بعض الماضي المعروف
الدروج والجِرار
واهتم المُسورون في القرن التاسع لأمر الأسفار الخمسة التي وُجدت في أريحا. ولعلها وُجدت في كهف من الكهوف في هذه المنطقة نفسها التي نبحث، والجدير بالذكر لهذه المناسبة أننا لا نجد اعتراضًا مدوَّنًا في اعتماد هذه النسخة في عمل التسوير والضبط.
ويذكر المؤرخ اليهودي القرقساني، وهو من أعيان القرن العاشر، في كتابه تاريخ الفرق اليهودية «المغايرة» فيقول: إنهم عُرفوا بهذا الاسم لأنهم وجدوا كتبهم في مغارة. ويُضيف أنهم وجدوا الأسفار الإسكندرية وكتاب المعارف، وأن الباقي لم يكن ذا أهمية. وكان قد سبقه إلى ذكر المغايرة بهذا الاسم نفسه بنيامين النهاوندي وهو من أعيان القرن التاسع.
الخرائب وسكانها
وهؤلاء الرجال يحتقرون الثروة والغنى، ويميلون جدًّا للتآلف والمشاركة، وليس بينهم من عنده أكثر من غيره؛ فالقانون بينهم يقضي بأن يُقدم الداخل في زُمرتهم ما عنده للجماعة، فلا ترى بينهم ظاهرة فقر ولا ظاهرة غنًى، بل اختلاطًا بين مِلك الفرد ومِلك الآخرين، بحيث يتراءى لك أن هنالك إرثًا واحدًا لجميع الإخوة. وهم يرون في الزيت وسخًا. وإذا مُسح أحد به بدون موافقته مُسح عنه مسحًا، ويعتبرون عرق الجسم خيرًا وكذلك ارتداء الأبيض، ولهم وكلاء خرج يُعنون بشئونهم المشتركة، وليس لأحد منهم مصلحة خصوصية، وإنما العمل لمصلحة الكل.
وليس لهم مدينة معينة يُقيمون فيها؛ فالكثيرون منهم يُقيمون في كل مدينة. وإذا جاءهم أحد من فرقتهم من أماكن أخرى وُضع ما عندهم تحت تصرُّفه كأنه له وبدأ هو في العمل كأنه يعرفه منذ زمن بعيد. وهكذا فإنهم لا يحملون شيئًا معهم عند انتقالهم إلى أماكن بعيدة إلا أسلحتهم؛ خوفًا من تعدِّي اللصوص. ولهم في كل مدينة يُقيمون فيها واحد يعيَّن للاعتناء بالغرباء يُقدِّم لهم ألبسة ولوازم أخرى. ولكن عاداتهم الجسدية وسياسة أجسامهم تشبه أعمال الصغار الذين يخشون أسيادهم، ولا يستبدلون ألبستهم أو أحذيتهم إلا بعد أن تُصبح خرقًا بالية أفناها الزمن، ولا يبيعون شيئًا ولا يشترون شيئًا من بعضهم، بل يُعطي كلٌّ منهم إلى غيره ما يحتاج إليه مما عنده، ويأخذ منه ما يوافق حاجته. ومع أنه ليس هنالك أي تعويض عما يُؤخذ، فإنه يحق أن يأخذوا ما يحتاجون إليه من أي شخص آخر.
وخوف الله عندهم فوق العادة؛ فإنهم لا ينطقون بكلمة واحدة تتعلق بأمور الدنيا قبل شروق الشمس، بل يرفعون صلوات ورثوها عن آبائهم كأنهم يضرعون بها أن تُشرق عليهم. وبعد هذا يُنفذون بأمر نظَّارهم كلًّا إلى ممارسة العمل الذي يُجيد، فيعملون بكل نشاط حتى الساعة الخامسة، ثم يجتمعون في مكان واحد ويستترون بنقاب أبيض، ويستحمُّون في الماء البارد. وبعد الانتهاء من هذا التطهير يجتمعون في مكان واحد لا يجوز لغيرهم الدخول إليه وينتقلون منه إلى قاعة الطعام أنقياء، كأنهم يؤمون هيكلًا مقدسًا فيجلسون صامتين، فيأتي الخباز ويضع أمامهم أرغفة الخبز بالترتيب، ثم يُقدم الطاهي لونًا واحدًا من الطعام في صحن واحد أمام كل منهم، ويُصلي كاهن قبل الطعام، ولا يجوز لأحد منهم أن يذوق الطعام قبل هذه الصلاة. ثم يصلي هذا الكاهن نفسه بعد الانتهاء من الطعام. وهم يشكرون الله في البداية والنهاية لما أنعم به من طعام عليهم، وبعد هذا يخلعون ثيابهم البيضاء ويعودون إلى أعمالهم حتى المساء، ثم يعودون لتناول العشاء بالطريقة نفسها. وإذا كان من غرباء بينهم فإنهم يجلسون معهم، ولا يعلو الضجيج بينهم أبدًا لينجِّس بيتهم، فإنهم يفسحون المجال لكل واحد منهم أن يتكلم بدوره. ويرى الغرباء في هذا السكوت سرًّا عظيمًا، ولكن الواقع أنهم يمارسون الاعتدال باستمرار، فيتناولون دائمًا الكمية نفسها من المأكل والمشرب، وهي أكثر من أن تكون كافية.
وهم، والحق يُقال، لا يفعلون شيئًا في الأمور الأخرى إلا بموجب تعليمات نظَّارهم. وهم ليسوا أحرارًا إلا في أمرين؛ في مساعدة المحتاج وفي الرحمة، ولهم أن يعاونوا مَن يشاءون ممن يستحق ذلك، وأن يُعطوا الطعام إلى البائسين، ولكن ليس لهم أن يفعلوا ذلك بعضهم مع بعضهم الآخر بدون موافقة النظَّار. وهم يصرفون غضبهم بعدل ويُمسكون عن شهواتهم. وقد اشتُهروا بالأمانة والمُسالمة، وقولهم أثبت من القسَم، وهم يتحاشون إعطاء اليمين ويعتبرونه أسوأ من الحنث، فإنهم يقولون: «إن من لا يُصدِّق إلا بعد اليمين يستحق الدينونة قبلها.» ويبذلون جهدًا عظيمًا في درس كتب القدماء وينتقون منها أعظمها فائدة لنفوسهم وأجسادهم، ويُفتشون عن جذور الأعشاب والحجارة ذوات الخصائص الطبية ليعالجوا بها أمراضهم.
وإذا شاء أحد أن يلتحق بفرقتهم لا يُقبل فورًا، بل يُؤمر باتباع طريقهم في المعيشة سنة كاملة دون أن يُعتبر واحدًا منهم، ويُعطى فأسًا صغيرة والمنطقة المذكورة سابقًا والثوب الأبيض، وبعد أن يعطي الدليل في تلك المدة على مقدرته في الاعتدال يُقرَّب من أسلوبهم في العيش، فيشترك معهم في مياه التطهير، ولكنه يظل ممنوعًا عن الاشتراك في العيش معهم. وبعد إثبات صبره على هذا الشكل تُمتحن سجاياه سنتين أخريين، فإذا وُجد لائقًا أُلحق بالجماعة. وقبل أن يُسمح له بلمس طعامهم يُستحلف على يمين شديدة بأن يخشى الله أوَّلًا، وأن يعدل بين الناس، وألا يُلحق ضررًا بأحد لا طوعًا ولا إكراهًا، وأن يكره الشرَّ دائمًا، وأن يتعاون مع الصُّلَّح، وأن يبقى أمينًا لجميع الناس، ولا سيما أُولي الأمر؛ لأنه لا يصل أحد إلى الحكم بدون معونة الله، وألا يُسيء استعمال السلطة في حال وصوله إلى الحُكم، وألا يحاول أن يفوق رعاياه بالبذخ والزينة، وأن يحبَّ الصدق على الدوام ويؤنِّب الكاذبين، وألا يلطِّخ يديه بالسرقة ونفسه بالأرباح غير المشروعة، وألا يُخفي عن أبناء فرقته أو يُفشي بعقائدهم إلى الآخرين، ولو اضطره الأمر إلى المخاطرة بحياته. وكان عليه بالإضافة إلى ما تقدَّم أن يُقسم أنه لا ينقل العقائد إلى أحد إلا بالطريقة نفسها التي تسلَّم هذه العقائد بها، وأنه يمتنع عن السرقة، ويحافظ على كتب الفِرقة وأسماء الملائكة. هذه هي الأقسام التي ربطوا بها الداخلين في فرقتهم.
ومن يقع في الخطايا الشائنة يُطرد من بين الجماعة، فيموت بائسًا؛ لأنه يكون قد ارتبط بما أقسم، وبالعادات التي اعتادها، فلا يأكل ما يجد، بل يضطر أن يأكل العشب فيضعف جسمه حتى الهلاك، ويشفق عليه الجماعة فيعتبرون ما حل به من بؤس كفَّارة كافية عما ارتكب من خطايا، فيعيدونه إليهم في الرمق الأخير.
ويدققون كل التدقيق فيما يُصدرون من أحكام، ويعدلون، ولا يصدرون حكمًا بتصويت محكمة يقل عدد أعضائها عن المائة. وما يُحدد بهذا العدد يصبح غير قابل للتغيير، وما يحترمونه بعد الله كل الاحترام هو اسم مشترعهم، ومن يُجدِّف عليه يُحكم بالإعدام. ويستحسنون طاعة شيوخهم ورأي الأكثرية، فإذا اجتمع عشرة منهم لا يتكلم أحدهم إذا علم أن التسعة الآخرين لا يتفقون معه في الرأي. ويمتنعون عن البصق فيما بينهم وإلى يمينهم. وهم أشد حرصًا على حفظ السبت من أي يهود آخرين، ولا يكتفون بإعداد طعامهم في اليوم السابق؛ كي لا يضطروا إلى إيقاد النار، بل إنهم لا يزيحون آنية من محلها ولا يتغوَّطون، وليس ذلك فقط؛ بل إنهم في الأيام الأخرى يحفرون برفش، تُعطى لدى دخولهم في الجماعة، حفرة عمقها قدم، ويسترون أنفسهم بالثوب؛ كي لا يهينوا أشعة النور الإلهي، ويريحون أنفسهم في هذه الحفرة ثم يعيدون التراب الذي حُفر منها إليها، وحتى هذا أيضًا لا يفعلونه إلا في الأماكن المنفردة التي ينتقونها لهذه الغاية. ومع أن إراحة الجسد هذه أمرٌ طبيعي، فإنهم يوجبون بالقانون غسل أنفسهم بعدها كأنها تنجسهم.
وبعد انقضاء مدة الامتحان الإعدادي يُقسَّمون إلى أصنافٍ أربعة، ويظل المستجدون دون المتقدِّمين رتبة، فإذا ما لمس المستجدون المتقدمين اضطر هؤلاء إلى الاغتسال كأنهم اختلطوا بغرباء. وهم يُعمَّرون بحيث إن كثيرين منهم يعيشون أكثر من مائة عام؛ ويعود السبب في ذلك إلى بساطة طعامهم، لا بل إلى محافظتهم على النظام في أمور المعيشة. وهم يحتقرون بؤس الحياة ويترفعون عن الألم؛ لاتساع عقولهم. أما الموت فإنه كان في سبيل مجدهم فإنهم يؤثرونه على الاستمرار في الحياة. وقد سجلت حربنا ضد الرومانيين أدلة وافرة على عظمة نفوسهم في المحنة؛ فإنهم على الرغم من تعذيبهم وتشويههم وإحراقهم وتقطيعهم إربًا، وعلى الرغم من تعريضهم إلى جميع أنواع العذاب؛ ليجدِّفوا على مُشترعهم أو ليأكلوا ما حُرِّم عليهم، فإن معذبيهم لم يفلحوا في إكراههم على أحد هذين الأمرين حتى ولا مرة واحدة، ولو كانت لإكرام المعذبين، ولم تتساقط دمعة واحدة، بل ابتسموا في آلامهم، وهَزِئوا بمن عذَّبهم، وأسلموا أرواحهم برغبة شديدة، كأنهم انتظروا تسلمها مرة ثانية.
والسبب في ذلك أن عقيدتهم هي هذه: أن الأجساد قابلة الفساد، وأنها لا تدوم، وأن النفوس خالدة مستمرة إلى الأبد، وأن هذه النفوس تأتي من الهواء الرقيق جدًّا؛ لتتحد بأجسادها اتحاد السجن فيها، وتجتذب إليها بتشويق طبيعي معين. ولكن عندما تحرر من قيود الجسد تحرُّر الإفلات من العبودية تبتهج فتصعد إلى فوق.
وبينهم من يحاول أن يتنبأ بما سيحدث بمطالعة الأسفار المقدسة وباللجوء إلى أنواع متعددة من التَّطهُّر. وبما أنهم يُجيدون معرفة أقوال الأنبياء، فإنهم لا يخطئون في تنبؤاتهم إلا نادرًا.
وهنالك فرقة أخرى من الحاسيين تتَّفق وسائر الحاسيين في المعيشة والعادات والشرائع، ولكنها تختلف عنهم في أمر الزواج؛ فإن أفرادها يرون أن الامتناع عن الزواج يقضي على القسم الرئيسي من الحياة البشرية، على إمكانية التسلسل، وإنه إذا قال الجميع بعدم الزواج قُضي على الجنس البشري. وعلى كل حال فإن هؤلاء يمتحنون أزواجهم ثلاث سنوات، فإذا وجدوهنَّ من ذوات الحيض ثلاث مرات تزوجوا منهن فعلًا، ولكنهم لا يساكنونهن إذا كنَّ حاملات ليبرهنوا على أنهم لا يتزوجون لمجرد اللذة؛ بل لأجل التوالد، والنساء يذهبن إلى الحمامات لابسات بعض أثوابهنَّ والرجال يتمنطقون. تلك هي عادات هذه الفرقة من الحاسيين.
وجاء لهذا المؤرخ المعاصر نفسه في كتابه التاريخ القديم (١٣ : ٥) ما محصَّله: «وكان بين اليهود في هذا الزمان فِرَق ثلاث اختلفوا في موقفهم من أعمال الإنسان؛ وهم الفريسيون والصدوقيون والحاسيون. فقال الفريسيون بأن بعض الأفعال مُقدَّرة لا كلها، وأن بعضها يقع تحت سلطتنا، وأن هذا البعض مُعرَّض لمفعول القَدر، ولكنه ليس مُسببًا عنه. أما الحاسيون فإنهم أكَّدوا أن القدر يتحكم في جميع الأمور، وأن شيئًا لا يحدث للبشر إلا بموجبٍ سابق لتصميمه وتحديده. وأبطل الصدوقيون القَدر وقالوا إنه غير موجود، وإن حوادث البشر ليست تحت تصرفه. وافترضوا أن جميع أفعالنا هي تحت مُطلق سلطتنا، وأننا نحن نسبب الخير ونقبل الشر بطَيش منا.»
وقال يوسيفوس أيضًا في كتابه التاريخ القديم (١٨ : ١): «إن عقيدة الحاسيين هي هذه: إن لله مردَّ الأمور، وإن النفوس خالدة، وإن السعي لنيل جزاء الصلاح واجب. وعندما يرسلون بما يكرِّسون لله إلى الهيكل لا يقدمون الذبائح؛ لأن لديهم من التطهير ما هو أنقى وأفضل؛ ولهذا فإنهم يُمنعون من الوصول إلى صحن الهيكل فيُقدمون ذبائحهم بأنفسهم.»
ويضيف يوسيفوس في هذا الكتاب نفسه (١٥ : ١٠) أنه قام بين الحاسيين رجل كان يُدعى مناحيم، وأنه سار سيرة ممتازة، وأن الله منحه موهبة التنبؤ، وأن هذا الرجل شاهد هيرودوس حينما كان لا يزال ولدًا ذاهبًا إلى المدرسة، فحيَّاه مَلكًا على اليهود، ولم يلتفت هيرودُس آنئذٍ إلى ما قاله مناحيم؛ لأنه لم يكن لديه أي رجاء في هذا التقدم، ولكنه لما أسعده الحظ وتقدم إلى رتبة الملك وأصبح في الطليعة استدعى مناحيم وسأله كم يدوم مُلكه، فلم يقل له مناحيم عن مدى مُلكه شيئًا، فسأله هل يملك عشر سنوات أم لا؟ فأجاب: «عشرين، لا بل ثلاثين»، ولكنه لم يحدد انتهاء المُلك، فسُرَّ هيرودس من هذه الأجوبة وأعطى مناحيم يده وأمره بالخروج، ومنذ ذلك الحين استمرَّ في احترام الحاسيين.
أخبار الزمان
السلاقسة واليهود
وفي السنة الثانية لزعامة سمعان (١٤٢–١٣٥) نادى اليهود به كاهنًا أعظم وقائدًا عامًّا وأميرًا يُورث حقوقه وصلاحياته لأبنائه وأحفاده من بعده، فأسَّس سمعان بذلك الأسرة الحشمناوية؛ أي: أسرة بني حشمناي. ويُلاحظ هنا أن هؤلاء لم يكونوا من سلالة داود من حيث المُلك، ولم يتحدَّروا من هارون من حيث الكهنوت. وعرف اليهود هذين الأمرين حق المعرفة، فاحتاطوا وجعلوا مُلك هؤلاء محدودًا حتى الزمن الذي يظهر فيه نبي أمين؛ أي: حتى الزمن الذي يتدخل فيه رب العالمين.
ولم يرضَ جميع اليهود عن هذا التدبير لخروجه على التقليد، وازداد عدد هؤلاء المعارضين بتغافل الحشمناويين وقلَّة اكتراثهم للناموس، فإنهم ما كادوا يستوون على دَست الحُكم حتى رغبوا في الدنيا واستبدُّوا في الناس، فأعلن الفريسيون استياءَهم منذ أيام يوحنا هيركانوس بن سمعان المؤسِّس، وذلك بين السنة ١٣٥ والسنة ١٠٤ قبل الميلاد، وما فتئوا متنكرين حتى عهد ألكسندرة الملكة (٧٦–٦٧) قبل الميلاد.
ثم اعتلَّ ألكسنذروس بحُمَّى الربع، فدامت عليه ثلاث سنين، فنهكت جسمه. ولما بلغه أن بعض المدن التي تحت طاعته عصت عليه سار لمحاربتها وهو عليل، وحمل معه امرأته ألكسنذرة وكل حَشَمه وجواريه، فنزل على راجب بين جرش والأردن وحاصرها، وقويت عليه علَّته وقرُب منه أجله، فنصح إلى زوجته أن تُخفي موته إلى بعد فتح المدينة، وأن تعود إلى أوروشليم، وتحمل جثته إلى قصره سرًّا، وتستدعي وجوه الفريسيين وتكرمهم وتخاطبهم بالجميل وتقول إنها عالمة بعداوته لهم وبما فعله بهم، ولكنها لهم من بعده تفعل كما يختارون ولا تخالفهم بشيء. ومات ألكسنذروس «٧٦» وفعلت ألكسنذرة كما أوصاها، فأجاب الفريسيون بالجميل ودفنوا زوجها مع آبائه، فاستمالوا القوم إلى ألكسنذرة، وأشاروا أن يُملكوها بعده، فاستقام أمرها حتى السنة «٦٧» قبل الميلاد بمعاونة الفريسيين.
ولما مرضت ألكسنذرة وأيس منها أرسطوبولوس ابنها الأصغر خرج من أوروشليم، واستنهض الصدوقيين إلى نصرته ومعونته على أخذ الملك، ففعلوا وجاء إليه من جبل لبنان وجبل الخليل وغيرهما من اليهود رجال كثيرون، فنزل بهم على الأردن فخرج إليه هيركانوس بجيش الفريسيين، فتحاربا فانهزم هيركانوس فأصبح أرسطوبولس الملك باسم أرسطوبولوس الثاني، وأمسى هيركانوس كاهنًا أعظم.
ثم أفسد أنتيباتروس بين هيركانوس وأخيه، وكان أنتيباتروس قد تولَّى أدوم في عهد ألكسنذروس، وتزوج امرأة من أهل أدوم ولدت له من البنين أربعة: فزائيل وهيرودوس وفيروراس ويوسف. وقد اختُلف في أصله، فمنهم من قال: إنه من يهود بابل، ومنهم من قال: إنه كان عسقلانيًّا لا عبرانيًّا. وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبأس ودهاء وحيلة ومال. فلما مات ألكسنذروس عزلته ألكسنذرة، فأقام في أوروشليم ونشأت مودة بينه وبين هيركانوس، فحرَّضه على أخيه أرسطوبولوس الملك قائلًا إنه يسعى لهلاكه، وأشار عليه أن يخرج ويمضي إلى الحارث ملك الأنباط، فرحب الحارث بالضيفين، ومشى معهما على رأس خمسين ألفًا قاصدًا أرسطوبولوس، فلما التقوا في السنة ٦٤ قبل الميلاد استأمن كثيرون من رجال أرسطوبولوس إلى أخيه، فهرب هذا، ودخل أوروشليم وامتنع فيها، فقام الحارث وهيركانوس وأنتيباتروس إلى أوروشليم فنازلوا المدينة، فاتَّصلت الحروب وعظمت الفتن، فانتقل كثيرون من أهل الخير والسلام إلى مصر.
وكان اليهود قد عرفوا الرومان، وفاوضوهم في شئونهم منذ عهد يهوذا المكابي ويوحنا هيركانوس، واعتبروهم أصدقاء وحلفاء؛ فقد جاء في سِفر المكابيين الأول في حوالي السنة ١٠٠ قبل الميلاد، بعد وصف قوة رومة وبطشها، أن الرومانيين حفظوا المودة لأوليائهم والذين اعتمدوا عليهم، وأن يهوذا فاوضهم ليثبتوه في جملة مناصريهم، فحسن كلامه لديهم، وأرسلوا إليه كتابًا دوَّنوه على ألواح من نحاس؛ ليكون عند يهوذا وشعبه تذكارًا للمُسالمة والمُناصرة (٨ : ١٢–٢٣)، فلما سمع اليهود بوصول سكوروس إلى دمشق أرسل كل من هيركانوس وأرسطوبولوس وفدًا يُفاوض في طلب المعونة. ولدى دخول بومبايوس إلى دمشق وصل وفد يمثل الشعب اليهودي راجيًا إنهاء حكم الحشمناويين وإعادة السلطة إلى يد الكهنة، فأشار بومبايوس بالانتظار ريثما يكون قد قُضي على الأنباط، ولكن أرسطوبولوس احتار في أمره ولم ينتظر، فزحف بومبايوس على أوروشليم واستولى عليها عنوة في السنة ٦٣، وأدخل فلسطين في ولاية حاكم سورية، وأمسى هيركانوس كاهنًا أعظم، وقسَّم فلسطين إلى خمس مقاطعات، وجعل على رأس كل منها مجلسًا يهوديًّا، ولكنها ظلت مضطربة غير مستقرَّة.
وجاءت الحرب الأهلية الرومانية في السنة ٤٩ قبل الميلاد، وقتل بومبايوس في السنة التالية، فأيد هيركانوس وأنتيباتروس يوليوس قيصر، فجعل يوليوس هيركانوس أميرًا على فلسطين وأنتيباتروس حاكمًا على اليهودية ذا سلطة على اليهود وغير اليهود، وأصبح هو حاكم البلاد الحقيقي، فجعل ابنه أفزائيل مدبرًا لشئون اليهودية وابنه هيرودوس حاكمًا على الجليل. وكان ما كان من أمر يوليوس قيصر واغتياله في السنة ٤٤ قبل الميلاد، فاستولى الفرت على فلسطين ثلاث سنوات، وأنزلوا هيركانوس من رئاسة الكهنوت، وجدعوا أذنيه ليظل مشوَّهًا غير صالح للكهنوت، ونادوا بأنتيغونوس بن أرسطوبولوس ملكًا، فحكم البلاد من السنة ٤٠ حتى السنة ٣٧ قبل الميلاد.
وعاد الرومان إلى الحكم، فجعلوا هيرودوس بن أنتيباتروس ملكًا، فحكم فلسطين ثلاثًا وثلاثين سنة (٣٧–٤ق.م.)، وكان هُمامًا نشيطًا مُدبرًا منظمًا مُواصلًا مُداهنًا، فعظم أمره واتسع سلطانه وازدهر مُلكه، فلُقِّب بالكبير. وهو الذي أمر بذبح الأطفال، وفي عهده وُلد السيد المسيح في بيت لحم. وجاء بعده ابنه أرخيلاوس، فحكم اليهودية والسامرة وأدوم بدون لقب ملك، وانتهى حكمه الفاسد في السنة ٦ بعد الميلاد بناءً على طلب الشعب، ونُفي، وأصبحت فلسطين ولاية رومانية عادية، وما فتئت كذلك حتى السنة ٤١ بعد الميلاد، وفيها أصبح أغريبا ملكًا على اليهود، فدام ملكه حتى السنة ٤٤.
وشقَّ اليهود الطاعة على رومة في السنة ٦٦ بعد الميلاد، وامتنعوا في أوروشليم، فدكَّت رومة حصون المدينة في السنة ٧٠ ودمَّرتها تدميرًا، ثم عاد اليهود إلى العنف في السنة ١٣٢ بقيادة باركوزينة، ثم استسلموا صاغرين في السنة ١٣٥ بعد الميلاد، وما فتئوا مُشتَّتين حتى وعد بلفور في الحرب العالمية الأولى.
هذه لمحة خاطفة من تاريخ اليهود في القرنين الأخيرين قبل الميلاد. وفي القرن الأول بعده، وهي في حد ذاتها كافية لإظهار تفكك اليهود في هذه الحِقبة من تاريخهم، وتبيان درجة التشويش والفوضى في صفوفهم، وكيف تعارضت أهواؤهم وتشعَّبت آراؤهم وتباينت مذاهبهم، فأصبحوا لا تجمعهم جامعة ولا يستقيمون على وجه يعتمدون عليه، وخاب رجاء الصالحين منهم وأخفقت آمالهم، ولم يبقَ لهم في البشر رجية، فباتوا ينتظرون عملًا إلهيًّا، مسيحًا يوطِّد أركان ملكوت الله على الأرض، وأمست نبوات الأنبياء ولا سيما أشعيا وحبقوق أحب ما في الأسفار إليهم.