١

الطريق الوعر الصاعد بين المزارع إلى جبال رونزوري. إنه طريق بلا نهاية، وهو يمر بخط الاستواء. تحفُّ به نباتات وتعترضه مُنحدَرات أودية يُغطِّيها الضباب، ولا يكشف عن شيء سوى الطبيعة الملوَّنة. صيحة شمبانزي. قرود. بين الحين والآخر تبدو من النباتات ملامح جدول. صوت هدير بعيد. مزارع الموز. سعفه يغطي سقوف الأكواخ. فتيات يحملْنَ زكائب الغلال والحطب. غابات تبدو بها لمحاتٌ من جدولٍ وخرير مياه إلى أن نصعد، وتتجلَّى المياه تتدفق من الصخور الضخمة قادمة من قمم الجبال.

•••

إنها جبال رونزوري الشاهقة، جبال القمر الأسطورية، بارتفاع ٥١٢٢ مترًا فوق سطح البحر، الواقعة فوق خط الاستواء مباشرة، على الحدود بين دولتَي أوغندا وزائير، وبين اثنَين من أشهر وأكبر أنهار العالم: النيل والكونغو.

***

قمم الجبال بتيجانها الستة المغطَّاة بالجليد.

•••

إنها متوَّجة دائمًا بالجليد والأنهار المتجمدة، وعندما يذوب تندفع مياه الأمطار إلى أسفل، في شلالات صاخبة إلى روافد ونُهَيراتٍ تُغذِّي عدةَ بحيرات ما تزال ثلاثٌ منها تحمل أسماءً أوروبية ذات رنين ملكي. النيل يبدأ هنا ثلجًا على ارتفاع ١٦٧٦٣ قدمًا.

***

خارطة كاملة لنهر النيل تبيِّن سيره من المنبع إلى المصب.

•••

إنه من أطول أنهار العالم؛ إذ يبلغ طوله أكثر من ستة آلاف كيلومتر، ويمتدُّ في استقامة عادية من الجنوب إلى الشمال، مارًّا بعدة مناطق مناخية، على عكس معظم الأنهار التي تنبع وتصب في منطقة مناخية واحدة، وهو أيضًا النهر الوحيد الذي استطاع أن يشقَّ طريقه في شمال أفريقيا، ويحمل جزءًا من المياه الاستوائية إلى البحر المتوسط، وعبر قفار الصحراء الكبرى التي ينساب فيها مسافة ٢٧٠٠ كيلومتر بين العطبرة والبحر الأبيض، دون أن يتلقى رافدًا واحدًا وهي ظاهرة فريدة؛ إذ لا يوجد نهر آخر تمكَّن من الجري كل هذه المسافة دون أن تتبدَّد مياهه قبل أن يصل إلى البحر، وقد أمكن ذلك نتيجة عامل فريد، هو أن للنهر عدة مصادر.

***

خارطة للبُحيرات الثلاث جورج، إدوارد، وألبرت، تُبيِّن نُزولَ الأمطار إليها من الجبال، وستلازمنا هذه الخارطة لنملأها تدريجيًّا بتفاصيل الشبكة المائية لنهر النيل.

•••

لكن جبال القمر ليسَت إلا أحدَ المنابع المتعددة للنيل …

***

جنوب بوروندي. نبع هزيل يخرج من باطن الأرض. مبتدأ نهر كاجيرا. تل يعلوه هرم حجري صغير يحمل لوحة معدنية متآكلة، عليها كلمتان: منبع النيل.

•••

لم يُعرَف هذا المنبع إلا في عام ١٩٣٧م، وأقيم هذا النصب في قرية روتانا، جنوب بوروندي.

***

على الخارطة نتتبَّع نهر كاجيرا مسافة ٥٠٠ ميل، حتى يصب في بحيرة فيكتوريا.

•••

من أقصى منبع للنيل، تجري المياه في نهر كاجيرا، الذي يرسم الحدود بين تنزانيا ورواندا ويصب داخل أوغندا في أقصى نقطة على حدودها الجنوبية.

***

مصب كاجيرا في بحيرة فيكتوريا. المقياس بالأرقام القريبة (أول إشارةٍ إلى الرابطة التي تعقدها المياه بين الشعوب القاطنة على ضفَّتَيه، من المنبع إلى المصب. خارطة أهم محطات رصد تصرفات النيل من كتاب رشدي سعيد.)

•••

سلام وهدوء وسط طبيعة خلابة.

***

من الأرشيف: الجثث على الشواطئ.

•••

هذا النهر الذي يستمتع صيادُوه بصيدٍ وفير، وتشرف عليه قرًى تتوسَّط أوديةً رائعة الجمال، في أراضِي قبائل عريقة هي: التوتسي والهوتو، غطَّته الجثث فجأةً في صيف ١٩٩٤م، وسارت حوالي ٤٠ ألف جثَّة مع التيار مسافة مائة كيلومتر حيث بلغت بحيرة فيكتوريا، حيث كان يتم انتشال حوالَي ٥٠٠ جثة يوميًّا في شهر مايو.

فعندما بلغ مَوسِم الأمطار من عام ١٩٩٤م أوجَهُ في شهر أبريل، وصارت مياهُ الأنهار مُتخَمةً بالتربة الغنية؛ انفَجَرت في سماء كيجالي الطائرةُ التي تقلُّ رئيسَي البلدَين المتجاورَين رواندا وبوروندي، معطيةً الإشارة لأكبر حمام دمٍ شهدته أفريقيا المعاصرة.

***

من الأرشيف: مصرع رئيسَي رواندا وبوروندي. المذابح. فرق الموت. السفارة الفرنسية أو الجنود الفرنسيون.

•••

فلم تمضِ ساعةٌ حتى كانت فرق الموت التابعة لقبيلة الهوتو الحاكمة، والتي تدرَّبت في الأصل على يد الفرنسيين، تجوبُ الشوارع؛ لتتصيَّد أبناء قبيلة التوتسي بل والمعتدلين من الهوتو أنفسهم.

***

من الأرشيف: آلاف الهاربين من وجه الرعب الدموي.

•••

خلال ٢٤ ساعة، تدفَّق ربع مليون شخص من التوتسي والهوتو الذين خشوا انتقام التوتسي إذا استولوا على العاصمة عبر الحدود إلى تنزانيا، خالقين مدينة جديدة هي ثاني أكبر مدن البلاد.

***

من الأرشيف: قبور جماعية للجثث الملقاة في الطرق، أو تطفو فوق سطح الأنهار.

•••

مات في القتال حوالَيْ نصف مليون رواندي خلال شهر. وبعد شهر آخر كان أكثر من مليونَي روانديٍّ قد هجروا منازلهم، وتجمَّعوا في معسكرات؛ حيث أصبحوا ضحايا للكوليرا والتيفود والدوسنتاريا. قَدَّرت مجلة تايم أن أكثر من نصف سكان رواندا، الذين لا يبلغون العشرة ملايين، قد قُتِل أو هُجِّر منذُ أبريل حتى منتصف يونيو.

***

معالم قرية كاسانسيرو: المطعم الصغير، الفندق في العشة، سمك السردين مفروشٌ على الأرض، الشاحنات، البؤس.
خارج القرية يصعد الطريق دائريًّا بين هضابٍ خضراء. أودية زراعية رائعة الجمال، طبيعة ساحرة وملونة.
فجأةً نتوقَّف أمام تلٍّ صغير عليه لوحة تقول: هنا دُفِن ٢٨٢٧ قتيلًا ضحايا النزاع الرواندي في أغسطس ١٩٩٤م.

•••

كيف تراكم هذا القدر من الحقد داخل هذا البلد الصغير؟ الأوروبيون الذين دخلوا رواندا منذ قرنٍ وجدوا بلدًا يحكمه أصحاب الماشية الطوال القامة من التوتسي، بينما كان الهوتو الأكثر سوادًا وامتلاءً يفلحون الأرض، ولم يكن هناك عداءٌ بين الاثنَين إلا بعد أن جاء النظام الاستعماري، في البداية الألمان، ثم البلجيك الذين احتضنوا التوتسي، ودعموا سيطرتهم كعملاء لهم في حكم الهوتو، ومنحوهم الامتيازات (طول معين كشرط للالتحاق بالمدرسة!) فثار الهوتو في ١٩٥٩م، واضطر البلجيكيون للتخلي عن عملائهم، وتراجعوا تاركين الأقليةَ تحت رحمة الأغلبية، وفرَّ آلاف التوتسي إلى أوغندا حيث انتظروا ثلاثين سنةً فرصةَ استعادة سلطتهم. وعندما أُعلن استقلال رواندا في ٧ يوليو ١٩٦٢م، كانت أُسُس المذبحة القادمة قد وُضِعَت؛ فقد فرضت الحكومة الهوتية على الجميع أن يحملوا بطاقات عنصرية، وجرى الحديث عن وضع التوتسي في مناطق خاصة. وعندما تدهور وضع البلاد التي حكمها منذ عام ١٩٧٣م أحد الديناصورات المكروهين في وسط أفريقيا، غزاها التوتسي من أوغندا وشنوا حربًا أهلية ضد الهوتو المدعومين عسكريًّا من فرنسا، وتوقَّفت في أغسطس ١٩٩٣م باتفاق يتيح لهم الاشتراك في السلطة، لكنَّ المتشددين من الهوتو المتمثِّلين في الحرس الجمهوري لم يستسلموا، وخططوا في عناية حتى إنَّ الكثيرين يعتبرونهم مدبِّري مصرع الرئيسَين.

***

بحيرة فيكتوريا.

•••

أكبر خزان لنهر النيل، وأكبر بحيرة في أفريقيا، وثالث أكبر بحيرة في العالم. وتتقاسم شواطئها ثلاثٌ من أكبر دول شرق أفريقيا: أوغندا وتنزانيا وكينيا، وصفت بأنها مِرآة هائلة للشمس الأفريقية القوية. يمكن مشاهدة النظام الإقليمي للنيل (من مصبِّ كاجيرا إلى مخرج جينجا) الذي ظلَّ عصورًا جيولوجيةً طويلةً منفصلًا عن بقية الأجزاء، ولم يتصل بها، وتتجمَّع كلها في نهرٍ واحدٍ مترابط إلا منذ ٢١ ألف سنة فقط؛ فهو أحدث أنهار أفريقيا جغرافيًّا، وأقدم أنهار العالم كله تاريخيًّا.

***

خزان أوين.
لوحة منبع النيل، هنا تنتهي بحيرة فيكتوريا ويبدأ نيلها.

•••

انتهى بناء خزان أوين في سنة ١٩٥٤م، واتفقت دول النهر على نصاب معين من المياه لكلٍّ منها؛ ويشرف ممثلون لها على مراقبة صرف المياه.

***

النيل يجري حتى شلالات ماباريجا (مورشيسون).
المياه تتخبط في غضب بين الصخور السوداء الضخمة مُطلِقةً رذاذًا عاليًا، ومنحدرة في صخب.

•••

هنا يسقط النيل من عُلو أربعين مترًا في زَبَد وصَخَب، ويجري حتى الطرف الشمالي من بحيرة ألبرت، التي أَطلَق عليها ديناصورٌ أفريقيٌّ آخرُ اسمَه، فأصبحت تُدعى بحيرة موبوتو سيسي سيكو، ويخرُجُ منها نيلًا مُتوَحِّدًا لأول مرة.

•••

نيل فيكتوريا العريض، وجدران الشواطئ التي حفرت فيها عوامل التعرية تماثيل.

***

تماسيح سمينة بلون البرونز نائمة في النهر، بأفواه فاغرة، عكفت طيور الخدمة على تنظيف أسنانها.

•••

صمد التمساح منذ ٢٠٠ مليون سنة لعصور الثلج وتحرُّك القارات، رغم انقراض أقاربه من الديناصورات. خجول؛ يختفي في غمضةِ عين ويقضي وقتَه راقدًا يتشمَّس فاغرًا فاه، وفجأة يتحرَّك في سرعة البرق، يتراوح أحجام أفراده من ثلاث أقدام إلى ٢٥، ومن عِدَّة أرطالٍ إلى طن، بعضُها يعيش مائة سنة. تمساح النيل ماكر بحيث يفلت من الإنسان، وقوي بحيث يُسقِط جاموسَ النهر، ورقيق بحيث يهشم بيضه ليطلق سراح الصغار. يتغذَّى على الغزال والجاموس بل والإنسان، لكن الطعام الأساسي هو الضفادع والسلاحف والسراطين والسمك. لا يمضغ وإنما يكسر ويقضم ويبتلع، وهو يبتلع أيضًا الأحجار التي يحتك بعضُها ببعض داخل معدته، فتساعد على طحن الطعام، يَرعَى الأبُ والأمُّ الصغار عندما يفقس البيض، عَرَف أيامًا مجيدة عندما كان المصريون القدماء يضعون أساورَ ذهبيةً في أرجله. وروى سترابو الجغرافي الإغريقي أنَّه شاهَدَ الكهنة يفتحون فم تمساح مقدس، ويضعون فيه اللحم المشوي والكعك، ثم يصبون النبيذ الممتزج بالعسل.

***

قطعان فرس النهر.

•••

أكبر ثدييات المياه العذبة، قد يصل وزنه إلى ثلاثة أطنان، ومع ذلك خفيف الحركة. يغطس لمدة أربع دقائق ثم يصعد ليتنفس، وخلال ذلك يمكنه أن يغلق أذنَيه وأنفه. الذكر يعيش مع بضع إناث. قدَّسه قدماء المصريين، واعتبروه إلهًا للحمل.

•••

لوحة سقارة لأم فرس نهر تلد صغيرًا يتلقفه تمساح.

***

أسراب الطيور.

•••

فوق هؤلاء عالم من الريش: كل الطيور التي تعبر شمال أفريقيا وبعضها من أوروبا، تتجمع هنا ويغطي صراخها على ضجيج المياه.

***

أبو منجل المقدس.

•••

جنة من الطيور الغريبة والملونة، يسهل وسطها تمييز طائر أبيض وأسود، يتأمل ما حوله في رصانة، ويسير مَحنِيَّ الرأس، كما لو كانَ يُفكِّر، وهو في الغالب يبحث عن دودة يلتهمها، ثم ينشر في بطء — على شكل قوس — أجنحتَه المُخطَّطة بالشرائط الصفراء ليحلق في رشاقة. إنه أبو منجل الذي عبده المصريون القدماء في الطرف الآخر من النهر، بعد أن أعطوه دور إله الحكمة وسط شبكتهم المعقدة من الآلهة ذات الوظائف المتعددة، لكن لا أثرَ له بمصر الآن.

***

صفوف من نباتات البردي. أكواخ ذات سقوف مخروطية من أعواد البردي. نساء في ملابسَ مُلوَّنة يأخُذن مياهَ البُحيرة للغسيل والطهي، ويحملْنَ الأطفال على ظهورهن.

•••

إن أشياءَ كثيرةً هنا تُذكِّر بمصر القديمة مثل نباتات البردي، التي اصطنع منها المصريون القدماء ورقًا للكتابة.

***

قطعان البقر الهزيل بالقرون الكبيرة المقوَّسة في نصف دائرة، حيث كان يقبع آمون.

•••

وهذه البقرة ذات القرون المقوسة كان الفراعنة يعبدونها، ويضعون قرص الشمس الذي يرمز إلى الإله رع بين قرونها، فتصبح إلهة للفن والجمال والموسيقى.

•••

البقرة المقدسة عند قدماء المصريين.

***

الطريق من عنتيبي إلى كمبالا، عاصمة أوغندا. التربة الحمراء. تلال النمل الأبيض. قمائن الطوب الأحمر. دكاكين وأكشاك. صفيح وخشب. أمامها نساء تغسل في طشوت بلاستيك. امرأة بماكينة حياكة. أطفال يحملون جراكن الماء على رءوسهم، إعلانات الكوكا وبنك باركليز، بروك بوند وكولجيت وبنزين توتال. إعلان: هل تريد أن تصبح غنيًّا؟ الرجال. النساء. ملابسهن. منصات البيع على جانبَي الطريق: في البداية الموز الأخضر بكميات كبيرة والذي يُستخدم في الطهي، ثم على مراحل تظهر المانجو ثم الطماطم ثم البطاطا، ثم دكاكين لكل شيء. دخان العادم الكثيف من الشاحنات، الخضرة الوافرة.

•••

نحن هنا في قطعة من الجنة التي وَعَد بها الربُّ المؤمنين مِن عِبادِه على لسان رسله. هنا صيفٌ دائمٌ من غير قَيظِ النَّهار ورطوبة الليل، يجلب على مدار السنة درجة واحدة لا تتغير من الشمس والمطر، فتثمر الأرض من تلقاء نفسها، إنها أوغندا التي صارت أغنى وأبرك من كل جيرانها بسبب الطقس الكريم، ولأن حظًّا سعيدًا أبقى الرجل الأبيض بعيدًا عن أراضيها حتى منتصف القرن التاسع عشر، ولم يسمع زنوجها «المتوحشون» لأول مرة عن الجنة الأخرى المدونة في الكتب المقدسة إلا من Speke في لقائه مطلع عام ١٨٦٢م بآخر ملوكهم موتيسا الذي سجله رسمًا زميله Grant.

***

سبيك وجرانت يذهبان إلى جنجا لرؤية مبدأ النيل.

•••

وهو اللقاء الذي كان خطوة حاسمة في نتيجتَين: اكتشاف منابع النيل، وبداية الزحف الأوروبي على أفريقيا: إنجلترا وفرنسا وألمانيا والبرتغال وشخص واحد هو ليوبولد ملك بلجيكا. فسرعان ما كانت البعثات التبشيرية الإنجليزية والفرنسية تتقاتل، من أجل الاستحواذ على روح الأفريقي الأسود؛ لأن الإيمان بإله أبيض كان ضروريًّا لرفع أسهم شركات القطن، الذي كان مخططًا لأوغندا، بل وكل بلاد حوض النيل وواديه، أن تصبح موردًا رئيسيًّا له. وعندما تمرَّد الملك موتيسا، فرضت بريطانيا سنة ١٨٩٤م، منذ مائة سنة بالضبط، الحماية على بلاده بعد أن أدمجتها في كيان جديد يتألَّف من أكثر من أربعين جماعة متباينة لغويًّا وثقافيًّا، واضعةً بذلك بذور الاقتتال والفتن، وقدَّمت للأهالي خدمات صحية ومدارس، وفرصة العمل في قيادة السيارات، كما علمتهم تدخين السجاير الإنجليزية، وشراء القبعات، ومصابيح الجيب، وزجاجات الويسكي، وحصلت في مقابل ذلك على أرض خصبة، تصدر البن والشاي إلى جانب القطن، تكمل طرقها الجوية والتجارية. كما حصلت على ٢٠٠٠٠٠ رجل (من تعداد ثلاثة ملايين وقتها)، شاركوا في الحرب العالمية الأولى، ثم في قتال الجيران الألمان في شرق أفريقيا؛ ولهذا لم يكن من المستغرب أن يلقبها ونستون تشرشل بلؤلؤة النيل.

***

طائر مارابوت الشره، الذي يأكل بقايا الجثث واللحم فوق المنازل والأشجار، وصوته المزعج وشكله المخيف.

***

كامبالا: الميكروباصات، ضابطات المرور، الشرطة المسلحة بالآليات، رجال وشبان واقفون لا يفعلون شيئًا أو جالسون في تجمعات قليلة، صامتين أو يلعبون الورق أو الدومينو. المباني الإدارية الحديثة. صناديق القمامة في الأركان ومحتوياتها متناثرة، وهناك من يقلب بينها بحثًا عن شيء ذي فائدة.
فندق الشيراتون: الرواد المعهودون، امرأة وحيدة تشرب بيرة، أبناء الأغنياء يلعبون البلياردو، أوروبيون يقرءون الصحف، قناة سي إن إن في التليفزيون.

***

الخارطة: مثلث لويرو (مجلة ناشيونال جيوغرافيك).

•••

غير بعيد من شمال العاصمة كمبالا منطقة زراعية، تُعرَف باسم مثلث Luwero كانت محظورة على الأجانب، والصحفيين منهم بوجه خاص في بداية الثمانينيات، وفي عام ١٩٨٨م، أصبح من الممكن مشاهدة منصَّات بيع الموز والطماطم على جانبَي الطريق الرئيسي الذي يمر بها، وقد رُصَّت فوقها جماجم وعظام جمعت من حقول القتل في أراضي قبيلة Baganda التي ذبحها جيش ميلتون أوبوتي بين عامَي ١٩٨٠م و١٩٨٥م، وهي الفترة التي انطلق فيها رجاله، وأغلبهم من أبناء الشمال، يغتصبون وينهبون لجمع رواتبهم، وقتلوا خلالها أكثر من نصف مليون شخص، عُذِّب أكثرهم بوحشية بالغة قبل أن يُضرَبوا حتى الموت بالهراوات، كما تصور الرسومات الموجودة إلى الآن على جدران السجون. بعض الرسوم الأخرى تُصوِّر طريقةً متميزةً في التعذيب، هي سكب بلاستيك منصهر من جركن على وجه الضحية.

***

من الأرشيف: فرحة الاستقلال. موبوتي يزيح الستار عن تمثال الاستقلال.

•••

عندما حصلت أوغندا على الاستقلال من بريطانيا سنة ١٩٦٢م، وسط المواكب والاحتفالات والموسيقى التقليدية، لم يكن شيء من كل هذا يبدو في الحسبان؛ فقد بدا المستقبل ورديًّا؛ بسبب الإمكانيات المتوفرة للبلاد التي تصدر البن والقطن والشاي، ولديها صناعة نسيج واستخراج نحاس، وقوة كهربائية تكفي أمةً أكبرَ وأكثرَ تصنيعًا.

***

من الأرشيف: إمكانيات البلاد الاقتصادية.

•••

لكن الجميع كانوا واهمين. فكيف يمكن ببساطة التخلص من تركة قرن من الاستغلال الاستعماري؟ لقد تم رسم الحدود بين الدول الأفريقية بواسطة الدول الاستعمارية، وشغلت معظم الدول الأفريقية نتيجة ذلك مساحات إقليمية أوسع كثيرًا من حدود المساحات أو الأقاليم التي تشغلها القبائل المحلية، وبعض هذه الدول يتكوَّن من شعوب مختلفة عرقيًّا وعقائديًّا وتاريخيًّا.

***

خارطة لقبائل شرق أفريقيا والحدود الدولية.

•••

وكان تذمُّر زُرَّاع القطن الأوغنديين مِن استغلال أصحاب المحالج الأجانب في الفترة الاستعمارية، يُواجَه بقوةِ شرطةٍ وجيشٍ أوغندية، حرصت بريطانيا على أن تقصر الخدمة فيها على أبناء الشمال، وهي منطقة أقل ازدهارًا من الناحية الاقتصادية، وجاء منها أول رئيس وزراء للبلاد هو ميلتون أوبوتي، الذي برز كأحد الوجوه الشابة لحركة عدم الانحياز، الذين يرفعون شعارات «ثورية» على المستويَين؛ السياسي والاجتماعي.

***

ثلاثة من أبطال الحلم الأفريقي: كنياتا ونيريري وأوبوتي.

•••

لم يلبث أوبوتي، في محاولة لمَركَزَة الدولة، أن تربَّعَ على رأس جهاز إداري وبوليسي من أبناء جلدته الشماليين، الذين أقبلوا يعوِّضون حرمانهم الطويل على حساب بقية أبناء البلاد، ونشروا فسادًا لم ينتهِ عندما استولى على الحكم في انقلاب عسكري سنة ١٩٧١م شماليٌّ آخر ورقيبٌ سابق في جيش الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس، هو عيدي أمين الذي أطلق عصاباته (جنود سكارى في ملابس غير مهندمة وأحذية مفكوكة الأربطة) تنهب وتغتصب وتقتل وتضرب حتى الموت ٣٠٠٠٠٠ أوغندي، بينما أمتع الصحافة العالمية بتصريحاته عن قواه الجنسية، عارضًا خدماته في هذا الصدد على ملكة بريطانيا.

***

من الأرشيف: عيدي أمين يحمل العلم في الجيش الإنجليزي. يلعب الكرة. يتزوج أربعًا. يخطب ويثرثر. يرقص. ثم يُقتَل.
جثث ألقت بها المياه على شواطئ بحيرة فيكتوريا في مايو ١٩٧٣م. القتل بالمطرقة. مكتب المباحث في نكاسيرو ١٩٧٩م.
يُمنَع الميني جيب وأدوات التجميل للسيدات. يُجبَر البِيض على حمله فوق رءوسهم، يجمع التبرعات لمساعدة إنجلترا في أزمتها الاقتصادية. مع موبوتو وبوكسا. ملأ صدره بالنياشين.

•••

لم يتمكن أمين، رغم «قواه» الواضحة، من البقاء في الحكم طويلًا، وهرب عام ١٩٧٩م إلى المملكة السعودية أمام قوات المعارضة المؤيَّدة من الجيش التنزاني …

***

من الأرشيف: أمين في منفاه بالسعودية.

•••

وترك خلفه خزينة خاوية و٣٠٠٠٠٠ أوغنديٍّ قتيل، ونظامًا أصبح عنفُ العسكر جزءًا لا يتجزَّأ من تركيبته.

فقد بدأت التصفيات المتبادلة بين القبائل، وتحول نقص في المواد الغذائية في سبتمبر ١٩٨٠م إلى مجاعةٍ راح ضحيتها ٣٠٠ ألف؛ أغلبهم من قبائل الرعاة والمحاربين في شمال شرق البلاد.

***

من الأرشيف: مذابح أوبوتي.

•••

في الانتخابات العامة التي جرت في ديسمبر ١٩٨٠م، فاز حزب أوبوتي وعاد من منفاه ليحكم من جديد متحالفًا مع المؤسسة العسكرية، وبدأ مسلسل الانتقام الدموي والفساد بمستوًى فاق ما فعله أمين، وجابت فرق الموت أنحاء البلاد ذابحةً نصف مليون نسمة.

***

من الأرشيف: لافتة «الموجندي الطيب هو الميت.» رسوم تُمجِّد عمليات التعذيب: إسقاط بلاستيك منصهر من جركن فوق وجه الضحية، أو الضرب بهِرَاواتٍ خاصةٍ فوق الرأس حتى الموت.

•••

وطرد نصف مليون آخرين إلى حدود السودان وزائير، لم يَعُد منهم إلا النصف؛ عندما سقط أوبوتي في ١٩٨٥م على يد جيش المقاومة الوطني بزعامة يوري موسيفيني، الذي أعلن عزمه على القضاء على القبلية.

***

شارع كبالاجالا بالليل: الطريق إليه مظلم؛ فلا أنوار بالليل. زحام السيارات. الجموع المنتشرة على المقاهي. المطاعم ذات التراسات حيث الأجانب والباعة الجوالون للأقنعة والتماثيل الصغيرة للأفيال.

•••

إن كمبالا اليوم تنعم بالسلام والهدوء بعد قرابة العشر سنوات من حكم موسيفيني، وسكانها يبدون جميعًا في صدر الشباب، ومن النادر أن ترى بينهم عجوزًا واحدًا وهو أمر مفهوم، وهم يستمتعون بحياة ليل وادعة في وسط المدينة الذي تضيئه أنوار السيارات وحدها، متناسين لبضع ساعات الأخطار المحدقة بهم، بدءًا من المذابح العنصرية إلى سوء التغذية والملاريا، والحمى الصفراء التي تسببها ذبابة تسي تسي المميتة، وأخيرًا طاعون العصر.

***

بوستر الإيدز في مكتب البريد.

•••

فأوغندا التي افترستها حرب عنصرية متقطعة على مدى عشرين عامًا، كلَّفتها مليون قتيل، يَتهدَّدُها الآن خطر الإيدز، الذي يصيب نفس الفئة العمرية التي تصيبها الحرب وهي بين ١٨ سنة و٤٠، وينتقل أساسًا عن طريق العلاقات الجنسية، ويصيب الأهالي بمرض «الهزال». وحسب تقديرات ١٩٨٨م غير الرسمية فإن واحدًا من كل خمسة بالغين نشطين جنسيًّا في العاصمة يُمكِن أن يكون مصابًا. وتصل النسبة في بعض الأماكن وخاصة على الشاطئ الغربي من بحيرة فيكتوريا قرب الحدود التنزانية إلى ستين بالمائة. وكل منزل تقريبًا في الريف القريب من بلدة Kyotera فقدَ واحدًا من سكانه أو سيفقده في القريب.

***

مستشفى مولاجو في كمبالا.

•••

أما المستشفيات فقليلة (طبيب لكل ٢٢ ألفًا من السكان) والجنازات يومية وغالبًا متعددة، وفي كمبالا تستقبل مستشفى مولاجو يوميًّا خمسة مرضى جددًا بالإيدز، وفي إحصاء أُجرِي على مستشفًى آخر سنة ١٩٨٦م، تَبيَّن أن نسبةَ الإصابة بين النساء الحوامل هي سبع بين كل خمسين. وهي نفس النسبة في الرجال المتبرعين بالدم.

•••

معهد أبحاث الفيروسات في عنتيبي.

***

سيارات أخذ عينات الدم.

•••

إن ما يضاعف من خطورة الموقف هو بساطة العلاقات الجنسية وسهولتها. وتقوم الحكومة بحملة واسعة من التوعية بين الأهالي الذين دفعتهم الظروف المأساوية إلى التساهل في شأن المبادئ الأخلاقية للدينَين اللذَين يؤمنون بهما؛ المسيحية والإسلام، ونشدان السلوى في نشاط غير سياسي، مجلب للذة وإن تكن وقتية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥