٦

القاهرة من الجو.

•••

لمدة مائة وخمسين يومًا يجري النيل من خط الاستواء إلى القاهرة التي بدأ نشوءها منذ ١٠٢٥ سنة؛ حتى أصبحت اليوم أكبر مدينة في أفريقيا والعالم العربي على السواء.

***

خارطة تبين تطور القاهرة في مختلف العصور.

•••

إن تغيُّرات مجرى النيل عند مدينة القاهرة أثرت على حياة هذه المدينة المليئة بالحياة، التي تحوَّلت من موقع قلعة رومانية (حصن بابليون) …

***

من الأرشيف: قلعة بابليون.

•••

… إلى مدينة عظيمة اتسعت على حساب الأرض الجديدة، التي كانت تكسبها مع تزحزح مجرى النيل ناحية الغرب؛ فعندما وصل العرب إلى مصر في منتصف القرن السابع الميلادي، كانت قلعة بابليون على حافة النهر مباشرة، وكذلك كان الموقع الذي اختاره عمرو بن العاص لبناء مسجده.

•••

من الأرشيف: مسجد عمرو بن العاص.

***

نفس المنطقة اليوم.
الشوارع، الزحام، المارَّة، اختناقات المرور.

•••

إنها مدينة صاخبة لا تهدأ بالنهار أو الليل، وتتميز بحيوية الشارع التي يصنعها أكثر من ثلاثة عشر مليون مقيم يزدادون بالنهار بمقدار مليون ونصف مليون آخرين، يتحركون وسط زمامير السيارات، واختناقات المرور، والسائقين المتهورين، والباصات المكدسة، والمارة المتدافعين بوجوه متجهمة.

***

شوارع القاهرة: الأبراج السكنية الضخمة، مطاعم الأمم.

•••

… بين مئات الأبراج السكنية الضخمة من زجاج ومعدن التي تضم مطاعم فخمة …

***

شوارع القاهرة: المآذن وميكروفوناتها، أسطح منازل (ملتقطة من القلعة) عليها غسيل منشور، بائع طعمية وسط أكوام القمامة، الناس تقلب بينها.

•••

… ومئات من مآذن المساجد العالية، بميكروفونات تصمُّ الآذان تطلُّ على أسطح مزدحمة بالغسيل المنشور، أو ناس يطهون في الهواء الطلق وسط أكوام القمامة، وآخرون يقلبون بينها؛ بحثًا عن شيء يمكن أن يوازنوا به دخلًا متواضعًا لا يكفي لملاحقة الارتفاع المستمر في نفقات المعيشة.

***

هوائيات التليفزيون فوق المقابر، عمارات كاملة بشقق مغلقة، التفاوت الطبقي.

•••

إن سكان القاهرة يتزايدون بمعدل مائة ألف في الشهر، تفتك الأمراض والتلوث بعدد كبير منهم، ومع ذلك يُضطَر الكثيرون للحياة فوق الأسطح، أو في المقابر، بينما توجد مئات الألوف من الشقق المغلقة! فهي منذ بدأت سياسة الانفتاح الاقتصادي مدينة التفاوت الطبقي الحاد واقتصاد الشطارة غير النظامي.

***

لقطات من إعلانات التليفزيون الأنيقة. إعلان عن التليفزيون الكوري «واحد للصالون وواحد لأودة النوم.» إعلان المجمعات السكنية الفاخرة.

•••

تشير أحدث الإحصائيات إلى أن في مصر ٥٠ فردًا تبلغ ثروة كلٍّ منهم ما بين مائة و٢٠٠ مليون دولار، وألف شخص أقلهم ثروة يملك بين ٥ و١٠ ملايين دولار، وطبقة تمثل ٢ في المائة من عدد السكان تركب السيارات الفارهة، وتأكل جلاس وزبادي مستوردَين، يكفي ثمن القطعة الواحدة منها لإطعام أسرةٍ فقيرةٍ لمدة أسبوع.

***

سيارات فاخرة، أطعمة مستوردة.

•••

وتعيش الغالبية تحت خط الفقر، بينما ترتفع تكاليف المعيشة يوميًّا، طبقًا لخطوات تنفيذ طلبات صندوق النقد الدولي؛ ولهذا فالبلاد مهيَّأة للانفجار في أية لحظة.

***

زحام المصلِّين أمام مسجد غمرة أو القبة أو مصطفى محمود يوم الجمعة.

•••

ولما كان عبد الناصر والسادات قد وجها ضرباتٍ متتابعةً لليسار المنظم، فمن الطبيعي أنْ وجد الكثيرون نوعًا من السلام والطمأنينة داخل المساجد التي تكاثرت بوفرة؛ حيث ينشط أتباع درويش ضرير تأويه الولايات المتحدة؛ تحسُّبًا ليوم تضطر فيه للتعامل مع حكومة من أصحاب اللحى.

***

من الأرشيف: عمر عبد الرحمن في نيويورك.

***

داخل مسجد صغير، «زاوية».

•••

هنا تُروَّج أكثر الأفكار تخلفًا، وأبعد المعلومات عن الحقيقة بشأن التعاليم الإسلامية الصحيحة، ويتم إذكاء روح التعصب ضد الأقباط الذين يؤلفون عشرة بالمائة من عدد السكان …

***

الزحام خارج الكاتدرائية يوم الأحد، داخل كنيسة أثناء القداس.

***

محجبات في الطريق.

•••

… وإقناع المرأة بارتداء الحجاب والبقاء في المنزل، وهي صورة مختلفة تمامًا عن صورتها في أفلام الستينيات والخمسينيات المصرية.

***

من الأرشيف: لقطات من أفلام الستينيات والخمسينيات تبين وضع المرأة وملابسها.

***

من الطائرة: النيل بعد القاهرة يتفرع.

•••

يتفرَّع النيل بعد القاهرة خالقًا، في آخر مائتَي كيلومتر له، أرضًا بالغة الخصوبة عمرها أكثر من ١٣ ألف سنة؛ الدلتا التي أصبحت فكرة فصارت كل دلتا في العالم على اسمها.

***

لوحة سيتي الأول وأبو منجل يعطيه الحياة، من معبد سيتي الأول في أبيدوس.

•••

لن نجد اليوم في الدلتا أثر الطائر المقدس، الذي ما زال يحلِّق فوق منابع النيل، والذي كان يتمتع هنا في الماضي بسطوة الآلهة، كما أننا لن نرى أيضًا البقرة ذات القرنَين الطويلَين، ولا التمساح وفرس النهر، التي استمتعت في الماضي بهذه المكانة؛ فقد عرفت الدلتا كل أنواع الآلهة.

***

لقطات متتابعة للآلهة المصرية القديمة.

•••

وكل أنواع الغزاة أيضًا!

***

من الأرشيف: لقطات متتابعة تصور تعاقب الفرس والإغريق والرومان.

•••

فطوال ألف سنة سيطر الفرس والإغريق والرومان بقوة السلاح، وأمعنوا في استنزاف المصريين، ففرضوا عليهم كافة أنواع الضرائب؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يتبع الفلاحون المصريون أنصار الإله الجديد، الذين التفوا حول درويش عاش وحده في الصحراء تسعين عامًا هو بولس المصري.

***

القديس بولس. سانت أنطوني وديره.

•••

وأسس تابعه المخلص، سانت أنطوني، أول دير مسيحي في التاريخ.

***

آثار الدمار على المعابد الفرعونية.

•••

وعندما تعرض المسيحيون لاضطهاد روما، تفشى بينهم التعصب الذي دفع غلاتهم إلى تدمير المعابد الفرعونية.

***

من الأرشيف: لقطات متتابعة تصور عصور التاريخ الإسلامي في مصر: خارطة لبدايات القاهرة (الفسطاط)، عصور المماليك، مساجد المماليك ثم المساجد التركية.

•••

وعندما ظهر العرب على الحدود الشرقية سنة ٦٤٠ ميلادية؛ رحَّب بهم الفلاحون المسيحيون أي الأقباط، وعاشت مصر خمسة قرون في ظل حكام إسلاميين مستقلين، ثم حل محلهم العبيد (المماليك) الذين حكموا قرابة ثلاثة قرون، وبلغ الظلام والتعصُّب أوجهما في ظل الحكم التركي الطويل الذي استمر قرابة ثلاثة قرون.

***

مشهد ريفي معاصر: حمار ينتظر محمَّلًا بالتبن، فلاحون يشربون الشاي أو يدخنون الجوزة على صوت ماكينة حديثة إلى جانب الشادوف والساقية.

•••

إن مثلث الخصوبة المعروف باسم الدلتا يضمُّ بقعًا من أجمل الأماكن في البلاد، حيث يمكن الاستمتاع بمشهدٍ ريفيٍّ أصيل، وسط طبيعة ساحرة، وبين ماكينات حديثة تعمل بالديزل أو الموتورات الكهربائية، إلى جانب الشادوف والساقية اللتين ابتكرهما الفراعنة، كما يضم أيضًا بقعًا من أكثر الأماكن مدعاةً للحزن.

***

مصب النيل عند رشيد.

•••

ففوق الشاطئ الرملي عند مصبِّ أحد الفرعَين الرئيسيَّين للنيل، وهو فرع رشيد، وقرب المدينة التي اكتشف فيها شامبليون الحجر الشهير سنة ١٧٩٩م، تبدو بلدة أشباح ويطالعنا مشهد حزين …

***

منازل مهدمة، ونوافذ محطمة، وأسلاك كهربائية، أو تليفونية مقطوعة، منزل مهجور يكاد يسقط في البحر.

•••

هذا المنزل كان يقطنه سكان في العام الماضي؛ فالبحر يزحف إلى الداخل، ويلتهم قطعة من الدلتا كل يوم، ويوجِّه البعض الاتهام للسد العالي بأنه احتجز خلفه الغرين الذي كان يغذي الشواطئ، بينما يقول آخرون إن هذا الغرين لم يكن يصل أبدًا إلى شاطئ البحر المتوسط، وإن الشاطئ المصري يتراجع منذ منتصف القرن التاسع عشر تحت تأثير التيارات البحرية. وعلى أي حال فلا شك أن احتجاز السد العالي للغرين قد أثر على شواطئ النيل ذاته، وهي نتيجة لم تغِب عن ذهن واضعي مشروع السد، فخططوا لمواجهتها بمجموعة من المشروعات الإضافية لم يقيض لها أن تتم؛ إذ تم تأجيلها عندما وقع العدوان الإسرائيلي على مصر ١٩٦٧م.

***

من الأرشيف: عدوان ١٩٦٧م.

•••

فقد وُظِّفت كل إمكانيات البلاد؛ لمواجهة الأضرار التي سبَّبها، ولاستعادة الأراضي التي استولت عليها القوات الإسرائيلية.

***

خارطة للأراضي المصرية التي استولت عليها إسرائيل.

***

من الأرشيف: توقيع معاهدة كامب ديفيد.

•••

وعندما وُقِّعت بين البلدَين معاهدة سلام في ١٩٧٨م، كانت المشاكل التي تراكمت قد تفاقمت حتى أصبحت عسيرة الحل، نفس الخصلة التقليدية التي تطالعنا عند المنابع.

***

من الأرشيف: نقش، أو رسم حديث يصور خروج اليهود من مصر في عهد مرنبتاح.

•••

لقد لعب اليهود دائمًا دورًا مصيريًّا بالنسبة لمصر، ومنذ خرج بهم نبيهم من مصر سنة ١٢٢٣ق.م. هربًا من اضطهاد الفرعون مرنبتاح، وضل بهم الطريق في صحراء سيناء أربعين عامًا، وصورة النيل الساحرة لا تغيب عن خيالهم.

***

خارطة سيناء والطريق الذي اتبعه اليهود.

***

من الأرشيف: هرتزل وروتشيلد.

•••

فبعد مشروعٍ لتوطينهم في أوغندا ناقشه هيرتزل مع المليونير الصهيوني روتشيلد في مأدبة غداء في لندن في ٤ يوليو ١٩٠٢م، جاء الزعيم الصهيوني يوم ٢٣ مارس ١٩٠٣م إلى فندق شبرد القديم في القاهرة …

***

من الأرشيف: هرتزل في القاهرة – فندق شبرد القديم – كرومر وبطرس غالي.

•••

… ليلتقي مع المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر ووزير الخارجية المصري بطرس غالي باشا، جد الأمين العام الحالي للأمم المتحدة، ويعرض عليهما مشروعًا لتوطين اليهود في سيناء، يتضمن توصيل مياه النيل إليها بقنوات أسفل قناة السويس.

***

خارطة سيناء وقناة السويس والقنوات المقترحة.

•••

لم يلقَ المشروع ترحيبًا من كرومر، على عكس الوزير المصري، وجرى توطين اليهود بعد ذلك في فلسطين، لكن حلم النيل لم يختفِ، وأدى إلى ثلاثة حروب متعاقبة، وفي أعقاب اتفاقية السلام في ١٩٧٨م وانسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء، كتبت جريدة معاريف الإسرائيلية تقول: «إن مشاكل المياه لدى إسرائيل يمكن أن تحلَّ على المدى البعيد بواسطة واحد في المائة من مياه النيل تمر في قنوات أسفل قناة السويس.» وبذلك لم يكد يجف مداد معاهدة السلام حتى وضعت أسس الحرب القادمة.

***

حديث مع مسئول ري مصري: عبد الهادي راضي مثلًا أو دكتور رشدي سعيد.
سؤال: هل صحيح أن الفلاح المصري يعاني من انخفاض معدلات الري مما يجعله يروي أرضه بمياه المصارف، رغم خطورة ذلك على الزراعة والأرض ذاتها؟ وهل سنواجه عجزًا في مواردنا المائية في السنوات القليلة القادمة؟

***

لقطات متتابعة لمصبات المصانع على طول النيل.

•••

سؤال: إن ٦٠٠ مصنع على النيل من أسوان حتى البحر الأبيض تصب فيه ٨٠٠ مليون متر مكعب سنويًّا من المخلفات، وقد قدر مؤتمر لمكافحة التلوث، عُقِد في القاهرة أخيرًا، أن نسبة الرصاص في مياه النيل تزيد عن ٦٥ في المائة من النسبة المسموح بها دوليًّا، وأن حجم المخلفات السامَّة السائلة على طول نهر النيل قد بلغ ثلاثة كيلومترات و٥٧٠ مترًا، إلى جانب مليونَي متر مكعب سنويًّا من مياه المجاري، يتم صرفها في مياه النيل وفروعه، فضلًا عن ١٧ مليار متر مكعب سنويًّا من مخلفات الصرف الزراعي تحتوي على مواد صلبة من الأسمدة والكيماويات التي لا تذوب في الماء، وتؤدي إلى ٦٠٠ حالة سنوية من أمراض السرطان والفشل الكلوي، فما هو تعليقك وهل هناك خطة لوقف تلوث المصانع والصرف الصحي حتى يعود النيل نظيفًا بغير تلوث؟

***

من الأرشيف: التسجيل التليفزيوني لأغنية محمد عبد الوهاب «النهر الخالد».

•••

لقد تغنَّى أشهر مغنٍّ في مصر والعالم العربي قاطبة «محمد عبد الوهاب» بنهر النيل في عدة أغانٍ رومانسية، أشهرها تحمل اسم «النهر الخالد».

***

الكاميرا تتجه من المصب نحو البحر المتوسط.

•••

لكن التطورات الأخيرة في حياة النهر العظيم، من المنبع إلى المصب، تحيط بكثير من الشك مستقبله القريب.

***

من مقابلة منصور خالد.
- أنا متفائل بمستقبل أفريقيا؛ فالسنوات الأخيرة شهدت ميلاد الاستقلال الثاني على أسس لا عسكرية وتعددية. أمامك ما حدث في جنوب أفريقيا؛ نظام ديموقراطي يقوم على صيغة التعايش السلمي بين كل القوميات، بداية سليمة، على الرغم من مرارة الماضي، أثرت على المنطقة وعلى تطورات الأحداث في ليسوتو وأنجولا وموزمبيق.

***

خارطة مشروعات تخزين المياه على نهر النيل.

•••

صوت وحيد في البرية؟ إن الإمكانيات المائية والزراعية والكهربائية المتاحة لدول النيل لا حد لها؛ فهناك فائض كبير في الماء وفي الأرض …

***

الكاميرا تواجه البحر الذي بلا نهاية.

•••

… لكن استغلال هذه الإمكانيات يتطلَّب درجة من التنظيم تعجز عنها هذه الدول؛ فهي ما زالت تتخبَّط في أخطبوط من المشاكل المتخلفة عن العهد الاستعماري، عاجزة عن تبني رؤية لمستقبلها ولدورها في العالم، ووقتها ضائع في حروب ومنازعات قبلية وعرقية ودينية، وسياساتها الاقتصادية تدور حول الاقتراض لحل أزماتها الوقتية والمتعاقبة، ومد اليد طلبًا للمعونات، بينما الأموال ينهبها الديناصورات وتنزح منها بمعدلات تتجاوز بكثير مجمل ديونها.

إن الصورة لجد مروِّعة، وإن لم تتغير في أقرب وقت، فلن تكون هناك سوى الكارثة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥