غابت الفكرة عنا
الواحد من عصور التاريخ هو — في أغلب الحالات — فكرة كبرى واحدة، تكون من الحياة الثقافية الطويلة العريضة العميقة لذلك العصر، ما يكون القطب من الرحى، فقد تطير الأفكار بأصحابها هنا وهنا وهناك، تتعدَّد موضوعات ويتعدَّد الرأي وقد تتنوع مُبدعات الأدب شعرًا وروايةً ومسرحيةً ومقالةً، كما تتنوَّع مبدعات الفن أنغامًا في الموسيقى وألوانًا في التصوير، وقد تتكاثر الاتجاهات مُتقاطعة أو متوازية، في ميادين التعليم والسياسة والاقتصاد والحُكم، نعم، قد يحدُث هذا الثراء كله في العصر الواحد، حتى ليتعذَّر على العين أن ترى كيف يمكن أن تنعقِد ألوف الآلاف بين الخيوط في عقدةٍ واحدة؟ وأما المُتعقِّب الصابر لتلك الخيوط، فهو لا بد مُنتهٍ بها إلى مصدرٍ واحد، هو «الفكرة» الكبرى والواحدة، التي هي من هذه الأشتات الثقافية كلها كبُرج المنارة يرسِل الأشعة في كل اتجاه، وأبناء العصر — بعدئذٍ — يتفاوتون درجاتٍ في مدى استجابتهم لتلك «الفكرة» المحورية الوضَّاءة؛ منهم من ينشغلون بأمرها، حتى ليُمسون معها ثم يصبحون، ومنهم من يُعاودون النظر إليها لحظةً ثم يجعلونها وراء ظهورهم، ومنهم من يَحيَون ويموتون وهم لا يعلمون عنها شيئًا، كأنها لم تكن هناك، ويترتَّب على هذا التفاوت بين أبناء العصر الواحد، تفاوتهم كذلك في غزارة الانتماء إلى عصرهم، وبهذا المقياس أنظر إلى الأمة العربية في عصر الناس هذا، فأراها وكأنما هي فيما يُشبه الغيبوبة عن «الفكرة» التي نُسِج العصر من خيوط ضيائها.
وقبل أن أُحدِّثك حديثًا مُفصَّلًا عما أراه «فكرة» محورية كبرى لثقافة عصرنا لِيتبيَّن من ذلك موضع القصور في حياتنا نحن، منسوبة إلى شواغل عصرها، يحسُن أن أضع بين يدَيك في إيجازٍ صورةً لعلَّها أن تكون مألوفة عند الكثرة الغالبة من قرَّائنا، وأعني صورة الحياة الثقافية في «العصر» الإسلامي العربي إبَّان قرونه الأولى التي هي فترة الإبداع والقوة، وسوف ترى من تلك الصورة، ما كنتُ أعنيه، حين قلتُ إن للعصر الواحد «فكرة» كبرى واحدة تكون لعصرِها ما يكون القطب من الرحى؛ إذ هي تشعُّ نورها في كل اتجاه، وفي كل اتجاهٍ يتلقَّاها الأيقاظ من أبناء العصر (لأن النيام في سُباتهم العميق لا يشعرون) يتلقَّاها الأيقاظ، لا ليتساوَوا أمامها أو يتشابهوا، كلَّا فبِحُكم الاختلافات الفارقة بين أفراد الناس، يتحتَّم أن يختلفوا كذلك في قدراتهم وفي وجهات أنظارهم عندما يتلقَّون ما يتلقَّونه.
وكانت رسالة الإسلام نفسها — بالطبع — هي «الفكرة» الكبرى، التي تستطيع أن تقول — في غير إسرافٍ ولا مجاوزة لحدود الحقيقة — إنها (أي تلك الفكرة الكبرى) قد لبثت طوال القرون منذ صدورها، هي الموضوع المحوري الذي دارت حوله العقول كلها، والقلوب كلها، فما من علمٍ واحد، أو فرع من علم، إلا وهو مُتصل من قريب أو مِن بعيد بما نزلت به رسالة الإسلام، فدوائر بحثٍ أُقيمت لدراسة اللغة العربية من شتَّى أوجهها وذلك بُغية مزيدٍ من الفهم الصحيح للقرآن الكريم، ومدارس أُقيمت للفقه الإسلامي اختلفت مناهجها واتجاهاتها من إقليمٍ إلى إقليم، وذلك في محاولات مُخلصة لاستخراج الأحكام الصحيحة من آيات الكتاب الكريم، وجماعات مُتفرقة هي جماعات «المُتكلمين» (أي الباحثين في كلام الله) كان شُغلها الشاغل دراسة المفاهيم الإسلامية الهامة كالعلاقة بين الذات الإلهية وصفاتها، وكفكرة التوحيد والقضاء والقدَر، وإرادة الإنسان من حيث هي مُخيرة أو مُسيَّرة مُجبرة، وغير ذلك من أمَّهات المسائل في العقيدة الإسلامية، ثم هناك مجموعة الأفراد الأفذاذ الذين هم «فلاسفة» المسلمين الذين اختلفوا بما اختلفت شخصياتهم الفردية لكنهم اتفقوا جميعًا على المهمَّة التي يؤدُّونها، وهي أن ينظروا في «الحكمة» وما جاءت به نقلًا عن القدماء (والمقصود بها الفلسفة اليونانية) أو الشريعة الإسلامية من جهةٍ أخرى ليرَوا أين يتلاقى الجانبان وأين يفترِقان، ونُضيف إلى تلك المدارس والجماعات كلها صنوفًا أخرى من الفروع التي تندرِج تحت هذا الاسم الواسع الفضفاض وأعني اسم «الثقافة» كالمؤلَّفات والدواوين التي خلَّفَها لنا «المتصوفة» وكذلك كتابات مُنوعة كثيرة مما يأتي تحت عنوان «الأدب» وغير ذلك، كله موصول بالفكرة الكبرى التي هي محور العصر وثقافته بجميع أطرافها.
ولو أنك استعرضتَ الصورة بلمحةٍ تجمع لك عدة قرون في إطارٍ واحد، لكان الذي تراه من ضروب الاختلاف في الرأي أكثر ممَّا تراه في الصورة من ضروب الاتفاق، فالتيارات المذهبية مُتصارعة في كل ميدان، والاختلافات الفردية بين العلماء ورجال الفكر أكبر من أن تُخطئها عين الرائي، ومع ذلك فهم جميعًا أبناء «عصر» واحد، لأنهم يُفكرون ويشعرون ويكتبون في ضوء فكرة كبرى واحدة هي رسالة الإسلام.
وقبل أن أنتقل بالقارئ بعد الصورة الموجزة التي قدَّمناها للعصر الإسلامي العربي في مرحلته الأولى مرحلة الإبداع والقوة، والتي امتدَّ بها الزمن نحو تسعة قرون، أقول: قبل أن أنتقل بالقارئ من تلك الصورة إلى صورة عصرنا نحن، أُريد أن أوضِّح فكرةً عظيمة الأهمية في هذا السياق من الحديث، توضيحًا يُجنبنا الوقوع في الخلط والخطأ، وهذه الفكرة هي أنه حين يتحرك تيار الزمن بالناس من عصرٍ إلى عصرٍ يليه، وإلى العصور التالية بعدَه وحين يتبدَّل بهذا الانتقال محور التفكير والإبداع ليُصبح محورًا آخر، فلا يكون معنى ذلك أن العصر الذي انقضى زمنه وانقضى معه المحور الذي كانت تدور حوله حركة العقل والشعور، قد تبخَّر من الوجود وانطوى في هوة العدم، بل يكون معناه هو أن حصيلته الثقافية بقضِّها وقضيضها قد تحوَّلت إلى عادات رسخت جذورها في حياة الناس العملية والنظرية معًا، وما جاءت به العصور التالية من قضايا جديدة إنما أتى ليُضاف إلى مقوِّمات الإنسان، ولو لم تكن هذه هي حقيقة الأمر في العصور المتوالية لكان الإنسان في كل عصرٍ جديد يبدأ من الصفر، ولم تكن الحياة البشرية لتنمو قيدَ شعرةٍ حتى ولو دامت ملايين السنين، وربما كانت الصورة المُصغرة التي توضِّح هذا الذي قدَّمناه، هي صورة الحياة في الفرد الإنساني الواحد؛ إذ ينتقِل به العمر في مدارجه! فما قد عرفه وشعر به الطفل إبان طفولته يظلُّ معه ليُضيف إليه ثم ليكون هذا وذاك معًا عدَّته في حياته، عمليةً كانت أم نظرية. ولقد أشار «ألفرد نورث هوايتهد» إلى هذه الفكرة في كتابه «مغامرات أفكار» لكنه أشار إليها في صورةٍ أخشى أن يضلَّ بها القارئ في الموضوع الذي نحن الآن بصدد الحديث فيه، وذلك أن «هوايتهد» يقول إن الحصيلة الثقافية لعصرٍ ما، تنتقل عند الإنسان في عصوره التالية من الشعور إلى اللاشعور، يُريد بذلك أن يقول إن الفكرة المعينة التي تتكوَّن في بؤرة التفكير الواعي من حياة الناس وهم يَحيَون خلال عصرٍ معين، لا تنعدم فيما يلي بعد ذلك من عصور، بل هي إلى الأبد قائمة هناك في صلب الكيان البشري، ومن ثَم يتقدم الإنسان ويرتقي عبر حضاراته وثقافاته المُتتابعة، لكن هذا القول من «هوايتهد» — برغم صدقه — إلا أن صدقه منقوص بمعنى أنه يصلح لحالاتٍ من ماضي الإنسان ولا يصلح لحالاتٍ أخرى. ولقد كان المثل الذي ضربناه للقارئ فيما أسلفناه، هو صورة الحركة الثقافية في العصر الأول من تاريخ العرب المسلمين، ولسنا نريد بذلك أن نقول ولا هو صحيح إذا قُلناه بأن حصيلة ذلك العصر الأول قد انتقلت في كياننا من منطقة «الوعي» إلى منطقة «اللاوعي» حتى ولو كان ذلك اللاوعي موجِّهًا لحياتنا ومؤثرًا فيها، بل الذي نُريد أن نقوله والذي هو صحيح وواقع، هو أن ما قد كان محورًا للنشاط الفكري في ذلك العصر الأول فيه من القضايا ما يمكن طرحه اليوم، كما أن فيه من القضايا ما أشبعه الباحثون بحثًا ولم يعُد فيه زيادة لمُستزيد، والنوعان من القضايا ضروريَّان لنا اليوم في حياتنا الواعية، إلا أنه قد جاءت الحياة الجديدة في العصر الجديد بمحورٍ آخر، ولم يعُد موضوع تلك القضايا — على ضرورتها — هو المحور الذي يجب أن نُعطيه من عنايتنا بقدْر ما نُريد أن نحيا في زماننا، وإذا أصررنا على ألا نفعل كان الخسار علينا، وكان الكسب للأعداء؛ فأولئك الذين ما ينفكُّون ينسبون مواضع التقصير في حياتنا من جهلٍ وفقرٍ وضعف إلى الاستعمار، كان ينبغي بأن يُطالبوا بأنفسهم، بالرجوع خطوة أخرى في عملية التعليل ليسألوا أنفسهم هذا السؤال: ولماذا استطاع المُستعمرون أن يُحققوا غاياتهم بمِثل تلك السهولة التي حقَّقوها بها حتى أصبحنا جميعًا على ما نحن فيه؟ ولو أنهم سألوا أنفسهم هذا السؤال لوجدوا الجواب بارزًا يكاد يفقأ العين، وهو أننا أدخلنا أنفسنا في سُباتٍ حضاري ثقافي عميق، حتى غابت عنا فكرة العصر، فغاب عنا الوعي بالحياة وحقائقها.
فما هي فكرة عصرنا الكبرى التي تُرشد السالكين وكأنها في سماء عصرنا هي النجم القطبي يَهتدي به المسافرون في مجاهل البِيد أو في ظلمات المُحيط؟ إنها فكرة الطامِحين إلى استعانتهم بالعلم على تسخير الكون، ليزداد الإنسان الحُر حريةً تُضاف إلى حريته، فالإنسان القوي موجود دائمًا، حتى في العصر الحجري كان هناك الإنسان القوي بالقياس إلى سواه، لكنه على مرِّ الدهور دهرًا وراء دهر من قرون هذا الزمان استبدل في ممارسته لقوته مجالًا بمجال. وينفعُنا في سياق حديثنا هذا أن نحصر انتباهنا في جانبٍ واحد هو جانب التسلُّط والسيطرة، وفي هذا المجال كانت الصورة الأولى لتسلُّط الأقوياء هي أن يتحكَّم القوي في رقاب الضعفاء من قومه، ولبثت تلك الصورة على بشاعتها حتى أراد الله لمن أراد لهم أن ينعموا بالحرية، ألا يَصبُّوا سلطانهم على ذويهم لينعم أفراد الشعب جميعًا بقدْرٍ من الحرية، وأن ينصرف صاحب القوة بتسلُّطه نحو الشعوب الأخرى إذا وجد فيها ما يُلزِمُه ضعفه بأن يخضع لمن هو أقوى، ثم دارت الأعوام بالناس حتى جاء عصرنا القريب، الذي لم يزد طوله على نصف قرن مضى بالنسبة إلى الموضوع الذي نتكلَّم الآن فيه، وهو موضوع حرية الشعوب قويها وضعيفها على السواء، فاتجه القوي بقوته ليُسيطر بها ليس على قومه هو كما كانت الحال في المرحلة الأولى، وليس على غير قومِه من ضعاف الشعوب كما كانت الحال في المرحلة الثانية بل على ظواهر الكون من حوله، وإن في هذا الميدان الفسيح لمُتَّسعًا للجميع.
وبالطبع لم تكن هذه أول مرة في تاريخ الإنسان، يستثمر فيها هذا الإنسان معرفته لطبائع الأشياء في تسخيرها لمَنافعه، بل إنه استطاع ذلك منذ شهِدَته الدنيا إنسانًا، فقد استخدم منذ أقدم عصوره تربة الأرض وحرارة الشمس وقوة الريح وغير ذلك في شئون حياته العملية، لكن التاريخ لم يشهد في أي عصرٍ من عصوره ما يمكن أن يُقارَن بجزءٍ من ألف ألف جزء من قُدرة الإنسان في عصرنا القائم على تسخير القوى الكامنة في كائنات هذا الكون، فالأمر في هذه القدرة يتناسَب طردًا مع اتِّساع علم الإنسان بطبائع تلك الكائنات، وأن عِلمه بهذا في يومِنا هذا لهو السمة الأولى بين السمات التي تُميز عصرنا من كل ما سبَقه من عصور، وتلك حقيقة لم تعُد في حاجةٍ إلى أن تُذكَر، لكننا نُشير إليها هذه الإشارة السريعة، لنذكُر النتيجة الهامة التي تترتَّب عليها بالنسبة للإنسان وهي نتيجة قلَّما يُنتَبه إليها بالقوة الكافية، ألا وهي أن كل مثقال ذرة في زيادة السيطرة على ظواهر الطبيعة زيادة مؤسَّسة على زيادة عِلمه تُقابلها حتمًا زيادة في حرية الإنسان، فالحرية بمعناها الصحيح إنما هي قُدرة الإنسان على التصرُّف في المجال الذي هو حرٌّ فيه. وإننا لنخلط خلطًا خطيرًا بين «التحرُّر» من القيود والحرية في العمل، نخلط بين هاتَين الحالتَين حتى لنظن أنهما اسمان على مُسمًّى واحد، مع وضوح الفرق بين الحالتَين، فإذا حطمت الأغلال عمن هو مُقيَّد بها، تحرَّرَ ذلك المُقيد من قيدِه لكنَّنا لا نعلم عنه شيئًا بعد: أيكون «حرًّا» في حياته العملية أم لا يكون؟ إذ الأمر هنا مرهون بأن يمارس عملًا يُحسِنه لِعلمه بدقائقه فيكون بذلك ذا حريةٍ تتناسب قدرًا مع مقدار مِرانه ومهارته. كان العبد في أيام الرقِّ يُطلَق سراحه بإذنٍ من مالكه فيتحرَّر من عبوديته، وأما أنه يُصبح بعد ذلك حرًّا أو لا يُصبح، فذلك متروك لظروفه فيما يستطيع فِعله أو لا يستطيع، فمن الجائز — مثلًا — أن تحُول بعض التقاليد دون أن يؤدي العمل الذي يريد أن يؤديه لمهارته في أدائه، وفي هذه الحالة يكون مفقود «الحرية» مع أنه قد «تحرر» من عبوديته؟
ولهذه التفرقة أهميتها البالِغة بالنسبة لنا ولأمثالنا ممن «تحرَّروا» من المُستعمر الأجنبي، ومع هذا التحرُّر يلبث مفقود الحرية في علاقاته مع ذلك المُستعمر نفسه أو من يُماثله، وذلك لأننا لا نكسب «العلم» الذي يُمكننا من تسخير الظواهر الكونية كما يملكها هؤلاء، فنظلُّ في حاجةٍ إليهم على نحو ما يعتمد الطفل العاجز على وليِّ أمره، فهؤلاء السادة بعلمهم وسلطانهم على عالَم الأشياء، صنعوا وسائل الانتقال السريع، وصنعوا أسلحة القتال وصنعوا أجهزة الطب والجراحة وصنعوا وصنعوا، وكان ذلك كله على أساسٍ من «علم» بالعالَم وما فيه من سرٍّ مكنون، وبقِينا نحن وأمثالنا مُتحرِّرين ولكن بغير «علم»، وبالتالي فنحن لا نُشارك في شيءٍ من ذلك الذي صنعه هؤلاء، ولو كنَّا في غِنى عنه لاكتفَينا وحمدنا الله على التحرُّر من ربقة المُستعمِرين، لكننا في حاجةٍ إلى كثيرٍ مما صنعوه بعلومهم ومهاراتهم ولا سبيل أمامنا — إذن — إلا أن نشتري منهم ما يسمحون لنا بشرائه من تلك الأجهزة التي لم تعُد الحياة مُمكنة إلا بها، ومعنى ذلك في عبارة بسيطةٍ وصحيحة أنهم هم وحدَهم الأحرار وأننا ما زلنا في قبضات أيديهم، تحرَّرنا أو لم نتحرَّر على حدٍّ سواء.
فالعلم الذي يمكِّن الإنسان من تسخير الطبيعة لصالحه ليس ترفًا يتظاهر به صاحبه أمام الناس، وإنما هو آخر الأمر كفيل بحُرية الإنسان إزاء الطبيعة وظواهرها وكائناتها. لو تُرِك الإنسان محكومًا كسائر الأشياء بقانون الجاذبية لظلَّ مُسمَّرًا على سطح الأرض، اللهم إلا أن يقفز مرتفعًا مترًا أو ما يقرب من المتر، فقوة جذب الأرض لجسده قَيد يغلُّه، وأما من استطاع بعِلمه أن يطير عن سطح الأرض آلاف الكيلومترات؛ فهو حُر بمقدار ما طار، وهكذا قُل في كل الحوائل التي تحدُّ من قدرة الإنسان ثم يكسب الإنسان علمًا فيزيلها، هل كان ليستطيع أن ينفُذَ ببصره وراء الحجب ليرى قلب المريض بقلبه، أو أمعاء العليل بأمعائه، لكنه اليوم قد «علم» فاستطاع وأصبح حُرًّا في هذا المجال بمِقدار ما استطاع، وقُل هذا في ألوف الحالات التي كان الإنسان حيالها قبل عِلمه عاجزًا، ثم علِم فاستطاع، وعكس ذلك صحيح كذلك؛ وهو أن من لا يعلم لا يستطيع، فيفقد من الحرية بمقدار ما عجز.
ومع ذلك فأمانة القول تقتضينا أن نقول عن أولئك الذين علموا فصنعوا؛ فأصبحوا أمام قيود الطبيعة أحرارًا بمِقدار ما علموا وما صنعوا عادوا فوجدوا حياتهم قد جاءتها القيود من أبوابٍ خلفية لم تكن ظاهرة لهم أول الأمر، وذلك أنَّ حياة العامِلين في هذا المجال أو ذلك من مجالات العمل في الحضارة العلمية الصناعية التي هي حضارة عصرنا إنما هي حياة تنتج ما تُنتِجه من أجهزةٍ وآلات ومركبات وروافع وجرارات إلى آخر تلك القائمة الطويلة التي لم يعُد لها آخر، لكنها في الوقت نفسه تُدمِّر نفسية صانعها، لماذا؟ لأن الإنسان خُلِق بفطرته يُريد أن يعرف طريقه من أين؟ وإلى أين؟ وإلا بات كمفقود الذاكرة الذي يَسير كما تسير السحابة في سمائها وهي لا تعلم في أي اتجاهٍ تسير ولماذا. فصانع هذه الحضارة العلمية الصناعية مكتوب عليه أن يؤدي عملًا مُعينًا هو في حقيقته تفصيلة صغيرة من تفصيلات مشروع كبير، وهو إذ يُنجز تلك القضية الصغيرة لا يعرف عنها الوظيفة التي يُراد لها أن تؤديها في ذلك المشروع الكبير، وأخذت هذه المواقف المبتورة تتراكَم في أنفُس العامِلين حتى أصبحت حياتهم اليومية جحيمًا، لأنهم باتوا آلاتٍ من الآلات، بل وإن العلم بقفزاته الجريئة كل يوم دائب على أن يصنع الأجهزة التي تؤدي ما كان يؤدِّيه العاملون من البشر، جهازًا بعد جهاز، ومن ثم نشأت لهم عِلَل وأمراض تستعصي أحيانًا على العلاج: كالقلق والاغتراب واليأس والضجر، فكثُرَت الأمراض النفسية كثرةً لم يسبقها مثيل فيما مضى.
فهل ترك أبناء الحضارة العلمية الصناعية مُشكلتهم الإنسانية تلك بغير حل؟ كلَّا بل عالجوها علاجًا «ثقافيًّا» وهو أن يتَّجِه الإبداع في الفنون والآداب اتجاهًا آخر غير الذي كان، وبكل اختصارٍ نقول عن هذا الاتجاه الجديد: إنه قد ترك للفنان أو الأديب حُرية أن يبني نِتاجه من محض إبداعه، بغير شرطٍ يشترط عليه أن تكون هناك صِلة ظاهرة بينه وبين الواقع الخارجي، فلئن كان «العلم» قد وثَّق الروابط بينه وبين الطبيعة الخارجية متجاهلًا «نفسية» الوسيط البشري الذي يعمل في ميدان الصناعة، وهو في الحقيقة، الميدان الذي يتلاقى فيه العِلم بنتائجه، فها هي تي صور الفن والأدب وسائر صور الإبداع البشري قد انطلقت في طريقٍ يُعوِّض على الإنسان ما فقده؛ إذ أصبح في دُنيا الإبداع يَبني لنفسه عالمًا خاصًّا به، مُتحدِّيًا ذلك العالَم الخارجي الذي لا حيلة له فيه، والذي هو المجال الذي جُعلت فيه السيادة للعلم والتصنيع.
ونعود بعد هذه الرحلة الطويلة إلى حياتنا نحن الثقافية، لنرى أين موقعها من ذلك كله، فأول ما يَلفِت أنظارنا فيها هو هذه الحقيقة الصارخة، وهي أنها ما زالت كما كانت ثقافات العصور السابقة جميعًا، ثقافة لا تنتهي بأصحابها إلى معرفةٍ بدُنيا «الأشياء» وإنما تكتفي من أصحابها هؤلاء بأن يقفوا عند «الكلمة» منطوقة مسموعة حينًا مكتوبة مقروءة حينًا آخر، فهي ثقافة تبدأ بالحروف وتَسير طريقها في عالَم الحروف لتنتهي آخِر الأمر مع الحروف، ويستطيع المُثقَّف بهذه الثقافة أن يقضي عمره كله سابحًا في كلماتٍ يقولها وكلمات يَسمعها، وكلمات يكتُبها وكلمات يقرؤها وكان الله يُحب المُحسنين، وقد تقول هنا: لكننا يا أخي نزرع الأرض وننجر الخشب ونبني البيوت وننقش النحاس ونلوي الحديد … نعم، إننا نفعل كل ذلك، نفعله بمهاراتٍ كسبناها على مرِّ الزمن، كالمهارات التي كسبها النحل في خلاياه، وكل الفرق بين الحالتَين هو أن النحل يصنع ما يصنعه مدفوعًا بغرائزه، وماذا تكون الغريزة إلا عملًا أتقنَه نوع من الأحياء وتوارثه على امتداد ألوف الألوف من السنين، وأما زارع الأرض والنجار والبناء والحداد في مُجتمع لم يتسلل إليه شيء من مُبدعات العلم الحديث، فهم يتناقلون «عادات» لا غرائز، ومهارات ولدًا عن والد، وصبيًّا عن «معلم» كانت أدوات الزراعة — مثلًا — كالمحراث والشادوف، وغيرهما التي يستخدِمها الزارع المصري إلى وقتٍ قريب جدًّا هي نفسها الأدوات المرسومة على جدران المعابد في آثار الفراعنة، والذي تغيَّر منها — وقد تغير شيء كثير — هو كله آلات استوردناها من صانعيها هناك، عند أصحاب الحضارة العلمية الصناعية التي هي حضارة العصر. وإنه لشيء محمود أن نُطوِّر حياتنا بما صنعَه سوانا ما دُمنا بعدُ عاجزين عن صناعته إبداعًا منا لكننا في الوقت نفسه نتجاهل الحق؛ إذا لم نتذكَّر أنَّ الذي اشتريناه من صناعة الآخرين هو نتيجة لَزِمَت عن «ثقافة» مُعينة سادت حياتهم ولا ينتسب إلى «ثقافتنا» نحن بسببٍ من الأسباب؛ إذن فنحن لا نُخطئ إذا زعمنا بأنه برغم الأجهزة والآلات والصناعات التي — بحمد الله — أخذت تملأ حياتنا، فإن ثقافتنا ما زالت — كما كانت — في مُجملها كلامًا في كلام، لا يؤدي بنا إلا إلى مزيد من كلام، والكلام في ذاته لا عَيب فيه، لكن العبرة هي فيما يَحمِل سامِعه أو قارئه على فِعله، فإن هو حمل المُتلقِّي على اكتسابٍ لموقف مَن يَعلم ليُغير وجه الأرض بعلمه، فذلك خير، وأما الكلام الذي يتلقَّاه المُتلقي قاعدًا فيظلُّ على قعوده لم يزِدْ على حالته السابقة إلا أن تأوَّه بآهات الإعجاب لِما سمع؛ فذلك هو ما تفعله بنا التركيبة الثقافية التي نعيشها؛ ويظلُّ وجه الأرض بعد الذي سَمِعناه أو قرأناه كما كان وجه الأرض قبل ذلك.
ومرة أخرى قد تقول شيئًا كالذي قُلته على حياتنا العملية من زراعةٍ وصناعة وغيرهما إذ تقول: لكنَّنا يا أخي ننشَط بفنٍّ جديد، وبأدب جديد، وليس أمرُنا كله «كلامًا» من الصنف الذي تعنيه. ومرة أخرى كذلك أُجيب بأن ذلك كله خير والحمد لله، فلأن نحتذي حَذو أصحاب الحضارة الجديدة في فنونهم وفي آدابهم خيرٌ من أن نُغلق نوافذنا ونتربَّع على أرض بيوتنا لا نشهد النور، إلا أنك في هذه الحالة تتجاهل حقيقةً ضخمة ضخامة الجبل، وهي أن الفن والأدب في صورهما الجديدة، إنما جاءا هناك ردَّ فِعلٍ يُعالِجان به ما قد نتج عن حياة الإنسان في حياة العِلم والصناعة من آثارٍ ضاغطة على فطرته، ولقد نقَلْنا نحن من تلك الحياة العلمية الصناعية سطحها الظاهر، قلَّدناه تقليدًا، ولم تعتمِل به نفوسنا من الداخل؛ ومن هنا فلم نمرض بأمراضها من ناحية؛ ولا نحن من ناحيةٍ أخرى نعمنا بالحرية الحقيقية التي لا تكون إلا بحياةٍ تُلجِم ظواهر الطبيعة إلجامًا، لتُحرِّكها كيف شاءت، فإذا جاء الفنان التشكيلي عندنا مثلًا ليَسير على نهج مدارس الفن الحديث، جاء فنُّه بالتالي مَبتور الصِّلة الحيوية بطريقة حياتنا وتفكيرنا، وكذلك إذا جاء الشاعر الجديد عندنا، ليتحوَّل بالشعر إلى ما يُشبِه أحلام اليقظة عند يائسٍ أو محروم، كان شعره أيضًا مَبتور الصِّلة الحيوية بطريقتنا وموقفنا من مسالك العيش.
ولستُ أخلو من العجَب كلما قرأتُ لأديبٍ من أدبائنا شكواه من أمراض العصر، كالقلق والاغتراب والتمزُّق؛ لأنني على يقينٍ من أننا لم نُمارس حياة العلم والصناعة بعد، على نحو ما يُمارسها أهل الغرب؛ لأنهم هم الذين تعتمِل نفوسهم بالولادة والإبداع، وأما نحن فنأخذ الناتج استعارةً أو شراء، فنعيش ذلك العِلم وتلك الصناعة من السطح، لا من الجذور التي تمسُّ الأفئدة فتهزُّها من الأعماق.
نعم، إن لكل عصرٍ واحد، فكرته الكبرى الواحدة، وفكرة هذا العصر مدارها علم، فتسخير للطبيعة بذلك العلم، فشعور بالحرية التي يشعر بها من تُصادفه العقبات فيقهرها ليمضي في طريقه، وتلك الفكرة الكبرى هي محور النسيج الثقافي في العصر القائم، ولا ندخل نحن عصرنا هذا، إلا بمقدار ما نطعم حياتنا الثقافية بما يُضيف إلى خصائصها الجوهرية، جوانب أخرى. تعمل على أن تؤدي تلك الحياة الثقافية بأصحابها إلى «فعل» فيكون مقياس المعنى دائمًا ما يحدث في حياة الإنسان العملية من شيء يصنع ويُعاش معه وبه؛ أما إذا جمُدنا على الوضع الثقافي الراهن — الذي جوهره كلام ينتهي بالقاعد إلى أن يظلَّ على قعوده أو ينام — فستبقى ثقافتنا — كما هي الآن — كلامًا في كلام.