٤

خارطة النيل الأزرق، الروصيرص.

•••

يحتفظ النيل الأزرق بمجراه الضيق عندما يغادر إثيوبيا إلى السهل السوداني، ولا يبدأ في الاتساع إلا عند الروصيرص على مبعدة ٤٠٠ ميل من مصبه في العاصمة السودانية.

***

بدو الصحراء. النسر.

•••

نحن هنا في عالم بدو الصحراء، الذي يسيطر النسر الفخم على سمائه، مسلمون لا يعرفون القرآن لكن يعرفون موقع القبلة، والرجل منهم يعامل المرأة بحرية لا تسمح بها الأديان والتقاليد المحيطة به، ومنذ قرن لاحظ مستكشف إنجليزي سطوة النساء في قبيلة Djalli التي تعيش بين سنار وكردفان، إذ يشترطْنَ كتابةً عند الزواج أن يكون لهن كل أربعة أيام يوم يتمتعْنَ فيه بالحرية الكاملة. ويؤمن البشارية، أكثر البدو وسامة، أنه ليس مِن سبيل للثقة في أن الزوج هو الأب، على عكس الحال بالنسبة للأم؛ ولهذا يستبعدون الابن من الميراث، وينقلونه إلى ابن الأخت أو ابن البنت، حيث يكون انتقال الدم فوق كل شك. وحتى بداية السبعينيات كان الزوج منهم إذا وجد عصًا غريبة على باب كوخه أو خيمته يمتنع عن الدخول، وينتظر في أدب إلى جوارها حتى ينصرف الرجل الغريب!

***

الخارطة.
أرض الجزيرة.

•••

بينما يقترب النيل الأزرق من مصبه، يحصر بينه وبين النيل أكبر مزرعة مروية في العالم: إنها أرض الجزيرة التي تبلغ مساحتها ٢ مليون فدان، وتنتج محصول التصدير الرئيسي وهو القطن، وهو مشروع تفتَّقت عنه عبقرية المستعمر الإنجليزي، فبفضل خزان سنار وأسلوبه الفريد في حجز المياه وتوزيعها، أمكن ري المنطقة الشاسعة الفاصلة بين النيلَين، وعندئذٍ قدم الرجل الأبيض بذور القطن، وجمع المحصول في أجولة حملتها الجمال إلى محطة القطار التي أقامها على مقربة؛ ليأخذها القطار شرقًا إلى البحر الأحمر، ومنه تنقلها السفن عبر المحيط إلى جزيرته، وابتهجت ٢٠ ألف أسرة من المزارعين بماكينات الخياطة والجرامافونات التي أعادت عن طريقها ما أخذته من مالٍ إلى إنجلترا التي حقَّقت فائدة أخرى أهم؛ إذ حررت مصانعَ منشستر من الاعتماد على قطن تكساس، أما السودانيون فلم تلبث بهجتهم أن زالت، وبدأت تساورهم التساؤلات بشأن دودتَين فتَّاكتَين ترعرعتا في مياه الري؛ الأولى هي الإنكلستوما، والثانية سبق أن اكتشفها الألماني بلهاريس، وبشأن الجدوى من إنتاج مادة خام جديدة في بلدٍ يتعين عليها، كي تصدرها، أن تعيش من غير خبزٍ كان هو نتاجها الطبيعي منذ آلاف السنين؟ نفس الأسئلة التي عرفتها المستعمرات في كل مكان.

أيًّا كان الأمر، فإن «الجزيرة» لم تعُد الآن كما كانت من قبل؛ فقد أصابها المرض الخبيث، بأعراضه المألوفة.

***

مشارف الخرطوم من الجو.

•••

قبل الخرطوم بقليل يظهر جسر حديدي كبير، بأعمِدَةٍ ضخمةٍ وقباب، يجري فوقه الخط الحديدي إلى العاصمة المثلثة، التي تتكوَّن من الخرطوم وشقيقتيها؛ الخرطوم بحري، وأم درمان (المدينة الأقدم على الشاطئ الغربي).

***

مقر الحاكم البريطاني السابق والقصر الرئاسي.

•••

القلعة التي كانت مقرًّا للحاكم البريطاني، ولأحداث درامية تليق بشكسبير.

***

التقاء النيلَين.

•••

بعد ميلٍ آخر، يظهر الجسر الثاني الضخم، وأسفله النيل الأبيض العريض، ومِن هذه اللحظة يصبح النيلان نيلًا واحدًا. ويمكن رؤية امتزاجهما، الذي وصفه شاعر رومانسي واسع الخيال بأنه أطول قبلة في التاريخ، من نافذة فندق من فنادق الخمسة نجوم، التي ترتفع في كل مدينة على النيل، حيث يمكن الحصول بسهولة على قبلة قصيرة بالثمن المناسب.

***

من الأرشيف: جعفر النميري في واشنطون يوم الانقلاب عليه.

•••

طالما وصفت الخرطوم في الماضي بأنها «مدينة بديعة خضراء بمنازل بيضاء»، وهو وصف صارت أبعد ما تكون عنه في ظل ديكتاتورية النميري، الذي غادرها بانقلاب عسكري سنة ١٩٨٥م (أو بالأصح لم يعُد إليها؛ لأنه كان لحظتها في واشنطون يستجدي معونة) أتاح للبلاد أربع سنوات وثمانية أشهر من الحياة الديموقراطية الآمنة، انتعشت فيها الآمال، وعادت الأحزاب والنقابات التي كان النميري قد حرَّمها، بل أضيفت إليها أحزابٌ ونقابات جديدة، وعلى رأسها أول نقابة من نوعها في العالم، وهي للذين قُطعت أيديهم في ظل «شريعته».

***

من الأرشيف: مقطوعو الأيدي.

•••

وللأسف فإن هذا الوضع لم يستمر طويلًا؛ لأن المشاكل التي خلفها النميري كانت من التعقيد لدرجة استعصت على الحل، ولم يتحسن الوضع الاقتصادي للجماهير مما مهد الطريق لاستيلاء الجبهة الإسلامية على الحكم؛ فأشعلت نيران الحرب الأهلية من جديد، وواصلت البلاد انحدارها إلى هاويةٍ لا قرارَ لها.

***

الشارع في الخرطوم.
لافتة: «ثورة الإنقاذ جسدت المعنى الحقيقي للاستقلال بتحقيق شرع الله.»
لافتات الآيات القرآنية، إعلانات الكوكا والبيبسي.
إعلان الكوكا: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، كوكاكولا.»

***

نساء غير محجبات لكن في الزي التقليدي برفقة رجال أمام الجامعة وعلى الكورنيش.

•••

من النادر أن تجدَ اليوم امرأة حاسرة الرأس، لكن حذارِ أن تُسيء الفهم؛ فما تتغطَّى به المرأة السودانية في الشمال ليس هو الحجاب الإسلامي، وإنما الزي التقليدي؛ فقد فشلت محاولة النظام في فرض الحجاب، والتي بلغت أوجها منذ عامَين، عندما كانت «شرطة الانضباط العام» تُلقي القبض على النساء السافرات.

***

الشارع في الخرطوم.

•••

إن طوابير الخبز والجاز مشهد مألوف اليوم في كل مكان، وانقطاع الكهرباء يتكرر كثيرًا، ومن النادر أن تجد طريقًا معبدًا أو عاملًا ماهرًا؛ فقد هاجر الجميع إلى الخليج. وتخفض الأمراض من متوسط العمر إلى الأربعين، وحتى سنة ١٩٧٨م كان الجنيه السوداني يساوي ثلاثة دولارات ونصف دولار، أما اليوم فلا تكفي خمسمائة جنيه سوداني لشراء دولار واحد!

***

قطيع فيلة.

•••

كيف حدث ذلك؟ إنها القصة نفسها مع بعض التنويعات. ومن المحتمل أن الأمور كانت ستختلف تمامًا لو لم تكن لعبة البلياردو قد اختُرِعت؛ فمن أجل تزويد ستة رجال بالكرات اللازمة للعبها كان لا بد من إسقاط أضخم حيوان على سطح الأرض؛ لأن نابَيه ينتجان ثماني أو عشر كرات. وسرعان ما تحوَّل صيد الفيل إلى صيد الإنسان.

***

من الأرشيف: تجارة العبيد.

•••

ففي البداية اكتشف تاجر عبقري الخرز الزجاجي كوسيلة للمقايضة، وقدم للسوداني السعيد خمس حبات كبيرة مقابل الناب الواحد، وعندما نفد العاج؛ قدم رئيس القبيلة العبيد، وبين عامَيْ ١٨٤٠م و١٨٦٠م تم بيع ٦٠ ألف رجل كل سنة، فضلًا عن الذين تساقطوا موتى في الطريق، وتم كل ذلك بمباركة الكنيسة الأوروبية، وورثة الثورة الفرنسية. وفي السودان نفسه كانت الأديرة القبطية تعيش على إعداد الخصيان؛ ليلتحقوا بخدمة أثرياء المسلمين، وقد وصف Baker كيف رأى بعينَيه الصبية السود يوسدون الرمال، ثم يتم خصيهم بضربة سكين، ويوقف النزيف الناشئ بالحديد المصهور.

هكذا جُرِّدت القارة «المظلمة» من قوة العمل التي كانت كفيلةً بتنميتها، وراكمت لها بؤر الأزمات.

***

من الأرشيف: جوردون باشا والمهدي.

•••

وقد تجمَّعت إحدى هذه الأزمات في نهاية السبعينيات من العقد الماضي، كان الجنرال الإنجليزي Gordon يحكم السودان، مستعينًا بسطور الإنجيل عندما يواجه أية مشكلة، بينما يجمع الضرائب التي فرضت على كل شيء تقريبًا في مجتمع طال استنزافه، هكذا كانت التربة ممهدة لظهور «مخلص» للشعب، في صورة «درويش» أسمى نفسه «المهدي»، وصاحبت ظهورَه المعجزاتُ المألوفة في هذه الأحوال (إذ وجد اسمه مطبوعًا فوق بيض خارج لتوه من الدجاج) أعاد الأمل إلى القلوب وتابعه الآلاف «من ذوي القمصان البيضاء».

***

قلعة أم درمان.

•••

فزحفوا على قلعة أم درمان، واستولوا عليها ثم استعدوا لمهاجمة الخرطوم.

***

قصر الحاكم العام (الذي رأيناه في بداية الفصل).
السطح.

•••

من فوق السطح كان جوردون يرقب جيش المهدي.

***

قاعة الطعام.

•••

القاعة التي قضى فيها جوردون أيامه الأخيرة.

***

خارطة.

•••

وفي اللحظة التي آمن فيها المهدي حقًّا برسالته الإلهية (كما يحدث عادة لكل المخلصين)، كان الدرويش الأبيض جوردون قد آمن برسالته الصليبية، أن يتحقق الفتح الأوروبي لوسط أفريقيا على يدَيه، وأصر على البقاء مفضلًا مواجهة غريمه رغم تعليمات الحكومة الإنجليزية له بالانسحاب، وهي المواجهة الدرامية التي انتهت بمصرعه في ١٨٨٤م.

***

من الأرشيف: المهدي يدخل الخرطوم.

***

من الأرشيف: كيتشنر ومارشان.

•••

ما فشل جوردون في تحقيقه حيًّا، حققه ميتًا؛ فقد تحول مصرعه إلى عامل سياسي وذريعة للانتقام، إذ تقرَّر في لندن التقدم في السودان برجال مصريين وعلى نفقة الخزانة المصرية بقياد الجنرال Kitchener. وفي سبتمبر ١٨٩٨م، أي بعد أكثر من سنتَين، تمكن الجنرال من سحق جيش المهدي في معركة أم درمان، وواصل الصعود بقواته إلى أعالي النيل، حتى وصل فاشودة، حيث وجد في انتظاره درويشًا أبيضَ آخرَ، على رأس قوة مسلحة، فرنسيًّا رومانتيكيًّا هذه المرة هو Chevalier Marchand كان قد وصلها قبل شهرَين بعد مسيرة ثلاث سنوات من الكونغو. كان اللقاء مهذبًا للغاية، جديرًا بجنتلمانَين أوروبيَّين، وتمخَّض عن انسحاب الدرويش الفرنسي، مسجلًا فشل فرنسا عند المنابع، كما سجل نابليون فشلها عند المصب قبلها بأكثر من نصف قرن؛ وبذلك خلص النيل كاملًا للأسد البريطاني.

***

متحف المهدي.

•••

أما العقيدة المهدية فقد خَبَت نيرانها بعد ١٥ سنةً، ولم يتبقَّ منها غير متحف لمقتنيات المهدي وسلالة إقطاعية تمثِّل اليمين السياسي في البلاد، عمل «المخلصون» الإسلاميون الجدد، على استبعادها من السلطة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥