في تحديث الثقافة العربية
«ولكن ماذا أردتُ أن أقوله بهذا كله؟ أردتُ أن أقول إن الذين يحلمون بأن تُعاد صورُ الماضي في حياة الإنسان الحاضر إنما هم يُكلِّفون الأشياءَ ضدَّ طبائعها، كمَن يَتطلَّب في الماء جَذوةَ نار (كما قال الشاعر) لأن «التحوُّل» هو طبيعة الأشياء وصميمها، على أن حياة الماضي — كأيِّ شيءٍ آخر — لم تمُت ولن تموت، إلا أنها خيوطٌ تَدخُل مع غيرها على كرِّ الأعوام، في نسيجٍ واحد، فلا الماضي يستطيع البقاءَ بذاته مُحصَّنًا من التغيُّر، ولا الحاضر يستطيع البقاءَ بذاته مُديرًا ظهرَه إلى الماضي.»
الثقافة، التراث، الأصالة، المعاصَرة، الهُوِية، التحديث، التاريخ، اللُّغة، النهضة، التأخُّر؛ كلها مُفردات شغلَت المفكِّر الكبير «زكي نجيب محمود»، وكانت محورَ مشروعه الفكري الذي أنفق فيه عمرًا كاملًا، وقدَّم في شأنه الكثيرَ من الكتُب التي سعى فيها إلى تحليلِ واقعنا العربي ودراسة مشكلاته، وأسباب تأخُّره، وسُبل نهضته، واعتبر الجوانبَ الثقافية للعالَم العربي أحدَ العوامل الداعمة للتقدُّم، ولا سبيلَ إليه من دون تحديثٍ شامل وجوهري للثقافة. ولا يَقصد بالتحديث التغريبَ والقطيعة كليَّةً مع الماضي الذي يُشكِّل الهُوِية، وإنما ضرورة التفريق بين الإطار الثابت والمضمون المتغيِّر؛ فالإطار بمثابة المبادئ الثابتة، التي يَتكوَّن منها جوهرُ الهُوِية، أمَّا المضمون المُتغيِّر فهو ظروف التطبيق التي تَتشكَّل بأشكال العصور المُتعاقِبة. وقد سعى في هذا الكتاب إلى الحديث عن الثقافة العربية في حاضرها، وسُبل الخروج من أزمتها الراهنة.