٤
•••
يحتفظ النيل الأزرق بمجراه الضيق عندما يغادر إثيوبيا إلى السهل السوداني، ولا يبدأ في الاتساع إلا عند الروصيرص على مبعدة ٤٠٠ ميل من مصبه في العاصمة السودانية.
***
•••
***
•••
بينما يقترب النيل الأزرق من مصبه، يحصر بينه وبين النيل أكبر مزرعة مروية في العالم: إنها أرض الجزيرة التي تبلغ مساحتها ٢ مليون فدان، وتنتج محصول التصدير الرئيسي وهو القطن، وهو مشروع تفتَّقت عنه عبقرية المستعمر الإنجليزي، فبفضل خزان سنار وأسلوبه الفريد في حجز المياه وتوزيعها، أمكن ري المنطقة الشاسعة الفاصلة بين النيلَين، وعندئذٍ قدم الرجل الأبيض بذور القطن، وجمع المحصول في أجولة حملتها الجمال إلى محطة القطار التي أقامها على مقربة؛ ليأخذها القطار شرقًا إلى البحر الأحمر، ومنه تنقلها السفن عبر المحيط إلى جزيرته، وابتهجت ٢٠ ألف أسرة من المزارعين بماكينات الخياطة والجرامافونات التي أعادت عن طريقها ما أخذته من مالٍ إلى إنجلترا التي حقَّقت فائدة أخرى أهم؛ إذ حررت مصانعَ منشستر من الاعتماد على قطن تكساس، أما السودانيون فلم تلبث بهجتهم أن زالت، وبدأت تساورهم التساؤلات بشأن دودتَين فتَّاكتَين ترعرعتا في مياه الري؛ الأولى هي الإنكلستوما، والثانية سبق أن اكتشفها الألماني بلهاريس، وبشأن الجدوى من إنتاج مادة خام جديدة في بلدٍ يتعين عليها، كي تصدرها، أن تعيش من غير خبزٍ كان هو نتاجها الطبيعي منذ آلاف السنين؟ نفس الأسئلة التي عرفتها المستعمرات في كل مكان.
أيًّا كان الأمر، فإن «الجزيرة» لم تعُد الآن كما كانت من قبل؛ فقد أصابها المرض الخبيث، بأعراضه المألوفة.
***
•••
قبل الخرطوم بقليل يظهر جسر حديدي كبير، بأعمِدَةٍ ضخمةٍ وقباب، يجري فوقه الخط الحديدي إلى العاصمة المثلثة، التي تتكوَّن من الخرطوم وشقيقتيها؛ الخرطوم بحري، وأم درمان (المدينة الأقدم على الشاطئ الغربي).
***
•••
القلعة التي كانت مقرًّا للحاكم البريطاني، ولأحداث درامية تليق بشكسبير.
***
•••
بعد ميلٍ آخر، يظهر الجسر الثاني الضخم، وأسفله النيل الأبيض العريض، ومِن هذه اللحظة يصبح النيلان نيلًا واحدًا. ويمكن رؤية امتزاجهما، الذي وصفه شاعر رومانسي واسع الخيال بأنه أطول قبلة في التاريخ، من نافذة فندق من فنادق الخمسة نجوم، التي ترتفع في كل مدينة على النيل، حيث يمكن الحصول بسهولة على قبلة قصيرة بالثمن المناسب.
***
•••
طالما وصفت الخرطوم في الماضي بأنها «مدينة بديعة خضراء بمنازل بيضاء»، وهو وصف صارت أبعد ما تكون عنه في ظل ديكتاتورية النميري، الذي غادرها بانقلاب عسكري سنة ١٩٨٥م (أو بالأصح لم يعُد إليها؛ لأنه كان لحظتها في واشنطون يستجدي معونة) أتاح للبلاد أربع سنوات وثمانية أشهر من الحياة الديموقراطية الآمنة، انتعشت فيها الآمال، وعادت الأحزاب والنقابات التي كان النميري قد حرَّمها، بل أضيفت إليها أحزابٌ ونقابات جديدة، وعلى رأسها أول نقابة من نوعها في العالم، وهي للذين قُطعت أيديهم في ظل «شريعته».
***
•••
وللأسف فإن هذا الوضع لم يستمر طويلًا؛ لأن المشاكل التي خلفها النميري كانت من التعقيد لدرجة استعصت على الحل، ولم يتحسن الوضع الاقتصادي للجماهير مما مهد الطريق لاستيلاء الجبهة الإسلامية على الحكم؛ فأشعلت نيران الحرب الأهلية من جديد، وواصلت البلاد انحدارها إلى هاويةٍ لا قرارَ لها.
***
***
•••
من النادر أن تجدَ اليوم امرأة حاسرة الرأس، لكن حذارِ أن تُسيء الفهم؛ فما تتغطَّى به المرأة السودانية في الشمال ليس هو الحجاب الإسلامي، وإنما الزي التقليدي؛ فقد فشلت محاولة النظام في فرض الحجاب، والتي بلغت أوجها منذ عامَين، عندما كانت «شرطة الانضباط العام» تُلقي القبض على النساء السافرات.
***
•••
إن طوابير الخبز والجاز مشهد مألوف اليوم في كل مكان، وانقطاع الكهرباء يتكرر كثيرًا، ومن النادر أن تجد طريقًا معبدًا أو عاملًا ماهرًا؛ فقد هاجر الجميع إلى الخليج. وتخفض الأمراض من متوسط العمر إلى الأربعين، وحتى سنة ١٩٧٨م كان الجنيه السوداني يساوي ثلاثة دولارات ونصف دولار، أما اليوم فلا تكفي خمسمائة جنيه سوداني لشراء دولار واحد!
***
•••
كيف حدث ذلك؟ إنها القصة نفسها مع بعض التنويعات. ومن المحتمل أن الأمور كانت ستختلف تمامًا لو لم تكن لعبة البلياردو قد اختُرِعت؛ فمن أجل تزويد ستة رجال بالكرات اللازمة للعبها كان لا بد من إسقاط أضخم حيوان على سطح الأرض؛ لأن نابَيه ينتجان ثماني أو عشر كرات. وسرعان ما تحوَّل صيد الفيل إلى صيد الإنسان.
***
•••
هكذا جُرِّدت القارة «المظلمة» من قوة العمل التي كانت كفيلةً بتنميتها، وراكمت لها بؤر الأزمات.
***
•••
***
•••
فزحفوا على قلعة أم درمان، واستولوا عليها ثم استعدوا لمهاجمة الخرطوم.
***
•••
من فوق السطح كان جوردون يرقب جيش المهدي.
***
•••
القاعة التي قضى فيها جوردون أيامه الأخيرة.
***
•••
وفي اللحظة التي آمن فيها المهدي حقًّا برسالته الإلهية (كما يحدث عادة لكل المخلصين)، كان الدرويش الأبيض جوردون قد آمن برسالته الصليبية، أن يتحقق الفتح الأوروبي لوسط أفريقيا على يدَيه، وأصر على البقاء مفضلًا مواجهة غريمه رغم تعليمات الحكومة الإنجليزية له بالانسحاب، وهي المواجهة الدرامية التي انتهت بمصرعه في ١٨٨٤م.
***
***
•••
***
•••
أما العقيدة المهدية فقد خَبَت نيرانها بعد ١٥ سنةً، ولم يتبقَّ منها غير متحف لمقتنيات المهدي وسلالة إقطاعية تمثِّل اليمين السياسي في البلاد، عمل «المخلصون» الإسلاميون الجدد، على استبعادها من السلطة.