رحلة صيف
أما الصيف فهو صيف هذا العام «١٩٨٦م»، وأما الرحلة فهي تبدأ، وتسير وتنتهي، داخل الرأس، وصاحب الرأس جالس في غرفة الكتب بمنزله، الغرفة مُغلقة الزجاج، وخزائن الكتب تدور مع الجدران، وقد أصبحت تبدو أمام صاحبها وكأنها ألسِنة خرساء أصابها الخرس عندما حِيل بين صاحبها وبينها، فالغرفة صامتة إلا من صوت المروحة الكهربائية في حفيفها الخافت، وكأن ذلك هو أول صيفٍ يقضيه أخونا في القاهرة منذ فترة طويلة، فهو لعدة سنوات خلَون — قد تبلغ العشرات — كان يقضي صيفه بعيدًا، ويرجع قعوده هذا العام لأسبابٍ بعضها عام وبعضها خاص، إلا أنه لم يشعر في ذلك بضِيق، لأنه استبدل بحركة جسدِه من مكانٍ إلى مكان سكونًا هادئًا وسكينة، كان في جلسته تلك طوال ساعات النهار، يبدو وكأنه جمُد كما يتجمَّد الماء ثلجًا في شتاءٍ بارد، لكنه في دخيلة نفسه لم يكن بكل هذا الجمود البارد، إذ كانت تطوف به الحادثة العابرة، فتشدُّ وراءها شريطًا طويلًا من صور الماضي. فلو أن صاحبنا أراد أن يُفرغ على الورق شرائطه تلك ما كانت تحويه، لملأت له بغرائبها ونفائسها مجلدات، لقد كان أشبهَ شيءٍ بالتلفاز، يضغط على مفتاحٍ من مفاتيحه، فتنهمر أمامه حياة دافقة بأشخاصها وبأحداثها، فإذا أحسَّ الملل، ضغط على مفتاحٍ آخر لينفتح له عالَم آخر، فكان في كل مرةٍ كأنه ارتحل رحلةً كتلك الرحلات التي كان يتحرك بها في أصياف أعوامه الماضية، وكثيرًا جدًّا، ما كانت نقطة البدء في رحلاته تلك شيئًا يتذكَّره عندما تقع عينُه على ظهور الكتب المرصوصة في خزائنها، فالفكرة الفلانية تقفز إلى ذاكرته إذا ما رأى عنوان الكتاب الفلاني، وما إن تطوف الفكرة المُعينة، حتى تتقاطر الذكريات، في تسلسُل مُرتَّب حينًا، ومُضطرب حينًا. ولقد قصَّ عليَّ صاحبي إحدى رحلاته تلك، فرأيت في روايته ما ينفع الناس … قال:
في جلستي تلك، الساكنة الهادئة، لمحتُ على ظهور الكتب ما ذكَّرني ﺑ «النَّظَّام» (بالفتحة المُشددة على النون، وكذلك على الظاء) ذلك المفكر الإسلامي السابق لعصره في فكره، ولقد كان معاصرًا للجاحظ، وكان كلاهما عندئذٍ في البصرة، وقال عنه الجاحظ — والجاحظ هو من هو — قال عنه: «كان الأوائل يقولون، في كل ألف سنةٍ رجل لا نظيرَ له، فإن كان ذلك صحيحًا، فهو النظام.» … واستطرد صاحبي في روايته عن إحدى رحلاته الداخلية، فقال: لستُ أدري ما الذي أورد «النَّظَّام» إلى ذاكرتي، أما وقد ورد، فيا له من شريطٍ طويل من أفكار يُصاحبها انفعال حينًا بعد حين، وذلك أني تخيَّلتُ أن ذلك «النظَّام» قد بُعِث ليحيا معنا حياتنا الفكرية اليوم، وأخذ يعرض أفكاره التي كان عرضها في حياته الأولى وهو في البصرة إبَّان القرن الثالث الهجري «التاسع الميلادي» فما وَسِعني عندما تخيلت ذلك، إلا أن أتخيل معه حربًا علميةً شعواء، ربما ذهبت معه إلى حدِّ أن يَرمِيَه الغاضبون بالخروج على الدين كما يعرفونه، أو بما هو دون ذلك بقليل … فقد أخذَتْ أفكاره تتوارَد إلى خاطري، وعند بعضها كنتُ أضرب كفًّا على كف، قائلًا لنفسي: يا سبحان الله، فمِثل هذا الذي قاله «النظَّام» قد يقوله اليوم قائل، فلا يُقابَل عند بعضهم إلا بالسخط وبالزراية، إذ يرونه أثرًا من آثار «غزو ثقافي» غزانا به الغرب الملعون. والحقُّ إنه لَعَجب من عجب يدعو إلى إعجاب ليس وراءه إعجاب، أن نرى عند ذلك المفكر الإسلامي القديم أفكارًا هي من أهم الأفكار الأساسية التي تُبنى عليها ثقافة الغرب في يومِنا هذا، أو هي — على الأقل — إحدى وجهات النظر، ولعلك تعلَم عنِّي أن منها أفكارًا قد جعلتُها بين الركائز التي أقمتُ عليها وجهة النظر التي صنعتُها أو اصطنعتها لنفسي، فما وجدتُ في كثير من الحالات إلا نفورًا وتنفيرًا.
نعم، يا صديقي، وسأروي لك شيئًا مما توارد إلى ذهني، مما كان «النظَّام» العظيم قد أخذ به ودافع عنه، لترى معي كم هو قريب مما يأخذ به العبد الفقير لله، فلم يَلْقَ إلا إعراضًا حتى من زملائه ذوي الاختصاص: ألم تسمعني أُكرِّر مرارًا، ولا أمَلُّ من التكرار، بأن معنى الكلام إنما يتحدَّد بالتطبيق، فإذا وجدنا عبارتَين اختلفتا في اللفظ، ولكنهما اتحدَتا في التطبيق، عددناهما مُترادفتَين، برغم اختلافهما في اللفظ، وكان مما يترتب على ذلك، أنه إذا كانت هناك عبارة لا نتصوَّر لها تطبيقًا، لا بالفعل ولا بالإمكان، حكَمْنا عليها بأنها كلام يخلو من المعنى؟ وإنك لتعلم كم من السخط الغاضب قد جرَتْ به أقلام المعارضين، خوفًا على كلام يَعرفه هؤلاء المُعارضون، بل هو رأسمالهم الفكري، أن يجري عليه مثل هذا الحُكم، وفاتهم أن القول هنا مقصور على ما هو مُندرِج في دائرة العلم، وأن لِغَير العِلم من أقوالٍ أحكامًا أخرى … وبعدَ هذا فلتنظر معي — يا أخي — في أول فكرة عرضها «النظَّام» وكانت عن «الإرادة» من حيث هي صفة من صفات الله عز وجل، وصفة كذلك من صفات البشر، مع الفارق بأن تكون إرادة الله مُطلقة وإرادة الإنسان في حُريتها نِسبية ومُقيدة بظروفها، فقال «النظَّام» وهو في معرض الحديث عن الإرادة الإلهية إنه لا يجوز وصفها بأنها قادرة على فعل الشر، ولَمَّا كان هناك من ردوا على هذا بقولهم: بل هو قادر على فعله ولكنه لا يفعله، فيجيب «النظَّام» على ذلك بما مؤدَّاه: لا فرق في المعنى بين القولَين، لأن المُعول في دُنيا الأشياء، فيتحوَّل عندئذٍ إلى «فعل» وإن المعنى هو الفعل الذي ينتُج، وما دام الشر في كلتا الحالتَين لا يقع، كان القولان متساوِيَين برغم ما قد يبدو على لفظهما من تناقض … فتخيَّل معي يا صديقي، كم يكون الانقلاب في حياتنا الفكرية اليوم — على جميع مستوياتها — لو أنها دارت حول هذا المبدأ المنهجي، وهو أن كلامنا لا يكون ذا معنى إلا إذا أمكن وقوعه فيما يُتضمَّن في طيِّ كلماته «فعلًا» يمكن أداؤه وإلا فهو كلام بغير معنى، وهو مبدأ قد جفَّ المداد على سنِّ قلمي من كثرة ما رددتُه، فكان يُقال في رفضه إنه قول منقول عن أصحاب الحضارة المادية القائمة، وها أنا ذا أبتعِثه اليوم حيًّا من فكر «النظَّام» العظيم.
ثم مضيتُ يا صديقي في سلسلة خواطري، فلم تشأ تلك الخواطر التي انسابت حرة، لم أُقيِّدها بقيدٍ من إرادتي، أقول إن تلك الخواطر الحرة لم تشأ أن تترك ذكرياتي عن «النظَّام» فانتقلت بي إلى فكرةٍ أخرى عنده، كفيلة وحدَها أن تجعله اليوم بيننا معاصرًا في مقدمة المعاصرين، ودَعْ عنك أن نُضيفها إلى سابقتها التي أسلفناها … وأما هذه الفكرة الثانية فتجعل «الحركة» — وليس السكون — أساسًا لكل الوجود، ولكل موجود في ذلك الوجود، جسمًا كان أم كان عقلًا أو إرادة، وانتبه أيها الصديق جيدًا إلى معنى هذا القول، فقد كان السائد الشائع في كل حياةٍ فكرية عرفها الإنسان قبل ذلك — اللهم إلا استثناءات أقلَّ من القليلة — أن يكون «سكون» الأشياء فيما يرى رجال الفكر، هو الأساس، بمعنى أننا إذا وجَدْنا الأشياء في حركة، وجب علينا أن نبحث عن علة تلك الحركة. ولقد لبثت تلك الفكرة مُستقرة في العقول، حتى أوائل القرن الماضي في أوروبا، حين طُوِيت من تاريخ الفكر الإنساني صفحة، ونُشِرت صفحة أخرى، تقول: لا، بل الأصل في الكون وكائناته، أن يكون من جنس «الحياة» لا من جنس الجماد والموت، ومن هنا قيل إن الأصل في كل شيءٍ هو أنه في حركة دائمة، فإذا رأيناه ساكنًا، وجب أن نسأل، ما الذي أحدث فيه ذلك السكون، وهذا الانقلاب الفكري الذي جاء فاتحةً لعصرٍ جديد، تفصل بين ما هو «حديث» وما هو «معاصر» هو الذي كان «النظَّام» العظيم قد سبق إليه، لكننا نترك هذه المبادئ الأساسية من ميراثنا الفكري، لنشغل أنفسنا بما من شأنه أن يُميت الحي، وأن يُجمِّد المتحرك، والفرق بعيد يا صديقي بين الموقفَين: موقف يعترض السكون، وموقف يعترض الحركة، لأن الحركة تغيُّر، وانظر — مرة أخرى — إلى مدى الانقلاب الذي يحدُث في حياتنا الفكرية الحاضرة، إذا نحن استبدلنا بمبدأ يدعونا إلى جمود الموت، مبدأ يَحثُّنا على حركة الحياة! فبدل أن نجعل مثلَنا الأعلى صورة الحياة عند الأسلاف وكأن الزمن لم يكن، وكأن كل شيءٍ ينبغي له أن يسكن حيث كان، يُصبح مثلنا الأعلى أن نجد كل شيءٍ في حياتنا الحاضرة قد تغيَّر عن الصورة التي كان عليها بالأمس القريب، ودع عنك صورة الأمس البعيد، وأرجوك — يا أخي — أن تلحظ جانبًا هامًّا، وهو ثبات «الإطار» وتغير «المحتوى» وذلك لأنك قد تسأل: إذا كان كل شيء يتغيَّر في يومه عنه في أمسه، فما الذي يربط الأبناء بالآباء والأجداد؟ وهنا تجيء فكرة الإطار الثابت والمضمون المُتغيِّر، ولكي أُقرِّب الفكرة إلى ذهنك، خُذ أية صيغة رياضية مثل «٥ + ٢ = ٧» فهذه صورة ثابتة، لماذا؟ لأنها صورة مفرغة لا تحتوي على شيءٍ يملؤها وهي على استعداد لأن تتلقَّى أي امتلاءٍ يُناسبها، فقد يكون ذلك الامتلاء تفاحات، أو كتبًا، أو أحجارًا، أو عصافير، وهكذا تكون الحال فيما هو ثابت على العصور بين أجداد وأحفاد، فالأجداد يتركون لأحفادهم «مبادئ» للعيش، ملئوها هم بضرب من الحوادث … وللأحفاد أن يملئوها بضربٍ آخر من الأحداث، لكن ليكن مفهومًا أن تلك «المبادئ» لا يَصدُق عليها اسمها هذا، إلا إذا كانت بالِغة التجريد، كالتجريد الذي نراه في الحقائق الرياضية.
ولقد ظننتُ يا صاحبي أن رحلة خواطري تلك قد بلغت نهايتها، لكنها لم تكن قد فرغت من ذكرياتي عن «النظَّام» العظيم، القديم المعاصر معًا، فما لبثتُ في رحلتي تلك طويلًا حتى وجدتُ قطاري قد انتقل بي في فكر «النظام» إلى فكرةٍ أخرى، لو قلتُ عنها إنها من صميم المناخ الفكري في القرن العشرين، لَما أخطأت، وهي فكرة خاصة بتعريف «الإنسان» فما هي حقيقة «الإنسان»؟ يُجيب النظَّام بأنه ليس إنسانًا ببدنِه، بل هو إنسان بنفسه وبعقله وبسائر تلك الجوانب التي تجعله كائنًا مُفكرًا مُريدًا، إلى هنا ولا جديد يُميزه عن سابقيه، لكن الذي يُميزه حقًّا، ويجعله مُعاصرًا لنا حقًّا، هو الطريقة التي يفهم بها أسماء «النفس» و«العقل» و«الإرادة» وغيرها، والتي هي أسماء من هذا القبيل، فالاتجاه السائد قبله، وهو نفسه الاتجاه السائد دائمًا بين سواد الناس، هو أن كلمة «نفس» أو «عقل» أو ما إليها تُشير إلى «كائن» مُعين في جوف الإنسان كما هي الحال في «الذراع» و«الأنف» و«القدم» … إلخ، لكن حقيقة الأمر هي أن كل اسم من تلك الأسماء يُشير إلى «وظيفة» يؤدِّيها الإنسان بغير عضوٍ مُعين، وحتى لو تحدَّد لها عضو أو مجموعة أعضاء، فالإشارة إنما هي «للوظيفة» أشبه شيء بالقيثارة ونغماتها، وهذا ما يقوله «النظَّام» … وإن هذا القول لهو فرع من رؤية فلسفية عامة، هي بين الرؤى الأساسية التي تُميز عصرنا هذا الذي نعيش فيه، وأرجوك يا أخي أن تتأمَّل هذا المعنى جيدًا وعلى مهل، وألا تأخذه من سطحه مُتعجلًا، فالرؤية العامة، وهي التي ذكرها «النظام» في وضوحٍ صريح هي أن حقيقة أي شيء إنما هي مجموع «ظواهره» ولا شيء يكمُن وراء تلك الظواهر، ومرة أخرى أرجوك يا صديقي أن تتدبَّر هذا القول على مهل، مُتذكرًا أن قائله القديم هو مُفكر عربي مسلم، في القرن الثالث الهجري وهو أن حقيقة أي شيءٍ إنما هي مجموع ما «يظهر» لك منه، وهل يكون ذلك الظهور إلا لعينٍ ترى، أو لأُذن تسمع، أو لما شئتَ من حاسة تحس؟ وحتى لا يفوتك من الأمر جانب هام أُذكِّرك بما أسلفته لك، من أن أي قول لا يكون له معنى إلا إذا كان مما يمكن أن يتحوَّل إلى فعل، والقول الذي لا يتوافر فيه هذا الشرط، يكون قولًا بغير معنى … هذا ما أسلفته لك مما قاله «النظَّام» ومما يقوله فلاسفة العلم في عصرنا، وها أنا ذا أُضيف إليه الإضافة الجديدة التي ذكرتُها لتوي نقلًا عن «النظَّام» وهي أن حقيقة أي شيء إنما هي مجموع «ظواهره» أعني ما تُحسُّه منه حواسُّنا، إذن تكون النتيجة التي ننتهي إليها هي أن أيَّ قولٍ لا يكون له معناه، إلا إذا كان ذلك المعنى مجسدًا في «ظواهر» تحسُّها الحواس … وهو ما جفَّ ريقي من تكراره مريدًا به إلجام سيول الكلام التي تتدفَّق من الأفواه ومن الأقلام غير مُشيرة إلى «ظواهر» فتصيح في وجهي صرخات غاضبة، تقول: بخ، بخ، يا أيها المارق!
ولم يشأ قطار ذكرياتي عن «النظَّام» العظيم، أن يقف بي هنا، بل أراد منِّي شيئًا من الصبر مسافةً أخرى يقف بعدَها، لا لأن ثراء «النظَّام» يكون قد نفد، فهو غزير غزير، وكانت الفكرة الأخرى التي لم تُرِد تلك الرحلة أن تنتهي إلا بها، هي أعجبها في سبْق النظَّام للفكر «الحديث» وهذه المرة لا أقول «المعاصر»، أقول إن تلك الفكرة الأخرى هي قول «النظام» إننا لو حلَّلنا «آدم» عليه السلام، لوجدْنا فيه كل أفراد البشر الذين هم بنوه وبناته! وهو قول قاله بنصِّه بعد ذلك «ليبنتز» في القرن السابع عشر الميلادي، وربما أخذت هذا القول من ظاهر حروفه، يا صديقي، فسألتني: وماذا في هذا؟ وأي عجَبٍ في أن تتوارد الفكرة عند «النظَّام» و«ليبنتز» (وبينهما ثمانية قرون) بل أي عجب في أن تتوارد الفكرة عند ألف مُفكر؟ أليس أفراد البشر هم نسل آدم عليه السلام؟ وأليس النَّسل مُستمدًّا من الناسل؟ … لكنك تُدرك غزارة المعنى، حين تنتقِل من الحديث عن آدم وبنيه، من حيث هم أبدان، إلى ما يُوازي هذه الحقيقة في دُنيا «الأفكار» وعندئذٍ تجدك أمام مذهب يدعو إلى التأمُّل، وهي نقلة انتقلها «ليبنتز» ولم ينتقلها «النظَّام» ولا ندري إن كانت في رأسه ولم يقُلها، أم كانت غائبة عنه، وأعني بها أن تكون هنالك فكرة «أم» وأن تكون كل أفكار البشر بعد ذلك نسلًا تَولَّد عن تلك الفكرة الأم، فإذا ما انتقلنا من هذا التعميم إلى تخصيص، وأخذنا على سبيل المثال أية فكرة مُعينة نختارها، كأن نقول — مثلًا — إن المثلث زواياه تُساوي زاويتَين قائمتَين، وجدْنا أن كل ما فعلناه هو أن حلَّلنا الموضوع الذي نتحدَّث عنه وهو «المثلث»، وأن تعريفه يحتوي على هذه الحقيقة التي نذكرها عنه، وأننا لم نُضِف شيئًا جديدًا بعبارةٍ أخرى، يكون الموضوع بمثابة «الأم» التي أنسلت ما قيل عنها، ولا جديد.
ولم يُرِد سيل خواطري في رحلتي تلك، أن يترك هذه النتيجة دون أن يستخرج مغزاها، ومغزاها هامٌّ جدًّا، وخطير جدًّا، بالنسبة إلى حياتنا نحن الفكرية اليوم، وهو مغزًى لو أوضحناه نكون قد وضعْنا أصابعنا على سرٍّ خفي من أسرار تخلُّفنا الفكري، وذلك أن العالَم كله، عربًا وغير عرب، كان على ظنٍّ بأن الفكر الصحيح لا يكون كذلك … إلا إذا جاء «توليدًا» لنتائج من أصولها، أي أنه كان محتومًا على المُفكر أن يصبَّ فاعليتَه العقلية على فكرةٍ سابقة وجاهزة ليَستولِدها نتائجها، وكان الله يُحب المحسنين … وهذا هو المقابل الفكري لقولنا إننا إذا حللنا آدم «عليه السلام» وجدنا فيه كل بَنيه وبناته إلى يوم الدين، ومثل هذا الظن قد أدَّى بتاريخ الفكر البشري منذ بدايته المعروفة إلى أوائل عصرنا (فيما عدا استثناءات بطبيعة الحال) إلى أن يتَّخِذ الفكر العلمي كله صورة الفكر الرياضي، بمعنى أن يضع المُفكر بين يدَيه بادئ ذي بدء، مجموعة من حقائق مُسلَّمٍ بصوابها، ثم يأخذ بعد ذلك في «توليد» نتائجها من أجوافها وأصلابها.
وجاء عصرنا الراهن، والتفت لأول مرة إلى حقيقة صارخة، وهي أن الأفكار ليست كلها من طرازٍ واحد، بل هي نوعان: نوع منها «يتولَّد» عن أفكار سابقة، ونوع آخر يُستخلَص من «الواقع» لا من أفكارٍ أخرى، وعرف الغرب الجديد هذه الحقيقة، فلم يعودوا يخلطون بين النوعَين، فحقائق يستخرجونها من أقوال السابقين، وحقائق أخرى يستخرجونها من تجارب يُجرونها على كائنات الطبيعة نفسها، لكننا نحن، في مصر، أو في الوطن العربي، قد وقفْنا عند الظنِّ الأول، وهو أن كل الصيد في جوف الفرا، أي أن كل أفكار الإنسان، وإلى يوم القيامة، مُستولدة من أفكار السابقين.
سألت صاحبي: أكانت تلك الوقفة هي نهاية رحلتك الفكرية يومئذ؟
فأجابني قائلًا: كلَّا فقد استدار بي القطار في اتجاهٍ آخر، لم يكن مقطوع الصِّلة بما كان سائرًا فيه، فقد وجدتُني أرتدُّ بالذاكرة إلى وراء، مُتمنيًّا أن أصل في طريق حياتي إلى وراء الوراء، تمنيتُ أن أعرف ذلك الرضيع الذي كنتُه أول ما كنت: ماذا كان يرى وماذا كان يسمع؟ إنني الآن حصيلة ما قد كان … فما هو ذلك الذي كان؟ لكنه مطلب فوق المُستطاع وما لبثتُ أن وجدت سَيل خواطري يتركز عند الفتى في سنِّ الخامسة عشرة من عمره، قد بلغ من حياته الدينية حدَّ التطرُّف، وأعني أنه مزج الحق بالخرافة لفترة من الزمن، إنه في تلك السنِّ كان حريصًا كُلَّ الحرص على أن يُصلي المغرب والعشاء في المسجد ليحضر دروس شيخٍ وقور رزين كان اسمه «أبو قُرَين» (القاف مضمومة والراء مفتوحة) وكانت دروسه فيما بين المغرب والعشاء كان نحيل البدن، أسمر اللون، داكن السُّمرة مُغضَّن، التجاعيد في وجهه، وكان أنيق الثياب نظيفها، وبالطبع لم أكُن أُفرِّق يومئذٍ فيما يقوله بين حق وخرافة: فكنتُ أُصدِّقه في كل ما يقوله، لا فرق عندي في درجة الصدق بين ما يَذكره عن الفروض والسنن والنوافل في الصلاة وبين ما يَرويه على أنه حديث شريف يقول: «الباذنجان لِما أُكِل له.» أي أنك إذا اتَّجهت إلى الله بدعاء وأنت تأكل الباذنجان استجاب الله لدُعائك. لا لم أكُن أُفرق في درجة الصدق بين قول وقول، مما كان يَرويه لنا الشيخ أبو قُرَين في دروسه، وكانت محصلة هذا كله عندي أن خرج ذلك الفتى ذو الأفق الضيِّق في فهمه لحقيقه دينه، ولستُ أنساه وهو في غمرة تلك الموجة، حين ناقش أحد أصدقائه في حدَّةٍ بلغت حد التشنُّج بأنه لا يجوز لمسلم قراءة شيءٍ آخر وكتاب الله موجود … ومن عجب المُصادفات حينئذٍ، أن ذهب يؤدي صلاة الجمعة في المسجد، فإذا بشيخٍ يقف عند باب المسجد بعد الصلاة يخطب بصوتٍ قوي يهزُّ الأسماع قائلًا: هل أدلُّكم على كتابٍ تقرءونه فيُغنيكم عن قراءة أي شيءٍ ما عداه؟ ماذا تقرءون يا سادة حين تقرءون صحيفة أو مجلة أو كتابًا؟ إنكم تقرءون عن التَّوافِهِ الزوائل، فهل أدلُّكم على كتابٍ هو وحده «الكتاب» تقرءونه فلا تقرءون سواه؟ … وقف الفتى يسمع ويتحرَّق شوقًا ليسمع عن الشيخ ما يهتدي به إلى كتابٍ واحد يُغنيه عن سائر الكتب والمجلات والصحف، وأعجب العجب أنه، وهو الفتى الذي كان منذ حينٍ يعترك مع صديقٍ له، بأنه لا يجوز لمُسلم أن يقرأ شيئًا وكتاب الله موجود، لم يُدرك أن الشيخ الخطيب كان يستهدف تلك الغاية نفسها، ووقف الفتى يرتقِب في شَوق أن يسمع عن الشيخ ما يَهديه وإذا الشيخ يُفصح آخر الأمر عما يَعنيه، ففرح الفتى فرحةً غامرة إذ رأى أنه كان — إذن — على حقٍّ في نقاشه الحادِّ مع صديقه.
وشاء الله سبحانه وتعالى للفتى الطموح أن يجتاز بأمان تلك المنطقة من عمره، بما كانت تضطرب به من مَوج الانفعال الغشيم، لينتقِل بعدَها إلى مرحلةٍ اشتدَّت فيه الدفعة نحو التحصيل العلمي والثقافي، يأتي به من كلِّ اتجاه، فأخذت آفاق النظر تتَّسِع أمامه وكان من أهم النتائج المباشرة لنظرته الجديدة، أن أشرقت عليه حقيقةٌ بسيطة، ولكنها مع بساطتها كفيلة وحدَها أن تنقل الإنسان من حالٍ إلى حال، وتلك هي أن الشيء لا يُعرَف بذاته وهي قائمة وحدَها مستقلة برأسها، وإنما يُعرَف بذاته وبغيره معًا. إن المفتاح لا يُعَدُّ مفتاحًا إلا إذا فتح الباب المُقفَل، فإذا هو لم يفتحه لم يكن مفتاحًا، وليست الذراع الشلَّاء ذراعًا برغم احتفاظها بشكل الذراع ولا يُعرَف عنها عجزها إلا بعد الاحتكام إلى شيءٍ سواها، ولا تنكشف لنا طبيعة الحجر، أصلب هو أم رَخو، إلا إذا صادَمْنا بينه وبين جسمٍ آخر، وهكذا قل في كل شيء … وهكذا قُل في جملةٍ من اللغة يقولها قائل، فإذا هي لم تُحدِث تغيُّرًا ما عند سامِعها لم تكن شيئًا مذكورًا، حتى وإن كانت سليمة البناء أمام قواعد النحو، فقد خُلِقت اللغة لتكون أداة يتغيَّر بها الناس ولِيُغير هؤلاء الناس العالَم الذي حولهم، وأما الجملة التي تُقال أو تُكتَب ولا يتغيَّر بها شيء، كأن يعرِف بها الإنسان ما لم يكن يعرفه، ثم لا تكون المعرفة معرفة إلا إذا كانت أداة تغيير، أقول إنها إذا لم تفعل شيئًا من ذلك تَحوَّل النطق بها إلى مَوجات هوائية لا تحمل شيئًا …
والقرآن الكريم كتاب الله لمن أسلم وآمن، أنزل للناس «ليُغيِّروا» برسالته ما ينبغي أن يتغيَّر من حياة الإنسان، وكيف يجيء ذلك التغيير إذا لم تكن العلاقة وثيقة بين آياته الكريمة من جهة، وعالم النفس وعالم الأشياء من جهة أخرى، ثم كيف تتمُّ العلاقة بين الطرفَين إذا لم أكن على بعضِ العِلم بكلٍّ من الطرفَين، فأفهم آيات الله ما وَسِعني الفهم، ثم أعرف الأشياء من حولي ما وَسِعَتْني المعرفة كذلك، فإذا تطابَق الطرفان كان خيرًا وإذا لم يتطابقا عُدتُ إلى عالَم الأشياء أُغيِّر فيه ما أُغيِّره حتى يتم التطابق، يقول الله — عز من قائل: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي … فما هي «كلمات ربي» التي إذا أردنا ذكرها كتابة، وكان البحر مدادًا، وكان شجر الأرض أقلامًا، لنفد هذا قبل أن نفرغ من تلك الكلمات … إنها هي حقائق هذا الكون العظيم وكائناته، ولكي تعرِف كم هي كلمات ربي في آياته الكونية، خذ أبسط كائن تقع عليه يداك، خُذ ورقةً واحدة من أوراق الشجر، وحاول أن تكتب وصفًا دقيقًا لكلِّ ما فيها، لعروقها المخطوطة عليها، لعناصرها الداخلة في تكوينها، لطريقتها في الاغتذاء والارتواء والتنفُّس، إلى آخر ما هو مُتعلِّق بها من حياةٍ وموت، وانظر كم تكتُب لتستكمل ذلك كله عن ورقةٍ واحِدة من أوراق الشجر، فماذا أنت صانع بملايين الملايين من سائر الكائنات وملايين الملايين من السدم ومن النجوم ومن الكواكب؟ وما معنى ذلك؟ معناه أنك لن تكون على فَهم بآيات الكتاب الكريم، إلا بمقدار ما أنت على علم به من حقائق الأشياء، فكُلَّما ازددتَ علمًا بخَلْق الله ازددت بالله إيمانًا، إذن، فلم يكن الفتى المُراهق على حقٍّ فيما جادل به صديقه، حين زعم له أن قراءة القرآن الكريم تُغني عن كل قراءةٍ أخرى، كلَّا ولا كان الشيخ الخطيب عند باب المسجد على حق، حين نادى في الناس بأن كتاب الله وحدَه يُغني عن كل مكتوبٍ آخر، فالعِلم بحقائق الأشياء التي تحيط بنا؛ العلم بالحجر، والشجر، والماء، والهواء، والضوء، والكهرباء، وكل ما خطر لك وما لم يخطر، أقول إن العلم بهذا كله هو بدوره وسيلة علم أوفى بمعاني آيات الكتاب الكريم …
وسألت صاحبي لمَّا أخذَتْه لحظة صمت: أكانت هذه نهاية رحلتك؟
فأجاب بقوله: لا … إنها لم تكن، فلقد استطرد بي قطار الخواطر، لأتبيَّن بعد ذلك لماذا حدث لي أن اخترتُ لنفسي تحليل الأفكار طريقًا في منهج التفكير، فربما جاء ذلك حين أدركتُ في وضوح أن «الفلسفة» في حقيقة أمرها، إنما هي منهج لتحليل الأفكار بُغية توضيحها، إنها لا تحتكر لنفسها موضوعًا مُعينًا خاصًّا بها كما يفعل كل علمٍ من مجموعة العلوم، إذ هي بمثابة عدسة مكبرة توضح لك من الدقائق الخافية ما أردتَ له وضوحًا، ولا شرط لها بعد ذلك أن يكون الموضوع الموضح مُنتمِيًا إلى هذا الميدان أو ذاك، ولعلك قد رأيتَ طائفة من أدوات التحليل العقلي التي أنتهجها، وذلك حين عرضتُ عليك سلسلة الخواطر التي وردت إلى ذهني مُنبثقةً من تذكُّري للمُفكر العربي الإسلامي إبَّان القرن الثالث الهجري، وفي مدينة البصرة، وهو «النظام» العظيم … تلك — يا صديقي — كانت رحلتي التي ارتحلتُها في دخيلة نفسي، ذات يومٍ من أيام الصيف، وكانت رحلاتي في الأحيان الماضية حركة في أرجاء المكان، وأما رحلتي هذه فكانت جولة في آناء الزمان بينما كنتُ جالسًا على مقعدي هذا، في غرفة أقفلت نوافذها وسادها سكون، إلا من حفيف مروحة كهربائية تساعدني على حرِّ الصيف، وهي رحلة كما رأيت؛ بدأت بمُراهق يؤمن إيمان السُّذَّج، وانتقلت إلى شابٍّ عرف قدْر العلم ومنهاجه، ثم انتهت بشيخ ينعم بشيء من علم يُضيئه إيمان …