تحولات
لو أني سُئلت: ما الذي تراه أبرز صفة تُميز اتجاه الفكر في عصرنا؟ لأجبتُ في غير تردُّد قائلًا: إنها إحلال «التغيُّر» محل «الثبات» في فَهمنا للأشياء، فبعد أن كان الظن بالشيء المُعين — كل شيء وأي شيء — هو أنه ذو حقيقةٍ ثابتة، يجب البحث عنها إذا أردنا معرفته للانتفاع به في حياتنا، وأن تلك الحقيقة الثابتة تطرأ عليها تحوُّلات عارضة، لكنها لا تُغير من حقيقته شيئًا، أصبح الرأي هو أن تلك التحوُّلات هي هي نفسها حقيقة ذلك الشيء، إلا أن الإنسان يربطها من عنده برباطٍ يُوحِّدها في كيان واحد، وذلك لقيامها معًا — على تعدُّدها وتفرُّقها — بوظيفة واحدة. خُذ مثلًا لذلك مدينة القاهرة وسنعود إلى أمثلةٍ أخرى كثيرة؛ فمدينة القاهرة كيان له تاريخ ويحرص الخيال البشري على أن يَبقى لذلك الكيان حقيقته دون أن يأخذ في حسبانه أن ينقُص سكان القاهرة أو يزيدون، أن تقام بها المُشيَّدات الجديدة أو لا تقام، فقد كانت هي القاهرة منذ نشأت، وستظلُّ هي القاهرة ما شاء لها الله أن تبقى، لكن اقترِب بعينَيك نحو هذا الكائن الواحد، وانظر كم هو في الحق كالبحر يموج بالناس وبالأحداث وبالأشياء وبالحركة الحية، فأينما وجَّهت البصر وجدتَ مفردات وأفرادًا، يطرأ عليها التغيير كلَّ يوم، بل كلَّ ساعة، وما هو أدنى من الساعة! فليس هنالك إلا عناصر تقترب وتبتعِد وتتلاقى وتفترِق، ولولا خيال الإنسان الذي يُمسك بتلك الكثرة في وحدة واحدة، لما كانت إلا سيرورة دائمة، وكان الفكر قديمًا ينزع إلى أن يجعل وراء تلك الكثرة المُتحوِّلة محورًا ثابتًا يكون هو المعنى الحقيقي «للقاهرة»، ويريد الفكر في اتجاهه الراهن، أن يرى الشيء على كثرته البادية وتحوُّلاته يومًا بعد يوم، على أن هذه التفرقة لا تعني أن الفكر في الحالة الأولى يُنكر على التفصيلات وجودها، أو أن الفكر في الحالة الثانية يُنكر الإطار الوظيفي الواحد الذي يضمُّ تلك التفصيلات فيما يُشبه الوحدة الواحدة.
ويقيني هو أن القارئ قد يأخذه الضِّيق عند هذه التفرقة هامسًا لنفسه: وماذا يعود إلينا من أمثال هذه اللجاجة العقلية التي لا تُغير من الأمر شيئًا: فالقاهرة هي القاهرة في كلتا الحالتَين على حدٍّ سواء؟ وردًّا على مثل ذلك الهامس لنفسه بقولٍ كهذا، أقول: كلَّا فقد أخطأ معك الحساب يا سيدي، والفرق بين الحالتَين واسع، وأثره في النتائج العملية بعيد عميق، ولكي أوضِّح ذلك أسوق لك مثلًا آخر؛ طفلًا يُربيه أولو أمره على أساس التصوُّر الأول، أو يُربُّونه على أساس التصوُّر الثاني، وفي وسعنا أن نُوسِّع المجال في هذا المثَل، ليشمل عملية التربية والتعليم كلها في بلد مُعين مثل مصر؛ إذ يتولى جيل الكبار جيل الصغار — من الطفولة إلى الشباب — بالتربية والتعليم، فماذا يكون الفرق بين تربيتهم وتعليمهم على التصور الأول، ثم على التصور الثاني؟ ولعلك تذكر ما قد أسلفناه من أن التصور الأول يجعل للطفل أو للناشئ أو الشاب «حقيقة» مُحددة ومُعينة، على أساسها تكون التربية ويكون التعليم، وأما ما تتعرض له تلك الحقيقة الثابتة من تغيرات وتحوُّلات، فأمرٌ يجب أن يُغَض عنه النظر، في حين أن حقيقة الطفل أو الناشئ أو الشاب بناء على التصوُّر الثاني؛ إنما هي تلك التغيرات والتحوُّلات نفسها، فإذا نحن غضضنا عنها النظر فقد غضضنا النظر عن الإنسان الحي الذي بين أيدينا بكل ما فيه؛ وإذا تمَّت عملية التعليم على أساس التصور الأول، أخرجت إنسانًا «مصنوعًا» كما يخرط الخراطون قطع الحديد أو الخشب، وأما إذا تمت عملية التعليم على التصور الثاني، كان علينا أن نُقابل تحولات الفطرة البشرية في كل فردٍ حي لتُقابَل كل حالة بما هي في حاجة إليه؛ نعم إن ملايين التلاميذ والطلاب ينخرطون في قوالب المخرطة، فيقتلون في أنفسهم ما يقتلونه من أجل المخرطة التعليمية ومُقتضياتها، لولا أننا نشاهد آنًا بعد آن، صاحب موهبةٍ في اتجاهٍ مُعين، تكون موهبته أقوى من مخرطة التعليم، فتشقُّ عليها عصا الطاعة وتخرج إلى حيث تتنفس وتنمو وتزدهر.
أرأيت يا سيدي كم هو بعيد ذلك الفرق بين أن تنظر إلى الإنسان بمنظار الرؤية الأولى — رؤية الثبات — وأن تنظر إليه بمنظار الرؤية الثانية — رؤية التحول —؟ فليس الناشئ الذي يُرسله أبوه إليك لتتولاه تربية وتعليمًا، قطعة من الخشب تُقاس أبعادها بالمسطرة طولًا وعرضًا وارتفاعًا؛ وإنما هو قطعة من حياة فوَّارة مُتغيرة متحولة، لا تسكن على حالة واحدة لحظتَين متتاليتَين، إنه ينمو ويحسُّ ويُدرك ويعقل ويثور ويهدأ، وهو في هذه التحوُّلات المتصلة لا يحيا حياته كلها على وتيرة واحدة. ولمَّا كان يتعذَّر علينا أن نُسايره في تحوُّلاته تلك لحظة لحظة، اختصرنا على أنفسنا الطريق، فقسَّمنا حياته الدراسية ثلاث مراحل أساسية؛ مرحلة للتعليم الابتدائي، ومرحلة للتعليم الثانوي، ومرحلة للتعليم العالي في الجامعات والمعاهد وما إليها، فماذا نحن صانعون إزاء هذا التتابع؟ أيكون التعليم كله على نهج واحد، لا يختلف باختلاف مراحله، اللهم إلا في طول المادة المدروسة وقصرها، أو في غزارتها وضحالتها؟ أما أصحاب الرؤية الأولى فالجواب عندهم بالإيجاب حتى لو أنكروا ذلك، لأن أفعالهم القائمة تفضحهم، وإلا فما هو الفرق الأساسي بين طالب يدرس الجيولوجيا أو علم النبات أو الكيمياء أو التاريخ أو الجغرافيا في المدرسة الثانوية وبينه وهو طالب يدرس تلك المواد في الجامعة؟ أم نقول إنها هناك «دروس» وهنا «محاضرات»؟ أما أصحاب النظرة الثانية فهم يرَون الطالب وقد تحوَّل إنسانًا آخر مرحلة بعد مرحلة، ولذلك فهم يرَون أن يتبدَّل النهج في كل مرحلة بما يناسبها، فإذا كان الطفل في المرحلة الابتدائية يُناسبه أن تُقدَّم له المعلومات المختلفة بغير قوانينها، فالتلميذ في المدرسة الثانوية يكون مهيَّأً لأن يتلقى المادة العلمية مصوغة في قوانينها، أو مبادئها، أو أحكامها العامة، دون أن يُطالَب بشيءٍ أكثر من ذلك، ثم يأتي طالب الجامعة إنسانًا آخر ذا طبيعةٍ أخرى، وهنا تجيء صورة ثالثة، لا هي مجرد عرض لطائفة من المعلومات، ولا هي مجرد ذكر لقوانين العلوم في ميادينها المختلفة بل هي أن يكون طالب الجامعة «باحثًا» صغيرًا يُرشَد إلى الطريق التي يضيف فيها إلى العلم شيئًا جديدًا. وربما دُهش القارئ أن يراني بهذا الطموح كله لطالب الجامعة، لكن المُدقِّق في تحوُّلات الطبيعة البشرية يلحظ فيها هذا التتابُع في المراحل، فانظر — مثلًا — كيف يتدرَّج الإنسان في استخدامه للغة — بصورة طبيعية خالصة — ففي المرحلة الأولى يلتقط مجموعةً من أجزاء لغوية يستخدمها مفردة ومركبة مع مَن يتبادل معهم الكلام والتعامُل، ثم ينتقل بعد ذلك حين يدرس اللغة، إلى معرفة «قواعد» التركيب اللغوي، ويظل يعلو في تلك القواعد ما ارتفعت به درجات التعلُّم، وأما مرحلته الثالثة فهي أن «يبدع» مركبًا لُغويًّا مُعينًا: شعرًا إذا كان شاعرًا، أو أدبًا نثريًّا في أية صورة من صوره إذا كان موهوبًا لها؛ وهكذا ترى مراحل التحوُّل الأساسية: جمع للمعلومات بغير قواعدها وقوانينها، ثم إلمام بتلك القواعد أو القوانين، وأخيرًا تجيء مرحلة المُبدِع المُبتكِر في الميدان نفسه الذي كان قد جمع عنه المعلومات أولًا، وقواعدها وقوانينها ثانيًا.
كل شيء في هذا الوجود — إنسانًا وغير إنسان — وهو في حقيقته سيرورة مُتحولة أبدًا من حالٍ إلى حال، فما يكاد الكائن المُعين يتَّخذ حالةً ما، حتى يتغيَّر متنقلًا إلى حالةٍ تليها، وهكذا تكون حقيقة الكائن في صيرورته للحاضر إلى جديد ينتقل إليه، إنها سيرورة وصيرورة في آنٍ واحد، فهو سيرة متحركة، يصير بها إلى وضعٍ جديد، انظر إلى شجرة في تاريخها، منذ تضع لها بذرتها في الأرض، تجدها تحوُّلات مستمرة، إنها في يومها غيرها في أمسها، وسوف تكون في غدها غيرها في يومِها، إنها تنمو دون أن تلحظ عيناك نموها يومًا بعد يوم، إنها تُسقِط أوراقًا وتضع أوراقًا، إنها تتنفَّس الهواء شهيقًا وزفيرًا كما نفعل، وإن يكن زفيرنا نحن هو شهيقها، إن حياتها قصة طويلة عريضة، لا أعرف كم مجلدًا يمتلئ بتفصيلاتها لو أننا رصدنا تغيراتها جميعًا، بكل خلاياها وأليافها وأوراقها وأزهارها وثمارها، تعرِّيًا في الشتاء واكتساءً في الربيع، تناميًا في عهد القوة، ثم تفانيًا في مرحلة الشيخوخة المؤدية بها إلى موت.
إن الذي يخدعنا بثبات الأشياء برغم تحوُّلاتها المُتدفقة عوامل كثيرة؛ منها بطء التحوُّل بحيث لا تُدركه عين إلا بعد أن يتراكم، ومنها اللغة التي اصطنعناها نحن أنفسنا لأنفسنا، لكننا سرعان ما تغيب عنا حقيقتها؛ فنحن نألف في التعبير باللغة عن الأشياء، أن نذكر اسمًا مُعينًا يشير إلى شيءٍ ما، كالاسم: «جمال» — مثلًا — ثم نسند هذا الاسم إلى ما أردنا أن نسنده إليه، فنقول: إن في هذه الزهرة: «جمالًا»، وفي شروق الشمس «جمالًا»، وكذلك في غروبها، وفي البحر جمال، وفي الصحراء جمال، في الجبال جمال، وفي حقول الزرع جمال، وهكذا ثم ما هو إلا أن نتصوَّر بأن «الجمال» يمكن أن يكون شيئًا قائمًا بذاته، ثابتًا في معناه حتى وإن طرأت عليه تغيُّرات مع تغيُّر الأحداث، ومن هنا ينشأ في تصورنا جانبان: «الجمال» في ثبات طبيعته من ناحية، والتغيُّرات التي تطرأ مع تغيُّر الأشياء المنسوبة إليه من ناحيةٍ أخرى. ولَمَّا كانت طبيعة اللغة تفرض علينا هذا الانقسام، وذلك لأن اللغة في ذاتها تُقسِّم الموضوع الواحد الموحد أقسامًا بحُكم انقسامها إلى كلمات، فالوردة الجميلة كائن موحد، لكن اللغة بحُكم الضرورة تجعل للوردة كلمة، ولجمالها كلمة أخرى، فسرعان ما نظن نحن أن هنالك شيئين: وردة، وجمالًا، وكما نقول عن شجرة إنها نامية، ونحسب أن الشجرة شيء وأن نموها شيء آخر.
الأمر في كل شيءٍ شبيه بالأسرة وأفرادها على امتداد فترة مُعينة من الزمن؛ فنحن إذ نشير إلى أسرة بذاتها قد نتوهَّم أنه ما دام، «الاسم» واحدًا، فلا بد أن يكون مُسمَّاه واحدًا كذلك، لا تَعدُّد فيه ولا تنوع، في حين أن ما نُسمِّيه «أسرة» هو مجموعة قد يبلغ أفرادها مئات فيهم كبار وصغار، وفيهم رجال ونساء وفيهم أجداد وآباء وأحفاد، وفيهم من سافر ومن فُقِد، وفيهم من مات ومن هو وليد رضيع، وهكذا، وما نقوله عن كلمة «أسرة» وما تُشير إليه، ينبغي أن نقول مثله على كثيرٍ جدًّا من أسماء الأشياء وما تعنيه؛ إذ الرغبة في التبسيط وحدَها هي التي تجعلنا نختصر الواقع المُعقَّد بكثرة عناصره وتشابُكها وتحولاتها، حتى لنظنُّ أن ما هنالك في دنيا ذلك الواقع إنما هو وحدات من كائناتٍ كل وحدة منها كيان موحد، قائم برأسه مُستقل بذاته، حتى وإن ربطته الروابط بغيره من سائر الوحدات، فنقول هذه شجرة، وذلك نهر، وهنا سوق، وهناك مدرسة إلخ.
ولعلك تستطيع الآن أن تُكوِّن لنفسك فكرةً تقريبية عما يتعرَّض له الإنسان المُتعجِّل في أحكامه، حين يُطلِق حكمًا ما عن شيءٍ يظنه «مفردًا» و«ثابتًا»، وإذا هو في حقيقته حشد مُزدحِم بأفراده وعناصره وأجزائه فما أيسر على ذلك المُتعجِّل أن يحكم على «شعب» مُعين بأنه على خُلُق أو على غير خلق، على علم أو على غير علم، كأن ذلك «الشعب» فردٌ واحد من الناس، وليس عدة ملايين من أفراد، قد يكون فيهم من هو على خلق ومن هو على غير خلق، من هو على عِلم ومن هو على غير علم … لا بل إن الحكم المُنصف المُتأنِّي على الفرد الواحد ليس بالأمر اليسير، وهل يكون يسيرًا أن تحكم على كاتب — مثلًا — بأنه يُجانب الحق في «كل» ما يَكتبه، حين يكون ذلك الكاتب قد أخرج للناس خمسين كتابًا؟ أليس من الجائز أن يكون قد جاوز الحق في إحدى فقرات صفحة من صفحات كتابٍ واحد، ولم يُجاوزه في مئات الألوف من فقراتٍ وردت في سائر الكتب؟ لكننا كثيرًا ما نتعجَّل الأحكام، مُتأثِّرين بالوهم الذي يُحوِّل الكثرة في أذهاننا إلى واحد، ويُحوِّل الكائن المُتغير في أذهاننا إلى كائن ثابت، ولسنا نريد — بالطبع — أن نقول إن كل من أراد أن يتحدَّث عن شيءٍ في حياته اليومية الجارية، لا بد له من مِثل هذه الوقفة التي تُحلل الأشياء إلى عناصرها المُتغيرة؛ لا فالحياة العملية الجارية لا يُراد لها كل هذه الأناة وهذه الدقة، وإنما الذي نُريده هو أن من يتصدَّى لفهم الوقائع فهمًا دقيقًا، والحكم عليها حكمًا صحيحًا، مُطالب بمثل هذه الدقة والأناة.
وإن الأمر ليزداد صعوبة، حين ننتقل في أحاديثنا من موضوعات صغيرة محدودة في مكانها وزمانها، لنتناول موضوعاتٍ اتَّسعت آفاقها وتباعدت أطرافها وتطاولت أزمانها، كأن نتحدَّث عن «الحضارة» وعن «الثقافة» وعن «التراث» وعن «الفن» و«الأدب» و«العلم» وما هو من هذا القبيل الواسع. إنك قد تُصادف مِن الناس مَن يجمع حضارة الغرب في هذا العصر في حُكم واحد، كأن يصفها — مثلًا — بأنها «حضارة مادية» وكأن الذي بين يدَيه قطعة صغيرة من ورقٍ يقول عنها إنها معوجَّة الأطراف ومُلوثة بِبُقَع من مداد، وكأن الذي بين يدَيه ليس «حضارة» شملت «عصرًا» ففيها علوم، وفنون، ونظُم، وألوف الألوف من ضروب النشاط في كل ميدان، ومن أبنائها من هو على طريق الخير ومن هو على طريق الشر، فيهم الأطباء الذين يُخفِّفون آلام المرضى وفيهم المُعلمون، وفيهم من يُعين العاجز والمحروم، ولكن منهم كذلك السفاحون، واللصوص، وقُساة القلوب.
على أن الذي يعنيني هنا — في المقام الأول — ليس هو كثرة العناصر التي نُخطئ فنجملها في حكمٍ واحد سريع وكأنها عنصر واحد بسيط، بل الذي يعنيني هو صفة «التحوُّل» من حيث هو جزء لا يتجزأ من طبائع الأشياء فليس في هذا الكون الفسيح شيءٌ واحد يثبت على حالةٍ واحدة ولو للحظةٍ سريعة من لحظات الزمن، فكل شيء في تحوُّل دائم لا يسكن ولا يجمد كل نجم من نجوم السماء كل شمس من شموسها، كل كوكب، كل ذرةٍ صغيرة مما لا تُدركه الجماهير، إنما هو يتحوَّل أبدًا، يتغير أبدًا، فإذا قصرْنا الحديث على أرضنا وعالَمها، قُلنا كذلك إنه ما من شيء، من الذرة إلى الجبل، من الخلية الأولية إلى الفرد من أفراد الإنسان إلا وهو أقرب إلى تيار دافِقٍ بموج التحوُّل والتغيُّر، لحظة سريعة في إثر لحظةٍ سريعة فإذا سألنا: وما الذي يجعلنا — والحال هي كما وصفنا — نُميز الأشياء والكائنات بعضها من بعض؟ فنقول هذا هو زيد، وذلك هو عمرو، وهنا ترى نهر النيل، وهناك ترى جبل المقطم، وتلك هي الشمس؛ وبعد غيابها مع الغروب يظهر القمر، فإذا لم يكن في شخصٍ أو في شيءٍ ثبات يُقيمه على حالة الدوام النسبي فكيف يُتاح لنا تمييز هذا من ذاك في عالَم الكائنات؟ والجواب هو في الإطار الذي في حدوده تحدُث التحوُّلات، فخلية النحل واحدة بإطارها لا بأفراد النحل فيها، ومصر وطن واحد بإطارها التاريخي وليس بأفراد أبنائها، لأن هؤلاء الأبناء يموتون ويُولَدون، وتبقى مصر في إطار تاريخها وهكذا قل في كل شيء.
وأعجب ما في صفة «التحول»، التي هي صفة تُحدِّد حقيقة العالم وما فيه، أن ذلك التحوُّل لا يستند إلى مُتحوِّل، وأنه يصعب على الخيال البشري أن يتصوَّر تغيرًا بلا مُتغير، وتحولًا بلا مُتحول؛ لكن ذلك هو كذلك، وكثيرًا ما يُشبِّهون الأمر بالنهر وجرَيانه، إنها اللغة — أقولها مرة أخرى — هي التي تَوهَّمنا بأن تركيب الأشياء يُماثل تركيبها، فإذا قلنا — مثلًا — الماء يجري في نهر النيل حسبنا أن الماء الذي يجري شيء غير نهر النيل الذي فيه يجري ذلك الماء، لكن الواقع لا يعرف إلا ماءً يجري، ولنا نحن أن نُسمِّيه بالنيل أو بأي اسمٍ شئنا، وذلك الماء الجاري على أرض الواقع، والذي ليس في واقع الأمر سواه، إنما هو في معبر دروب، حتى ليستحيل على موضعٍ واحد منه أن يبقى على ما هو عليه لحظتَين مُتعاقِبتَين، فإذا وضعت يدَك في النهر، ثم سحبتَها، ثم وضعتها مرةً أخرى، فأنت هذه المرة تضعها في ماء آخر غير الماء الذي وضعتها فيه أول مرة؛ ولعل أول من تنبه إلى هذه الحقيقة في طبائع الأشياء، هو الفيلسوف اليوناني القديم «هرقليطس» — وكان هو الذي عبر عن هذه الحقيقة بعبارته التي اشتُهرت من بعده، وهي قوله: إنك لا تضع قدمَك في النهر مرتَين. لكن «هيرقليطس» حين لمعَت في رأسه تلك الصورة، كانت كلَمعةِ البرق التي تبرق بها سحابة غير ممطرة، سرعان ما تدفعها الريح فتنقشع، أما فكرة «التحول» حين يقولها قائلوها في عصرنا هذا، فإنما يقولونها تعبيرًا عن رؤيةٍ كاملة شاملة للعصر كله بجميع ما فيه، فهي قراءة جديدة للكون وكائناته، نبعَتْ من فكرٍ جديد ومن عِلم جديد، وليس ذلك — بالطبع — لأن الكون وكائناته قد تغيرت حقيقته التي كان عليها، بل لأن الإنسان هو الذي تغيَّرَت نظرته بما أصابه من تقدُّم في علومه، أقول: إنه ليصعُب جدًّا على الخيال البشري أن يتصوَّر كيف يكون تغيُّره بلا مُتغير، أو «تحول» بلا مُتحوِّل؟ وإن كاتب هذه السطور ليكاشف القارئ، بأنه كان برغم عِلمه بهرقليطس وفكرته القديمة عن طبيعة «التغيُّر» إلا أنه لم يكن قد تنبَّه أول الأمر إلى كل ما يترتَّب على تلك الفكرة من نتائج، ولذلك لم تكن قد نشأت له المشكلة التي تُريدنا أن نتصوَّر «تغيرًا» دون أن نفترض وجود ما يتغيَّر، حتى كان ذات يوم في أواسط الأربعينيات فوقع على كتاب عن «التغيُّر» لمُؤلِّفه «ولدون كار»، وكان أهم ما ألحَّ عليه المؤلِّف في كتابه ذاك شرحه لفكرة التغيُّر الذي لا يستتبع أن يكون هنالك شيءٌ مُعيَّن يطرأ عليه ذلك التغير، فالأمر هو أمر تغيُّر مُطلَق، وذلك هو الكون وحقيقته؛ وكأن الذي أوقف كاتب هذه السطور، عندما فوجئ بتلك الإضافة الفكرية التي لا مَفرَّ منها إذا قبِلْنا العلم في صورته الجديدة، أقول: إن الذي أوقف كاتب هذه السطور عندئذٍ، هو أن يجد لنفسه مخرجًا يَصون للروح بقاءها، وثباتها، وخلودها، ولم يلبَث أن وجد لنفسه ذلك المخرج، وهو أن كل ما يُقال عن التحوُّلات المُتغيرة على النحو الذي قدَّمْناه، إنما هو خاص بذلك الجانب من الوجود الذي يخضع للنظر العلمي ومناهجه، ولكن في الوجود ما ليس من هذا القبيل، وفي هذا الصدد تُذكَر الروح جوهرًا قائمًا بذاته.
تحوُّلات، تحوُّلات، تحوُّلات، هي كل ما ينتهي إليه تحليلنا، لما نعرفه من أشياء قريبةٍ مِنَّا أو بعيدةٍ عنا، وفي هذا الخِضَم العظيم المُتلاطِم بأمواج التعبير، تتميز الأشياء بثباتها الشكلي على أساس الأُطُر التي في حدودها تنشأ علاقات بين الأطراف، وكل لحظةٍ في ذلك التيار الدافق إنما يُميزها ويُحدِّدها موقعها في سلسلة المُتتابعات … ولكن بأي معنًى نفهم معنى «التقدم» في بحر التحوُّلات هذا، التقدم هو الانتقال من البساطة إلى التركيب، ومثل هذا الانتقال يكون في التركيب العضوي البيولوجي بالنسبة إلى عالم الحيوان ثم يُضاف إليه التركيب الثقافي بالنسبة إلى الإنسان، فما هو أشدُّ تركيبًا في ثقافته أكثر تقدُّمًا مما هو أبسط.
والعجيبة التي تلفت النظر في هذا الصدد هي أن الإنسان إذا ما ترك نفسه على سَجِيَّتها وجد نفسه أكثر انجذابًا إلى بساطة الماضي منه إلى تركيب الحاضر وتعقيده، كأنما الذي يَعنيه ليس هو «التقدم» بل هو راحة البال، إلا إذا أخذته يَقظة في عقله وضميره، وتذكَّر أنه «إنسان» وقد خُلِق إنسانًا ليتحمل تبعة الإنسان كما أرادها له خالقه سبحانه وتعالى: وتبعة الإنسان ليست في أن يحيا حياة سائر الحيوان، بل هي أن «يعمر» الأرض وهو لا يَعمرها إلا بما يَخلُص إليه من عِلم، يأتيه إذا ما تفكَّر في خلق السماوات والأرض كما أُمِر أن يفعل، إلا أنها سجية الإنسان أن يسترخي خالي البال إذا استطاع، وهنا ترى بساطة الماضي تشدُّ إليها خياله شدًّا، بل إنه ليُوهِم نفسه أن تلك البساطة الأولى هي التي عرفت الفضيلة، والخير، والجمال، وكل شيءٍ مما عساه يصنع من زمانه عصرًا ذهبيًّا.
وفي هذا السياق، نذكُر بين من نذكُرُهم من دُعاة إلى العودة بالإنسان إلى العصر الذهبي الذي هو عصر البساطة والنقاء في خيالهم، أقول إني أذكُر في هذا السياق نموذجًا له مكانته العالية، هو الشاعر الروماني القديم «أولد» الذي خلَّدَتْه قصيدته التي جعل عنوانها «تحوُّلات»؛ بمعنى درجات الهبوط في تاريخ الإنسان من عصره الذهبي الأول، إلى العصر الفضي الذي تلاه، فإلى العصر النحاسي فعصر الحديد؛ وأخذ الشاعر يتخيَّل كيف هبطت حياة الإنسان مع هذا التدرُّج درجةً درجة … أحلام شاعر يحلم بالماضي.
ولكن ماذا أردت أن أقوله بهذا كله؟ أردتُ أن أقول إن الذين يحلمون بأن تُعاد صور الماضي في حياة الإنسان الحاضر إنما هم يكلفون الأشياء ضدَّ طبائعها، كمن يتطلَّب في الماء جذوة نار (كما قال الشاعر) لأن «التحول» هو طبيعة الأشياء وصميمها، على أن حياة الماضي — كأي شيءٍ آخر — لم تمُت ولن تموت، إلا أنها خيوط تدخُل مع غيرها على كرِّ الأعوام، في نسيجٍ واحد، فلا الماضي يستطيع البقاء بذاته مُحصنًا من التغيُّر، ولا الحاضر يستطيع البقاء بذاته مُديرًا ظهره إلى الماضي، فهذه كلها صور يَخلقها خيال الشاعر، ليُشيد بجانب ويَسخط على جانب. وأما واقع العلم والتاريخ، فهو أن حياتنا لن تبلغ نُضجها في ظروف حاضرنا، إلا إذا جاءت حلقة في سلسلة التحوُّلات، بحيث يكون قوامها نسجًا تتداخَل فيه خيوط ما مضى وخيوط ما حضر.