اللغة … هذا المخلوق العجيب! (١)
لقد جاوز الشيخ ثمانين عامًا من عمره، ومع ذلك فهو ما يزال يذكر في وضوح، كوضوح النهار المُشمس، ما يزال يذكر ذلك الطفل الذي بدأ به حياته هذه، التي طالت حتى شاخت، يذكره في سنِّ الرابعة، أو ربما جاوزت الرابعة بقليل، وهو يختلف كل صباح إلى كتَّاب الشيخ ربيع في قريته، إذ كان الطفل مع أُسرته، التي لم تكن قد غادرت بعد ريفها إلى المدينة، ولم يكن بين الدار والكتاب إلا بضع خطوات، فالحارة واحدة، تنفتح على النيل، ثم تنسدُّ بعد عددٍ من الأمتار يقع بين العشرين والثلاثين، وعند نهايتها التي تنسد عندها كانت الدار، وعند فتحتها على النيل كان الكتَّاب.
وفي الكتَّاب كان يتعلم أحرف الهجاء، وأعداد الحساب، وقبل ذلك، وفوق ذلك، وبعد ذلك؛ كان يحفظ بعض قصار السور من القرآن الكريم، وكان ما يحفظه من القرآن هو أوضح معالم الساعات التي كان الطفل يقضيها في الكتَّاب كل يوم، ولا عجب أن أرى شيخ الثمانين، إذا ما استعادت له الذاكرة حياته طفلًا؛ لا يكاد يذكر من خبرة الكتَّاب شيئًا مما كان يقرؤه أو يكتبه — على لوح الأردواز — من أحرف الهجاء وأعداد الحساب، وأما ما كان يحفظه ويعيده أمام الشيخ ربيع من آيات القرآن الكريم؛ فهو باقٍ في ذاكرته في وضوحٍ ناصع، وكيف ينسى وقع النغم القرآني في مِسمعيه وهو في تلك السن الصغيرة وقعًا يظلُّ مأخوذًا به، فيُردد الآيات ما بقي له من صحو النهار؟ ومن يُدريني الآن هل كانت تلك الفتنة بإيقاع النغم القرآني تختفي عنده في نعاسه أو كانت تواصل ظهورها في أحلامه؟ لم يكن — بالطبع — يفهم من معاني اللفظ الذي يُردِّده شيئًا؛ فلا الشيخ ربيع قال له كثيرًا أو قليلًا من تلك المعاني، ولا كان في قدرته أن يدرك هو شيئًا منها، لا، بل لا أظنه كان يدرك أن للآيات الكريمة التي كان لها في أذنيه ذلك الإيقاع الأخَّاذ معاني يعرفها أو لا يعرفها.
وكان من أوقع محفوظه يومئذٍ من القرآن الكريم تأثيرًا، ومن أكثره ترديدًا منغمًا، الآيات: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا … كان يصعد درج الدار، ثم يهبط الدرج، ثم يصعد، وعند كل درجة منها — صاعدًا أو هابطًا — يضغط على مقطع من تلك الآيات الكريمة، ويدبُّ بقدمه دبة قوية، وكأن تلك الضربات عنده كانت تفعل فعل الطبلة في المعزوفة الموسيقية، فكان التنغيم يجري معه في أثناء صعوده الدرج واحدة واحدة، هكذا: «والعاديات ﺿﺒ…ﺤﺎ فالموريات قد…ﺤﺎ فالمغيرات ﺻﺒ…ﺤﺎ» … إلخ.
وكبر الطفل وأصبح على عتبة الشباب، فشاء له الله أن يلتقي بعض أقرانه في المدرسة، ممن يتبارون في حفظ الشعر، ولستُ أعني المحفوظات المُقررة، بل سمع أقرانه هؤلاء يتبارَون فيما سمعهم يقولون إنه «المعلقات» … ما تلك «المعلقات» يا ترى؟ تساءل الفتى وسأل، حتى انتهى به الأمر إلى أن يحصل على «المعلقات» مشروحة، وشيخنا صاحب الثمانين لم يعُد يذكر جيدًا، أكانت المعلقات السبع كلها أم كان بعضها فقط هو الذي وقع عليه ليقرأ وليحفظ لعلَّه يتبارى مع الأقران ندًّا مع أنداد؟ ومرة أخرى فُتن الفتى بإيقاع اللفظ، دون أن يفهم مِن معناه إلا أقلَّ من القليل، رغم أنه قرأ الشروح في هوامش الكتاب.
وبلغ الشاب عامَه العشرين وما بعده، وأخذ يُتابع أعلام المفكرين والأدباء، في النصف الثاني من عشرينيات هذا القرن وما بعد ذلك، يُتابعهم مقالةً مقالة، وكتابًا كتابًا، وإن شيخنا صاحب الثمانين، ليذكُر شبابه ذاك، وكيف ظلَّ حريصًا أشدَّ الحرص على إيقاع النغم في كلمات الكاتب، يلتمسه أنَّى وجده، لكنه في تلك السن كان قد تنبَّه على أن إيقاع اللفظ المُقوَّم لم يعُد يكفي، بل لا بد له أن يحمل مضمونًا يتناسب وزنًا مع حلاوة الإيقاع، حتى لقد أخذ يُراجع محفوظه من القرآن الكريم عندما كان طفلًا مأخوذًا بنغم آيات كريمة لا يفهم لها معنًى ومحفوظه من «المعلقات» وهو على عتبة شبابه، أخذ يراجع ذلك كله باحثًا عن «المعنى» ليكتمل الكمال، ولقد دُهش دهشةً ارتجَّ لها فؤاده ارتجاجًا، عندما علم أن الآيات الكريمة التي أخذ يتغنى بها مأخوذًا بنغمها، ويقسمها تقسيمًا موسيقيًّا يصعد به درج الدار ويهبط: «والعاديات ضبحًا، فالموريات قدحًا …» أقول إن دهشته كانت شديدة، حين اطلع في نُضج شبابه على معناها، الذي هو تصوير معجز لهجمة الفرسان على العدو، آخِذًا له على غرة ساعة الفجر، فالجياد تضبح بأنفاسها الحَرَّى بعد طول الطريق، وحوافرها من شدة وقعها على حصباء الطريق تقدح منه الشرر، حتى إذا ما أغارت عند فلَق الصُّبح على مكمَن الأعداء، وأثارت نقع الغبار الذي غامت به السماء، كان فرسانها قد توسطوا جماعة الأعداء.
ومضى الشاب يطوي بساط حياته عامًا بعد عام، إذ هو يزداد مع الأعوام تحصيلًا وتدبرًا لما حصله، فهو لم يرد لنفسه قط أن يكون مجرد وعاء يمتلئ بما قاله فلان وما كتبه علان، ولا يزيد بعد ذلك على أن يُعيد على نفسه وعلى الناس ما قالوه وما كتبوه، وإنما أراد لنفسه أن يخرج بوجهة للنظر يبتدعها ابتداعًا، أو يتبناها وأن شيخ الثمانين ليظن — مُهتديًا بذاكرته — أن تلك الوجهة الخاصة للنظر، كانت قد بدت له في أفق الفكر كالشبح الذي ينتظر أن يأتيه الغذاء ليمتلئ ولتجري في عروقه الدماء كي تنشط أجهزته بنبض الحياة، على أن تلك الوجهة من النظر، التي اصطنعها الشاب لنفسه وهو في ثلاثينيات عمره، لم يتفجَّر بها الهواء كأنها الصاعقة انشقَّت لها السماء لتظهر فجأة، وكأنها منيرفا — إلهة الحكمة عند اليونان الأقدمين — قد خرجت من صدفتها كاملة التكوين، بل جاءت تلك الوجهة من النظر لصاحبنا الشاب، وكأنها الزهرة تولَّدت فوق غصنها، بعد أن استعدَّت لولادتها الشجرة في نموها البطيء على امتداد السنين.
أوتذكر ما حدثتُك به عن طفل الرابعة أو نحوها كيف أخذ إيقاع اللفظ القرآني بمِسمَعَيه أخذًا حتى ملأ عليه نفسه؟ ثم هل تذكر كيف كان الشاب الذي خرج من جوف ذلك الطفل منشغلًا بالمُعلقات السبع، يُكرر أبياتها مباهيًا أقرانه بما يحفظه منها؟ حتى إذا ما تدرَّجَت الأعوام بذلك الشاب الصغير، ليرتفع بتحصيله إلى درجة النضج، فأخذ يبحث فيما يقرؤه عن «المضمون الفكري» في تضاعيف اللفظ، دون أن يفقد اهتمامه لحظةً واحدة باللفظ وحُسن انتقائه وجمال تركيبه، حتى لقد كان ذلك عنده مقياسًا يقيس به الكاتبين في تفاوُت درجاتهم ارتفاعًا وانخفاضًا، فإذا كنت تذكر كل ذلك عن صاحبنا في مراحل عمره طفلًا وشابًّا، فلن يُدهشك — إذن — أن نقول عنه، حين انتقل به الشباب إلى مرحلة الرجولة، وحين تكوَّنت له رؤية خاصة في مرحلتها الشبحية الأولى، إنه جعل إدمان النظر في «اللغة» بمنزلة النخاع من الهيكل العظمي لتلك الرؤية، فإن أمر اللغة لمن يتدبَّرها لعجَب من عجب! إنها ليست «وسيلة» تنقل «الفكر» من إنسانٍ إلى إنسان في عصره، أو يجيء عبر الأجيال، بل هي هي الفكر ذاته، وليست هي عند الشاعر أو الكاتب الأديب بمنزلة «الأدوات» التي تتمُّ بها عملية التعبير، بل هي هي الشعر، وهي هي الأدب؛ لأنها هي مضمونها.
نعم، إن أمر اللغة لمن يتدبَّرها، عجب من عجب، فهل تعلم أن هذا الكون العظيم يستحيل على خيال البشر أن يُلم من عظمته إلا بمقدار خردلة؟ وإلا فكيف لخيالٍ بشري أن يتصوَّر هذا الذي يقوله رجال العلم حين يقولون إن في وسع المناظير الضخمة التي ابتدعها العِلم الآن أن تتلقَّى الضوء الذي انبعث من نجمٍ يبعد عن أرضنا بمسافة قدرُها أربعة عشر ألف مليون من السنين الضوئية؟!
تدبَّر — أيها القارئ — هذا القول ما وسعك التدبُّر؛ فالضوء ينساب بسرعة قدرها ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، فانظر كم يقطع من الكيلومترات في الدقيقة التي هي ستون ثانية، ثم كم يقطع في الساعة الواحدة التي هي ستون دقيقة، ثم كم يقطع في اليوم الواحد الذي هو أربع وعشرون ساعة، ثم كم في السنة؟ وما يقطعه الضوء من مسافة بتلك السرعة الهائلة خلال سنة كاملة، يسمُّونه بلغة العلم سنة ضوئية، فكم تكون المسافة التي يقطعها ضوء آتٍ إلى مناظير العِلم اليوم من نجمٍ يبعُد عنَّا أربعة عشر ألف مليون سنة ضوئية؟! أفي وسع الخيال البشري أن يتصوَّر تلك الأبعاد؟ ومع ذلك، فما تلك الأبعاد إلا جزء من كل، الله تعالى أعلم بمداه؛ لأن المسافة التي أشرْنا إليها في ذهول، إنما هي ما استطاعت مناظيرنا اليوم أن تلتقِطه، وستستطيع مناظير الغد أن تلتقط ما هو أبعد، إلا أن الكون سيظلُّ رغم ذلك أوسع وأعظم من أن نُحيط علمًا بأبعاده، وسيبقى علم ذلك عند خالق الكون سبحانه.
ولأُعد بك بعد هذه اللمحة الخاطفة عن عظمة الكون؛ لأعيد عليك سؤالي: هل تعلم أن هذا الكون العظيم يسوده صمتٌ لا صوت فيه؟ فللصوتِ في هذا الكون العظيم — في حدود علم الإنسان — مصدر واحد هو الكوكب الأرضي! لكن الأصوات المُنبعثة من هذا الكوكب، إنما هي صنيعة آذان الأحياء ذوات السمع؛ إذ الذي يطرق تلك الآذان إنما هو موجات من هواء صامت، وفي الآذان وأعصاب السمع يتحوَّل ذلك الهواء الصامت إلى «صوت»، ومع ذلك، فهذه الحقيقة — على غرابتها — تستدعي وراءها ما هو أغرب، وأعني به أن تلك الأصوات التي تنشأ عند الحيوان السامع، أو التي تنطق بها صنوف الحيوان، إنما هي — جميعًا — أخلاط مُتقطعة، أين هي من ضرب آخر من مركبات صوتية أخرى تقتصر على الإنسان وحدَه وهي المركبات التي نجمعها معًا لنُطلِق عليها اسم «اللغة»؟! فحين نطق أول ناطقٍ بشري «بكلمات» و«جُمَل» أرسلها لتتلقاها أذنان عند إنسانٍ آخر، كان ذلك الصوت الدال المفهوم الدلالة، هو الصوت الوحيد الذي شقَّ أجواز الكون الراقد في صمته الرهيب، فلم يعرف الكون من «الكلام» إلا كلام الله سبحانه وتعالى، أنزله على من اصطفاهم من أنبيائه ورسله، وإلا كلام البشر على هذا الكوكب الأرضي. وربما قال هنا قائل إن لبعض الحيوان لُغته الخاصة، كالنمل والطير، لكنني أستخدم لفظ «اللغة» أو لفظ «الكلام» ليدل على هذا الذي نراه مركبًا من كلمات رُكِّبت في جُمَل، يمكن أن تعرض على العقل فيستدل منها نتائج، أو تعرض على الوجدان فيستجيب الإنسان بما يستجيب به من مشاعر وسلوك.
تميز الإنسان عن سائر كائنات الدنيا بأنه «تكلم»، ثم استطاع على مرِّ الزمن أن «يكتب» ما يقوله كلامًا، حتى لقد كانت قدرته على «الكلام» هي نفسها التعريف الذي يُحدد طبيعة الإنسان دون سائر الأحياء، ولكن عَمَّ يتكلم؟ إن كلامه هذا إنما هو مجموعات صوتية، مقطعة حينًا، موصولة حينًا، ولمَّا عرف كيف يرقم تلك الأصوات كتابة، لم تكن هذه الكتابة في واقعها المادي إلا حفرًا بالإزميل على الحجر حينًا، وسكبًا لخيوط من المداد على ورق حينًا آخر، وهكذا أخذت تختلف معه المواد التي يرقم عليها كتابته، كما أخذت تختلف معه المواد التي يستخدمها في ذلك الترقيم، على أن الذي يجب ألا تفلت منا ملاحظته، هو أن اللغة في كلتا الحالتَين: منطوقة في مجموعات صوتية مسموعة، أو مرقومة بنوع من المادة على نوعٍ آخر من المادة، أقول إنها في كلتا الحالتَين أشياء تُرى بالعين أو تُسمَع بالأذن، شأنها في ذلك شأن سائر الأشياء في هذه الدنيا كالأشجار والقطط والعصافير، لكنَّنا ما إن نسمع وصفًا للغة كهذا الوصف الذي يجعلها مجرد مجموعات «أشياء» حتى نفزع، تفزع أنت كما أفزع أنا، قائلين: لا، مُحال أن تتحوَّل حقيقة اللغة حتى لا يُصبح ثَمة فرق يميزها من أكوام الرمل والحجارة، وإذا كان ذلك هو شأنها، ففِيمَ جعلناها تعريفًا للإنسان، يعلو به على سائر كائنات العالمين؟! أكان كل امتياز الإنسان حين اخترق بصوته الناطق باللغة صمتَ الكون هو أنه أصدر بحنجرته لغلغات من الصوت التي يلغو بها الرضيع أم كانت كل ثقافاته المدونة بضروب الكتابة المختلفة مجرد تشكيلات من خيوط الحبر سكبتها أقلام على أوراق؟
لا، إن العقل لينفر من قولٍ كهذا؛ لأنه لو صدق وصفًا للغة، لانتفى وجود العقل نفسه، لكن ماذا نقول وذلك الوصف حقيقة تشهد بها الأذن فيما تسمع كما تشهد بها العين فيما ترى؟ وهل تسمع الأذن حين تُنصت إلى كلمات ينطق بها مُتكلم إلا صوتًا؟ وهل ترى العين على الصحائف المقروءة إلا تشكيلات من خيوط المداد؟ إلا أننا — أنت وأنا — إذا ما سُئلنا أسئلة كهذه، أسرعنا بالرد قائلين: نعم لكن تلك الأصوات المنطوقة، وتلك التشكيلات المرقومة على صفحة الكتاب، إن هي إلا «رموز» أردْنا بها أن نرمز إلى وقائع وأشياء وحالات وكائنات، بحيث يكون هذا كله هو «معنى» تلك الرموز الصوتية المنطوقة، أو الرموز المرقومة على الورق وغير الورق. فإذا بلغنا بالحديث هذا الحد، كنا قد بلغنا صميم الصميم من حقيقة الإنسان؛ إذ الإنسان في أدقِّ تعريف أتصوَّره له، هو أنه الحيوان الرامز، فهو حين نطق بالكلمات فشقَّ بصوته صمت الوجود الأبكم، كان قد عرف كيف يُنيب عن حقائق ذلك الوجود أصواتًا تدل عليها وتُغني عن شهودها، وبهذه الوثبة الجبارة فك عن نفسه قيود المكان المُعين والزمان المُعين، فإذا أراد الحديث عن الشمس — مثلًا — لم تعُد به حاجة إلى أن ينتظر شروقها؛ إذ يستطيع أن يتحدَّث عنها وهي غاربة، مُستعيضًا عنها باسمها، وإذا أراد أن يتحدَّث عن البحر وهو في قلب اليابس، لم تكن به حاجة إلى الانتقال من مكانه إلى حيث البحر؛ فاسم البحر يغني عنه في كلامه مع الآخرين.
لكن العقل اليقظان قلَّما يترك نفسه ليستريح؛ فهو أبدًا يثير المشكلات ويطرح الأسئلة، وهو أبدًا يحاول أن يجد الحلول لمشكلاته، والأجوبة عن أسئلته، فإذا رأيناه في هذا الموضوع الذي نحن الآن بصدد التحدُّث عنه — وهو اللغة وحقائقها وأسرارها — إذا رأيناه قد انتهى إلى موقفٍ يستريح له، وهو أن اللغة التي كَرَّمَ الله تعالى بها الإنسان ليست مقصورة على أصوات أي أصوات، وترقيمات أي ترقيمات، بل يُشترط فيها أن تكون تلك الأصوات والترقيمات رامزة إلى «حقائق» حتى لو لم تكن تلك الحقائق مرئية في ساعتها للعين، ولا هي مسموعة بالأذن، أقول إن العقل ما يكاد يبلغ هذا الحد الذي يُرضيه، حتي يُثير سؤالًا، هو: وما طبيعة العلاقة — يا ترى — التي تصل الرمز اللغوي بما يرمز إليه من حقائق الوجود؟
وقبل أن نُجيب عن هذا السؤال، يحسن بنا أن نلقي بين يدي القارئ بمشكلةٍ لها صِلة بهذا السؤال المطروح؛ إذ قد تكون هذه المشكلة الاعتراضية تمهيدًا مفيدًا يُعين على دقَّة الفهم، عندما نأتي إلى السؤال الأهم الذي طرحه العقل على نفسه، عن العلاقة بين اللغة التي يتداولها الناس كلامًا وكتابةً، وبين الحقائق التي جاءت تلك اللغة لتُشير إليها، وأما المشكلة الاعتراضية التي أشرت إليها؛ فقد تبدو لك غريبة للوهلة الأولى، لكنك لا تلبث أن ترى جديتها وأهميتها، وهي هذه: ترى هل جاءت اللغة في مفرداتها وفي طرائق تركيبها متجانسة في طبيعتها مع الحقائق الموضوعية التي جاءت تلك اللغة لتتحدث عنها أو أن اللغة — مفردات وطرائق تركيب — مجرد اصطلاح اتفق عليه الناس فيما بينهم وكان يمكنهم أن يتفقوا على سواها؟ إنني أعلم أن أي قارئ لهذا السؤال سيردُّ من فوره متعجبًا كيف ألقاه من ألقاه، والأمر واضح بأن الأمر كله مرهون بالاتفاق الصرف بين أصحاب اللغة المُعينة على مفرداتها وطرائق تركيبها، وكان ذلك — على الأقل — عند أصحابها الأولين، ثم جاء الخلَف فسار على درب السلف، ويكفي أن نعلم بأن اللغات تختلف باختلاف الشعوب والأمم، فللشجرة — مثلًا — اسمها عند العربي، واسمها عند الإنجليزي واسمها عند الصيني، وهكذا وكلها أسماء اختلف فيها الصوت عند النطق، كما اختلف فيها الترقيم عند الكتابة؛ ما يدل على أن كل مجموعةٍ من الناس كان لها اتفاقها الخاص، وإلا فلو كان في طبيعة اللفظة اللغوية ما هو مُشابه ومتجانس مع الشيء الخارجي الذي جاءت تلك اللفظة اللغوية لتُشير إليه؛ لاقتضى ذلك أن يجيء اسم «الشجرة» واحدًا عند جميع الشعوب.
ذلك هو الظن عند الوهلة الأولى، وهو عند كاتب هذه السطور ظن صحيح عند الوهلة الأولى وعند الوهلة الأخيرة على السواء، إلا أن المسألة رغم ذلك أعقد من أن تتسرَّع برأي فيها، وحسبنا أن نُذكِّر القارئ المسلم على وجه الخصوص، أن الله سبحانه «علَّم آدم الأسماء كلها» وإذا كانت «الأسماء» هنا إشارة إلى اللغة كلها، بما فيها من طرائق تركيب تلك الأسماء في جمل «وليلحظ القارئ أن التفكير يبدأ عندما تتركَّب الأسماء في جُمل»؛ فإن اللغة عندئذٍ لا تكون اتفاقًا بين الناس كما يشاءون، فإذا رأى راءٍ منا أن اللغة اتفاق بشري ولذلك هي تختلف عدة لُغات بين مختلف الشعوب؛ فيلزم أن يفهم ذلك الرائي قول القرآن الكريم بأن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها، على أنه يعني تعليمه طريقة إيجاد اللغة واستخدامها، ولقد شُغل المفكرون من أسلافنا العرب بهذه المسألة، وكان الرأي عند الكثرة الغالبة منهم أن اللغة «توقيف» (هذه هي الكلمة التي استعملوها) بمعنى أنها مُوحى بها من عند الله، على أن أقليةً منهم قد رأت الرأي الآخر، الذي يرى اللغة اتفاقًا اصطلح عليه أصحابها، ومن أبرز هؤلاء «ابن جني».
وقبل العرب طُرحت المشكلة بين فلاسفة اليونان، وخَصَّص لها أفلاطون محاورة بأسرِها، هي محاورة أقراطيلوس (وأشار إليها في محاورات أخرى)، وقد ترجم العرب هذه المحاورة فيما ترجموه من الفلسفة اليونانية، وكانت وجهة النظر التي طرحها أفلاطون في تلك المحاورة هي أن اللغة قد اشتُقت من حقائق الأشياء، وقد حرص أفلاطون على أن يورِد وجهة النظر الأخرى على لسان «هرموجنيس» الذي كان يُحاور «إقراطيلوس»، وكانت الحجَّة القوية التي عرضها إقراطيلوس ليدلَّ بها على أن اللغة ليست مجرد اتفاقٍ حُر بين الناس، قوله بأنها لو كانت مجرد اتفاق؛ لجاز للناس أن يُغيروا من اتفاقهم مرة بعد مرةٍ هكذا بغير ضابط، وأن يُغيروا فيما يُغيرونه، ليس المفردات فقط، بل أيضًا قواعد تركيبها، وبالتالي تفقد اللغة وجودها من حيث هي حقيقة تدوم كأي حقيقةٍ أخرى تُبنى على العقل، الحق أنَّ ما يُقال عن مشكلة اللغة: أهي تتغيَّر بتغيُّر الأمزجة عند الأجيال المُتعاقبة أم هي حقيقة تستند إلى طبائع الأشياء الثابتة؟ يُقال عن شتَّى ميادين الفكر المُتصل بحياة الإنسان، فمثلًا، خُذ مجال الأخلاق: أنترُكها لما يتَّفق عليه الناس حتى لو تغير جيلًا بعد جيل أم لا بدَّ لها من مبادئ ثابتة تدوم عبر الأجيال؟ أو خُذ نظام الأسرة: أنتركه للاتفاق العارض أم نُقيمه على أُسس ثابتة؟ وهكذا، فإذا قُلنا في هذه المجالات إنها لا بد أن تُقام على أصولٍ قوية وثابتة؛ وجَب أن نقول الرأي نفسه بالنسبة إلى اللغة، لكي نضمن رسوخها على قوائم ثابتة ودائمة من قوانين وقواعد تنضبط بها صياغة المفردات وطرائق تركيب تلك المفردات في جمل، وهذا معناه أن اللغة ليست مجرد اتفاقٍ بين أصحابها تتغيَّر مع تغيُّر الزمن والظروف، ولعل الموقف الأصوب — في رأي كاتب هذه السطور — أن نترك مفردات اللغة لتتغيَّر تغيرًا بطيئًا مع اختلاف الأوضاع الحضارية، وأن يكون الثبات والدوام مقصورَين على طرائق التركيب، ما الذي تُجيزه قواعد اللغة وقوانينها، وما الذي لا تُجيزه، دون أن يكون للناس رأي في ذلك، فمثلًا، تقضي قاعدة اللغة العربية أن الجملة المُركبة التي يبدأ مُقدمها بكلمة «كلما» ألا تتكرَّر هذه الكلمة في تاليها، فتقول: «كلما ازداد عدد السكان مع ثبات الموارد؛ انخفض مستوى المعيشة.» ولا نقول: «كلما ازداد عدد السكَّان مع ثبات الموارد؛ كلما انخفض مستوى المعيشة»؛ فها هنا تكون المسألة مسألة تتعلَّق «بالصورة» التي يجري عليها البيان، بغض النظر عن طبيعة المفردات الواردة في تلك الصورة، هل أصابها تغيُّر في معناها وفي طريقة استعمالها أو بقِيَت على حالها منذ عُرفت في أول مراحل تاريخها؟ وخُذ هذا المثل الآتي على سبيل الجد والفكاهة معًا: كانت عربات السكة الحديدية في مصر تحمل على ظاهرها هذه العبارة: «سكة حديد الحكومة المصرية» وتحمل إلى جوارها العبارة الإنجليزية الدالة على المعنى نفسه، لكننا إذا تعقَّبنا ترتيب الكلمات في العبارتَين؛ وجدناها في الإنجليزية تجري هكذا: مصرية حكومة حديد سكة، وهكذا اختلفت اللغتان في «الصورة» رغم اتفاقهما في المفردات؛ ما يبين أن روح اللغة إنما تكون في طرائق التركيب، لا في المفردات من حيث هي كذلك.
كنا قد طرحنا على أنفسنا سؤالًا عن العلاقة التي تصل رموز اللغة بما ترمز إليه، ثم تركناه معلقًا لنستطرد في توضيح مشكلة أخرى رأيناها ضرورية للتمهيد الذي يجب أن يسبق الإجابة عن ذلك السؤال، وكان التمهيد — كما رأيت — خاصًّا بمنشأ اللغة: فهل فُرضت على الإنسان من خارجه أو كان هو الذي اصطلحها لنفسه؟ ثم ما مدى وجوب الثبات في اللغة؟ وإلى أي حد يجوز للأجيال المتعاقبة أن تغير فيها؟ وها نحن أولاء نعود إلى سؤالنا الأول، وله — عندنا — أهمية قصوى، والسؤال هو: إلى أي شيءٍ ترمز اللغة؟ بعبارةٍ أخرى: إذا أردتَ أن تعرف عن مادة تقرؤها، أو عن كلام تسمعه، أنه ذو «معنى»؟ ولو كان الناس لا يتكلَّمون ولا يكتبون إلا لفظًا دالًّا على معنى؛ لمَّا كان هنالك إشكال، لكنهم لا يفعلون ذلك في كثير جدًّا مما يقولونه أو يكتبونه؛ ما يوجب علينا أن نضع الضوابط الضرورية التي تجعل للغة معنًى يُراد له أن ينتقل إلى من يتلقى تلك اللغة سمعًا بأُذنَيه أو قراءة بعينَيه، على أن رموز اللغة في الحالة الأولى تكون موجات من هواء، وتكون في الحالة الثانية ترقيمات بمادة مُعينة كالحبر أو غيره، على مادة مُعينة أخرى كالورق أو غيره، والجواب في إيجاز، هو أن علاقة الرمز اللغوي بما يرمُز إليه تجيء في مجال التفكير العلمي على صورة، وفي مجال الأدب — شعرًا ونثرًا — على صورة ثانية، وأما في أحاديث الناس الجارية، أو كتاباتهم غير المُتخصِّصة؛ فالصورتان تتداخلان بحيث يصعب التحليل إلا على من يُمعن النظر في أناةٍ وصبر، وفي حديثنا التالي تفصيل لهذا الإيجاز.