هذه ثقافتنا من رجالها
عندما أعددتُ نفسي صباح اليوم، لأكتب هذه الكلمات عن تحديث الثقافة العربية؛ قفزَت إلى ذهني من ظلمات الماضي البعيد صورة لم أكُن أريدها، ولا هي ممَّا يتَّصِل بموضوع الثقافة العربية وتحديثها بسبب قريب أو بعيد، وتلك هي صورة قيصر، في مسرحية «يوليوس قيصر» لشكسبير حين أخذ أحد أصدقائه المُخلصين يصرِفه عن الذهاب إلى مبنى الكابتول؛ خوفًا عليه من نبوءة عرَّاف تُنذر بالخطر! فردَّه قيصر في عنف، قائلًا له: عنِّي، أو تزحزح الجبل! تركت قلمي حيث كان، وطالبتُ نفسي أن تبحث عن الخيط — حتى لو كان خيطًا واهيًا — الخيط الذي ربط في خواطري المُنسابة، بين قيصر في عناده الراسخ رسوخ الجبل، وبين ما كنتُ هممتُ بكتابته. رحت أتحسَّس دخائل نفسي من جهة، وأتحسَّس ما اعتزمتُ أن أُدير حوله هذا الحديث من جهةٍ أخرى، حتى بدت أمامي رابطة يُحتمل أن تكون هي الخيط الذي جذب قيصر في صلابته حتى مَثلَ أمامي في سيل خواطري، وذلك أني كنتُ اعتزمتُ أن أُبرز ما يغلب على المصري — وعلى العربي بصفةٍ عامة — من حُب السيطرة والتسلُّط، حتى لو كانت السيطرة سيطرةً على أشباح، وكان التسلُّط تسلطًا على ذوي قُرباه، وهذا المَيل القوي فينا نحو سيطرةٍ وتسلُّط، هو نفسه الذي أمدَّنا بالقدرة على الرضوخ والإذعان؛ لأن الخاضع لِمن هو فوقه بدرجةٍ يعوض كرامتَه ما قد فقدته بخشوعه ذاك، يُعوضها بأن يُلزم من هو دونه بدرجةٍ أن يَذلَّ له ويخشع، ولستُ أنسي خادمةً نشأت معنا منذ طفولتها، وكانت على درجةٍ من البساطة والاستقامة والإخلاص، بحيث كان مُحالًا على خيالي أن تجد الوقت الذي تستأسِد فيه أو تتنمَّر، وللحقيقة أقولها صادقًا، إن أحدًا من أُسرتنا لم يكن يُبدي في معاملتها تكبُّرًا ولا تجبرًا، ربما لأن طبيعة البُنيَّة لم تكن لتستثير في أحدٍ الرغبة في تكبر وتجبُّر، حتى إذا ما جاء يوم اضطُررنا فيه أن نستخدِم معاونةً أخرى تختص بالوقوف على حاجات أمي في مرضها (عليها رحمة الله) أرادت فتاتنا الأولى أن تكون لها على الثانية إدارة وإمارة على صورة لم يتوقَّعها أحد، إذن فالظاهرة مغروزة فينا جميعًا، تختفي مُجبَرة، فإذا زالت العوائق خرجَتْ من مكمنها، أو قل إنها مغروزة في طبيعة البشر جميعًا، إلا أن أقوامًا عرفت كيف تهزمها بثقافةٍ عامة يعيش الشعب كله في ظلها، وأقوامًا أخرى — ونحن منهم — عجزت عن تحقيق ذلك؛ لأنها في حقيقة أمرها لم تُرِد له أن يتحقق مُكتفية بكلام عن «المساواة» تقوله وتعيده، لكنها لا تريد له أن يجاوز حدود الكلام.
كان في نِيَّتي — إذن — أن أُدير جانبًا من هذا الحديث، حول رغبتنا الجامعة في التسلُّط بعضنا على بعض، من استطاع منَّا أن يضع نفسه في مكانٍ يُمكنه من ذلك التسلُّط، وإذا كان هذا هكذا، فلا تحديث للثقافة العربية إلا إذا اتَّجهت بجهودها، إبداعًا وغير إبداع، نحو أن تبثَّ في الناس روحًا جديدة، من حيث القِيَم الإنسانية، وعلاقة الإنسان بالإنسان، ولا يُقلِّل من ضرورة هذه الجهود، أن تكون تلك القيم وهذه العلاقة بين الناس، واردة في كتاب الله الكريم، وفي الأدب العربي كلِّه شعرًا ونثرًا؛ لأن ذلك كله لم يزحزح العربي عن طبعه الراسخ رسوخ الجبل.
وهنا نجد التعليل الذي ربما يُفسر لماذا قفزت إلى ذاكرتي عبارة قيصر «عني أو تزحزح الجبل.» فكأنما تخيلت رغبتنا الكامنة في تسلُّط بعضنا على بعض جبلًا من ثوابت الجبال وأردتُ أن أقول لنفسي: من أنت، وماذا يكون جهدك المبذول إزاءَ ذلك الجبل الرابض ربوض الوحش فوق صدورنا؟
فلمَّا حملتُ القلم لأكتب، بعد أن استراحت نفسي للتعليل الذي فسرت به ورود قيصر إلى تيار خواطري، دون أن أستدعيه وجدتُني أمام خاطرٍ آخر لم أكن قد دبرتُ أمري لظهوره ثم لم أستطع له دفعًا، والحق أني رحبت به؛ لأنه فتح لي بابًا لم أكن قد فكرتُ في أن أدخل منه إلى موضوعي الذي أتحدَّث فيه، وذلك أني كنتُ يومًا ما تلقَّيتُ فيما تلقيتُه من بريدٍ مذكراتٍ كتبَها صاحبها عن بعض خبراته في شبابه، بل بعد أن اجتاز مرحلة الشباب، ولعلَّه أرسلَها إليَّ ظانًّا أني قد أكون وسيطًا لنشرها؛ فهو بالطبع لا يعلَم عنِّي أنني أسير وحدي في وادٍ غير ذي شبابٍ ينفتِح عليها أو تنفتِح عليه، إلا أنني حفظتُ مذكراته تلك مع ما أحفظه من أوراق، لا حاجة لي بها، ولكن يصعُب عليَّ تمزيقُها، ربما لصِلةٍ حميمة بيني وبين مضمونها، وربما لجودة أسلوبها وعُمق فكرتها. وأذكُر أني إزاء تلك المذكرات، قد حرصتُ على حفظها لسببٍ آخر أُضيفه إلى تلك الأسباب، وهو أنَّ كاتبها قد أعلن في عنوانها أنه كتبَها في مناسبةِ يوم ميلاده؛ إذ أثارت فيه تلك الذكرى هذه الذكريات.
جئتُ بها من حيث اختزنتُها وأعدتُ قراءتها فإذا هي في الصميم مما أردتُ أن أعرضه على الناس، وهو أن من أراد أن يُراجع نتاجنا الثقافي الذي نعيش حياتنا في ظلاله؛ فلا بدَّ له أن ينفُذ ببصره إلى طبائع الرجال الذين صنعوه وأبدعوه، ليرى إن كان هؤلاء الرجال قد وضعوا أنفسهم وعقولهم حقًّا على الورق، صادِقين مُنزَّهِين عن الهوى، أو أنهم أظهروا للناس شيئًا وأخفَوا عنهم شيئًا آخر هو الذي يَحيون على أساسه، فإذا كانت الثانية، عرفنا لماذا هم يكتبُون ويكتبون، ومع ذلك لا يكاد يتغيَّر من أُسس الحياة عند جمهور الناس شيء بدافعٍ مما كتبوه؛ لأن هذا الذي كتبوه — إذا صدق الغرض الثاني — إنما كتبوه في غير صِدق مع أنفسهم، وإنما هي بضاعة تُقدَّم في أسواق الفكر والأدب؛ لأنها نافذة غير كاسدة، ومن ثَم فهي بضاعة تعود عليهم بالمال، والشهرة، والمناصب، ورِضَا جمهور الناس. لكنها مع ذلك كله تمضي بغير أثَرٍ في استحداث التغيير المطلوب، وما الذي تُغيره إذا كانت قد جاءت لتكون مرآةً تعكس ما يستريح له الناس؟!
قال فيما قال صاحب المذكرات: … لم أكن حدثًا، ولا حديث عهد بالقلم، ولم أكن قصير الدراسة ولا قليل التحصيل، حين جلستُ لأول مرة مع جماعة ممن يضعون أنفسهم، ويضعهم الناس، في مكان الريادة من حياتنا الثقافية فرأيتُ من سلوكهم عجبًا! لقد كنتُ أتخيل قبل أن أراهم حكمًا بالهالات الساطعة التي تُحيطهم بها كل وسائل الإعلام، كنتُ أتخيَّل أن كل واحدٍ منهم هو المشار إليه بقول الشاعر: «هذا الذي تعرف البطحاء وطأته» فلمَّا اقتربتُ منهم؛ وجدتُ ما يدعون إليه من حقوق الإنسان في وادٍ وما يَحيَوْنه مع الناس بالفعل في وادٍ آخر، يُنادون في الناس بأعلى أصواتهم: المساواة، المساواة. وأما إذا كان الأمر أمر مَوقف عملي هم أطراف فيه؛ فوجدتهم وكأنَّ لهم على الناس سيادة بالحق الإلهي الذي كان لملوك العصور الماضين، خصوصًا إذا كان الواحد منهم ذا منصبٍ له نفوذ وسلطان؛ فها هنا ينتقل ذلك النفوذ المُتسلِّط — بقدرة قادر — من علاقته بالناس وهو يمارس منصبه، إلى علاقاته بهم في دنيا الحياة الجارية، فحين جلستُ مع جماعة منهم لأول مرة وكان بينهم مَن كان مثلي من غير ذوي المناصب، ولكنهم أصحاب عِلم وفكر وأدب، رأيت كيف يكون الصلف الغاشم والكبرياء الحمقاء؛ فأصحاب الجاه منهم يتبادلون أطراف الحديث أخذًا وعطاءً، حتى إذا ما تقدم بالرأي أحد من صِنف غير صنوفهم؛ نظروا إليه نظراتٍ مُتعالية في صمت، حتى إذا ما فرغ الدخيل من عرض رأيه؛ عادوا هم إلى ما كانوا فيه، وكأن أحدًا لم ينطق بشيء.
ولستُ أنسى مواقف شهدتها من «المثقفين» أصحاب النفوذ المُتسلط (فهؤلاء صنف من البشر قائم بذاته)، شهدت تلك المواقف فأذهلَتْني — هكذا كتب صاحب المذكرات — فقد أرسلَتْ إليَّ يومًا ما هيئة رسمية تضطلع بترجمة ما ترى وجوب ترجمته من مراجع عِلمية أو من عيون الأدب في شعوب أخرى، أرسلَتْ إليَّ كتابًا علميًّا كان قد قام بترجمته ومراجعته أستاذان فاضلان، أحدهما من أصحاب المناصب الذين أشرت إليهم. وكانت طريقة تلك الهيئة في ترجمة ما تعمل على ترجمته، أن يطلع «فاحص» على ما قد تمت ترجمته ومُراجعته، ولم يكن «للفاحص» أي حق من الحقوق فلا اسمُه يُذكر على الكتاب كما يُذكَر اسم المُترجِم واسم المُراجع، ولا هو يتقاضى مكافأةً مالية على فحصه تزيد على مكافأة الحضور جلسة واحدة من جلسات إحدى اللجان؛ فالمسألة كلها — إذن — هي خدمة في سبيل الثقافة، لكي نسير بها في طريق مستقيم، إلا أنني أردتُ — كعادتي — أن أؤدي ذلك الواجب الثقافي على أكمل وجه مُستطاع، فأثبت ما قد لحظته من تجاوزات في ترجمة المصطلحات العلمية، بل أكملتُ ترجمة فقرات استعصت على المترجم وعلى المراجع فتركوا مواضعها بياضًا! فما إن عَلِم صاحب المنصب بما قد ورد في تقرير «الفاحص» حتى استحل لنفسه توجيه لذعات جارحة إلى الفاحص بلغَت حدَّ الإهانة التي لا تجوز في التعامُل بين إنسانٍ وإنسان، ولم يكن هناك من حجةٍ يستنِد إليها إلا أنه صاحب نفوذٍ وسلطان، فكيف يجترئ مُجترئ على تصويبه؟! وكأن المادة الأولى في دستورنا الثاني هي: أنا مُهم بمنصبي؛ إذن أنا معصوم من الخطأ! والعبرة في هذه الرواية هي أن الدعوة النظرية إلى احترام الحقِّ شيء وتطبيق الدعوة على أصحاب المناصب الحاكمة شيء آخر.
واستطرد صاحب المذكرات يقول: إنني كلَّما قرأتُ قول الله تعالى في كتابه الكريم: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (سورة النبأ) أو قوله تعالى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (سورة الواقعة)؛ إلا أحسستُ وكأن هامسًا من نفسي يهمس لي: ألا يكون في هذا الذكر الحكيم ما يلفِتُ أنظارنا إلى سوء الحياة الدنيا حين تسوء فتسري فيها أضداد تلك الحالات من النعيم في جنة الخلد؟ فإذا كان هنا لغو وتأثيم وكِذَّاب (الكاف بالكسرة والذال بالفتحة المُشدَّدة) فهناك لا يسمع أصحاب الجنة شيئًا من ذلك، فما اللغو الذي هو هنا وليس هناك؟ إنه هو الكلام إذا فرغ من المعنى، أو الكلام إذا قيل في غير موضعه المناسب، وماذا يكون «معنى» الكلام إذا لم يكن احتواؤه على ما يُرشد السامع إلى خيرٍ يفعله مُصلحًا به حياته وحياة الناس معه؟! وعلى هذا الضوء فانظر إلى القناطير المقنطرة مما تجري به أقلامنا ونزعم له أنه ثقافة وتثقيف، وقل لي: كم فيه مما يعمل على تغيير حياتنا إلى ما هو أصلح؟ وأخشى أن تراجع كثرة غالبة مما يكتُبه الكاتبون، وينطق به المذيعون، أدخَلُ في باب «اللغو» منها في باب الكلام الذي يحمل في طيِّه معنى! وما «التأثيم»؟ أليس هو التقاذُف بالتعييب والتجريح؟! ومرة أخرى فانظر إلى حياتنا الثقافية وكم فيها من تعييبٍ وتجريح! بل من طعنٍ وتقتيل، وأخيرًا يجيء «الكِذَّاب» أو المكاذبة بمعنى أن يكذِّب كل فريقٍ فريقًا آخر؛ فتكون الحصيلة كذبًا في كذب (انتهت المذكرات).
وقفتُ طويلًا عند هذه الكلمة الأخيرة من المنقول عن تلك المذكرات، وهي «الكذب» في ثقافتنا وعند فئةٍ كبيرة من مُثقفينا، وإنها لتهمة تستحق الروية والنذير، فماذا تعني؟
الثقافة صفحتان: صفحة مَعيشة بالفعل، في عادات وتقاليد ونُظم وقوانين، وغير ذلك مما نراه مجسدًا في حياة الناس يومًا بعد يوم، وساعة بعد ساعة؛ فللأُسرة روابط تُنظم التعامُل بين أفرادها، حتى إذا ما انحرف عنها والد أو ولد؛ عرفنا أنه قد أخطأ سواء السبيل، وللمولود صور من الاحتفال بقدومه، وللموالد صورها وصخبها، ولأولياء الله الصالحين كراماتهم وشفاعاتهم، وللمواسم المختلفة طقوسها وللموت رهبته، ولإحياء ذكرى من ذهب عنا سُبل نعرفها جميعًا؛ فنعرف كيف نُعزي المحزون، وكيف نتقبَّل العزاء، وهكذا، وهكذا، إلى ما ليس له آخر من تلك الأوضاع، التي لقيناها جميعًا منذ الطفولة والتي نعرفها جميعًا ويُعامل بعضنا بعضًا على أساسها.
تلك هي الثقافة المعيشة بالفعل، وإلى جانبها «ثقافة» تجري ألفاظًا بين الشفاه وعلى الأقلام وأنغامًا على أوتار العازفين وغناءً وألوانًا على لوحات المُصورين ومسرحًا، ووسائل إذاعة مرئية ومسموعة، وهكذا إلى آخر ما نعرفه من منتجات الفن، والأدب، وقبلهما يجيء عِلمنا بالعقيدة الدينية عقيدة وشريعة، وهو علم يتجدَّد ويتَّسِع بما يكتبه أو يذيعه العلماء في هذا المجال، وإذا نحن عدَدْنا جوانب «الثقافة» في صورتها، وهي في الكلمات والأصوات والألوان؛ فالأصوب ألا نذكر «العلوم» لأنها صنف قائم بذاته، فبينما يجوز للشعوب، بل للأفراد من أبناء الشعب الواحد، أن يختلفوا قليلًا أو كثيرًا فيما هو «ثقافة»؛ فلا يجوز لأحدٍ أن يختلف فيما هو «علم» ثبتت صحَّتُه بمناهج البحث العلمي، ومع ذلك فهنالك جانب مُستصفًى من مجال العلوم ليُضاف إلى ما هو «ثقافة»، وأعني به أمرين: أولهما أن يتشرَّب «المثقف» من العلم «نظرته» العامة عند رؤية الأشياء والمواقف، والمقصود بتلك «النظرة» إحكام الرابطة بين الأسباب ومُسبِّباتها؛ إذ «الخرافة» ما هي إلا خلل يُصيب الإنسان في إدراكه للروابط السببية على حقيقتها، وأما الأمر الثاني فهو أن يكون «المثقف» على وعي باتجاهات العلم في عصره، فلئن ترك تفصيلات ذلك العلم لرجاله المُتخصِّصين؛ فإنه مُطالب بأن يعرف صورةً تقريبية تُبين له في أي اتجاهٍ يسير العلم في عصره، تَانِكم إذن صفحتان للثقافة صفحة معيشة، وأخرى منطوقة مرقومة مرسومة، والفرق بينهما هو — أو ينبغي له أن يكون — فرق في طريقة الإخراج، وليس في طبيعة المضمون؛ ففي الحياة السوية تجيء الثقافة المعيشة منطوية على مجموعة من قِيَم وأفكار، هي نفسها القيم والأفكار التي يعرضها الدين والفن والأدب والاتجاه العام لعلوم العصر، وفي الوقت نفسه تجيء الثقافة المنطوقة والمرقومة والمرسومة مُشيرة إلى صور من الحياة المعيشة كما هي قائمة بالفعل.
ففي فترات الحياة المُستقرة، يغلب أن يكون بين الصفحتَين تناسُق يجعل كلًّا منهما تعبيرًا عن الأخرى وموازية لها؛ فالثقافة المعيشة تجسد القِيَم والتصوُّرات التي ينشغِل بها رجال الفكر والأدب والفن، وكذلك هذا الذي يشغل هؤلاء إنما يكون ضربًا من المرآة التي تنعكس عليها صورة الحياة كما هي قائمة، أو قُل إنها تكون بمنزلة الصدى الذي يُردِّد تموُّجات الحياة كما هي واقعة في دُنيا الناس، على أن ذلك الاستقرار الذي يؤدي إلى تناغُمٍ بين الصفحتَين ليس هو بالضرورة استقرار على ارتفاع؛ إذ قد يكون استقرارًا على انخفاض وجمود، وقارن — إذا شئت — صورة الحياة العربية في القرن العاشر الميلادي بصورتها في القرن الثامن عشر، فبينما نرى قوة الدفع وتوثُّب الطموح في الحالة الأولى، حياة واقعية وحياة فكرية وأدبية؛ نجد صورتها في الحالة الثانية راكدة وكأنها يوم واحد يتكرَّر! فالفرق بعيد بين الحالتَين ولكنهما معًا حالتان من حالات الاستقرار في تصورات الناس لحياتهم وما ينبغي لها أن تكون.
وأما إذا كانت الفترة التاريخية فترة تحوُّل وتغير وقلق وتأهُّب كالتي تكون في فترات الانتقال الحضاري من عهدٍ إلى عهد؛ فإن العلاقة بين الثقافة وهي معيشة والثقافة وهي صور من التعبير تفقد تجانُسها واطرادها. ولمَّا كنا نحن الآن في مرحلةٍ من هذا القبيل المُضطرب، والأمر في هذا لا يقتصر على مصر أو على الأمة العربية، بل يعمُّ العالَم كله بدرجات؛ فواجبنا هو أن نتدبر خطأنا على حذَر.
وأول ما يلفت النظر في حالةٍ كهذه هو أن جماعة المُنتجين للصور الثقافية من فكرٍ وفن وأدب ينقسِمون ثلاثة أقسام تتناحر علانية أو لا تتناحر لكن كل قِسم يحيا في مجاله الذَّوقي المُغلَق على نفسه، وكأنه ليس في الدنيا سواه، فهنالك الفريق الذي يستطيب ما هو قائم، والذي هو في الوقت نفسه ما قد ألفه الجمهور العريض، وإن رِضَا هذا الفريق عما يسود الجمهور، إما أن يكون عن رغبةٍ مُخلصة في الثبات، وإما أن يكون ضربًا من ضروب النفاق الاجتماعي، وفي هذه الحالة يكون مُنتج الثقافة على عقيدة حضارية مُعينة، وربما يعيشها هو وأُسرته في حياتهم العملية لكنه إذا أخرج للناس نتاجًا ثقافيًّا أخرجه ليتَّجه به مع سواد الناس في تيارٍ واحد. وإن كاتب هذه السطور ليرجو أن يكون مُخطئًا في تصوره، ولكنه إذا تصور شطرًا كبيرًا من نشاطنا الثقافي الآن وقبل الآن بنحو جيل كامل، فإنما الصورة التي تتكوَّن له هي صورة فيها مثل هذا النفاق الاجتماعي بدرجة يظنُّها واضحةً ولا يُخطئها البصر، ولعل في ذلك ما يُفسر لنا لماذا ننتج ثقافة بشتَّى قوالبها، ثم نُنتج ونُنتج، حتى إذا ما أردْنا قياس التقدُّم الحقيقي في جمهور الشعب؛ وجدناه أقلَّ من أن يُذكَر، والذي أعنيه بالتقدُّم الحقيقي هنا هو مقدار ما تتحوَّل به «وجهة النظر» عند الفرد العادي من أفراد الشعب، وجهة النظر التي في إطارها يكوِّن لنفسه فكرةً عن الإنسان وقيمته، وعن الكون الذي هو البيت الكبير الذي يقضي ذلك الإنسان حياته في رحابه.
قُلنا إن مُبدعي الناتج الثقافي في فترات القلقلة الحضارية، ومنها هذه الفترة التي يجتازها العالم كله اليوم انتقالًا بنفسه من حضارة ختمت عمرها بعد الحربَين العالميتَين الأولى والثانية إلى حضارة جديدة هي الآن في حالة إرهاصاتٍ ومخاض لولادتها، وهي إذا كانت مرحلة تعمُّ العالم كله اليوم؛ فمصر والأمة العربية جزء من هذا العالم في تحوُّلاته واضطرابه، وفي مثل هذه الحالة المُضطربة يتَّجه فريق من مُبدعي الناتج الثقافي نحو أن تؤيد ما قد ألفه الناس، وقد يكون مُبدع الثقافة في هذا مُخلصًا مؤمنًا بصِدق ما يقوله؛ حتى لتراه يعيش حياته العملية على غرار ما يتصوَّره وما يُصوِّره للناس في مُبدَعاته، ولكنه أيضًا قد يكون منافقًا وكاذبًا ابتغاء منفعةٍ يسعى إلى تحصيلها، وذلك حين يؤمن في ذات نفسه بضرورة التغيير، بل يعيش في حياته الخاصة على صورة التغيُّر المُرتجى، لكنه إذا كتب للناس أيَّد لهم ما هم غارقون فيه، وإلى جانب هذا الفريق المؤيد للأمر الواقع — بشعبيته: المخلصة والمنافقة — هنالك فريقان: أحدهما يدعو إلى التغيير في جرأة لا يبتغي من ورائها إلا أن ينقل للناس ما يظنُّه صوابًا وخيرًا، والأغلب في الجماعة الأولى أن تكون سلفية ترى مثلها الأعلى في صورة الماضي البعيد، والأغلب في هذه الجماعة الثانية المطالبة علنًا بضرورة التغيير أن تكون مُستقبلية الرؤية، وحتى إذا هي رأت وجوب استحضار ماضينا في وعينا وفي وجداننا فلا بدَّ أن يكون ذلك توسُّلًا بذلك الماضي؛ ليزيدنا عزمًا على رؤية مُستقبل يتفق مع هويتنا القومية، حتى لا نجعل من أنفسنا أمساخًا شائهة، ولا بدَّ أن نُلاحظ هنا، أن الجماعة الأولى المؤيِّدة لما عليه جمهور الناس بما يتضمنه ذلك عادة من سلفية النظر؛ يسهل عليها الاستيلاء على ألباب الناس، فصوت تلك الجماعة يبلغ من أعماق الجماهير وقلوبهم ما لا يبلُغه صوت الجماعة الثانية المُنادية في جرأة بضرورة أن تتغيَّر صورة حياتنا؛ لتكون أكثر ملاءمةً لعصرها.
وإلى جانب هاتَين الجماعتَين تقوم فئة ليست بالقليلة لا تتَّجه بنشاطها الثقافي نحو أولئك ولا نحو هؤلاء، بل تشطح وحدَها في وديان من الفكر ومن الفن ومن الأدب، لا هي مُتصلة بماضينا، ولا هي متصلة بمستقبلنا، وإنما هي على الأغلب مُستوحاة من أفكار الآخرين وفنونهم وآدابهم دون بذل الجهد الإبداعي الذي يطوع تلك الروافد تطويعًا، ويجعلها متجانسة مع نسيجنا القومي.
تمنيتُ لو أني وضعتُ بين يدي القارئ عشرة أسماء من اللوامع ذوات الصدى في حياتنا الثقافية اليوم؛ لأُجسِّد له في أشخاص أصحابها تلك الفئات الثلاث التي ذكرتها، لكنني أمسكتُ عن ذلك؛ حتى لا تُظَن بي الظنون، وما ابتغيتُ إلا الحق والخير، فأترك للقارئ أن ينتقي لنفسه من الأسماء ما يراه مُمثلًا لكل فئة منها؛ حتى يكسو الفكرة المجردة التي عرضتُها لحمًا ودمًّا، ولكني أُذكِّره بأن الفئة الأولى، وهي التي تساير مزاج الجمهور العام، والتي هي على الأغلب سلفية الطابع؛ تنشطر شطرين: شطر مُخلص فيما يقول إخلاصًا حبيسًا فيما درسه وحفِظه، وهو الآن جاد في تسميعه أمام الناس، لكنه كذلك إخلاص من يتنكَّر لضروب القول الأخرى؛ لأنه يجهلها، فكيف يُخلص لما يجهله؟! وإذن فلو أنه علم أكثر مما يعلم؛ لاتَّسع نطاق إخلاصه. وأما الشطر الثاني من الفئة الأولى فمُنافق كاذب، يعتقد في شيء ويُصارح الناس بشيءٍ آخر، وهو أخطر جماعة في حياتنا؛ لأنها تضم نفرًا من أصحاب السيرورة في أوساط القراء على نطاقٍ واسع يقرأ لهم الناس ما يكتبونه ويُصدِّقونه ولا يرتابون في حُسن نواياهم.
إنه لا لَوم على مُخلِص ينشر في الناس ما يؤمن بأنه الصواب، لكن اللوم كل اللوم إنما يقع على من يُضمر لنفسه رأيًا ويعرض على الجمهور رأيًا آخر، فلو استيقظَتِ الضمائر عند هؤلاء؛ لسِرْنا نحو تحديث الثقافة العربية شوطًا بعيدًا بقفزةٍ واحدة.