشهد به أدباؤنا وشعراؤنا الغزليون؛ ليبرروا استرسالهم في الغرام والحزن والبكاء.
وخير الكلام في الموضوع ما كان لجهابذة الفرنسيس أنفسهم، أني ألفت إلى ما يلي نظر الجاهلين، وأذكّر به العارفين من أدبائنا.
وبالرغم من آلامه وأوصابه كلها، قلما نجد في شعره أنّةً مزعجة، أو دمعةً لا تصحبها نكتة أو ابتسامة؛ ذلك لأنه كان خفيف الروح، حلو المزاج، وذا فكرٍ فوق ذلك طوّاف محيط، فقد تغلغل في بحث الحياة، وأمعن في أغوارها وأنجادها، فأضحكته فيها المتناقضات، وشحذت الأوهامُ قوة التهكم منه، كما جلت روحُ الحق روحه الثائرة الساخرة، الممزوجة بالطريف من المزاح.
أعيد ما أسلفت قوله، وهو أن الألم يرفع بالشعراء الكبار إلى أوج المعرفة؛ فيرون الحياة كاملةً بما ظهر منها، سابغةً بما اتضح، ويرون كذلك الشعلة الإلهية التي تنير لبها وحواشيها.
ولكن الألم غير الدموع، ومن السهل على من لا يفكرون تفكيرًا صحيحًا علميًّا أن يخلطوا بين الاثنين، ولا تظنن أيها القارئ العزيز أن الدموع هي التي طهرت فرنسه من أدران الظلم والفساد، كما قال أحد الأدباء الدمعيين: بل هي الثورة التي ولدتها الآلام.
الدموع تسكن القوى، والآلام تثيرها.
والشعراء الكبار، مثل أبي العلاء وهينه وده موسه، قاسوا من آلام الحياة أشدها وأنواعها، لما كان في زمانهم من جهلٍ وظلم، ووهمٍ وفساد، ولكنهم لم يبكوا لا بل لم يذرفوا الدموع، بل كانوا ثائرين متمردين، داعين للثورة والتمرد، داعين لجهاد الظلم والظالمين.
لقد هيج الألم فيهم الدم، وما هيج الدموع.
لقد أثار الألم العواطف منهم، وما أثار البكاء.
لقد أنار الألم عقولهم بأنوار العطف والحنان، وأشعلها بنيران النقمة والجهاد، فرفعوها عاليًا في شعرهم هديًا وتحريضًا للناس.
هوامش
من مزايا الشاعر الحقيقي أن البؤس في الأمة يحزنه حتى الألم، فيصيح كأنه هو الأمة البائسة الموجوعة، فيسمع صيحته من قد خشنت أو تخدرت من الآلام أعصابهم، فيستفيقون طالبين الدواء والشفاء …