٥
•••
بعد الخرطوم بقليل يلتقي النيل بآخر روافده الرئيسية، نهر عطبرة، الذي يمده بخُمسِ مياه الفيضان، يجلبها مِن مرتفعات الحبشة على مبعدة ٨٠٠ ميل، ويبدأ النيل رحلة ١٧٠٠ ميل عبر الصحراء متجهًا إلى البحر الأبيض المتوسط، إنها رحلة شاقة يسهل فيها الضياع في الصحراء، وهو ما يحدث للنيل إذ يتغير اتجاهه مسافة ٢٠٠ ميل، قبل أن يعود إلى اتجاهه الأصلي نحو الشمال والبحر المتوسط على مبعدة ١٢٠٠ ميل، وسرعان ما تظهر الأهرامات الأولى.
***
•••
إنها كل ما تبقى، فضلًا عن النوبيين أنفسهم، من حضارة كوش القديمة التي حاولت أن تضاهي الأهرامات الهائلة في الشمال.
***
•••
وكان قدماء المصريين قد غزوا هذه المنطقة في القرن السادس عشر قبل الميلاد، وحكموها خمسة قرون حتى دارت الدائرة وغزا ملوك كوش المتمصِّرون مصر، مؤسسين إمبراطورية امتدَّت من نقطة التقاء النيلَين الأبيض والأزرق حتى البحر الأبيض.
***
•••
من السهل أن يدرك المرء كيف استولَت الرهبة والحيرة على قلوب القدماء أمام هذا الجبل العجيب. وكيف تحوَّل عندهم إلى مكان مقدس، وبالتحديد إلى المنتجع الجنوبي للإله آمون.
إن الواجهة الشرقية للجبل تضم نتوءًا طبيعيًّا ظنَّه كثيرٌ من الأثريين التمثال الباقي من أربعة تماثيل ضخمة، نحتت في جدار الجبل على طريقة معبد أبو سمبل الشهير، الذي يطلُّ على النيل على مبعدة ٢٧٠ ميلًا شمالًا، وربما بواسطة نفس الشخص؛ رمسيس الثاني.
***
•••
إن الكتابة الهيروغليفية تسجِّل انتصارات طهارقة، أقوى ملوك كوش، على قبائل الصحراء الغربية وبدو الشرق، وكانت النقوش مغطاةً طبقًا للعادة المصرية، بطبقة من الذهب تعكس أشعة الشمس وتحولها إلى شعاع يبرق وسط الصحراء وتراه القوافل من بعيد، وعندما تتطلع إليها لا نملك أن نتساءل: كيف تمكَّن أولئك الناس من الوصول إلى هذا الارتفاع؟ إن أسئلةً كثيرةً مماثلةً ستقابلنا من الآن كلما اتجهنا شمالًا …
***
•••
… وتعرَّفنا على آثار الحضارات المختلفة، التي تعاقبت على ضفاف النيل، والتي تفسِّر أصل كثيرٍ من المعتقدات والأساطير.
***
•••
الإله أوزوريس، صاحب الأسطورة الشهيرة، الذي كان يتمتَّع بمركز متميز بين آلهة مصر؛ لأنَّه كان التجسيد الحي لفيضان النيل، وللخير الذي يأتي معه.
***
•••
أوزوريس وهو راقد في مثواه، ثم وهو يُبعَث رويدًا حتى يقف منتصبًا بين أيدي زوجته المخلصة إيزيس، وأمامه رجل يحمل مفتاح الحياة، وكان المصريون يتخذون من قصة بعثه سندًا في الحياة، وأملًا في الخلود، ويرَوْن في فيضان النيل مصدرًا لهذا كله.
***
•••
لكن النيل كانت له تجليات أخرى غير ذلك؛ ففي نهاية الأسرة السادسة انخفض، وانتشرت المجاعة وآلت البلاد إلى الفوضى، وكان سقوط الدولة القديمة سنة ٢٢٠٠ق.م. مفاجئًا ودون مقدمات، ودشن عصر الاضمحلال الأول.
***
•••
وتكررت هذه الشكوى ذاتها بعد ذلك طوال عصور التاريخ المصري.
•••
ومن الطبيعي أن النهر، بفيضانه وجفافه، أصبح الهاجس الأول لكل مَن حكم مصر حتى العصر الحديث.
***
•••
بعد الحدود المصرية يصبح النيل بحيرةً هائلة، تمتدُّ مسافة ٣٠٠ ميل خلال منطقة غير مأهولة، حاملة اسم جمال عبد الناصر …
***
•••
… الذي طرد سنة ١٩٥٤م بقايا القوات الإنجليزية في مصر، بعد سنتَين من طرد آخر أبناء الأسرة الملكية التي رعاها الأتراك أولًا، ثم الإنجليز، وأصبحت مصر أخيرًا، ولأول مرة منذ ٢٣٠٠ سنة، ذات سيادة حقيقية ومحكومة بواحد من أبنائها.
***
•••
السد العالي، أكبر مشروع جماهيري في تاريخ مصر منذ الأهرامات، الذي أُقيم بارتفاع ١٢١ مترًا وطول ٤٫٢ كيلومترات عند القمة؛ فقد آمن ناصر بضرورته؛ لتوفير الطعام للسكان المتزايدين، وتوليد الطاقة الكهربائية للتصنيع، من خلال احتجاز المياه التي تصب في البحر المتوسط والتي كانت تبلغ نصف حجم مياه النهر.
***
•••
لقد ألقى السد العالي بظله على حاضر ومستقبل مصر منذ مولده، بل وأصبح رمزًا لعصر كامل؛ فعندما سحب البنك الدولي بضغط الولايات المتحدة وبريطانيا عرض تمويل إنشائه، ردًّا على رفض الانصياع لخططهما السياسية والعسكرية، حقق عبد الناصر سنة ١٩٥٦م حلمًا مصريًّا آخر بتأميم قناة السويس، التي شقها العمال المصريون بالسخرة، وافتتحها خديوي مصر التركي إسماعيل سنة ١٨٦٩م …
***
•••
… في حضور ضيفة شرف فاتنة هي الإمبراطورة الفرنسية يوجيني، عرض عليها الخدمات التقليدية، ولا نعرف إن كانت وافقت.
***
•••
وعلى أي حال فإن فرنسا اشتركت على الفور مع بريطانيا وشريك ثالث سيلعب منذ الآن دورًا رئيسيًّا في المنطقة، هو إسرائيل، في حملة عسكرية تأديبية لمصر انتهت بالفشل؛ فقد ظلت القناة مصرية.
***
•••
وقام الاتحاد السوفييتي بتمويل بناء السد الذي بدأ العمل فيه سنة ١٩٦٠م.
***
•••
وبعد خمس عشرة سنة، وخمس سنوات من وفاة ناصر، امتلأت البحيرة التي تُعتَبر من أكبر البحيرات الصناعية في العالم، وأصبحت قادرة على تخزين ١٧٠ مليار متر مكعب من الماء، مما يكفي لتلبية حاجة مصر من السائل الثمين لمدة ثلاث سنوات.
***
•••
لقد أثار السد مناقشاتٍ طويلةً بين مؤيدين ومعارضين، وخاصةً بعد وفاة عبد الناصر. فالمنتقدون قالوا: إنه احتجز غرين الفيضان السنوي خالقًا الاعتماد على الأسمدة الكيماوية، وضاعف حالات الإصابة بالبلهارسيا بين الفلاحين، وسبَّب ارتفاعًا في مستوى المياه الجوفية بالوادي حتى القاهرة، فضلًا عن أنه جرَّد ٦٠٠٠٠ نوبي يتكلمون لغتهم الخاصة ولا يكتبونها، من قراهم التي ابتلعتها البحيرة وأُعِيدَ توطينهم في قرًى جديدة بعيدة عن النيل.
***
•••
أما الأنصار فقالوا: إن السد منع الفيضان وأنتج ٢١٠٠ ميجاوات من الكهرباء، وأضاف مليونًا ونصف مليون فدان جديدة إلى المساحة المزروعة.
***
***
•••
لكنَّ الفريقَين يتفقان على أنه أنقذ مصر من دورتَي فيضان في ١٩٦٤م و١٩٧٥م، ودورتَي جفاف في ١٩٧٢م و١٩٨٤م، وهي الدورات التي طالما عانى منها سكان وادي النيل منذ القدم، وورد ذكرها في الكتب السماوية.
***
•••
والواقع أن الخلاف بشأن السد العالي هو مظهر للخلاف بشأن سياسة عبد الناصر، التي أثارت كثيرًا من العداوات خارج مصر وداخلها، بمحاولتها من جهة إحداث تراكم مالي من خلال تأميم الملكيات الخاصة الكبيرة، ومن جهة أخرى توحيد السوق العربية على أساس مستقل، وهي السياسة التي نجحت إسرائيل والولايات المتحدة في إجهاضها بعدوان سنة ١٩٦٧م. وقد تبنَّى خليفته أنور السادات سياسة مضادة عرفت باسم الانفتاح الاقتصادي، وضعت البلاد تحت رحمة صندوق النقد الدولي؛ ولهذا قاد الهجوم على منجزات عبد الناصر وفي طليعتها السد العالي.
***
•••
وعلى عادة الفراعنة القدماء حاول تغيير اسم البحيرة التي تحمل اسم جمال عبد الناصر، وعندما فشل حفر صورته فوق صورة سلفه المحفورة في قمة النصب التذكاري الذي أقيم عند السد، على مقربةٍ من معبد أبو سمبل الهائل، الذي نحته في الحجر الرملي في القرن الثالث عشر قبل الميلاد فنانون وعمال عظام؛ لتخليد رمسيس الثاني الذي كان مغرمًا بإزالة أسماء أسلافه وصورهم من فوق التماثيل والمعابد، ووضع صورته مكانها.
***
•••
***
•••
•••
خارجًا من أنفاق السد العالي ينسابُ النهر في شريط رفيع تجري مياهه ببطء، مغذيةً تربةً سوداء وحقولًا خضراء، بعضها لا يزيد عرضه عن بضعة أمتار والبعض الآخر في مساحة حقول القمح الفرنسية، تمتد عند حافتها الصحراوات الجرداء.
***
•••
على جانبَي النهر أيضًا حقول من المعابد والتماثيل، بعضها مدن كاملة مثل الأقصر وهابو، أنتجتها ديانة مادية مستمدة من الحياة، على خلاف الديانات الثلاث الميتافيزيقية التي خرجت من الصحراء العربية، لا ميثولوجيا جبارة أو ملحمة آلهة، وإنما غابة من الأساطير العديدة تُوحِّد بينها فكرة واحدة هي الكفاح ضد الموت.
***
•••
ومع ذلك فهذه الديانة هي التي اخترعَت، قبل المسيحية بثلاثة آلاف سنة، فكرةَ مولد الفرعون من «الروح القدس»، بينما هو ابن لامرأة من البشر، فيزور آمون الملكة متنكرًا في هيئة زوجها الملك؛ لتحمل منه وعندما يولد طفلها تقدمه للملك، لا كابنه وإنما كابن الإله.
***
•••
ولم يكن الدافع لذلك فقط هو دعم السيطرة على الشعب، وإنما أيضًا؛ لأن الفراعنة أنفسهم، كما يحدث في هذه الحالات، صدقوا القصة.
***
•••
عريض وهادئ، تعترضه جزر ضخمة، تحدُّه من الغرب أرض عريضة خضراء وتجثم عليه في الشرق جبال، يقترب النيل من المدينة التي سيتفرع بعدها، وينقسم إلى شبكة من القنوات.
***
•••
بعد سلسلة من الأهرامات والمنارات والقلاع القديمة، تتجلَّى الأهرامات الثلاث.
***
•••
وأكبرها هرم خوفو الذي يرتفع أربعين طابقًا، وهو أكبر مبنًى مثير للذهول على سطح الأرض.
***
•••
فطوال قرن كامل، كان الشعب الذي، قبل أي جماعة بشرية أخرى على سطح الأرض، قد ابتكر الكتابة، واخترع التقويم السنوي، ورصد النجوم، ووضع أسس علم الفلك والرياضيات، واخترع مقياس القدم والنظام العشري والقانون والنقود، والبريد والزجاج ونسيج الكتان، والذي — أكثر من أي جماعة بشرية أخرى قديمة أو حديثة — رفع منزلة المرأة …
***
•••
… وعاقب من يلوث البيئة بالموت بين فكوك التماسيح، والحرمان من الانتقال إلى العالم الآخر …
***
•••
… طوال قرن كان هذا الشعب المتحضِّر يحمل الأحجار؛ لتصبح توابيت لفراعنة افترسهم جنون العظمة، والرعب من الموت.
***
•••
ثلاثة أو أربعة ملايين رجل كانت تتم تعبئتهم أربعة شهور كل سنة، عندما يتركهم الفيضان بلا عمل، كي يجلبوا الأحجار إلى النيل ثم ينقلوها فوق مياهه إلى مكان فوق طريق معبَّد خِصِّيصى؛ حيث يتم تشكيلها ورفعها إلى أعلى بتقنية ماهرة.
***
•••
لكنهم لم يكونوا سوى جماعةٍ بشرية نشأت في أرض مساحتها مليون كيلومتر مربع، أكبر من مساحة إيطاليا وفرنسا مجتمعتَين، لكن الجزء الأكبر منها صحراء جرداء؛ ولهذا تجمع أفرادها على شاطئ النهر الذي تعلقت به حياتهم، ومن جانبه علمهم النظام والطاعة، الفلاحة لا القتال، الكتابة لا الحرب، وقامت الشمس بترويضهم؛ فجعلتهم يحبون الحياة ويتمسكون باستمرارها مما قادهم إلى وضع السجلات.
***
•••
هذه هي الحالة التي جعلت من الفرعون إلهًا، ومن التفكير الواقعي مبدأ.
***
•••
فالعالم الذي خلقه أولئك المبدعون العظام بعد الموت، لم يكن إلا مجرد نسخة من عالمنا الواقعي، تُمارَس فيه كثير من الأعمال والمهن التي تُمارَس على الأرض؛ فلم تكن الحياة التالية إلا امتدادًا للحياة الحالية، والموت هو بداية وجود مستمر في جو مألوف وسط الأسرة والأصدقاء، مما يدل على أن الحياة بالنسبة لهم، كانت تجربةً يمكن احتمالها ولا تتطلَّب استبدالًا بالجنة.
***
•••
وربما لهذا السبب فإن الاستغلال الذي عانوا منه قرونًا متتابعة لم يدفعهم إلى الثورة، إلا في النادر، وأول ثورة كانت سنة ٢١٨١ قبل الميلاد، ضد الأغنياء وأغلبهم من الكهنة، ألقيت جثثهم بالآلاف في النيل، وهي الثورة الوحيدة التي قام بها الفلاح المصري خلال خمسين قرنًا، والثورة الوحيدة في التاريخ التي نملك بشأنها سجلات المهزومين وحدهم؛ لأنَّ الكهنة كانوا يحتكرون معرفة لغة الكتابة في ذلك الوقت.
***
•••
وفي العصر الحديث ثار المصريون، خلال قرن ونصف قرن خمسَ مرات، مرة ضد الوجود الفرنسي ١٧٩٨م، ومرتَين ضد الملكية في ١٨٨١م و١٩٥٢م، ومرتَين ضد الوجود الإنجليزي في ١٩١٩م و١٩٤٦م، وتسارعت الوتيرة في العقود الأخيرة، فشهدت البلاد هبات عفوية غير منظمة من جماهير ساخطة في ١٩٦٨م، ١٩٧٧م، وأخيرًا في ١٩٨٥م عندما ثارت الشرطة الخاصة بقمع الثورات!
***