٣
الأمطار التي يستمتع الفلاح المصري بنتائجها (الفيضان) في أكتوبر من كل عام، تزور زميله الإثيوبي قبل ذلك بعدة شهور، وفي منتصف يونيو بالتحديد، في هيئة مرعبة، عواصف ورعد أعنف وأكثر من أي مكان آخر على ظهر الأرض. فتظهر انفجارات السحب وتختفي فجأةً ككل شيء في ذلك البلد الغريب، بعد أن تُدمِّر الرجال والماشية والأكواخ.
***
•••
فالأنهار التي تنبع من حيث ينبع النيل في إقليم بحيرة تانا، تجفُّ في الشتاء فيتحول السكان إلى بدوٍ طوال تسعة شهور إلى أن يفاجئهم، كل مرة، اندفاع المياه من أعالي الهضبة في دمدمةٍ سرعان ما تتحول إلى زئير، ويترك الآلاف بيوتهم على عجل ويلجئون إلى الجبال الأكثر علوًّا كما تتوقف كل المواصلات النهرية، ثم يعودُ كل شيء إلى حاله في سبتمبر.
***
•••
تعتبر إثيوبيا نافورة المياه الأفريقية؛ فهي أغنى بلاد النيل في مصادر المياه إذ تحفل بالأنهار الداخلية التي تصب في البحر الأحمر، وخليج عدن، وعديد من الأنهار الكبرى التي تذهب إلى الصومال فالمحيط الهندي، والأخرى التي تتبدَّد مياهها في صحراء السودان مثل القاش، وبركة أو التي تصبُّ في النيل مثل عطبرة والسوباط والنيل الأزرق. والأهم في هذا كله أنها المنبع الرئيسي لنهر النيل إذ تزوده بحوالي ٨٤ بالمائة من مياهه عند أسوان.
***
•••
***
•••
قبل أن يغادر النهرُ الحبشةَ، كان يُواجَه عادةً (وربما إلى الآن) بمشهدٍ غريب ألقى ضوءًا ساطعًا على تاريخ البلاد، مئات من الزنوج العرايا ينحنون في المياه أسفل حرارة الشمس اللاهبة، يُنقِّبون بين أحجار وحصًى فوق كفوفهم عمَّا يلمع من بينها، فيحتفظون به فوق صفحة خشبية، ويلقون بالباقي جانبًا، وعندما ينتهي يوم العمل يصبُّون ما جمعوه في أوانٍ صُنِعت من أجزاء نبات القرع، ويحملونه إلى الملاحظ الذي يزنه بموازين أوروبية صغيرة، إنه الذهب الذي كتب البحث عنه هو والعبيد مصير البلاد.
***
•••
***
•••
هكذا كان الأمر دائمًا منذ تحلَّت (وفقًا للأسطورة) بكل ما لديها من ذهب، أجمل الأميرات الحبشيات وأشهرهن، ملكة سبأ، وذهبت إلى أورشليم للقاء الملك سليمان؛ فأنجبت منه «منيلك ابن الحكيم»، الذي تولَّى العرش مؤسسًا أسرةً حكمت أطول من أي واحدة غيرها في الشرق الأوسط: من ٨٠٠ قبل الميلاد إلى ٨٠٠ بعده!
***
•••
***
•••
***
•••
***
•••
لكن المجتمع المسيحي الدولي لم يتقبَّل هؤلاء المؤمنين ذوي البشرة الداكنة، إلا بعد أن تواترت الأنباء عن ثرواتهم من الذهب والعبيد؛ فتوافد جيزويت روما، مبعوثون من البابا. وسرعان ما دب الصراع الدموي بين الرؤساء (جمع «رأس») ذوي الأصل العربي اليهودي، الذين كانت كنائسهم عبارةً عن أكواخ، واحتفالاتهم الدينية طبول وصراخ، بشأن الخلاف حول طبيعة المسيح، وفي سنة ١٦٣٠م بينما كان الأوروبيون يقتتلون على نفس القضية، كان القبط والكاثوليك في الحبشة يذبحون بعضهم البعض من أجلها.
***
•••
***
•••
***
•••
لكنَّ هذه الإمبراطورية التي يصل حجمها إلى حجم فرنسا وإيطاليا سويًّا، لم تخرج أبدًا من العصور الوسطى؛ ففي مطلع القرن العشرين كان أكثر الأباطرة مسيحيةً يملك ٥٠٠ جارية فضلًا عن كل شيء آخر، وفي منتصف القرن كان هناك ٥ ملايين عبد، ومئات الألوف من الرهبان والقسيسين بلحًى مرسلة، وعمائم بيضاء هائلة، وأحذية مدببة الطرف إلى أعلى، وصليب من العظام أو المعدن يتدلَّى فوق الصدر، الصفوة بينهم هم المتعلمون، ويرفضون ترجمة الإنجيل من الإثيوبية القديمة إلى الأمهرية الحية؛ وبذلك نجحوا في وضع أيديهم على قطعٍ كبيرةٍ من الأرض يزرعها العبيد، أما رئيسهم فيحمل لقب «بابا الأقباط والأحباش» وينتخبه المجمع المقدَّس في الإسكندرية.
***
•••
وإلى جانب هؤلاء عدة مئات الألوف من المسلمين في الإقليم الشمالي (تقترب نسبةُ المسلمين بين السكان من النصف) يمارسون عادة اقتبسوها من إحدى قبائل أواسط النيل الأبيض، وهي تخييط فرج الفتاة عند البلوغ بشعر الجياد؛ حتى تكون عفتها مضمونةً عند الزواج، أما الختان فقد مارسه المسيحيون على الجنسَين نقلًا عن الفلاشا، الذين لم يكونوا يعرفون العبرية ولا التوراة، ومع ذلك يتطهرون بعد أي احتكاك بغير يهودي (فلا يفترقون عن غلاة الإسلاميين المتعصبين في مصر اليوم، الذين قد يرفضون تناول كوب ماء من يد مسيحي، بمثل ما يرفضون أن تجلس المرأة المسلمة فوق مقعد جلس عليه قبلها بربع ساعة رجل، ولو كان مسلمًا!) ولا يتميزون عن بقية الأحباش في شيء؛ إلا بأنهم أمهر حِرفيي البلاد، ويشترك الجميع في شيء فريد هو أنهم لا يعرفون التقبيل بالفم!
***
•••
هكذا ظلَّت إثيوبيا في عزلةٍ عن العالم (بخط تليفوني واحد، وخط حديدي واحد، يدخلان العاصمة) حتى اجتاحت رياح التغيير أفريقيا في بداية الستينيات، وتمكن إمبراطورها العجوز الداهية من الصمود بأن استقبل في أديس أبابا رؤساء الدول الأفريقية «الثوار» في مايو ١٩٦٣م، وقدم العاصمة الإثيوبية مقرًّا لمنظمة الوحدة الأفريقية، بينما قدم في الوقت نفسه أضخم قاعدة للاتصالات والتسهيلات العسكرية للولايات المتحدة؛ مفتتحًا بذلك لعبة كراسي موسيقية لم تنتهِ حتى الآن.
***
•••
لكنَّ أسد إثيوبيا العجوز لم يصمد طويلًا؛ فقد بدأ الصوماليون الذين تحالفوا مع السوفييت زحفهم التدريجي؛ لاستعادة إقليم أوجادين الذي ضمه الإمبراطور، بينما ظهرت في إريتريا حركة تحرُّر، نالت بدورها عطف السوفييت الذين كانوا يرفعون شعار تأييد حركات التحرر الوطني. وفي ١٩٧٤م كانت إثيوبيا التي أنهكتها مجاعة قاسية في الشمال راح ضحيتها قرابة ربع مليون نسمة، واحدة من أفقر بلاد أفريقيا بأقل معدل عمر في العالم: ٣٩ سنة، ومعدل أمية ٩٣ في المائة، عندما أطاح انقلاب عسكري بالإمبراطور، وبالطبقة الإقطاعية الحاكمة.
***
•••
وبتأميم الأراضي التي كانت حكرًا على الطبقة الإقطاعية الحاكمة والكنيسة، بدأ التحول التدريجي نحو الماركسية.
***
•••
وألفت الولايات المتحدة نفسها على قارعة الطريق، بعد أن سقطت قاعدتها الضخمة في يد السوفييت، لكنها لم تلبث أن وجدت نقطة ارتكاز بديلة في القرن الأفريقي عام ١٩٧٧م، بعد قرار حكومة سياد بري الصومالية بطرد السوفييت، فورث الأمريكيون القاعدة السوفييتية في بربرة ومقديشيو، بينما انساق السوفييت في تأييد منجستو ميريام، وأولوا ظهرهم لحركة إريتريا.
***
•••
لقد قام نظام منجستو بعملية تحديث كبرى، ظهرت نتائجها في الريف بوضوح، وفي تحسُّن وضع المرأة، لكنَّه لم يستطع أن يتخلص من آفات العالم الثالث التقليدية؛ فدخل حربًا مريرة؛ للحيلولة دون عودة إقليم أوجادين إلى الصومال، واستقلال إريتريا، وشنَّ إرهابًا أحمر قتل فيه أكثر من عشرة آلاف شخص، من العناصر التي طالبت بحكومة مدنية.
***
•••
وعندما تقلصت المعونات بسبب الصعوبات الاقتصادية التي واجهها الاتحاد السوفييتي في أوائل الثمانينيات؛ بدأ ميريام يتطلع حوله بحثًا عن مخرج، ومن أجل دخول واشنطون نظَّم مع قرينه السوداني جعفر النميري الذي كان يواجه موقفًا مشابهًا «عملية موسى»، التي تم بها نقل كافة أبناء الفلاشا (٣٠٠٠٠) سرًّا إلى إسرائيل (حيث اكتشفوا فجأة أن إله موسى الأبيض اللون يفضِّل مؤمنين من نفس اللون) مقابل حفنة من الدولارات، ووعود بتسهيلات ائتمانية من البنوك العالمية، لكن موسى الذي أنقذ قومه من فرعون مصر، عجز عن إنقاذ ميريام.
***
•••
ففي خلال ذلك كله كانت الولايات المتحدة، بعد خروجها من الصومال برفقة سياد بري، ترسم في نشاط مخططًا كاملًا للقرن الأفريقي، يقوم على تقسيم إثيوبيا، بالتعاون مع إسرائيل بالطبع، هكذا سهل الاثنان سقوط منجستو في مايو ١٩٩١م وتسليم السلطة لجبهة التحرير الشعبية، وهي حركة ماركسية لينينية من إقليم تيجري، تحولت إلى الليبرالية، والتزمت أمام مستر كوهين، مدير قسم أفريقيا في وزارة الخارجية الأمريكية، في اجتماع عُقِد في لندن، باحترام التعددية السياسية وتقسيم البلاد، التي تضم ٨٠ جماعة عرقية، إلى ١٤ إقليمًا عرقيًّا.
***
•••
عاصمة إثيوبيا ويعني اسمها «الزهرة الجديدة»، ترتفع مبانيها الحديثة ثمانية آلاف قدم من بحر الأكواخ الطينية، وتتمتَّع بطقس بديع دائم الاعتدال. إن الهدوء يسودها الآن، لكنه هدوء مشوب بالحذر، كما تقول عادة التقارير الصحفية عندما تفتقد إلى معلومات محددة؛ إذ أحيانًا ما تجوب طرقاتها عصابات مسلحة، مِن مجندين كانوا ينتمون إلى جيش منجستو الذي سرحته الحكومة، وتتجمع على الحدود الصومالية ميليشيات قبلية، وتواجه عدة ملايين من خمسين مليونًا خطر المجاعة في بلد ينبع منه النيل الأزرق، الذي يحمل ماء الحياة و«غرينها» إلى قرابة مائة مليون من البشر، يتعرضون للموت جوعًا وعطشًا بدونه.