هي جُملة ينقصها الفعل
كنتُ وصديقي في غرفة المكتب من منزلي، فلقد تفضل بزيارتي بعد غياب طويل، ربما امتدَّ به أكثر من عشرين عامًا، وللمصادفات أحيانًا لعبة تُجيدها إذا هي رسمت خطتها لاثنَين لا تريد لهما لقاءً، فواحد منهما يجيء ليجد الآخر قد ذهب منذ قليل، أو هو قد يذهب فإذا الآخر قد جاء بعد ذلك بقليل. ويبدو أن الروائي الإنجليزي «توماس هاردي» (في أواخر القرن الماضي) قد التقط هذه المكيدة التي كثيرًا ما تحبكها المصادفات في حياة الناس، فعوَّل عليها في بنائه الروائي، فيدوخ الحبيب في البحث عن مُستقر حبيبته بعد أن غابت عنه في زحمة الحياة، ويقضي في البحث عنها أعوامًا، حتى إذا ما اهتدت قدماه آخِر الأمر حيث تُقيم في بلدٍ بعيد، وقرع بابها خرج له من يُنبئه بأنها كانت تسكن هنا، ولكنها رحلت أمس إلى حيث لا يدري!
وكنتُ يومًا ما بعيدًا، قرأت لناقدٍ يأخذ على هاردي مُبالغته في معاكسات الصُّدف، ولكن حياتي علَّمتني أن «هاردي» كان أصدق لمحًا بطبيعة الحياة من ناقِدِه.
وأيًّا ما كان الأمر، فقد شاءت لنا المصادفات — أنا وصديقي الذي أُحدثك عنه الآن — شاءت لنا أن أسافر حين يعود هو من سفر، أو أن يسافر حين أعود! وأخيرًا حدث هذا اللقاء وجلسنا جلسةً طويلة في غرفة المكتب من منزلي، ولمَّا كانت خبرات حياتنا الماضية مُتشابهة إلى حدٍّ كبير، فقد وردت مشكلة التعليم في غضون الحديث، وتناولنا أطرافها أخذًا وردًّا.
لم نُرِد تفاؤلًا، ولم نُرِد تشاؤمًا، ولكننا نَضحنا القول من وعاء خبرة طويلة بشبابنا في قاعات الدرس، فالتزمنا الوقائع كيف وقعت، وبالطبع لم يكن حديثنا أكثر من حديثٍ بين صديقَين حميمَين يجري من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا كما اتفق، فلا خطة للسير، كلَّا، وما كان ينبغي لها أن تكون، لكن ذلك السمر الحُر لم يمنع أن تكون مشكلة التعليم موضوعًا بيننا يدور حوله الحوار! وجاءت لحظة بدا فيها كأنما طُرُق الكلام قد سُدَّت في وجوهنا! ومضت بيننا هُنَيْهَة صامتة، نقرتُ بعدها بأطراف أصابعي على ذراع مقعدي، وقلت، وكأني أشدُّ القول من بئر عميقة القرار، قلت هذه الكلمات الثلاث، ولم أدرِ للوهلة الأولى لماذا قلتُها، وهي: اسم، وفعل وحرف! قلتها هامسًا.
قال صديقي ضاحكًا: ما هذا الذي تُحدِّث به نفسك؟ فأعدتُ النطق بالكلمات الثلاث، لكنني أحسستُ بها هذه المرة وكأنها أضاءت بمعناها! فلما عاد إليَّ صديقي ليسألني: ولماذا ذكرتَ هذه الكلمات الآن؟ قلت له: ألا تعرفها؟ قال: كيف لا أعرفها وهي أول ما تعلَّمناه؟! وذلك حين قيل لنا منذ اللحظة الأولى في طريقنا الدراسي: الكلام اسم وفعل وحرف. وهنا استطردت قائلًا: تعالَ معي نتأمَّل هذا التقسيم جيدًا، فيخيل إليَّ أنني أرى في ثناياه قبسًا من نور، لعلَّه يُضيء أمامنا وجه النقص في تعليمنا! بل ربما في حياتنا كلها بصفةٍ عامة! إن لغة الناس إنما هي انعكاس لحقائق الأشياء في دنيا الواقع، وذلك من وجهة النظر الخاصة التي تميز قومًا تحيط بهم بيئة مُعيَّنة، من قوم آخرين تُحيط بهم بيئة أخرى، إلا أنه على تعدُّد الأقوام وبيئاتهم ولُغاتهم؛ فإن علماءهم جميعًا، حين تناولوا جسم اللغة بالتحليل والتشريح، اتفقوا على هذه الأصناف الثلاثة في مفردات اللغة: ففيها أسماء تُشير إلى الكائنات، فهذا جبل، وذلك نهر، وتلك شجرة، وهلمَّ جرًّا، لكن تلك الكائنات لم تُخلق لتسكن في مكانها، بل هي في حركة، والحركة فعل، ومن هنا كانت في اللغة مجموعة ضخمة من المفردات جاءت لتُشير إلى الكائنات من حيث هي أشياء، لكل شيءٍ منها طبيعته التي تلازمه، سواء أكان ساكنًا أم كان متحركًا فاعلًا، بل جاءت لتشير إليها في حالات نشاطها وحركتها وفعلها، متأثرةً بما حولها أو مؤثرة فيه، وذلك هو ما يؤديه الفعل من الأقسام الثلاثة التي ذكرناها، وأما القسم الثالث، الذي أسمَيناه «بالحرف» فإنما أُريد لمفرداته أن تشير، لا إلى الأشياء التي سمَّيناها بأسمائها، ولا إلى «الأفعال» التي تنشط بها تلك الأشياء في تيارات وجودها، بل أُريدَ لمجموعة المفردات التي ندرجها تحت قسم «الحرف» أن تُشير إلى «العلاقات» التي لا بدَّ أن تكون هناك لتصل الأشياء بعضها ببعض، فِإذا قلنا: «التفاحة» في «الطبق»، عرفنا العلاقة بين شيئين، هما التفاحة والطبق.
الكلام — إذن — اسم نُسمي به الشيء، وفعل نصف به حركته، وحرف ندلُّ به على العلاقة بين شيءٍ وشيء، وتتعدَّد الأسماء بتعدُّد الكائنات، وتتعدَّد الأفعال بتعدُّد ضروب الحركة، وتتعدَّد الحروف بتعدُّد العلاقات بين الأشياء، وهكذا ينتهي بنا الأمر إلى أن يكون حولنا وجود مُعقد النسج، فقابلناه نحن بلغةٍ تعقد نسجها خيوطًا لتجيء صورة تُطابق ما تُصوِّره.
قال صديقي وشفتاه مُنفرجتان عن ابتسامة عرفتها فيه وعرفت ماذا يعني بها، قال: ثم ماذا؟
فأجبته قائلًا: صبرًا، إنني لم أكمل حديثي؛ وأودُّ أن أُضيف إلى ما ذكرته، أنه وإن يكن «الفعل» في الجملة التي يَرِد فيها يدلُّ على حركة الحدوث فيما يحدُث، كأن نقول عن أطفال إنهم «يلعبون» في فناء المدرسة؛ فإن المُتأمِّل لما نعدُّه «اسمًا» — كائنًا ما كان المُسَمَّى — مثل: قط، طائر، كتاب، ملعقة، منضدة، وما إليها من أسماء، أقول إن المتأمِّل لأي اسمٍ من هذه الأسماء يجده منطويًا على فعلٍ ما، وفي ظني أنَّ من يعرف اسمًا من تلك الأسماء؛ فإن معرفته تلك لا تكتمل إلا إذا شُملت معرفته بالطريقة أو الطرُق التي يدخل بها الشيء المُسَمَّى بذلك الاسم في حياة الإنسان، كأن يعرف ماذا عسانا فاعِلين بذلك المُسَمَّى في حياتنا العملية أو الفكرية، وإذا لم يكن الأمر كذلك؛ فما الذي دعا الإنسان بادئ ذي بدءٍ أن يُطلِق اسمًا على شيءٍ لم يدخل في حياته بأي وجهٍ من الوجوه؟ فالذي أريد أن أقوله باختصار، هو أن اللغة بكل جملة يقولها إنسان؛ إنما هي وثيقة الصِّلة بفعل ما يؤديه إنسان ما من أبناء تلك اللغة، فإذا وجدتَ في كلام الناس، أو فيما يكتبونه، عبارة أو عبارات، لا تؤدي بطبيعتها إلى عملٍ يؤدى، أو سيؤدى، أو يمكن عقلًا وخيالًا أن يؤدى؛ فاعلم أنها لغو فارغ.
فقال صديقي، وشفتاه لم تزالا مُنفرجتَين عن تلك الابتسامة المداعبة: إنني ما زلتُ أسألك: ثم ماذا؟ لقد كنا نتحدث عن التعليم ومشكلته في بلادنا! فما شأن هذا باللغة وأسمائها وأفعالها وحروفها؟ ما شأن هذا كله بما كنا نتحدث فيه؟!
قلت له: العلاقة وثيقة يا صاحبي؛ فعملية التعليم في بلادنا تملأ رءوس الطلاب بمجموعاتٍ من ألفاظ اللغة مُفردة ومركبة، ولا فرق في ذلك بين أن تكون المادة العلمية المدروسة، من الطب أو من الفلسفة أو التاريخ، أو القانون أو ما شئت، وكان المفروض في ذلك المخزون اللفظي الضخم أن يخرج إلى دُنيا العمل والتطبيق، والذي يحدث هو أن بعض الدارسين يُحققون ذلك، وكثرة غالبة منهم لا تُحققه، ومن هنا جاءت مشكلة التعليم في بلادنا؛ إننا نعلم الطلاب مادة علميةً صحيحة، لكن معظم الطلاب لا يتعلمون، بمعنى أنهم لا يُخرجون مشحوناتِ أدمغتهم إلى دنيا الحياة العملية الجارية، فإما أن تكون علة ذلك في الطريقة التي علمناهم بها، وإما أن تكون في الطريقة التي عالجوا بها ما قد تعلَّموه.
وهنا حانت مني التفاتة غير مقصودة، إلى ظهر مكتبي، فرأيتُ عليه أطلسًا جغرافيًّا وفوقه موسوعة. إنه لمن النادر أن أرجع إلى تلك الموسوعة، وأندر منه أن أُراجع الأطلس الجغرافي في شيء، لكن هكذا شاءت المصادفات أن يجتمع الاثنان على ظهر مكتبي، فلمَّا رأيتهما لمعَت في رأسي فكرة أُوضِّح بها لصديقي ما أردتُ أن أقوله، فقلت:
انظر يا صديقي إلى هذا الأطلس الجغرافي، وإلى الموسوعة من فوقه، فأما الأطلس ففيه ما يُصوِّر لنا الكوكب الأرضي وما عليه، وأما الموسوعة ففيها ما يُصور العقل الإنساني وما يحتوي عليه من علوم ومعارف، ولاحظ أن كليهما «صورة» لِما يُمثله، وليست الصورة هي نفسها الشيء الذي جاءت تلك الصورة لتُصوِّره؛ فليس ما تراه على صفحات الأطلس هو بذاته عالم الأرض التي نعيش عليها، كلَّا، ولا الذي نراه على صفحات الموسوعة هو نفسه العلوم والمعارف حين تؤدي أدوارها في حياة الإنسان، فانظر — مثلًا — إلى خريطة «مصر» في الأطلس؛ ترَ النيل خطًّا رفيعًا مُتعرجًا، والقاهرة نقطة سوداء صغيرة في موضعها المعروف، لكن النيل الحقيقي مُمتلئ بالماء، وعلى سطحه تسير السفن مُبحرة ومُقبلة، والقاهرة الحقيقية ليست نقطة صغيرة ترسُمها سنُّ القلم، إنما هي تزدحم باثنَي عشر مليونًا من البشر، وتنهض فوق أرضها ما لستُ أحصيه من شوارع وعمارات وجسور ووسائل للمواصلات؛ إنها عالم زاخر بالحياة، ودع عنك الآن ما تضطرب به صدور ساكنيها من مشاعر الفرح والحزن، والرضا والسخط، والانفراج والضيق، فما أبعد الفرق بين نقطة المِداد السوداء على الخريطة وذلك البحر الطامي من أمواج البشر! وهكذا الشأن في الموسوعة، فها هنا حروف وكلمات وجُمَل وفقرات، وكلها ترقيمات سوداء على ورق، لكن هذه النقوش المنقوشة بمِداد المطابع، إنما جاءت «لتصور» فكرًا وعلمًا ومعرفة بالكائنات، والفرق بعيد بُعد الأرض عن السماء، بين ترقيمات منقوشة تراها العين على صفحاتٍ من ورق وما جاءت لتُصوره من «فكر»؛ فالفكر الحي ليس شيئًا يُخزَّن، بل هو فاعلية تنسكِب في فعلٍ يُغير الدنيا ويقلقل الجبل من مربضه؛ لتُصبح أحجاره مساجد ومعابد ومطارات وعمارات، وغير ذلك من ضروب الفعل الذي هو كامن في تلك الأحرف المرقومة على أوراق تلك الموسوعة.
والآن يا صديقي، تصوَّر مجموعة من الديدان قد تسلَّلت إلى أوراق الأطلس والموسوعة، وأكلتها حتى امتلأت بها بطونها، فهل نقول: إن تلك الديدان ما دامت قد حوَت في أجوافها صور الكوكب الأرضي وما ينهض على سطحه من جبال أو يجري من أنهار؛ فقد حوت بذلك كوكب الأرض وما عليه، وما دامت تلك الديدان قد ملأت بطونها بما سُطِّر على صفحات الموسوعة من علوم ومعارف؛ فقد سيطرت بذلك على تلك العلوم والمعارف؟ وعفوًا يا صديقي، فما أردتُ بأبنائنا وشبابنا سخرية، أستغفر الله، فهم هم، أملُنا في مستقبل نرجوه، لكن صورة الديدان وهي تأكل الورق وما عليه، على بشاعتها، قريبة الشبَه بطُلَّابنا حين يخرجون من جامعاتنا وقد «حفظوا» أو قُل «احتفظوا» أو «اختزنوا» في صناديق رءوسهم شيئًا مما تلقَّوه سامِعين أو قارئين. وكنتُ أتمنَّى أن يقِف الخطر عند هذا الحدِّ من سوء الحال، إلا أن الحال أسوأ في حالات كثيرة جدًّا، وذلك حين يتحوَّل المسموع أو المقروء إلى أخلاطٍ عجيبة من اللفظ، فيفقد اللفظ كلَّ معناه، ومع ذلك فالطالب لا يلحظ أنه قد كتب كلامًا بغير معنًى، ومن لا يُصدق هذا فليُراجع أوراق الإجابة عند امتحان الطلاب، ثم نغضُّ النظر عن هذا كله، ولنفرض أن صورة سوية من لفظ مفهوم هي التي خرج بها الطالب من جامعاته؛ فهل تقول عنه إنه قد «تعلَّم» شيئًا، إلا بمقدار ما يكون قادرًا على تحويل ذلك المحفوظ إلى «فعل» يُجريه في دُنيا الناس لتتغيَّر به نحو الأفضل والأنفع والأرقى، وإلا كان كمن سكن في جوف هذا الأطلس الجغرافي، فظنَّ أنه يمرح فوق الكوكب وما يحمِل على ظهره، وسكن كذلك في قلب هذه الموسوعة فحسْب أنه هو الذي أقام الحضارة بكل ما يتجسَّد في عمرانها من علمٍ وفكر وفن.
الفرق بعيد بين من يعيش في حصن مغلق الجدران، قوامه مفردات من ألفاظ اللغة، ومركبات من تلك المفردات، وإما أن يُبقيها مكتوبة في صحائفها، وإما أن ينقل بعضها ليحفره على ألواح ذاكرته، ولا فرق في هذه الحالة بين أن تكون المادة الفكرية المرصودة في تلك القمائم شعرًا أو نثرًا، فقهًا أو نحوًا وصرفًا، من علوم الفلك والجبر والحساب، أو من علوم الكيمياء والضوء والنبات، أقول إن الفرق بعيد بين من يعيش في برج مُصْمَت قوامه مخزونات لُغوية في الكتب أو في جماجم الرءوس، وبين إنسان آخر عنده ما عند الأول، لكنه يخترِق به جدران الحصن، ليحيا به في دنيا الأشياء، والأحداث والمواقف؛ فالأول يمكن وصفه بأنه أشبه بمن يتمتم بجملة ينقصها «الفعل» بمعنى أنها جملة جمدت على نفسها كقطعة الحجر! لا تحمل صاحبها على سلوك يسلكه في دنيا الواقع؛ ليُحقق به لنفسه وللناس نماءً وازدهارًا، وأما الثاني، الذي يُحصِّل ما يُحصِّله من معارف وعلوم مصوغة في أبدانها اللغوية أو الرقمية أو ما شاءت لها طبيعتها من رموز؛ لا ليقِفَ عندها مُكتفيًا بها، بل ليخترقها إلى عالَم التطبيق، وإني لأزعم — يا صديقي — أن مصدر العجز كله في نظم التعليم في بلادنا، هو أنها تُخرِج شبابًا من نموذج الإنسان الأول، الذي يقضي حياته في محفوظاته، وعلى الآخرين من أبناء النموذج الثاني أن يتولوا عنه شئون الحياة العملية في إطار العصر وحضارته.
وربما احتاج هذا التعميم الذي أطلقناه إلى شيءٍ من القيود؛ إذ ربما كان ما يصدُق على الكليات التي يسمُّونها كليات «نظرية» لا يصدُق على الكليات التي يسمُّونها «عملية»، فقد تكون هذه الكليات العملية قد أُعِدت إعدادًا يُتيح للمتخرجين فيها أن يخوضوا ميادين العمل، وألا يقفوا عند مجموعات من محفوظات مُحنطة، وأن هذه الصفة مقصورة على بعض الكليات «النظرية»؛ لأن بعضها الآخر شأنه شأن الكليات «العملية» من حيث تخريجها شبابًا مُستعدًّا بما قد تعلَّمه أن ينزل به إلى ميادين العمل، رغم أن موادها الدراسية تدور حول محور الإنسان في حياته الاجتماعية. وإذا كان الأمر كذلك، كان العيب الذي ذكرناه مقصورًا على قلةٍ قليلة من الدراسات التي لا يعلم دارسوها أنفسهم أين وكيف يكون لها تطبيق أو ما يشبه التطبيق.
ولستُ أشك في وجوب هذا التحوُّط؛ حتى لا نندفع وراء تعميماتٍ جوفاء، ومَن ذا الذي لا يعلم أن كثيرًا جدًّا من شئون الحياة العملية، من طبٍّ وهندسة، واقتصاد وتشريع وتعليم وغير ذلك، من جوانب الحياة، لا في مصر وحدَها، بل على امتداد الوطن العربي طولًا وعرضًا، ثم إلى كثيرٍ مما يجاوز حدود الوطن العربي؛ إنما يضطلع به من تخرجوا في نظام التعليم المصري؟ فإذا كان ذلك كذلك فأين يكون موضع القصور؟ ولماذا نقول إن الموقف كله شبيهٌ بمن حفظ جملةً ينقصها الفعل أو بمن عاش داخل صفحات الأطلس الجغرافي وفوقه موسوعة، فظنَّ أنه أمسك بزمام الأرض وما عليها والعقل وما حوى؟
وها هنا نشير إلى خيطٍ رفيع يفصل بين حالتَين قد تتشابهان في الظاهر، أما في حقيقة الأمر؛ فهما مختلفتان اختلافًا بعيدًا، خُذ مثلًا رجلَين من رجال الطب، كلاهما تخصَّص في جراحة القلب، ومهر في استخدام المناظير وغير المناظير، وفي نقل جزءٍ من شريان في موضع آخر من الجسم، ليُوضَع مكان شريان في القلب أصابه عطب، خُذ هذَين الرجلين مثلًا، وافرض أن أحدهما هو الذي صمَّم فكرة المنظار، والذي قام بالتجربة الأولى في نقل جزءٍ شرياني من موضعه إلى موضعٍ آخر من الجسم المريض، فلمَّا نجح هذا كلُّه على يدَيه، جاء الثاني وسار على إثره خطوةً خطوة، فكِلا الرجلَين بعد ذلك يتساويان في إجراء عمليات القلب الناجحة، ولكن هل يتساويان في الجوهر التعليمي، الذي أدَّى بالأول إلى إبداع طبٍّ جديد وجراحة جديدة، والنظام التعليمي الذي أدَّى بالثاني إلى أن ينتظر حتى يفرغ الأول من إبداعه، لينقله ويدرسه، ويمهر فيه؟ ووسِّع هذه الصورة حتى تمتدَّ لتشمل أوجه الحياة كلها؛ تجِدك أمام مجموعتَين مختلفتَين من الناس: الأولى ترتفع ببنيان الحضارة، بالجديد الذي تُبدِعه في شتَّى ميادين الحياة علمًا وعملًا، في حين تنتظر الثانية بخيرة أبنائها ممَّن خرجتهم الكليات «العملية» ليكون قصارى جهدها أن تنقل عن الأخرى ما تُحاكيه! وبهذا نكون قد عُدنا إلى «حفظ» ما أنتجه الآخرون! وكل ما في الأمر هو أن بعضنا يحفظ ويخرج بما حفظه إلى عالَم التطبيق، وبعضنا الآخر يحفظ أيضًا، ثم يكتفي بذلك المحفوظ دثارًا يتلفَّع به.
كانت أوروبا في عصورها الوسطى يغلب على حياتها الفكرية نموذج التخزين في رءوس «العلماء» بمحفوظاتٍ من أقوالٍ ورثوها من أسلافهم، وكانوا يُخزنون ما يُخزنونه في رءوسهم، لا ليعيشوا به، ولا ليزرعوا به وليصنعوا به ما قد تتطلَّبه الحياة العملية من صنائع، بل هم يُخزنونه لفظًا ليدوروا في دوامته، فيولِّدوا قولًا من قول، ويُخرِجوا جملةً من جملة، وكان القادرون على مثل هذا الدوران في عالَم اللفظ المحفوظ هم «العلماء»، فلمَّا استيقظت أوروبا من ذلك السبات، سمعت رجلًا يصيح بهم قائلًا: «العلم قوة» وربما حسبوه قاصدًا بعبارته تلك شيئًا من بلاغة التعبير، لكن الرجل قد أراد المعنى الحرفي الدقيق بعبارته؛ فالعِلم عِلم بما يستطيع الناس به أن يصنعوه، وليس من العلم في شيءٍ ما لا يُعينك على استخراج القوانين التي تجري ظواهر الطبيعة بمقتضاها، لتملك زمامها وتُسخِّرها لصالح الإنسان، وبهذا يُصبح للعلماء «قدرة» على إلجام الأشياء وتشكيلها على نحو ما يُريدون لها أن تكون؛ العلم «قوة» أين منها قوة الحديد والنار؟! كان الصوت البشري لا يبلُغ الأذان إلا بضعة أمتار، فجاءت قوة العلم لتجعله مسموعًا في شتَّى أرجاء الأرض، بل في كواكب السماء، وكانت العين لا ترى إلا ضوءًا يجيئها من مجال لا يُجاوز بضعة كيلومترات، فجاء العلم بقوَّته ليُمكن العين البشرية من أن تُبصر ضوءًا يبعد مصدره عنها بما مسافته أربعة عشر ألفًا من ملايين الوحدات التي تُسمَّى كل وحدة منها بالسنة الضوئية؛ أي ما يقطعه الضوء في سنة، وكانت … وكانت … ثم جاءت قوة العلم فصارت … وصارت …
العلم قُدرة على فعل ما لا يستطيع غير ذي عِلم أن يفعله في تسخير القوى الكونية لصالح الإنسان ثم تتلو هذه الدرجة درجة أدنى، يُمثلها مَن ليس في وُسْعه المبادأة بقوة العلم، فيأخذ تلك القوة نقلًا عمن كشف عنها، وهناك في أدنى درجات السُّلَّم تجد أولئك الذين ينقلون عن سواهم علمًا بمجموعة لفظية لا تُسخِّر صوتًا ولا ضوءًا ولا كهرباء، وتلك هي الحالة التي لخَّصتُها بقولي إنها جملة ينقصها الفعل؛ أي إنها معرفة لا تنفع في أن يفرض الإنسان سلطانه على الأشياء.
قال صاحبي، ولم تكن شفتاه هذه المرة مُنفرجتَين عن ابتسامة المُداعب، بل كانتا مزمومتَين زمَّة الجد، قال: ما زلتُ أسألك يا صديقي: ثم ماذا؟ إن في كلامك ما يفيد ويُقنع، ولكننا كنا نتحدَّث عن مشكلة التعليم في بلادنا، فماذا تريدنا أن نفعل لإنقاذ التعليم من مشكلته التي هي عجزه عن تخريج «المُتعلمين» فضلًا عن إضافته إلى المُتعلم «ثقافة»؟
أجبته قائلًا: إن حجر الزاوية فيما يُخرِج تعليمنا من مشكلته هو أن نُدرِّب المُتعلم في كل مراحل تعليمه وفي كل مادة يتعلَّمها وفي كل يومٍ وفي كل درس، أن نُعلمه كيف يبحث عما وراء الكلمات التي يسمعها من معلِّمه أو من أستاذه أو الكلمات التي يقرؤها في كراسته أو في مذاكرته أو في كتابه، أن يبحث وراء الكلمات أينما وقعَتْ له، عما وراءها مما جاءت تلك الكلمات لتُشير إليه، وأعني ألا يقِف عند الكلمات وكأنها محطة الوصول كما هي محطة القيام، فإذا قوِيَت عنده عادة أن يبحث وراء أي لفظٍ عن معناه شريطة أن يفهم المعنى على أنه حقيقة من حقائق الدنيا؛ جاءت الكلمات لتُشير إليها؛ أقول إنه إذا قويت عنده هذه العادة، اعتاد في الوقت نفسه إهمال ما ليس وراءه فعل، ولتكن المادة المدروسة ما تكون؛ فهي مطالبة بأن تُرشِد من يتعلَّمها إلى ما يفعله وكيف يفعله، في عالَم الأشياء حتى الدراسات التي قد نتوهَّم أول الأمر أنها «نظرية» — كما يسمُّونها — فهي في آخر الأمر لو أُحسِن تعليمها انتهت بصاحبها إلى «فعل» يُغير به وجه الدنيا إذا أراد واستطاع، فإذا هي لم تفعل كانت عبثًا في عبث، قد يُظن — مثلًا — أن موضوعًا كمبادئ الأخلاق وما يُقام عليها من تحليلات واستدلالات هو مسألة «نظرية» نقرأ عنها ثم نطوي الكتاب وكأن أمرًا لم يقع، ولا أمرًا يُراد له الوقوع؛ لكننا في ذلك لم نكن في حاجة لفيلسوف أخلاقي مثل أرسطو أن يُنبهنا منذ الصفحة الأولى من كتابه «الأخلاق» على أن الخلق الفاضل إنما هو سلوك يُدرَّب عليه الإنسان؛ حتى يُصبح عادة، وليس مجرد نظرية تُقال أو تُكتب، فالفضائل «عادات» يُربى عليها من يعتادونها؛ أي إنها فعل وليست كلامًا في كلام، وإذا أردتَ مثلًا آخر من دُنيا الأدب والفن؛ فاعلم أن قصيدة الشعر الجيدة إذا عرفتَ بعد تدريب كيف تقرؤها بحيث تحسُّ بنفسك وكأنما أنت في جلد الشاعر نفسه ترى بعينيه، وتسمع بأُذنيه، وينبض قلبك بما ينبض به قلبه؛ فعندئذٍ تُصبح، على الأقل في أثناء الفترة التي تقضيها مع الشاعر، تُصبح وكأنك إنسان آخر هو الشاعر، وبالطبع سترتدُّ إلى نفسك بعدَها، ولكن بعد أن تكون قد رسخت فيك لفتة وجدانية لم يكن لك بها عهد من قبل! وتتكرَّر اللفتات، ويُضاف بعضها إلى بعض، فإذا أنت غير ما كنتَ في رهافة الحس.
قلتُ لصاحبي: أظنُّني قد ذكرتُ لك ما قاله «هيوم» حين أراد أن يؤكد رأيه بأنه لا خير في كلامٍ إذا لم تكن فيه طبيعة المعرفة العلمية؛ إذ قال عبارته المأثورة: خذ كتب المكتبة كتابًا كتابًا واسأل مع كل كتابٍ منها: أهو يحتوي على شيءٍ من علوم الطبيعة؟ فإذا كان الجواب بالنفي، فاسأل: وهل هو يحتوي على شيءٍ من علوم الرياضة؟ فإذا كان الجواب بالنفي مرة أخرى فقل: إذن ألقِ به في النار.
لكنني، يا صديقي، لا أريد هذه الصيغة من القول، وأريد تعديلًا لها، يصلح أن يكون مفتاحًا لنظام تعليمي مُنتج، وهو هذا: خذ كل ما تسمعه أو تقرؤه في مجال الدرس، واسأل نفسك: هل هو مما ينتهي بالإنسان إلى «فعل» يرتقي به الإنسان؟! فإذا جاءك الجواب بالنفي، فصُمَّ عنه أذنَيك وأغمض عنه عينيك.