اللغة مُلتقى الثقافتَين
كنَّا في شبابنا نملأ أوعيتنا الثقافية من البحور السبعة، لا نُبالي أن يكون هذا الذي ملأنا به الوعاء يحمل فوق رأسه بطاقة «العلم» من أي فرع من فروعه، أو يكون ذلك الذي اغترفناه في وعائنا شعرًا وأدبًا ونقدًا، نذهب إلى معارض الفن، بقوة الدفع التي نذهب بها إلى دار الكتب العامة في باب الخلق بالقاهرة، فإن تكُن مقررات الدراسة الرسمية قد احتلَّت من نشاطنا العلمي والأدبي مكان الجذع من الشجرة؛ فقد كثُرت في تلك الشجرة فروعها، وغزُرت أوراقها وأثقلتها الثمار والأزهار، وقد ظننت أن كل شاب في مرحلة الدرس أو ما بعدها هو ذلك الإنسان الذي لم يعرف الفواصل الحادة التي تفصل جزءًا من المعرفة الإنسانية عن سائر الأجزاء، إلى أن أرسل إليَّ صديق أديب وناقد مُرهف الذَّوق فيما يُنتجه، وما يعرضه، من رائع الشعر والنثر معًا، عشر نُسَخ من كتابٍ أخرجه عن شعراء الطبيعة من الأقدمين ومن المُحدثين، راجيًا أن أُعينه في بيعها، والحق أن حيرتي أمام هذا الطلب المفاجئ كانت شديدة، وربكتي بهذا التكليف كانت أشد؛ لأنه عمل يتنافى مع طبيعتي، ويكفي أنه منطوٍ على شيءٍ من ذُلِّ الرجاء، وليس في طبعي ذرة تدفعني إلى أن أقف من أحدٍ موقف الرجاء وذُلِّه، إلا أن ذلك الجانب من كياني يمكن أن أُرضيه وأستجيب إليه بلا مشقَّة ولا عُسر، ما دام الأمر أمرًا يخصُّني في حدود حياتي الخاصة، أما أن يكون التكليف آتيًا من صديق؛ فذلك شيء آخر، مهما يكن في أدائه من حيرةٍ وارتباك.
وأراد لي الحظ العاثر أن يكون أول من ألتقيه مُدرسًا للرياضة في إحدى المدارس الثانوية إذ ذاك، وكانت الصِّلة التي تربطني به لا ترتفع إلى حدِّ الصداقة، ولا تنخفض إلى حدِّ الجهل به، وبعد أن حَييتُه تحية لا بدَّ أن أكون قد بالغتُ فيها بعض الشيء تمهيدًا للقذيفة التي انتويت رمْيَه بها، عرضتُ عليه نسخةً من ذلك الكتاب، ذاكرًا له الظروف التي أوقفتني منه موقف البائع وهو المُشتري، فتناول الرجل الكتاب وقرأ عنوانه، وسألني وهو في ما يُشبه الذهول: ما هذا؟! فقلت له: إنه كما ترى، كتاب وثمنه عشرة قروش، فعاد الرجل إلى دهشته، واتَّجه ببصره إلى يمينه مرة، ثم قبل أن يعود به ليُواجهني مواجهة العاتب الغاضب، قال: كتاب يا أخي؟! وفي الشعر؟! قلت: نعم، إنه كتاب وفي شعر طائفة مختارة من الشعراء قالوه عن الطبيعة وما فُتنوا به منها، فعاد إلى سؤالي في استنكار واضح: «أنا علمي!» أتكون قد نسيتَ من أنا وماذا كانت دراستي؟! «أنا علمي!» ورد لي الكتاب وانصرف.
وعندما يشاء الله لعبدٍ من عباده أن يزداد علمًا وخبرةً يُدبر له المصادر؛ إذ لم يكن قد مضى على ذلك اللقاء أكثر من أيامٍ معدودات، حتى التقيتُ زميلًا كانت بيني وبينه صِلة كالتي كانت بيني وبين مُدرس الرياضة، وأعني أنها صِلة لم ترتفع لتكون صداقة، ولم تنخفض لتكون لا شيء، فلما تبادلنا بأطراف الأحاديث بيننا، جاء ذكر مسألة مُعقدة يعرفها كل من درس الفلسفة اليونانية القديمة؛ فقد ذهب أحد فلاسفتهم الأولون إلى أن الكون في حقيقته ثابت وساكن لا حركة فيه، وإذا أوهمتنا حواسُّنا — كحاسة البصر — بأن الأشياء مُتحركة ومُتغيرة؛ فما ذلك إلا وَهْم، لو سلَّطنا عليه منطق العقل؛ لأظهر لنا ما قد احتوى عليه ذلك الوَهم من تناقُض مرفوض، ولكي يُوضِّح مذهبه هذا؛ ضرب أمثلة، كان بينها المثل الذي عرض به تلك المسألة الغريبة التي أشرتُ إليها، فهو يقول في ذلك المثل: افرض أن «أخيل» (وهو البطل اليوناني الوارد ذكره في إلياذة هومر) اتفق مع سلحفاة على أن يجريا في سباق، ولمَّا كان «أخيل» معروفًا بسرعة الجري والسلحفاة معروفة بالبطء الشديد؛ سنفرض كذلك أنه اتفق معها على أن تبدأ هي جريها، من نقطة أمام النقطة التي يبدأ منها هو بمسافة طولها مائة من الأمتار (أو غير الأمتار من وحدات القياس)، ثم سنفرض كذلك أن سرعة أخيل عشرة أمثال سرعة السلحفاة، فهل يلحق بها أخيل أو يستحيل عليه ذلك اللحاق؟ إننا لو حكَّمنا خبرتنا المُستمدَّة من حواسِّنا في حياتنا اليومية، لما تردَّدنا في أنه سيلحق بها ثم يسبقها، وما في ذلك أدنى شكٍّ إذا كان الحُكم موكولًا لحواسِّنا وما قد خَبَرَته فيما مضى من تجارب حياتنا، لكن اعرض المسألة على العقل الرياضي الصرف؛ يُنبئك بأن ذلك اللحاق ضرب من المحال! كيف؟ الجواب هو أن «أخيل» إذا ما قطع المسافة بين النقطة التي بدأ منها، والنقطة التي بدأت منها السلحفاة — وقد فرضنا أنها مائة متر — تكون السلحفاة قد تقدمت عشرة أمتار؛ لأننا فرضنا كذلك أن سرعته عشرة أمثال سرعتها، ولما يقطع أخيل تلك الأمتار العشرة، تكون السلحفاة قد قطعت مترًا، فإذا قطع أخيل ذلك المتر، تكون السلحفاة قد تقدَّمت عشر المتر، وهكذا إلى ما لا نهاية، إذن فرغم أن المسافة بينهما ستظل تتناقص وتتناقص؛ فإنها — رياضيًّا — لن تنعدم، بحيث يلحق أخيل بالسلحفاة ثم يسبقها، فماذا نحن قائلون بناءً على ذلك عن خبرة الحواسِّ التي تؤكد لنا أن ذلك اللحاق مقطوع به؟ الجواب هو، على ضوء المذهب الذي عرضه ذلك الفيلسوف اليوناني — وهو «بارمنيدس» — من أن الكون في حقيقته ثابت وساكن، الجواب هو — إذن — أنه إذا تعارَض الحُكم بين ما تُنبِئنا به حواسُّنا، وبين ما يَقضي به المنطق العقلي، كان الصواب لِحُكم العقل، وكان الوهم المُضلل في جانب الحواس.
قلتُ لزميلي الذي أشرتُ إليه، حين وردت هذه المسألة القديمة المعروفة في سياق حديثنا: هل تعلم أن تلك المشكلة الرياضية قد لبثت مُستعصية الحل على علماء الرياضة جميعًا، فلم يجدوا لها حلًّا يُبين لنا موضع «المُغالطة» فيها، حتى جاء عصرنا الحديث هذا، فوقع أحد علماء الرياضة منذ مائة سنة فقط، أو ربما أقل من ذلك على الحل، وهو حل يستند إلى التفرقة بين نوعَين من «العدد»: الأعداد الطبيعية التي نعرفها جميعًا، وتُعَد بها الأشياء، والأعداد «اللامُتناهية» كما تتمثَّل في النقط التي يتألف منها خط مُستقيم مثلًا، وهي تفرقة لم تكن معروفة فيما مضى؛ إذ كان الظن هو أن العدد صنف واحد. وهنا أوقفني زميلي حتى لا أستطرد في الحديث، قائلًا: من أين لك هذا الكلام؟ ولِمَ تعرضه عليَّ؟ ألستَ تعلم أنني «أدبي»؟! وإني لأعجب منك وأنت «أدبي» مثلي؛ فتطرُق موضوعاتٍ هي من شأن «العلمي»! فأضفتُ له جملة واحدة لُذت بعدَها بالصمت؛ إذ قلت له: إنني أدرس الفلسفة، وهذه مسألة عُرِضت في سياق دراستي.
إننا جميعًا نعيش حياتنا الثقافية على نحو ما تُرَص الكتب المختلفة جنبًا إلى جنبٍ فوق الرفوف، فإذا وضعْنا كتابًا في الهندسة إلى جوار كتاب في علم النبات، وإلى جوار هذا وضعنا كتابًا في الطب، وبجانبه كتاب في التاريخ، وبجواره ديوان من الشعر، انطوى كل كتابٍ منها بين جلدتَيه، لا شأن له، ولا يُريد أن يكون له شأن بما امتلأت به صفحات جاره، فكأننا من الناحية الثقافية أرخبيل من آلاف الجزر الصغيرة، يجمعها أنها في مكان واحد، ويُفرِّق بينها بحر يُحيط بكلٍّ منها فيعزلها عن أخواتها: فالمهندس جزيرة، وعالم النبات جزيرة، والطبيب جزيرة، والمؤرخ جزيرة، والشاعر جزيرة، وكان الله في عون الجميع، إذا تصايحوا على قضية مشتركة ليتفاهموا.
لقد أهلكتنا الثنائيات ومزَّقت وحدتنا: الريف والمدن، الفقر والغِنى، الأُمي والقارئ، المدارس المدنية والمعاهد الدينية، السلفية والمُستقبلية، ولم نكن في حاجةٍ إلى مزيد، لكننا أضفْنا داخل شريحة المُتعلمين ثنائية أخرى: العلمي والأدبي، ولو أطلقْنا عليهما اسمَين تعارفت الدنيا عليهما؛ لجعلنا أنفسنا على شيءٍ من الصواب، وذلك أن نُطلق على النوع الأول من الدراسة «العلوم الطبيعية والرياضية» وعلى النوع الثاني «العلوم الإنسانية» أو «العلوم الاجتماعية»؛ لأن قِسمتنا لميادين التعليم إلى «علمي» و«أدبي» فيها خطأ وفيها تشويه وفيها إغراء «للعلمي» أن يتنصَّل من الإلمام بأي شيءٍ مما يُظَن أن «الأدبي» مُلِمٌّ به؛ فالذي يُفَوِّتُه علينا هذا التقسيم هو إدراكنا للحقيقة التي هي أن التعليم الجامعي كله «علمي»، فليس بين دراسات الدارسين إلا ما هو «علمي» قائم على مناهج البحث العلمي، ولنتذكَّر في وضوح أن كلية «الآداب» لا تدرس «أدبًا» من حيث هو أدب؛ لأن الأدب نفسه حين يكون موضوعًا للدراسة في أقسام اللغات، فإنما يُدرَس دراسة علمية قائمة على طرائق الدراسة العلمية كأي موضوع آخر، فالعلم يُعرَف بمنهجه لا بموضوعه؛ إذ قد تختلف الموضوعات المطروحة للبحث، فتكون ظاهرة الضوء أو ظاهرة الصوت، أو ظاهرة الكهرباء، أو طرق المُحاسبة وطرُق الإدارة، أو الكيمياء أو النبات أو الحيوان، أو كائنًا ما كان الموضوع، لكنه يكون «علمًا» إذا خضع البحث لشروط البحث العلمي كما حدَّدتها الخبرة العلمية على امتداد العصور، ولا يشذُّ عن هذا التعميم أن يكون موضوع البحث العلمي شعرًا أو رواية أو مسرحية أو أي ضربٍ من ضروب الفن، وكذلك لا يشذُّ عن هذا التعميم أن يكون الدين موضوعًا للبحث العلمي، وفي هذه الحالة لا يُؤخَذ الدين من حيث هو عقيدة يؤمن بها الباحث؛ إذ قد يكون الباحث في دين الإسلام — مثلًا — مَن ليس مُسلمًا.
ومرة أخرى نُبرِز هذه الحقيقة المهمة، وهي أن العلم علم بمنهجه في البحث وليس بموضوعه؛ لأن أي موضوع يمكن إخضاعه لمنهج العلم يُصبح موضوعًا علميًّا. وعلى هذا الأساس تكون الموضوعات التي تُدرَس في جميع الكليات التي درجنا على وصفها بأنها كليات أدبية، أو ما هو أسوأ من ذلك بعدًا عن الصواب، وهو أن تصفها بأنها كليات «نظرية» مع أن الدراسة «النظرية» هي نفسها الدراسة العلمية التي تبدأ من «نظرية» وتنتهي إلى «نظرية» في مجال بحثها، أقول إنه على هذا الأساس تكون جميع الدراسات «علمية» رغم اختلاف موضوعاتها، واختلاف الكليات التي تقوم بتدريسها. وأما «الأدب» فهو مخلوق يُبدعه من وهبه الله موهبة إبداعه، بغضِّ النظر عن دراسته الجامعية وغير الجامعية ماذا كانت؛ فالشاعر قد يكون طبيبًا مثل إبراهيم ناجي، وقد يكون مهندسًا مثل علي محمود طه، وقد يكون من رجال القانون أو من رجال الجيش، أو من أي ميدان آخر من ميادين الدراسة والعمل، وكذلك قُلْ في أديب الرواية، والقصة، والمسرحية، ثم كذلك قُلْ في فنان الموسيقى، أو التصوير، أو النحت، أو التمثيل، أو أي فن شئت.
فالعِلمي الذي ملأ لي شدقَيه بالاستنكار والغضب، قائلًا: «أنا علمي.» حين عرضتُ عليه كتابًا في الشعر، والأدبي الذي سالت الدهشة من عينَيه، حين أخذتُ أُحدثه عن مشكلة فكرية وردت فيها فكرة العدد، قائلًا: «أنا أدبي.» كلاهما من رواسب حياة ثقافية نعيشها، اختلطت فيها الأفكار وانبهمت المعاني؛ ﻓ «العلمي» لا يُريد أن تكون له صلة بالأدب، على ظنٍّ منه أن الأدب من شأن دارسي الآداب و«الأدبي» يفزع إذا أبصرَتْ عيناه أو وقع على أُذنيه أي شيءٍ فيه رائحة العلوم الطبيعية أو الرياضية، في حين أن أهم شرطٍ يجب توافره في أي إنسان يريد لنفسه أن ينخرط في زمرة المُثقفين، كثر نصيبه من ذلك أو قلَّ؛ هو أن يكون — بين صفات أخرى — على دراية مُتخصصة في موضوع ما، ثم يكون في الوقت نفسه على دراسة هيكلية باتجاهات الموضوعات الأخرى التي لا تقع في اختصاصه ويتولاها عنه آخرون؛ فالطبيب المُثقف مُطالب — فوق إلمامه الواسع بالطب — بأن يُلِمَّ بالخطوط الرئيسية التي تسير عليها فنون عصره وآدابه وسياسته واقتصاده … إلخ، والشاعر مطالب — فوق إلمامه الواسع بتفصيلات الفن الشعري — بمعرفة الاتجاهات الأساسية في دُنيا العلوم والسياسة والاقتصاد، وغير ذلك من مقومات الحياة الفعلية والوجدانية والعملية.
لكن هذا جانب واحد من جوانب الموقف الثقافي أينما كان، أُضيفُ إليه في عصرنا جانبًا آخر يُثير القلق عند من يُهمهم حياة الإنسان وتهذيبها والارتفاع بها إلى أعلى ما يُمكنها الارتفاع إليه، وأعني بذلك الجانب الآخر المُضاف، مشكلة الفجوة التي تفصل التخصُّصات الدراسية بعضها عن بعض، ولا سيما أن عصرَنا هذا قد اتَّسعَت آفاقه العلمية، وغزُرت أعماقها؛ حتى لتضيق ميادين التخصُّص على الأفراد القائمين بها ضيقًا شديدًا، فيعيش المُتخصِّص العلمي حياته كلها باحثًا في فرعٍ صغير واحد من فروع علمٍ واحد، دون أن تمتدَّ له جسور الاتصال بالفروع الأخرى حتى في دائرة العلم الواحد الذي ينتمي إليه، وبهذا الانحصار الشديد في ميادين التخصُّص العلمي، أصبح العالَم الواحد في عزلةٍ عن نبض الحياة الاجتماعية وكأنه ليس منها، كالمُمثل المسرحي الذي يحفظ بعض كلمات يُلقيها في أوانها، دون أن يكون على علمٍ بالمسرحية في مسارها: كيف بدأت، كيف سارت، وإلى أي خاتمة تنتهي. وتزداد خطورة هذه العزلة العلمية بين رجال العلم إذا عرفنا أن الأمر قد يتناول مُستقبل البشرية بأسرها، فعالِم الطاقة الذرية يستخرج قوانين القوة النووية، وهو لا يدري في أي الظروف يَستخدمها من يستخدمها بعد ذلك! أيستخدمها في توليد الكهرباء وإدارة المصانع أم يستخدمها في تدمير هيروشيما وناجازاكي بكل سكانهما وكأن هؤلاء السكان أعشاش من النمل؟!
إن الحقيقة الضخمة الناصعة التي يتجاهلها نظام التعليم اليوم في العالم كله؛ هي أن انقسام الدراسة العلمية إلى تخصُّصات كثيرة، ينعزل بها موضوع البحث هنا عن موضوع البحث في القسم المجاور، فضلًا عن الأقسام التي تبعُد عنه كثيرًا أو قليلًا؛ إنما هو انقسام صنعَه الإنسان تيسيرًا للبحث العلمي ودقَّة نتائجه، إذ إن مجال التخصُّص كلما اتَّسعَ كان اتساعه هذا — بحكم الضرورة — على حساب العمق، وبالتالي كانت النتائج العلمية أَمْيَل إلى دمج التفصيلات بعضها في بعض، فيقلُّ عِلمنا بحقيقة الواقع في واقعيته الفنية بتفصيلاتها، ويصحَب هذا أن تقلَّ قدرتنا على التحكُّم في ذلك الواقع، كل هذا صحيح بالنسبة إلى ضرورة تقسيم المعرفة العلمية إلى أكبر عددٍ ممكن من التخصُّصات الفرعية، لكن تلك الضرورة نفسها هي التي تعود فتطرح علينا السؤال الخطير، الذي هو اليوم مطروح بين أيدي رجال الفكر جميعًا، وبصفةٍ خاصة أمام رجال التعليم والتربية من هؤلاء، والسؤال هو: كيف نبني الجسور بين تلك التخصصات؛ لتستقيم حياة الإنسان وتتكامل، علمًا بأن الكون الخارجي في حقيقته لا يقسم نفسه إلى غُرَف؛ ليحصر في كل غرفة منها ظاهرة واحدة من ظواهره، وإنما هو كون واحد، تتناسَق في أصلابه ظواهره، لا تنعزل واحدة منها عن واحدة، وما تلك العزلة التخصصية إلا وسيلة اصطنعها العِلم ابتغاء دقَّة النتائج، والشأن في هذا كالشأن في جسم الإنسان الحي: فيه بصر، وفيه سمع، وفيه رئتان، وفيه قلب، وفيه معدة، وفيه عظام … إلخ، يتخصَّص في طب كل جزءٍ من هذه الأجزاء فرع خاص من فروع علم الطب، لكن هذا التفريع في التخصُّص الطبي لا يعني انقسامًا في الإنسان ذاته؛ فهو فرد واحد، مُتصل الأجزاء، كل جزءٍ منها متعاون ومتجاوب مع سائرها.
فالسؤال المطروح بين أيدي رجال الفكر جميعًا وفي أرجاء العالم كله، فيما يمسُّ هذا الذي نتحدَّث الآن عنه، هو: ماذا أُضيف من الموضوعات الدراسية لأصحاب هذا التخصُّص العلمي أو ذاك لكي أحصل على «إنسان» متكامل؟ ولكي نُيسِّر على أنفسنا طريقة النظر بحثًا عن جواب لهذا السؤال؛ يحسُن أن نضمَّ دراسات العلوم الطبيعية والرياضية في مجموعةٍ واحدة، رغم ما بين أجزائها التخصُّصية من تبايُن وتمايز، وأن نضمَّ أجزاء العلوم الإنسانية، أو العلوم الاجتماعية، في مجموعةٍ واحدة كذلك، وهو تقسيم شائع في دُنيا التعليم، والتعليم الجامعي بصفةٍ خاصة، وبذلك يُصبح أمام قارتَين من حيث طبيعة الموضوع المدروس: قارة منهما موضوعها «الطبيعة» كمًّا وكيفًا، والقارة الأخرى موضوعها «الإنسان» كمًّا وكيفًا كذلك؛ فكلتا القارتَين في دُنيا الدراسة قائمة على أساس العلم ومنهجه — كما أسلفنا القول — إلا أنهما تختلفان في الموضوع الأساسي المطروح للبحث، وقد ينتهي هذا الاختلاف بينهما في «الموضوع» إلى تخريج نوعَين من الثقافة: ثقافة علمية الطابع، وأخرى إنسانية الطابع، فبينما مدار الثقافة الأولى هو الكشف عن حقائق الكائنات اللاعاقلة واللامُريدة (إذا كنا على صواب في زعمنا عن الطبيعة بأنها خلو من الوعي العاقل ومن الإرادة)، نجد المدار في الثقافة الثانية هو الكائن العاقل المريد، وذلك هو «الإنسان». ويلحق بهذه الثقافة الثانية، بالإضافة إلى «العلوم» التي تبحث في حقيقة الإنسان، كعلوم النفس، والاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، والقانون، أقول إنه يلحق بهذه العلوم في هذا المجال الثقافي، نشاط من نوع آخر، هو ذلك النشاط الإبداعي في الإنسان، الذي يُخرج للناس فنًّا، ويُخرج لهم أدبًا، ومثل هذا التقسيم الثنائي للثقافة هو الذي أغرانا بأن نُقسِّم المُتعلمين منا قسمَين: «العلمي» و«الأدبي». ولقد بلغ الفصل بين القسمَين في أوهامنا، من الحدة درجةً سوَّغت «للعلمي» أن ينفر من أن تكون له صِلة بالشعر، كما سوَّغت «للأدبي» أن يفزع من الصِّيَغ الرياضية إذا وجدَها في سياق الحديث، بل إن هذا التقسيم الثنائي للثقافة هو الذي أغرى رجلًا من أعلام العلم والأدب معًا في إنجلترا، وهو «سي بي سنو» (وله لقب «سير»)؛ أن يُخرِج إبَّان الخمسينيات كتابًا ذاعت شُهرته عند صدوره، بل ولا تزال أصداؤه تتردَّد إلى اليوم، وهو كتاب عنوانه «الثقافتان». وعلى الرغم من نبوغ «سنو» في العلم وفي الأدب معًا (أدب الرواية بصفة خاصة)؛ فإنه في كتابه ذاك أخذ يتعقَّب عصور التاريخ الفكري، ليصِل إلى نتيجةٍ هي أنَّ تقدُّم الإنسان مرهون بثقافته العلمية، وأما ما ليس بعلمٍ من أدبٍ وغيره؛ فقد يُمتع، ولكنه لا يدفع السائر خطوة إلى الأمام. ولقد كان كاتب هذه السطور على هذه العقيدة قبل أن يعلم بوجود هذا الكتاب ومؤلِّفه، لكن عقبتُه تلك لم تكن لتستتبع عنده تقليلًا من شأن الأدب والفن وما إليهما، بل على العكس على ذلك، كان رأيه ولا يزال (أعني كاتب هذه السطور) أنه لا حضارة بغير فنٍّ وأدب؛ لأن ذلك مساوٍ لقولنا إنه لا حضارة بلا «إنسان»، غير أن فكرة «التقدُّم» الحضاري تنصبُّ أساسًا على مدى قدرة الإنسان على فرض سُلطانه على الطبيعة.
ولا علينا الآن من هذا التفريع في موضوع الحديث، فسؤالنا مُقتصر بالدرجة الأولى على «الثقافتَين»، هل نتركهما لتنفرج بينهما زاوية التباعُد انفراجًا ينعزِل فيه من هو «علمي» عمن هو «أدبي»؟ إننا لو فعلنا؛ لتعرَّضنا إلى تفتيت الوحدة التي تجعل من الإنسان إنسانًا متكاملًا، ثم تعرَّضنا بالتالي إلى الخطر الذي هو أخطر ما يُهدد الإنسانية بأسرِها في عصرنا، وأعني أن ينفلت العلم من قيود «القيم» التي هي في الصميم من حقيقة الإنسان وطبيعته ومُثله العُليا وأهدافه، إذن ماذا عسانا فاعِلين إذ نحن نُربي شبابنا ونُعلمهم لكي تَضيق الفجوة عنده بين الثقافتَين؟ كثيرون جدًّا هم رجال الفكر في بلاد العالم، الذين طرحوا هذا السؤال ثم حاولوا الجواب. ولئن تكن إجاباتهم قد جاءت مختلفة؛ فإن معظمها دار حول محور واحد، وهو أن نُضيف مادة من مواد الدراسات الإنسانية، كالتاريخ أو علم الاجتماع، إلى مواد الكليات العلمية، كما نُضيف مادة من ميدان العلوم إلى مناهج الدراسات الإنسانية على اختلاف كلياته.
وكاتب هذه السطور — بكل التواضُع الواجب أمام روَّاد الحركات الفكرية في العالم — يرى نفسه على شكٍّ في أن تكون تلك الوسيلة المُقترحة مؤدية إلى الهدف المنشود، والهدف المنشود هو تعميق الإنسية في من درسوا العلوم الطبيعية والرياضية في مرحلة الجامعة؛ لأن تلك العلوم منصبَّة على غير الإنسان من حيث هو إنسان؛ إذ هي حتى في الحالات التي يكون الإنسان موضوعها، كما هي الحال في علم وظائف الأعضاء، والتشريح وغيرهما؛ لا يُنظَر إلى الإنسان إلا كما يُنظَر إلى أي مادةٍ أخرى من المواد التي يتناولها العلماء بالبحث، ويُكمِل هذا الهدف بالنسبة إلى دارسي العلوم هدفٌ مُشابه بالنسبة لدارسي العلوم الإنسانية؛ إذ يقترح في هذه الحالة أن نعمل على إثارة اهتمام الإنسان العادي بدُنيا الأشياء، وتزويده بنظرة علمية تُمكنه من الرؤية الموضوعية للمُشكلات التي تعرض له في طريق حياته اليومية كما تقع له، أقول إن مثل هذا الهدف المُزدوج لا يتحقَّق بإضافة مادة من الدراسات الإنسانية إلى دارسي العلوم، ومادة من الدراسات الطبيعية والرياضية إلى دارسي الإنسانيات؛ لأن تلك الإضافة المُقحَمة ستبقى — في أرجح الظن — رقعةً منعزلة دخيلة لا تندمج مع غيرها في تكوين الشخص ووجهة نظره.
وإنه ليبدو لي أن هنالك موضوعًا قد غفل عنه رجال الفكر في مُعالجتهم للمشكلة التربوية المطروحة، مع أنه يكاد يفرض نفسه فرضًا على العقل، ألا وهو «اللغة»؛ فالفارق الحاسم بين الإنسان وغيره من الكائنات، هو أنه ذو «لغة»، لا بمعنى الإشارات المُبهمة التي قد نراها في بعض أنواع الحيوان حين يَصيح فرد ليتنبَّه بقية أفراد نوعه على خطرٍ داهم — أو ما هو من هذا القبيل — ولكن قصدت «اللغة» بالمعنى الذي نعرفه في لُغات البشر؛ فلُغة الإنسان هي «فكره»، وأرجو أن تلحظ أني لم أقُل إنها أداة تنقل «فكره»، بل إنها هي هي «فكره»، وهي هي «وجدانه»، وهي هي كل حياته اللاحيوانية، ولك أن تقول إن ما يكتبه الكاتب أو يقوله المُتكلم إنما هو «عقله» وقد ظهر من مَكمنه إلى العلانية، وذلك إذا كان الموضوع من موضوعات العقل، وكذلك هو «وجدانه» وقد تجسَّد في موجات الصوت أو في الكتابة المرقومة على ورق. واختصارًا فلُغة الإنسان هي نفسه، هي شخصه هي حقيقته، فإذا بقِيَت بقية غير منطوقة طواها في أحشائه؛ فذلك ما لا يدخل في الحساب عندما ننظُر إليه باعتباره عضوًا في مجتمع.
فإذا أضفتَ إلى هذا كله، حقيقة أخرى، هي أن اللغة التي كتب بها أسلافنا ما كتبوه وخلَّفوه لنا هي أقوى صِلة تربطنا بهم في استمرارية تاريخية؛ استطعتَ القول بأن من قرأ صفحةً من تراث الآباء، فقد طالَع عقله وأحسَّ مشاعره، وبالتالي فقد عاش معه بمقدار ما قرأ، على أن كتابات السلف ليست كلها سواء في إظهار لفتات عقولهم ونبضات قلوبهم، وإنما هي درجات تتفاوت بتفاوت كاتبيها، فإذا أحسنَّا اختيار ما يقرؤه طلاب العلوم، وما يقرؤه طلاب الإنسانيات؛ زرعنا بذلك في أفئدتهم ليس فقط إحساسًا بانتمائهم إلى خط تاريخي واحد مع هؤلاء السلف، بل إننا لنزرع كذلك في تلك الأفئدة تعاطفًا إنسانيًّا يجاوز حدود الوطنية والقومية؛ ليشمل صِلة الإنسان بالإنسان أينما كان.
على أن «اللغة» في عصرنا الحاضر قد ظفرت بكثيرٍ جدًّا من اهتمام العلماء، فأخضعوا هذه الظاهرة البشرية العجيبة للدراسات العلمية البالِغة في دقَّتها حدَّ العلم الرياضي، فكشفوا لنا كثيرًا من سِر اللغة الذي يجعلها هي وصاحبها مُدمجين في هُويَّة واحدة، ولذلك فيمكن عرض هذا الجانب التحليلي العلمي بين مُقررات الكليات العلمية، ليتحقق للدارس هدفان في مُقرَّر واحد: منهج عِلمي أدق ما يكون المنهج، ثم كشف للغطاء عن ظاهرة هي ما هي في حياة الإنسان! على أنني لا أملك إلا أن أُصرح هنا بأننا ما دُمنا قد اقترحنا «اللغة» وسيلة تُقرِّب الدارِسين جميعًا بعضهم من بعض، وتصل عصرنا بماضيه وتبثُّ روحًا إنسانيًّا في الإنسان، فلا بدَّ أن يتذوق تلك اللغة في حَسْوة يحتسيها من رحيقها، وهو «الشعر»؛ لأنه من شجرة اللغة زهرها وعطرها.