مؤرخ فلورنسا
الغرض من تسجيل التاريخ
عقب انتهاء مكيافيللي من كتابة «المطارحات» بوقت قصير، ضرب الحظ ضربته أخيرًا وعلى نحو مفاجئ، حيث وُهِب مكيافيللي الدعم الذي طالما رغب فيه من حكَّام عائلة مديتشي. فقد حدث أن لورنزو دي مديتشيتو الذي كان مكيافيللي قد أعاد إهداء كتاب «الأمير» له بعد وفاة جوليانو عام ١٥١٦، توفي فجأةً بعد ثلاث سنوات، وخلفه في السيطرة على شئون فلورنسا ابن عمه، الكاردينال جوليو، الذي سرعان ما انتخب لمنصب بابا الكنيسة الكاثوليكية باسم كليمنت السابع، وتصادف أن الكاردينال على صلة بأحد أقرب أصدقاء مكيافيللي، وهو لورنزو ستروتسي، الذي أهداه مكيافيللي فيما بعدُ كتابَ «فن الحرب». ونتيجة لهذا الاتصال، تمكَّنَ مكيافيللي من الحصول على فرصة تقديم نفسه في البلاط المديتشي في مارس من عام ١٥٢٠، وبعد ذلك بوقت قصير تلقَّى تلميحًا بأن ثمة وظيفة ما — وإن كانت أدبية وليست دبلوماسية — ربما تكون متاحة له. ولم تَخِب توقعاته؛ ففي نوفمبر من نفس العام تلقَّى تفويضًا رسميًّا من حكومة مديتشي بكتابة تاريخ فلورنسا.
ظلَّتْ عملية كتابة «تاريخ فلورنسا» تشغل مكيافيللي طوال ما تبقَّى من حياته تقريبًا، كان ذلك هو أطول أعماله وأكثرها تأنيًا، فضلًا عن كونه العمل الذي حرص فيه مكيافيللي أشدَّ الحرص على اتباع العادات الأدبية لمَن يفضِّلهم من الأدباء الكلاسيكيين. كان المذهبان الأساسيان لعلم التأريخ الكلاسيكي — وبالتالي الإنساني — أن تتضمن الأعمال التاريخية تلقينَ دروس أخلاقية، ومن ثم أن تُختار موادها وتُنظَّم على نحو يسلِّط الضوء على الدروس الأخلاقية بأقصى قوة. وقد قدَّمَ سالوست، على سبيل المثال، إفادةً مؤثرةً عن هذين المبدأين، فقد قال في كتاب «حرب يوغرطة» إن هدف المؤرخ يجب أن يتمثَّل في التفكُّر في الماضي على نحو «مفيد» و«نافع» (٤: ١–٣). وفي كتاب «حرب كاتيلين» توصَّلَ إلى الاستدلال على أن النهج الصحيح يجب، تبعًا لذلك، أن يتضمن «اختيار الأجزاء» التي تبدو «جديرة بأن تُسجَّل»، وعدم محاولة تقديم سرد كامل لما وقع من أحداث (٤ : ٢).
التزم مكيافيللي التزامًا شديدًا بهذين المطلبين وهو يسرد، لا سيما في تناوله مختلف نقاط التحول وذرى الأحداث. فالكتاب الثاني، على سبيل المثال، ينتهي برواية مفيدة تحكي كيف صار دوق أثينا يحكم فلورنسا كطاغية عام ١٣٤٢، وكيف أُسقِط من السلطة خلال السنة التالية. بعد ذلك يتحوَّل الكتاب الثالث على نحوٍ يكاد يكون فوريًّا إلى الحلقة التالية الكاشفة من ثورة «التشومبي» عام ١٣٧٨، عقب وصف بسيط يعرض الخمسين سنة التي تخلَّلَها هذا الحدث. وبالمثل، ينتهي الكتاب الثالث بوصفٍ لرد الفعل الذي تلا ثورة عام ١٣٧٨، ثم يبدأ الكتاب الرابع، مسقطًا فجوةً زمنية قوامها أربعون عامًا، بمناقشة كيفية نجاح عائلة مديتشي في ارتقاء سدة الحكم.
من مذاهب الكتابة التاريخية الإنسانية الأخرى أن المؤرخ إذا أراد نقل أكثر الدروس إفادةً بأكثر الطرق انطباعًا في الذاكرة، فعليه أن يستخدم أسلوبًا بلاغيًّا قويًّا. وقد أعلن سالوست في بداية «حرب كاتيلين» أن الصعوبة الخاصة التي ينطوي عليها التاريخ تكمن في حقيقة أن «أسلوب الكلام ووقعه يجب أن يكونَا على مستوى الأفعال المسجلة» (٣ : ٢). ومكيافيللي يأخذ أيضًا هذا المبدأ على محمل الجد، لدرجة أنه قرَّرَ في صيف عام ١٥٢٠ أن يصوغ «أنموذجًا» أسلوبيًّا لسرد تاريخي، ووزَّعَ صيغته التمهيدية على أصدقائه في أورتي أوريتشلاري بهدف التماس تعليقاتهم على النهج الذي سلكه. كان الموضوع الذي اختاره مكيافيللي لهذا النموذج هو سيرة حياة كاستروتشو كاستراكاني، طاغية بدايات القرن الرابع عشر الذي كان يحكم مدينة لوكا، لكن مكيافيللي لم يكن مهتمًّا بتفاصيل حياة كاستروتشو — التي كان بعض تفاصيلها من اختلاق مكيافيللي — بقدر ما كان مهتمًّا بالعمل على اختيارها وترتيبها بطريقة راقية ومفيدة. فالوصف الافتتاحي لميلاد كاستروتشو وتقديمه على أنه لقيط، ليس سوى وصف مُختلَق، لكنه يمنح مكيافيللي الفرصةَ لكتابة كلام حماسي طنان عن نفوذ «الحظ» في الشئون الإنسانية (٥٣٣-٥٣٤). وحينما يبدأ كاستروتشو — الذي تلقَّى تعليمه على يد كاهن — في شبابه في «شغل نفسه بالأسلحة»، هذا أيضًا يمنح مكيافيللي فرصةً ليقدِّم شكلًا من الجدل الكلاسيكي حول الهوايتين المتعارضتين المتمثلتين في الأدب والقتال (٥٣٥-٥٣٦). أما الخطاب الذي يلقيه الطاغية بأشدِّ الندم لحظة موته، فيمثِّل هو الآخَر أفضل تقاليد أسلوب التأريخ القديم (٥٥٣-٥٥٤). ثم تُختتَم القصة بأمثلة عديدة على ذكاء كاستروتشو اللامع، وإن كانت أغلب الأمثلة مسروقة مباشَرةً في حقيقة الأمر من «حياة الفلاسفة» لديوجينس لارتيس، وجرى إدراجها لمجرد إضفاء طابع بلاغي (٥٥٥–٥٥٩).
عندما أرسل مكيافيللي كتابَ «حياة كاستروتشو» إلى صديقَيْه ألاماني وبونديلمونتي، لاقَى الكتاب منهما استحسانًا كبيرًا باعتباره بروفة للعمل التاريخي الضخم الذي كان مكيافيللي يأمل في أن يكتبه في ذلك الوقت. فقد ردَّ بونديلمونتي على مكيافيللي في رسالة كتبها له في سبتمبر عام ١٥٢٠، تحدَّثَ فيها عن كتاب «حياة كاستروتشو» بوصفه «نموذجًا لسردك التاريخي»، وأضاف أنه لهذا السبب يعتقد أن من الأفضل التعقيب على النص «من حيث اللغة والأسلوب في المقام الأول»، وأعرب عن بالغ إعجابه بانطلاقاته البلاغية، قائلًا إنه استمتع بخُطبة فراش الموت المبتكرة «أكثر من أي شيء آخَر». ثم قال لمكيافيللي أكثر أمر يُظنُّ أنه كان يرغب في سماعه وهو يتأهَّب لخوض هذا المعترك الأدبي الجديد، وهو: «يبدو لنا جميعًا أنك الآن لا بد أن تشرع في العمل على كتابة سردك التاريخي بمنتهى الاجتهاد» (م ٣٩٤-٣٩٥).
حينما عكف مكيافيللي كما ينبغي على كتابه سرده التاريخي بعد بضعة أشهر، استخدم هذه الأدوات الأسلوبية في عمله على نحو مدروس، فقد صيغ الكتاب بأكثر أساليبه توظيفًا للأقوال المأثورة ولطريقة المُقابَلَة والتضاد، وتتكرر فيه كل الموضوعات الرئيسية لنظريته السياسية لكن في ثوب بلاغي. في الكتاب الثاني، على سبيل المثال، يقدِّم مكيافيللي مشهدًا يقف فيه أحد «السادة» في مواجهة دوق أثينا ليلقي على مسامعه خطابًا مؤثِّرًا عن «اسم الحرية، الذي لا تسحقه أي قوة، ولا يُبليه طول الدهر مهما طال، ولا يضارعه أي منال» (١١٢٤). وفي الكتاب التالي يلقي أحد المواطنين العاديين خطابًا ساميًا بالقدر نفسه على مسامع «السيد» عن موضوع «القوة» والفساد، وعن ضرورة أن يخدم كلُّ مُواطِنٍ الصالحَ العامَّ دائمًا (١١٤٥–١١٤٨). وفي الكتاب الخامس يحاول رينالدو ديجلي آلبيتزي أن يلتمس عون دوق ميلانو ضد نفوذ عائلة مديتشي المتنامي بخطاب آخَر عن «القوة» والفساد، وواجب المواطن أن يقدِّم ولاءه للمدينة التي «تحب كل مواطنيها بالقدر نفسه»، لا للمدينة التي «تخضع إلى قلة قليلة من مواطنيها وتتجاهل كلَّ الآخَرين» (١٢٤٢).
ما من شك في أن مكيافيللي كان يعي تمامًا هذا المظهر الأكثر عمقًا من مظاهر تأريخ الفلاسفة الإنسانيين؛ لأنه يشير في إعجاب إلى عمل بوجو في افتتاحية كتابه «تاريخ فلورنسا» (١٠٣١)، لكن عند هذه المرحلة — بعد أن سار على النهج الإنساني بهذا القدر الكبير من الالتزام — إذا به يحطِّم فجأةً التوقعات التي أثارها من قبلُ؛ ففي بداية الكتاب الخامس، عندما يتحوَّل إلى دراسة تاريخ فلورنسا خلال القرن السابق، يعلن أن «الأمور التي فعلها أمراؤنا، في الخارج والداخل، لا يمكن أن يقرأها المرء بنفس قدر الإعجاب «بالقوة» والعظمة، الذي يقرأ به عن الأمور التي فعلها القدماء». ببساطة ليس من الممكن «أن نحكي عن شجاعة الجنود أو عن «قوة» القادة العسكريين أو عن حب المواطنين وطنهم»، وإنما يمكننا فقط أن نحكي عن عالم يزداد فسادًا نشهد فيه «نوعية الحيل والمخططات التي أدار بها الأمراء والجنود وزعماء الجمهوريات شئونهم، من أجل الحفاظ على السمعة التي لم يكونوا جديرين بها.» وهكذا يُحدِث مكيافيللي تغييرًا تامًّا للافتراضات السائدة بشأن الغرض من سرد التاريخ؛ فبدلًا من سرد رواية «تلهب الأرواح الحرة لتحفِّزها على التقليد»، هو يأمل أن «يُلهِب هذه الأرواح ليحفِّزها على تجنُّب مفاسد الحاضر والتخلص منها» (١٢٣٣).
وهكذا فإن مجمل كتاب «تاريخ فلورنسا» يدور حول موضوع الاضمحلال والسقوط؛ إذ يصف الكتاب الأول انهيار الإمبراطورية الرومانية في الغرب، وزحف البرابرة على إيطاليا. وتصف نهاية الكتاب الأول وبداية الكتاب الثاني كيف أن «المدن والولايات الجديدة التي وُلِدت من بين الرفات الروماني تميَّزَتْ بقدر من «القوة» جعلها تحرِّر إيطاليا من البرابرة، وتصد عنها أذاهم» (١٢٣٣). لكن بعد هذه الفترة الزمنية الوجيزة من النجاح المتواضع، يقدِّم مكيافيللي بقية سرده — من وسط الكتاب الثاني إلى نهاية الكتاب الثامن، الذي ينتهي عند تسعينيات القرن الخامس عشر — على صورة سنوات من الفساد والانهيار المتصاعد، ثم يصل إلى الحضيض عام ١٤٩٤، عندما تحدُثُ المهانة المطلقة: حيث «تخضع إيطاليا للعبودية من جديد» تحت حكم البرابرة الذين كانت إيطاليا قد نجحت في إجلائهم من قبلُ (١٢٣٣).
اضمحلال فلورنسا وسقوطها
إن الموضوع الغالب على كتاب «تاريخ فلورنسا» هو الفساد، حيث يصف مكيافيللي كيف تملك نفوذه الخبيث من فلورنسا، فخنق حريتها، وانتهي بها أخيرًا إلى الطغيان والعار. ومثلما فعل مكيافيللي في «المطارحات» — التي يتبع نفس نهجها اتباعًا دقيقًا — يرى أن هناك مجالين رئيسيين تميل روح الفساد لأن تنشأ فيهما. وبعد أن يميز بينهما في تمهيد الكتاب، يستخدم ذلك في تنظيم كل ما سيرويه فيما بعدُ. أولًا، التعامل على صعيد السياسات «الخارجية» دائمًا ما ينطوي على خطر الفساد، والأعراض الرئيسية لذلك تتمثَّل في نزوعٍ نحو إدارة الشئون العسكرية بقدر متزايد من التردد والجبن. وثانيًا، ثمة خطر مماثل فيما يتعلق بالأمور «التي تُجرَى في الداخل على أرض الوطن»، حيث يتمثَّل نمو الفساد في المقام الأول في شكل «صراع أهلي وتشاحُن داخلي» (١٠٣٠-١٠٣١).
يتناول مكيافيللي أولى هاتين القضيتين في الكتابين الخامس والسادس، اللذين يتناول فيهما في المقام الأول تاريخ الشئون الخارجية الفلورنسية، لكنه لا يتكفَّل — كما سبق وفعل في «المطارحات» — بأن يقدِّم تحليلًا مفصلًا عمَّا شهدته المدينة من أخطاء وسوء تقدير في المجال الاستراتيجي، بل يكتفي بتقديم سلسلة من الأمثلة الساخرة على القصور العسكري الفلورنسي؛ وبهذا يتمكَّن من الحفاظ على الشكل المتعارَف عليه للسرد التاريخي الإنساني — الذي كان دائمًا ما يحوي روايات مستفيضة عن أشهر المعارك — بينما في الوقت نفسه يحاكِي مضمونه على نحو ساخِر. فأهمية ما يورده مكيافيللي من روايات عن الأحداث العسكرية هو أن جميع الاشتباكات العسكرية التي يصفها تبعث على السخرية، ولا تتسم بالشجاعة أو المجد على الإطلاق. على سبيل المثال، حينما يكتب عن معركة «زاجونارا» الكبرى، التي دارت رحاها عام ١٤٢٤ في بداية الحرب ضد ميلانو، أشار أولًا إلى أن هذه الحرب اعتبرت في حينها هزيمةً نكراء لفلورنسا، وأنها «حُكِيَت أخبارها في كل أنحاء إيطاليا.» ثم يضيف أنه ما من أحد مات في الحرب عدا ثلاثة فلورنسيين «سقط كل منهم من فوق صهوة جواده، وغرق في الوحل» (١١٩٣). بعد ذلك، يضفي نفس الطابع الساخر على الانتصار الشهير الذي حقَّقَه الفلورنسيون في معركة «أنجياري» عام ١٤٤٠، فهو يشير إلى أنه طوال هذه المعركة الممتدة، «لم يَمُتْ إلا رجل واحد، لم يهلك متأثرًا بجراح أو بأي ضربة مشرفة، بل لأنه سقط من فوق صهوة حصانه وداسته الأقدام» (١٢٨٠).
يُخصص ما تبقَّى من «تاريخ فلورنسا» للحكاية البائسة التي تدور حول ازدياد فلورنسا فسادًا على الصعيد الداخلي، وعندما يتحوَّل مكيافيللي إلى هذه النقطة في بداية الكتاب الثالث، يوضِّح في بادئ الأمر أنه، بالحديث عن الفساد الداخلي، يقصد في المقام الأول — كما هي الحال في «المطارحات» — اتجاه قوانين المدينة وتشريعاتها لأن تكون «غير هادفة للنفع العام»، وإنما للنفع الفردي أو الطائفي (١١٤٠).
وينتقد مكيافيللي اثنين من أسلافه العظام، هما بروني وبوجو؛ لأنهما لم يتنبَّهَا بالقَدْر اللازم لهذا الخطر في سردهما لتاريخ فلورنسا (١٠٣١) ويبرِّر انشغاله الشديد بهذا الموضوع بأنه مُصِرٌّ على أن العداوات التي تنشأ عندما يفقد المجتمع «قوته» بهذه الطريقة «تجلب مفاسد تستشري في المدينة»، والحالة البائسة التي انتهت إليها فلورنسا خير مثال على ذلك (١١٤٠).
في بادئ الأمر يسلِّم مكيافيللي بأن أي مدينة ستحوي دائمًا «عداوات شديدة وطبيعية بين الشعب والنبلاء»، بسبب «رغبة النبلاء أن يحكموا ورفض الشعب أن يُستعبَد» (١١٤٠). لكنه، كما فعل في «المطارحات»، لم يفترض أنه من الممكن تجنُّب جميع هذه العداوات، ويكرِّر رأيه السابق بأن «بعض الانقسامات تضرُّ بالجمهوريات وبعض الانقسامات تفيدها»؛ فالانقسامات تلك التي تضرها يصحبها وجود فصائل ومُوَالِينَ؛ وتلك التي تفيدها لا يصحبها وجود فصائل ومُوَالِينَ، «ومن ثم فإن هدف المشرِّع الحصيف لا ينبغي أن يكون «منع وجود عداوات»، وإنما أن يضمن «ألا تكون هناك فصائل» قائمة على العداوات التي ستنشأ لا محالة (١٣٣٦).
لكن العداوات التي نشأت في فلورنسا كانت دائمًا يصحبها وجود «فصائل» (١٣٣٧)، ونتيجة لذلك، كانت المدينة من بين المجتمعات السيئة الحظ التي حُكِم عليها بأن تتأرجح بين قطبين مدمرين على حد سواء، متذبذبة بين «العبودية والانفلات» وليس «الحرية والعبودية»؛ فقد كان عامة الناس هم «المروِّجون للانفلات»، في حين كان النبلاء هم «المروِّجون للعبودية»، وبالتالي كانت المدينة المغلوبة على أمرها تترنح «من النموذج الاستبدادي إلى المنفلت، ومن المنفلت إلى الاستبدادي»، وكان كل طرف يشكِّل عدوًّا قويًّا بالنسبة للآخَر، الأمر الذي جعل أيًّا منهما لا يتمكَّن من فرض الاستقرار في المدينة لأي فترة من الزمن (١١٨٧).
وهكذا يبدو تاريخ فلورنسا الداخلي منذ القرن الثالث عشر بالنسبة لمكيافيللي على هيئة سلسلة من الانتقالات المحمومة بين هذين النقيضين، تمزَّقَتْ خلالها المدينة وحرياتها إربًا في نهاية المطاف. يُستهَل الكتاب الثاني ببداية القرن الرابع عشر حينما كان النبلاء ممسِكون بزمام السلطة، هذا أدَّى مباشرةً إلى طغيان دوق أثينا عام ١٣٤٢، حينما رأى المواطنون «هيبة حكومتهم تتحطم، وقواعدها تُكسَّر، وقوانينها يُضرَب بها عرض الحائط» (١١٢٨)؛ لذلك هبُّوا ضد الطاغية ونجحوا في تأسيس نظامهم الشعبي، لكن — حسبما روى مكيافيللي في الكتاب الثالث — هذا النظام بدوره تفسَّخ وتحوَّل إلى الانفلات عندما تمكَّنَ «العامة النَّزِقون» من السيطرة على الجمهورية عام ١٣٧٨ (١١٦١–١١٦٣)، ثم تأرجح البندول تارةً أخرى عائدًا إلى «الأرستقراطيين ذوي الأصول الشعبية»، وبحلول منتصف القرن الخامس عشر كان هؤلاء أيضًا يسعون إلى تقليص حريات الشعب، مما ساعَدَ على ظهور شكل جديد من أشكال الحكم الاستبدادي (١١٨٨).
من الصحيح أن مكيافيللي، بوصوله إلى هذه المرحلة النهائية من سرده في الكتابين السابع والثامن، يبدأ في تقديم سرده بأسلوب أكثر التفافًا وتحفُّظًا؛ حيث يصبح موضوعه الرئيسي هو لا شك صعود عائلة مديتشي، ويبدو واضحًا أنه يشعر بوجوب إفساح بعض المجال لحقيقة أن نفس العائلة هي التي منحته فرصة كتابة «تاريخ فلورنسا». لكن رغم أنه يتجشم عناءً كثيرًا كي يخفي عداءه لهم، يسهل علينا أن نستبين مجددًا شعوره حيال دور عائلة مديتشي في تاريخ فلورنسا، إذا ربطنا أجزاءً بعينها من نقاشه الذي يحرص على أن يبقيها منفصلة.
الكتاب السابع يبدأ بنقاش عام عن أخبث الوسائل التي يستطيع مواطن بارز من خلالها أن يأمل في إفساد الجماهير بحيث يشجع ظهور الفصائل المنقسمة، ويكتسب لنفسه سلطة مطلقة. وهذه مسألة جرى تناولها بالفعل تناولًا مكثَّفًا في «المطارحات»، ويكتفي مكيافيللي في الأغلب بتكرار ما قدَّمَه من حجج سابقة؛ إذ يقول إن الخطر الأكبر هو السماح للأغنياء باستخدام أموالهم في كسب «أنصار يتبعونهم سعيًا إلى تحقيق منفعة خاصة»، بدلًا من السعي إلى تحقيق الصالح العام. ويضيف بأن هذا يجري بطريقتين أساسيتين؛ الأولى: «من خلال تقديم خدمات لمختلف المواطنين، كالحماية من رجال القانون والمساعدة بالمال والمساعدة في الحصول على مناصب هم غير أهل لها.» والثانية: «من خلال إسعاد الجماهير بوسائل الترفيه وتقديم الهبات الاجتماعية»، وهذا يتضمن تأدية عروض مكلِّفة من نوعية تهدف لكسب شعبية زائفة وتسكين الشعب إلى أن يخسر حرياته (٣٣٧).
إذا انتقلنا إلى الكتابين الأخيرين من «تاريخ فلورنسا» آخِذين هذا التحليل في الاعتبار، فلن يصعب علينا أن نتبين لهجة البغض المستترة وراء ما يرويه مكيافيللي من سردٍ حار العاطفة عن حكومات مديتشي المتعاقبة. فهو يبدأ بكوزيمو، الذي يغدق عليه مديحًا راقيًا في الفصل الخامس من الكتاب السابع، مشيدًا به على وجه الخصوص لتفوُّقه على «كل رجال عصره»، ليس فقط «في النفوذ والثروة، لكن في السخاء أيضًا.» لكن سرعان ما يتبيَّن لنا أن ما كان مكيافيللي يقصده فعلًا هو أن كوزيمو حين مات «لم يكن هناك مُواطِن في المدينة، مهما كان مستواه، إلا وكان كوزيمو قد أقرضه مبلغًا ضخمًا من المال» (١٣٤٢)، وقد أشار مكيافيللي من قبلُ إلى التأثير المفسد لهذا السخاء المتعمد. بعد ذلك، ينتقل مكيافيللي إلى السيرة المهنية القصيرة لابن كوزيمو، بييرو دي مديتشي. في أول الأمر يُوصف بأنه «فاضل ومبجل»، لكننا سرعان ما نعلم أن إحساسه بالتبجيل شجَّعَه على أن يقيم سلسلة من بطولات الفروسية والاحتفالات الأخرى، التي كانت باذخة وفخمة إلى درجة كانت تجعل المدينة تظل منشغلة لأشهر في التحضير لها وعرضها (١٣٥٢). ومن جديد، ليست هذه المرة الأولى التي يحذرنا فيها مكيافيللي من التأثير الضار الذي تلحقه هذه المغريات الصاخبة بالجماهير. وأخيرًا، عندما يأتي مكيافيللي على ذكر سنوات لورنزو العظيم — ومن ثَمَّ على ذكر فترة شبابه — نراه لا يكاد يتكلَّف عناءَ إخفاءِ نبرة الكراهية المتصاعدة؛ فهو حينما يصل إلى هذه المرحلة، يعلن أن «حظ» عائلة مديتشي وسخاءهم» لعِبَا دورًا حاسمًا في تحقيق تأثيرهم المفسد، لدرجة أن «آذان الناس قد صُمَّت» عن فكرة التخلص من طغيان عائلة مديتشي، وبالتالي «لم تَعُدْ فلورنسا تعرف الحرية» (١٣٩٣).
المحنة الأخيرة
رغم نكوص فلورنسا إلى الطغيان، ورغم عودة البرابرة، كان مكيافيللي يشعر بأنه يمكن أن يواسي نفسه بالاعتقاد في أن إيطاليا نجَتْ من أحطِّ أشكال الإذلال على الإطلاق؛ ذلك لأن البرابرة رغم دخولهم إيطاليا، لم يفلحوا في تخريب أيٍّ من مدنها الكبرى. وقد ذكر مكيافيللي في كتاب «فن الحرب» أن تورتونا خُرِّبت حقًّا، «لكن هذا لم يحدث مع ميلانو، فقد حدث التخريب مع كابوا لكن لم يحدث مع نابولي، وحدث مع بريشا لكنه لم يحدث مع البندقية.» وأخيرًا «حدث مع رافينا لكنه لم يحدث مع روما» أهم رمز في إيطاليا على الإطلاق (٦٢٤).
كان يتعيَّن على مكيافيللي أن يتعرَّفَ على طريقة أفضل لالتماس رضاء «الحظ» من هذا الشعور بالثقة المفرطة؛ وذلك لأنه في مايو عام ١٥٢٧ حدث ما لم يكن يخطر ببال. كان فرانسيس الأول قد تآمَرَ عام ١٥٢٦ بالدخول في تحالُفٍ، كي يستعيد مستعمرات له في إيطاليا كان قد اضطر لتسليمها بعد أن مُني بهزيمة ساحقة على يد القوات الإمبراطورية عام ١٥٢٥. وإزاء هذا التحدي، أمر شارل الخامس جيوشه بأن تدخل إيطاليا مجدَّدًا في ربيع عام ١٥٢٧، لكن نظرًا لأن القوات لم تكن قد حصلت على أجورها، ولأنها كانت تفتقر إلى التنظيم والانضباط، فإنها بدلًا من أن تهاجم الأهداف العسكرية، تقدَّمَتْ مباشَرةً نحو روما، فدخلت المدينة العزلاء في السادس من شهر مايو، وعاثت فيها فسادًا خلال مذبحة دامت أربعة أيام أرعبت وأذهلت العالم المسيحي بأسره.
بسقوط روما، اضطر كليمنت السابع للفرار كي ينجو بحياته، وبفقدان الدعم الذي توفره البابوية، سرعان ما انهارت حكومة مديتشي التي كانت شعبيتها تشهد تدهورًا متزايدًا في فلورنسا. وفي السادس عشر من شهر مايو اجتمع مجلس المدينة لإعلان استعادة الجمهورية، وفي صباح اليوم التالي ارتحل شباب أمراء مديتشي من المدينة إلى المنفى.
بالنسبة لمكيافيللي، المعروف بتأييده القوي للنظام الجمهوري، كانت استعادة الحكم الحر في فلورنسا لحظة انتصار ولا شك، لكن في ضوء علاقاته بعائلة مديتشي، التي كانت تدفع راتبه على مدى السنوات الست الماضية، كان في نظر الجيل الأصغر سنًّا من الجمهوريين لا يكاد يزيد عن كونه عميلًا مسنًّا وعديم الأهمية للاستبداد السيئ السمعة. ورغم أن آماله في استعادة منصبه القديم في البعثة الدبلوماسية الثانية كانت قد تجدَّدَتْ، لم يكن ثمة شك في أنه لن يُمنَح أي منصب في الحكومة الجديدة المناهضة لعائلة مديتشي.
يبدو أن كل هذا القدر من سخرية القدر قد حطَّمَ معنويات مكيافيللي على نحوٍ سرعان ما عجَّل بإصابته بمرض لم يتعافَ منه قطُّ. ولعل قصة طلبه أن يحضر إليه كاهن وهو على فراش الموت كي يسمع منه اعترافًا أخيرًا، كانت أكثر القصص التي أعاد كُتَّاب السِّيَر ذِكْرها، لكن هذا دون شك تلفيق ديني الطابع جرى اختلاقه في وقت لاحق. كان مكيافيللي ينظر طوال حياته بعين الازدراء إلى الطقوس الكنسية، وما من شيء يشير إلى أنه غيَّرَ رأيه هذا لحظة موته. وقد توفي في الحادي والعشرين من يونيو، بين أفراد عائلته وأصدقائه، ودُفِن في كنيسة سانتا كروتشي في اليوم التالي.
صار جليًّا أنه لا يمكن بوجه عام مقاومة إغراء تعقُّب مكيافيللي بعد مماته — أكثر من تعقُّب أي مُنَظِّر سياسي آخَر — بهدف إيجاز فلسفته والحكم عليها. بدأت هذه العملية عقب وفاته مباشَرةً، ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، وقد شعر بعض أوائل نقَّاد مكيافيللي، مثل فرانسيس بيكون، أنهم قادرون على أن يقرُّوا بأنهم «مدينون بالشكر الجزيل لمكيافيللي وغيره، ممَّنْ يكتبون ما يفعله البشر، لا ما يتعيَّن على البشر فعله.» لكن غالبية قرَّاء مكيافيللي القدامى صُدِموا للغاية من رؤيته إلى حدِّ أنهم نعتوه بأنه من عمل الشيطان، بل إنه الشيطان نفسه. على النقيض من ذلك، كان الجزء الأكبر من المعقِّبين المعاصرين على مكيافيللي يواجهون حتى أكثر مذاهبه كراهةً بروح عملية واعية، لكن بعضهم — لا سيما ليو ستراوس وتلاميذه — ظلوا متمسكين بقوة بوجهة النظر التقليدية التي ترى أن مكيافيللي (بحسب تعبير ستراوس) لا يمكن أن يُوصَف إلا بأنه «معلم الشر».
لكن مما لا شك فيه أن عمل المؤرخ يجب أن يكون مثل عمل الملاك المكلَّف بتسجيل الأعمال، لا قاضي الإعدام؛ ومن ثَمَّ كان كل ما سعيتُ إليه في الصفحات السابقة هو استعادة الماضي ووضعه أمام الحاضر، دون أن أحاول توظيف معايير الوقت الحاضر المحدودة والزائلة في الإشادة بالماضي أو انتقاده. وقد نُقِشَتْ على ضريح مكيافيللي عبارةٌ تشي بالفخر لتذكرنا بأن «ما من وصف يمكن أن يفي هذا الاسم العظيم حقَّه من التقدير.»