مقدمة
رحَلَ مكيافيللي عن عالمنا منذ نحو ٥٠٠ عام، لكن لا يزال اسمه حيًّا كنموذج للدهاء والازدواجية وانتهاج سوء النية في الشئون السياسية. وقد ظلَّ «مكيافيللي السفَّاح» — كما يصفه شكسبير — أبدًا محلَّ بُغْض الفلاسفة الأخلاقيِّين على اختلاف اتجاهاتهم؛ المحافظين والثوريين على حدٍّ سواء. فقد زعم إدموند بيرك أنه رأى «الثوابت البغيضة للسياسة المكيافيللية» التي يقوم عليها «الاستبداد الديمقراطي» الموجود في «الثورة الفرنسية». وشنَّ ماركس وإنجلز هجومًا لا يقل شراسةً على مبادئ المكيافيللية، وأكَّدَا في الوقت نفسه على أن أنصار «السياسة المكيافيللية» الحقيقيين هم أولئك الذين يحاوِلون «إخمادَ الطاقات الديمقراطية» في فترات التغيير الثوريِّ. والنقطة التي يتفق عليها كلا الطرفين هي أن شرور المكيافيللية تشكِّل أحدَ أشدِّ المخاطر التي تتهدد الأساسَ الأخلاقي للحياة السياسية.
اكتنَفَ قدرٌ كبير من سوء السمعة اسمَ مكيافيللي، إلى درجة أن كَوْنَ المرء شخصًا مكيافيلليًّا لا يزال يمثِّل تهمةً خطيرةً في الجدل السياسي. على سبيل المثال، حينما تحدَّثَ هنري كيسنجر موضِّحًا فلسفته في لقاءٍ شهيرٍ نُشِرَ نصُّه في مجلة «ذا نيو ريبَبليك» عام ١٩٧٢، عقَّبَ مضيفه بعد أن سمعه يناقِش الدور الذي يضطلع به بصفته مستشارًا للرئيس، بقوله: «المرءُ، إذ يسمعك، لا يتساءل إلى أي حدٍّ أثَّرْتَ على رئيس الولايات المتحدة، بل إلى أي حدٍّ تأثَّرْتَ بمكيافيللي.» وهذا تلميح كان كيسنجر حريصًا أشدَّ الحرص على أن يدحضه. هل كان كيسنجر مكيافيلليًّا؟ «كلا، على الإطلاق.» «ألم يتأثَّر بمكيافيللي إلى حدٍّ ما؟» «كلا البتَّة.»
ما سبب السمعة السيئة التي اكتسبها مكيافيللي؟ هل يستحقها حقًّا؟ ما الأفكار المتعلِّقة بالسياسة والخُلُق السياسي التي يطرحها فعليًّا في أعماله المهمة؟ هذه هي الأسئلة التي آمُل أن أقدِّم إجاباتها في سياق هذا الكتاب. سوف أطرح فكرةَ أننا نحتاج — كي نفهم مذاهب مكيافيللي — إلى أن نبدأ بالنظر في المشكلات التي رأى جليًّا أنه يتصدَّى لها في كتابَيْ «الأمير» و«المطارحات»، وفي أعماله الأخرى عن الفكر السياسي. ولكي ندرك هذا المنظور، نحتاج بدورنا إلى أن نعيد بناء السياق الذي أُلِّفَتْ فيه هذه الأعمال في الأساس؛ أي السياق الفكري للفلسفة الكلاسيكية وفلسفة عصر النهضة، فضلًا عن السياق السياسي لحياة دولة المدينة في إيطاليا في مطلع القرن السادس عشر. وبمجرد أن نعيد مكيافيللي إلى العالم الذي تشكَّلَتْ فيه أفكاره في الأصل، يمكننا أن نبدأ في تقدير الأصالة الاستثنائية لهجومه على الافتراضات الأخلاقية السائدة في عصره. وبمجرد أن نفهم تبعات منظوره الأخلاقي الخاص، نكون على استعدادٍ لأن ندرك السبب في أن اسمه لا يزال يُذكَر كثيرًا كلما نُوقِشت قضايا السلطة السياسية والقيادة.