الجماعة والنصارى
إرنست رينان والمسيح
النيويوركي والمسيح
أليغرو والمسيح
وما كاد زملاء أليغرو في مدينة القدس يسمعون ما أذاعه أصغرهم سنًّا، وأحدثهم عهدًا حتى بادروا إلى تسطير رسالة مشتركة وجَّهوها إلى جريدة التايمس الإنكليزية، في السادس عشر من آذار سنة ١٩٥٦، وأكَّدوا فيها أنهم عادوا إلى جميع ما وُجد من نصوص في كهوف قمران وغيرها، فلم يجدوا فيها ما يُؤيِّد قول أليغرو. وأضافوا أن أليغرو لا بُدَّ أن يكون إمَّا قد أساء فهم بعض النصوص، وإمَّا قد بنى استنتاجه في إذاعته على سلسلة من الافتراضات التي لا تُؤيِّدها النصوص.
داود المُوحِّد
والواقع إن رجال اللاهوت كانوا ولا يزالون في طليعة من عُنِي بهذه الدروج منذ اللحظة الأولى التي أصبحت فيها هذه الدروج في مُتناول رجال البحث، وأنهم لا يزالون سبَّاقين إلى الحقيقة العلمية في هذا الموضوع لا يُجارَون ولا يُبارَون. وهم يعترفون بأهمية هذه الدروج لفهم الجوِّ اليهودي الذي نشأت فيه نصرانيتهم، ولكنهم لا يزالون يرَون فروقًا جذرية هامة جدًّا بين تعاليم قمران وتعاليم الإنجيل.
الراعي الصالح ومُعلِّم الصلاح
وراعينا الصالح الجالس عن يمين الآب هو قُطب الدائرة في إيماننا. هو الكلمة الذي صار جسدًا. هو أحد أقانيم الثالوث القُدُّوس، به كان كل شيء وبغيره لم يكوَّن شيء مما هو كائن. هو رأس الكنيسة والنصرانية، وبدونه ليس لنا كنيسة ولا وجود. أما مُعلِّم الصلاح أو «مُعلِّم الصدق» فإنه كان عند الجماعة بشرًا كسائر البشر لم يُستَغث به ولم يُبتَهل إليه، ولم تحمل الجماعة اسمه، ولم يُدعَوا به ولم يكن المسيح المنتظر. وجُلُّ ما وصل إليه أنه كان مُفسِّر الأسفار «بنعمة من الله».
مجلس الاثني عشر والرسل
حنانيا وصفَّيرة
وباع حنانيا مع صفيرة امرأته ملكًا له، واختلس بعض الثمن وامرأته تعلم بذلك، وأتى ببعضه وألقاه عند أقدام الرسل (أعمال ٥ : ١–٣)، ولم يكن بين النصارى الأوَّلين محتاج؛ لأن كل الذين كانوا يملكون ضِياعًا أو بيوتًا كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويُلقونها عند أقدام الرسل فيوزَّع لكل واحد على حسب احتياجه (أعمال ٤ : ٣٤-٣٥). ولكن هذه الاشتراكية النصرانية اختلفت عما كان سائدًا بين الجماعة في قمران في أمرين؛ أولهما أن القمراني لم يضع ملكه الشخصي تحت تصرف الجماعة إلا بعد انتهاء فترة الامتحان والتدريب؛ أي: بعد سنتين من ترشيحه، وكان ذلك إجباريًّا. والثاني أن الاشتراكية المسيحية لم تدم إلا مدة وجيزة جدًّا، وكانت تقادمهم اختيارية.
وضوء لا معمودية
الوجبة المُقدَّسة وسر الشكر
الفوارق العمومية
وهنالك بالإضافة إلى ما تقدَّم شرحه فوارق عمومية بين النصرانية والقمرانية تجعل منهما حركتين مُختلفتين في الجوهر؛ فالقمرانية بقيت مذهبًا يهوديًّا، ولم تخرج من هذا الدور أبدًا، أما النصرانية فإنها كانت ولا تزال رسالة عالمية. هكذا أرادها السيد المسيح. وقد عبَّر عن إرادته قبل ارتفاعه إلى السماء بقوله لرُسُله وأعقابهم من بعدهم على تعاقب الزمن: «لقد دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمِذوا جميع الأمم، وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا ذا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر.» (متَّى ٢٨ : ١٨–٢٠)، وقال لهم أيضًا: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (مر ١٦ : ١٥). وهكذا فإن الكرز بيسوع شمل اليهود والأمم، فخرجت النصرانية بذلك من دور مذهب يهودي إلى رسالة عالمية كبرى.
ولم تكن مملكة يسوع من هذا العالم (يوحنَّا ١٨ : ٣٦) ولم تقم بالسيف؛ لأن كل من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك (متى ٢٦ : ٥٢)، وإنما قامت وتقوم بمحبة الله للبشر وبتجسد ابنه الوحيد واعتلائه الصليب، وموته لأجل البشر وقيامته من الموت. أما جماعة قمران فإنهم استعدوا لخوض معركة زمنية بالسيف، ولم يبقَ بعد تجسُّد المسيح أي تقدُّم لأي طبقة على أخرى كما كانت الحال في قمران وبين اليهود أجمعين. «ولو كان بالكهنوت اللاوي كمال، فأية حاجة كانت بعد أن يقوم كاهن آخر على رتبة ملك صادق، فإن ربنا خرج من يهوذا من السِّبط الذي لم يصفه موسى بشيء من الكهنوت.»
•••
لقد كُنا نقرأ في الصحف والمجلات أن لفائف وادي القمران تشتمل على نسخة كاملة من كتاب أشعيا، ونسخة مقروءة سليمة بعض السلامة من تفسير نبوَّات حبقوق التي حقَّقتها الحوادث التالية، وشذرات من تفسير كتاب ميخا، وقصة تسمى قصة الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلام، وأناشيد منظومة للدعاء والصلاة، ونسخة آرامية من كتاب غير معتمَد بين كُتب التوراة، وقصاصات متفرِّقة من كتب شتى تلحق بكتب العهد القديم، ونسخة مُفصَّلة لآداب السلوك المرعية بين جماعة النُّسَّاك الذين أقاموا زمنًا بصومعة وادي القمران. وكلها مودعة في جِرار كبيرة يوجد الكثير منها في بعض الكهوف المجاورة. ويبدو من أجل ذلك أنها قد تشتمل على ودائع من هذا القبيل لا تقدَّر عند العلماء الحفريين، وعلماء المقابلة بين الأديان وجمهرة اللاهوتيين على الإجمال.
ولو أن أحدًا أراد أن يُحيط بأطراف الكتب والرسائل التي تناولت مسائل البحث في تلك اللفائف خلال السنوات الخمس الأخيرة لما استوعبها جميعًا، ولو فرَّغ لها كل وقته. وحسْبُ القارئ العربي أن يعلم أنها بُحِثت من كل ناحية تشترك في موضوعاتها الدينية أو اللغوية أو التاريخية أو الحفرية أو الكيماوية أو الصناعية، ولم تخلُ منها لغة من لغات الحضارة الغربية: فقد تناولت البحوث مسائل الهجاء وقواعد الكتابة، واختلاط اللهجات واللغات، ومواد الورق والجلد والمِداد واللصق والتجفيف، كما تناولت أسماء الأعلام وما إليها من الألقاب والصفات وما يقترن بها من تواريخ الشعوب والقبائل، ومواقع الأرض وعوارض الجو والفلَك وأصول العقائد وشعائر العبادات في كل فترة على حسب حظِّها من الأصالة أو الاستعارة، وعلى حسب المصطلحات التي تلازمها ولا تُعهد في غيرها، واتسع نطاق البحث إلى غاية حدوده لتحقيق نماذج البناء، وصناعة الآنية الفخارية، وعادات الأكل والشرب، وأزياء الكِساء، ومواد الأطعمة، وثمرات النبات. وتراوحت تقديرات الزمن بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد. ولم تستقر بعد كل هذا التوسع وكل هذا الإمعان والتدقيق على قرار وثيق.
ومن البديهي أننا لم نستوعب هذا الطوفان الزاخر من الفروض والنقائض، وعلى كل ما في هذه البحوث من مواضع المراجعة والعدول، ومواضع التشكيك والترجيح، بل نحن لم نشعر بضرورة الاستيعاب والاستقصاء؛ لكي نخلُص منه إلى القول الجديد في تاريخ السيد المسيح. ولكننا عمَدنا إلى نُخبة من كتُب الثقات التي ألمت برءوس المسائل ولخَّصت محور الخلاف ومبلغه من الدلالة في كل مسألة منها، وخرجنا منها بالخُلاصة المطلوبة فيما يعنينا، فكانت هذه الخُلاصة أن الجديد في الأمر لا يزال من عمل السيد المسيح أو من فتوحه المُبتكَرة في عالم الروح، وأن كل مشابهة بينه، عليه السلام، وبين مذاهب الدين قبل عصره، تنتهي عند الظواهر والأشكال، ولا تدل على فضل أسبق من فضله فيما ارتقت إليه عقائد الدين على يديه.
ولعل أرجح الأقوال التي خلصتْ إليها أكثر البحوث والمناقشات أن نُسَّاك صومعة القمران كانوا زُمرة من «الآسيين»، إحدى الطوائف المُتشدِّدة في رعايتها للأحكام الدينية، وانتظارها للخلاص القريب بظهور المسيح الموعود. وهذه الطوائف أقرب الطوائف الإسرائيلية إلى التطهر من أدران المطامع والشهوات، وأنهم كانوا ينتظمون في النِّحلة على ثلاث درجات، وأن أحدهم يُقسِم مرة واحدة يمين الأمانة والمحافظة على سر الجماعة، ويحرم عليه القسم بالحق أو بالباطل مدى الحياة … والمادة عندهم مصدر الشر كله، والسرور بها سرورٌ بالدنس والخباثة، وكانوا يتآخون ويصطحبون اثنين في رحلاتهم، وهم مؤمنون بالقيامة والبعث ورسالة المسيح المُخلِّص، معتقدون أن الخلاص بعثٌ روحاني يهدي الشعب إلى حياة الاستقامة والصلاح.
فالكتب الآسينية، أو الآسية، التي وُجدت في الصومعة تصف لنا نظام الجماعة وآداب سلوكها وشدَّة حرصها على الشعائر الموروثة بين قومها، ولكنها لا تزال مصابة بداء القوم الذي انتهى إلى غاية مداه في تلك الفترة، وهو داء الجمود على النصوص والحروف، والانصراف عن جوهر العقيدة ولُباب الإيمان. ولا تزال النِّحلة الآسينية نفسها أدل على الحاجة إلى الإصلاح من النِّحل المُتَّهمة أو المُحاطة بالشبهات؛ لأن النحلة المُتَّهمة تجد إصلاحها عند الراشدين من أبناء الديانة القائمة. وكل نِحلة يهودية زائغة عن سوائها تجد من يقوِّمها من العارفين باستقامتها في نطاق الديانة اليهودية. ولكن الحاجة إلى الإصلاح إنما تثبت كل الثبوت إذا بلغت النِّحلة أرقى ما تبلغه، واستنفدت كل طاقتها تهذيبًا وتطهيرًا وإخلاصًا وتذكيرًا، ولم تزل بعد ذلك قاصرة عن تزويد الروح بما تتعطَّش له وتفتقر إليه.
وكذلك كانت النحلة الآسينية التي كشفت عنها لفائف وادي القمران، أيًّا كان اسمها، وأية كانت وجهتها، فإنها لم تُمهد لرسالة السيد المسيح إلا كما يُمهد المريض للعلاج أو يُمهد الداء للدواء. ولا شك في أن اللفائف المكشوفة ذخيرة نافعة في بابها، ولكنها لا تُضيف إلى معلوماتنا عن حقائق الرسالة المسيحية، ولا تُخرجنا بشيء جديد في أمر هذه الرسالة، غير أنها تؤكِّد لنا فضلها ولزومها في أوانها. فمهما يكن من غرض النِّحلة الآسينية فهي في أصولها وفروعها بقيةٌ محافظة على تراثها مُتشدِّدة في محافظتها، ناظرة إلى أمسها حتى في التطلُّع إلى الغد المرجوِّ انتظارًا للمُخلِّص الموعود على حسب النبوُّات الغابرة. ولهذه الآفة الوبيلة، آفة التشدد في عبادة المراسم والنصوص، كانت الدعوة المسيحية رسالة لازمة تعلِّم الناس ما هم في حاجة إلى أن يتعلَّموه كلما غرقوا في لُجَّة راكدة من الحروف الميتة والأشكال المُتحجِّرة. تعلمهم أن العقيدة مسألة فكرة وضمير، لا مسألة حروف وأشكال … وهذه هي رسالة السيد المسيح في ذلك العصر الموبوء بجموده وريائه على السواء؛ لأن الرياء إنما هو في باطنه جمود على وجهه طلاء (حياة المسيح ١٤–١٧).