مقدمة الطبعة الأولى

في مطلع عام ١٩٩٤م اتصلت بي شركة Image الفرنسية للإنتاج السينمائي، الحديثة التكوين، قائلةً إنها بصدد إنتاج أفلام وثائقية عن أهم عشرة أنهار في العالم (الفولجا، المسيسبي، الأمازون، الكانج … إلخ) يكتبها كتَّاب من البلاد المُطِلة على هذه الأنهار، وإنَّ ذلك سيتمُّ بالاتفاقِ مع القناة الثانية للتليفزيون الفرنسي. وعرضت عليَّ أن أتولَّى كتابة سيناريو الفيلم الخاص بنهر النيل.

رحَّبتُ بالعرض؛ فالكتابة عن النيل فضلًا عن مشاهدته، من منبعه إلى مصبِّه، كانت أحد أحلامي؛ واتفقنا على أن أقوم بجولةٍ استكشافية للنهر والبلاد المطلَّة عليه، وعندما استفسرت عمَّن سيقوم بالإخراج قالوا إنه أمرٌ قيد البحث. ولم يلبث هذا البحثُ أن أسفر عن المخرجة المصرية «أسماء البكري» المعروفة بعلاقتها الوثيقة بالجالية الفرنسية في القاهرة (ولعلها أيضًا تحمل الجنسية الفرنسية إلى جوار المصرية).

عكفت على قراءة المراجع الضرورية، وعلى رأسها مؤلَّفات محمد عوض محمد، ورشدي سعيد، وإميل لودفيج، وآلان مورهيد، ومجلة ناشيونال جيوجرافيك. وفي صيف نفس العام قمنا (أنا والمخرجة) برحلةٍ استكشافية لمنابع النيل، على أن تتبَعَها رحلةٌ ثانية للتصوير. واكتشفتُ أنَّها اتفقت مع الشركة الفرنسية على أن تتولَّى مهمة الإنتاج بالإضافة إلى الإخراج، على طريقة «مقاول الباطن».

•••

يُعتبر نهرُ النيل أطولَ أنهارِ العالم؛ إذ يبلغ طوله ٦٨٥٣ كيلومترًا، وتشترك إحدى عشرة بلدًا في منابعه؛ هي أوغندا، تنزانيا، رواندا، بوروندي، كونغو، كينيا، إثيوبيا، إريتريا، جنوب السودان، السودان، مصر. كما أنه مصدر المياه الرئيسي لمصر والسودان. قررنا أن نكتفي بمُشاهدة المنابع الرئيسية الموزَّعة بين أوغندا وإثيوبيا، ثم نركِّز على مجراه في السودان ومصر؛ حصلنا بسهولة على فيزا لأوغندا، بينما امتنعت السفارة الإثيوبية في القاهرة عن منحنا تأشيرة الدخول.

كانت الرحلة حافلةً بلحظات التوتر؛ عندما عبرنا مستنقعات الحدود الأوغندية وحطَّت جيوش ذباب تسي تسي الرهيب فوق سيارتنا، وعندما انسابَ قاربُنا على سطح بحيرةِ فيكتوريا، تحت بصر التماسيح، وأشرفنا على شلالات ريبون. وعندما وقفنا فوق خط الاستواء، المرسوم على الإسفلت؛ وكنت أظنُّه خطًّا افتراضيًّا. وعندما شاهدنا التقاء النيل الأبيض بالنيل الأزرق في الخرطوم، وعندما أوشكنا على دخول السجن في الخرطوم أيضًا.

كنا قد طِرنا مِن القاهرة إلى كمبالا، عاصمة أوغندا، عبر نيروبي. ومن كمبالا طرنا إلى الخرطوم، استقبلَنا بمطارها الملحقُ الثقافي الفرنسي، وغادَرنا المطارَ على الفور دون الإجراءات المعتادة؛ سعدت بهذا الامتياز إلى أن جاءت لحظة المغادرة إلى القاهرة.

حملت أسماء البكري معها من مصر بضعة آلاف من الفرنكات الفرنسية؛ للإنفاق على الرحلة، ولما كنا لم نتعرَّض للإجراءات المعتادة عند الدخول، فلم يتم تسجيل وجود هذه الفرنكات في حوزتها، وعند الخروج سألها موظف المطار عما إذا كانت تحمل نقودًا، فأجابت ببراءةٍ بالإيجاب وأبرزت فرنكاتها. نُحِّينا جانبًا وبدأ التحقيق معنا، وجرى تفتيشُنا بدقة.

كنت أحمل معي مجلدًا كبيرًا؛ يضم مذكراتي عن الرحلة، وملاحظات عديدة من قراءاتي، وصورًا ضوئية لفقرات من كتب ومقالات، تتناول تاريخ النهر، ودوله، وحاضرَه السياسي والثقافي. وعلى رأس هذه المواد كانت هناك بيانات موقع CIA Factbook الذي أنشأته المخابرات الأمريكية على النت؛ لخدمة السياح الأمريكان، وكنت قد طبعت البيانات الخاصة ببلدان نهر النيل من قبيل تعداد السكان، الطقس، نظام الحكم، المواصلات الداخلية … إلخ.

كما كانت هناك صفحات من مجلة «الوسط» اللبنانية، عدد ١٢٩ بتاريخ ١٨ / ٧ / ١٩٩٤م، بعنوان بارز: «راسبوتين الخرطوم وبيوت الأشباح» ثم عنوان فرعي: «رئيس جهاز الأمن السوداني: لا صحة لمشاركة أجانب في تعذيب المعتقلين.» وتضمنت الصفحات حوارًا مع مواطن سوداني تعرَّض للاعتقال والتعذيب في أحد البيوت السرية المعروفة باسم «بيوت الأشباح» والتي أقامتها حكومة الإنقاذ الإسلامية.

•••

ادَّعت أسماء أن الفرنكات تخصُّ السفارة الفرنسية، وتم إيقاظ السفير الفرنسي (كنا في ساعة مبكرة من الصباح) وجرت مشاورات طويلة، ولحسن حظنا أن العلاقات بين فرنسا والسودان كانت تمر بلحظة ازدهار نادرة؛ كانت حكومة السودان الإسلامية قد أوَت الإرهابي العالمي «كارلوس». ودفعها افتقادها للتأييد الدولي إلى تسليمه مخدَّرًا للمخابرات الفرنسية؛ وأصبحت فرنسا الصديق الوحيد تقريبًا للنظام الإسلامي.

هكذا أمكن تسوية الموقف؛ سلِّمت الفرنكات إلى السفارة الفرنسية (استعادتها أسماء البكري فيما بعد من السفارة الفرنسية بالقاهرة). وجرى التجاوز عن محتويات حافظة أوراقي، وأُطلِق سراحُنا فصعدنا إلى الطائرة التي انتظرتنا طول الوقت.

•••

خلال الرحلة اكتشفت أنَّ لكلٍّ منا — أنا وأسماء — رؤية مختلفة للفيلم المُقترَح، وللحياة كلها. نظرَت أسماء إلى مشروعنا على أنه فيلم سياحي، وتجلَّت هذه النظرة بوضوح عندما انتهيت من إعداد السيناريو، ثُم عندما قرَّرَت، بصفتها المنتجة، أنه لا حاجة بي للاشتراك في رحلة التصوير، أي أنه لا حاجة إلى السيناريو نفسه.

انقطعت علاقتي بالفيلم، وفي ٧ / ٨ / ١٩٩٥م نشرت جريدة الأهرام أن الفيلم الوثائقي عن النيل الذي ينتجه التليفزيون الفرنسي قد استغرق تصويره ثلاثة شهور، ويجري تحميضه تمهيدًا لعرضه، وأنه تكلَّف ٣٠٠ ألف جنيه.

ولم أعرف بعد ذلك إذا كان قد تم عرضُه، ولم أتلقَّ ردًّا من شركة الإنتاج عندما استفسرت منها عن مصيره، كما لم أعثر على أي أثر له في سجلات هيئة SCAM، التي تضم كافة التفاصيل الخاصة بالنشاط السينمائي الفرنسي؛ عندما ذهبت إلى مقرها بصحبة المخرج التونسي مصطفى الحسناوي، ثم أهملت الأمر تمامًا منشغلًا بأموري الخاصة.

•••

منذ عام ١٩٩٤م، تاريخ كتابة السيناريو، وخلال السنوات الاثنتَين والعشرين التالية، انسابت مياهٌ كثيرة في نهر النيل؛ ووقعت أحداث وتغيُّرات هائلة على ضفَّتيه؛ اختفى زعماء، وزالت سلطات، ونشأت دولة جديدة على الأقل في جنوب السودان، وقامت ثورات منها اثنتان متتابعتان في مصر، وأقدمت إثيوبيا على بناء سد النهضة؛ ليحتجز جانبًا من المياه التي يزود بها النيل مصر والسودان، ولم يعُد هذا السيناريو صالحًا فأي فيلم يتم إعداده اليوم عن نهر النيل لا بد أن يعكس هذه التطورات.

ومع ذلك ستظلُّ هناك أهميةٌ ما لتوثيق أي مرحلة زمنية مرَّ بها النهر «الخالد»!

صنع الله إبراهيم
٢٠١٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥