اللغة … هذا المخلوق العجيب! (٢)
صنع الإنسان كلماته ليكون سيدها، فلم تلبث أن أمسكت هي بزمامه، حتى صار لها تابعًا! فلقد أنشأت كل جماعة من الناس لُغتها لتكون وسيلة وصل بين أفرادها، لكن تلك اللغة التي هي صنيعة الناس، سرعان ما جعلت لهم من نفسها سجنًا هيهات أن يفلت من جدرانه وقضبانه إلا قلة قليلة شاء لهم ربهم أن يكون لهم هم السلطان على اللغة التي أبدعوها، فإذا سألت عن أحد من عامة الناس: ما حدود علمه؟ وجب أن يكون الجواب: إن حدود علمه هي نفسها حدود كلماته، وأما إذا سألت عن أحد من تلك القلة القليلة التي أنعم الله عليها بمواهب الإبداع — في العلم أو في الأدب شعرًا ونثرًا — ما حدود علمه؟
كان الجواب هو: أنه هو الذي يضع لنفسه الحدود؛ لأنه إذا لم تسعفه اللغة القائمة بأدوات التعبير عما يريده، أضاف إليها من عنده جديدًا يخدم به أغراض نفسه، فتسير بقية الناس بعد ذلك على دربه.
هذه اللغة العجيبة تحمل في جوفها كل ضروب الصيد، ينطق بها الناطق لتكون نارًا تشوي الأنفس والأجساد، فإذًا هي النار التي أراد لها أن تكون، أو ينطق بها لتكون نورًا يهدي إلى سواء السبيل، فإذًا هي النور الذي ابتغى لها أن تكون. إن كلمات ينطق بها إنسان قد تجعل منه وليًّا من أولياء الله الصالحين، وكلمات أخرى ينطق بها إنسان آخر قد تجعل منه زنديقًا فاسقًا! إن كلماتنا كالبذور نبذرها لتنبت كل كلمة منها نباتًا من جنس ما قد انطوت عليه في جوفها: فشهدًا بشهد، وحنظلًا بحنظل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، وانظر أيها القارئ إلى قول الله تعالى في هذه الآية الكريمة: أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ لتعلم أن طيب الكلام هو الذي يخدم حياة الناس هنا على هذه الأرض وفي هذه الدنيا، وذلك هو «الأصل الثابت»، ثم ينفع صاحبه عند إقامة الميزان يوم الحساب، وذلك هو الفرع الذي في السماء. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، وأريد للقارئ مرة أخرى أن يقف طويلًا عند قوله تعالى: اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ؛ ليعلم القارئ أن ما ليس له جذور في حياة الناس هنا على هذه الأرض وفي هذه الدنيا، لن يكون له أثر في الميزان.
إنك لترى أبناء الشعب الواحد مُتفرقين أفرادًا، تفصل بينهم فواصل المكان وفواصل الزمان؛ فهذا الفرد هنا وذلك الفرد هناك، وفرد كان بالأمس وفرد كائن اليوم؛ فتسأل: أين الروابط التي جعلت من هؤلاء الأفراد — على تفرُّقهم — شعبًا واحدًا؟ والجواب هو: اللغة قبل أي شيء آخر؛ فاعجب لخيوط من هواء تشدُّ الناس بعضًا إلى بعض، فإذا هي بينهم كروابط الفولاذ! إن هذه الكلمات التي تصل ناطقًا بسامع، أو تصل كاتبًا بقارئ، ما هي في حقيقة أمرها إلا نفوس طارت من أعشاشها لتبلغ غاياتها، إنها كالحمام الزاجل يعرف إلى أين يطير؛ وذلك لأن كلماتك — منطوقة أو مكتوبة — هي نفسك انطلقت من محبسها بين الضلوع؛ نعم فآلة التصوير تقدم قسماتك في بُعدَين، في حين أنها في حقيقتها ذات ثلاثة أبعاد! وأما كلماتك — علمتَ أو لم تعلم — فهي صورة نفسك بكل أبعادها.
إننا إذ نقول هذا عن اللغة في قُدرتها على إخراج ما استُتر من خفايا النفوس، لتَعبُر بها عبورًا من السر إلى العلن؛ فإنما نغض النظر مؤقتًا — عامِدين — عن لُغة العلم، التي إذا ما بلغت ذُروتها من الدقة؛ أفرغت نفسها إفراغًا تامًّا من كل ما هو ذو شأنٍ بالنفوس وما تُخفيه، حتى ليُصبح محالًا على الفاحص أن يستشفَّ شخصية العالَم من رموزه العلمية، وإن شئتَ فانظر إلى صفحات من كتابٍ في الرياضة، أو في الكيمياء، أو في أي فرع من فروع الفيزياء، وحاول أن تستنتج من رموزه شيئًا عن ملامح الشخصية عند العالِم صاحب الكتاب: أهو مُنقبض النفس أم هو في حالةٍ من المرح والتفاؤل؟ أهو ذو سخاء وعطاء أم هو قابض يدَه إلى عنقه؟ لكن الحديث عن لُغة العلم وضبطها أمر قد نتناوله في موضعٍ آخر من هذا الحديث.
أما الآن فأنظارنا مُوجهة إلى اللغة «المُعبرة» وقدرتها العجيبة التي قد لا يتنبه عليها إلا من تعمَّد الوقوف عندها مُتأمِّلًا، وإنه ليبدو لي الآن أن الإنسان حين عرَّفوه (بتشديد الراء) بأنه الناطق، تمييزًا له من الحيوان الأبكم، الذي هو حتى إذا صرخ صرخاته المسموعة، أو حتى إذا غرد تغريدًا تطرَب له آذاننا، كما يفعل الكروان والبلبل؛ فهو يظل إلى البَكَم أقرب منه إلى حالة الإفصاح، لأن المُعول في التفرقة ليس الصوت مجرد الصوت، وإنما هو أن يجيء الصوت «معبرًا» عما هو كامن في طوايا النفوس، أقول إنه ليبدو لي الآن أنهم حين عرَّفوا الإنسان بأنه الحيوان «الناطق» كان المقصود بالنطق قوة «التعبير» بالإضافة إلى غيره من الصفات كالتفكير، أو ما شئت؛ وأرجو من القارئ أن يلتفت إلى معنى «العبور» المُضمر في كلمة «تعبير»؛ فلقد أصبح الإنسان إنسانًا بلُغته التي اصطنعها ليجعل منها وسيلة «عبور» ينتقل بها مكنون نفسه إلى الآخرين، وإلا فلو أن كلَّ فردٍ إنساني قد لبث مُغلقًا على سره، بحيث يُصبح أفراد الناس كالجُزر الصمَّاء في المحيط العظيم، كل جزيرة منها استقلَّت عن الأخريات، أقول لو أن مثل هذه العزلة المُوحشة كانت هي قدَر الإنسان، ثم أُضيفت عزلته تلك إلى الصمت الرهيب الذي يلفُّ في عبوسه جسم الكون الهائل الذي يحيط به؛ إذن لأصبحت حياة الإنسان مساويةً لموته، أما الذي أجرى فيه الحياة مع غيره فهو لُغته «المعبرة».
فنحن — إذن — إنما نُوجه اهتمامنا الآن إلى اللغة وهي أداة «تعبير»، مُرجئين الحديث عن لغة العلم التي يُراد لها — عمدًا — أن تُشير ولا تُعبِّر؛ فنقول إن أفراد الناس يتفاوتون تفاوتًا شديدًا في قدراتهم على أن تجيء كلماتهم مجنحة لتستطيع بأجنحتها تلك أن تطير مرتَين: إحداهما وهي تطير حاملة مكنون النفس من مخبئه ليظهر إلى الناس، والثانية إذ هي تطير عبر المكان البعيد، وعبر الزمان المديد، لتبلغ مسامع الناس في أوانها وفيما يلي أوانها من عصور تتوالى إلى ما يشاء لها الله أن تتوالى. أقول إن أفراد الناس، رغم اشتراكهم في لغة واحدة، فهم يتفاوتون في القدرة على أن تجيء عبارتهم «ناطقة» حقًّا، «معبرة» حقًّا، مُفصحة حقًّا عن حقيقة «الإنسان» كما هو متمثل في الفرد المتكلم. إن كلمات الأفراد قد تتشابه ظاهرًا كما يتشابه الطير، ولكن تفاوتها البعيد بعد ذلك يظهر عند الطيران، فكما أن في عالم الطير نسورًا وعقبانًا تشق الفضاء كأنها الرماح أطلقتها أيدي الفرسان، وبغاثًا من الطير لا يكاد يعلو عن سطح الأرض، مُكتفيًا لِقُوتِه بفتات ذابل تناثر هنا وهناك؛ فكذلك في الناطقين باللغة الواحدة من تضمن كلماته بقاء الخلود، ومنهم من تفنى كلماتهم على شفاههم قبل أن يموج بها الهواء.
وموضع العجب الذي لا ينقضي، هو أن كلمات اللغة، وطرائق تركيب تلك الكلمات في جُمَل، بعد أن صاغتها جماعات الناس، ليُستعان بها في الإشارة إلى الأشياء التي قد يدور عنها حديث بين مُتكلم ومُخاطَب، أخذت تلك الكلمات نفسها — على امتداد تاريخها — تُعبَّأ بمضمونات تمسُّ مشاعر الإنسان، حتى لقد تضاءلت قيمة الوظيفة الإشارية منها، وارتفعت قيمة ما قد أُضيف إليها من مشاعر الإنسان بما كابد وما عانى، وعندئذٍ أصبحت أداة صالحة «للشعر»، كما أصبحت قادرة، بأجنحتها المكتسبة، على الطيران عبر المكان وعبر الزمان، على النحو الذي ذكرناه. وإذا كنتُ قد استخدمت كلمة «الشعر» هنا، مشيرًا بها إلى اللغة التي اكتسبتها خبرات الحياة أجنحة تُمكنها من العبور والطيران، فإنما قصدت بكلمة «الشعر» كل عبارة تجاوزت وظيفة اللغة الأولى والأساسية، وهي «الإشارة» إلى مُسميات في دُنيا الأشياء، وهي نفسها الوظيفة التي يقف عندها، ويكتفي بها «العلم»؛ فالعلم يقول الكلمة المُعيَّنة ليشير بها إلى شيء مُعين، ويرفض أن يُزاد عليها معنى أو ينقص منها معنى؛ حتى يضمن لها دقة الأداء. وأما «الشعر» (بالمعنى الواسع لهذه الكلمة) فيكاد يُسقط من حسابه الجانب الإشاري من الكلمات، ليطير بمضمونها الشعوري المضاف إلى حيث تستطيع موهبته أن يطير؛ ومن هنا كان الشعر في لغةٍ ما، هو زهرتها، أو قُل هو موضع العبقرية فيها.
ولكي أوضح ما أعنيه؛ افرض أنك وجدتَ في غرفة مجموعة الأشياء الآتية: سيف، ورمح، وورقة، وقلم، وسُئلت: هل تعرف أسماء هذه الأشياء؟ فإنك لا شكَّ مُجيب: نعم، إني أعرف أسماءها فهذا سيف وهذا رمح، وهذه ورقة، وقد يُسمُّونها كذلك «قرطاسًا»، وهذا قلم، لكن سائلك ربما مضى معك في الحديث، وأخذ يسأل: وهل تعرف ما تُسمِّيه «خيلًا»؟ وتقول أنت: نعم، أعرف الخيل، وهكذا يسألك عن مُسمَّيات «الليل» و«البيداء» وهكذا أيضًا يجيء جوابك بأنك تعرف معانيها جميعًا، فإلى هنا لا يكون سائلك ولا تكون أنت قد جاوزتما الوظيفة «الإشارية» للكلمات؛ فأنتما تعرفان لكل كلمة من الكلمات المعروضة مُسمَّاها، وتلك هي اللغة في أولها وأساسها، لكن اقرأ بعد ذلك قول المتنبي:
اقرأ هذا البيت، وكلماته هي نفسها الكلمات التي عرفت مُسمياتها في دنيا الأشياء أُضيف إليها كلمة واحدة، هي «تعرفني»، وبهذه الإضافة اليسيرة، تنتقل معرفتك بقائمة الأسماء المذكورة إلى فلك آخر من أفلاك السماء؛ فلم يعد يُراد بالخيل أن يكون خيلًا، ولا بالليل أن يكون ليلًا … إلى آخر الأسماء الواردة في القائمة المذكورة، بل تحوَّلت كل هذه الأشياء من حالة كونها جمادًا لا يعقل ولا يشعر ولا يعرف، إلى حالة كونها كائناتٍ عاقلة شاعرة عارفة، تستطيع أن تُميز إنسانًا يجيد استخدامها من إنسان يجهل طبائعها، وانظر إلى دخيلة نفسك عندئذٍ؛ تجدها لم تعد تُعنَى بتلك الأشياء في ذاتها، بل انتقل انتباهها إلى «الرجل» الذي ملك بقدراته زمام تلك الأشياء جميعًا. تأمل نفسك جيدًا؛ تجدها قد ارتفعت عن دنيا «الأشياء» وأسمائها، إلى عالَمٍ آخر، هو عالم «القيم» التي تميز الإنسان من سائر الكائنات، ثم تعود فتُميز إنسانًا من إنسان، وهي — هنا — قيم الشجاعة، والمغامرة، والفروسية والشعور المُرهف، وفوقها جميعًا قيمة القدرة على «التعبير» عن هذا كله. ومن أجل تلك القدرة السامية، وهي نفسها التي تَميز بها المتنبي شاعرًا؛ عرفه القرطاس وعرفه القلم، فإذا أمسك بقلمه عرف القلم أن قد أمسكَتْ به أصابع شاعر، وإذا جرى القلم على القرطاس عرف القرطاس أنه في ذمة من يعرف كيف يكتب اللفظ الشريف، وهكذا ترى أن اللغة لم تعُد وظيفتها أن «تشير» إلى مُسميات، بل انتقلت إلى فلكٍ أسمى هو فلك الخبرة الإنسانية بكل ما تُكابده وتُعانيه، وهي نفسها الخبرة التي تجمع في العمل الأدبي الواحد وظيفتَين قد تبدوان وكأنهما نقيضتان، وهما: أن يكون في العمل الأدبي خصوصية صاحبه الفرد المفرد الفريد، وأن يكون فيه في الوقت نفسه إنسانية الإنسان أينما كان وأنى كان.
والكاتب كالشاعر، لا يستحق نعته كاتبًا، كما لا يستحق الشاعر نعته شاعرًا، إلا إذا جاءت الكلمات على قلمه «تعبيرًا»؛ وأظننا قد عرفنا الآن أن صميم التعبير هو «العبور» بالسر الإنساني من الخفاء إلى العلن، ولقد كثر الخلط بيننا اليوم؛ فلم نعد نُفرق بين العبارة يجري بها قلم «الكاتب»، أو بيت للشعر ينبض به قلم الشاعر، وبين ما يرويه ناقل الخبر، أو ما يعترك به المدافع عن سياسة ضد سياسة، أو من يبين لنا كيف نُحوِّل الجنيه إلى دولار .. كل هذه أمور تقع في صميم حياتنا، وإذا لم يكتب عنها خالد، فلا بدَّ أن يتولاها بالكتابة عمرو؛ هذا صحيح، لكنها عندئذٍ تكون كتابة فيها وظيفة «الإشارة» إلى الأشياء والمواقف، تزول بزوالها وتبقى ببقائها، أما أدب الكاتب وشعر الشاعر فشيء آخر يريد أن يكون في الموسيقى الكونية قيثارة، يريد أن يغوص في خصوصية ذاته ليخرج منها الاسم ومُسمَّاه، ليبلغ بها ذلك العالَم الكامن وراء الأشياء، من إرادة تريد، وعقل يدبر، وقلب يتعاطف ويرحم.
لكن عصرنا — أقول لك الحق — قد اختار أن يُضيف إلى كل حسناته من علم ومغامرة؛ سيئة أخشى أن تذهب حسناته، وأعني بالسيئة ذلك الطوفان من الكلمات التي تهدر بها المطابع، تهدر بها وتصرخ بها وسائل الصوت والصورة، تهدر بها وتصرخ بها، حاملة للناس ما يرتفع بأقدارهم مرة، وما يهبط بتلك الأقدار ألف ألف مرة، وربما كان من أجل هذا الصخب الفارغ، قال «كافكا» يومًا ضاقت فيه نفسه: إنني أكثر احترامًا لنفسي صامتًا مني مُتكلمًا.
ولكن ماذا عن «العلم» ولُغته أنت يا أيها الداعي إلى العلم في صبحك ومسائك؟ نعم، فلننتقل الآن إلى العلم ولُغته، بعد أن قُلنا ما قُلناه عن شعر «الشاعر» وكتابة «الكاتب»، وقبل أن أنتقل بك إلى تحديد الفارق الأساسي بين المجالَين، أريد أن أُجنبك خلطًا قد تقع فيه، بين ما هو «علم» وما هو «لغو» لا يعني شيئًا، ولا ينفع الإنسان في شيء؛ فلا هو من قبيل الشعر والأدب من حيث أنسنة الإنسان، ولا هو علم من حيث الإحاطة بالقوانين التي تجري عليها ظواهر الكون ليستطيع الإنسان أن يلجم تلك الظواهر ليسير بها حيث يشاء؛ فطوفان الكلمات التي أشرتُ لك إليه منذ بضعة أسطر مُعظمه لغو فارغ، وأقلُّه «علم» و«أدب» و«شعر»، فبماذا تتميَّز الصيغة اللفظية عندما يحقُّ لنا أن نُدرجها في زمرة الحقائق العلمية؟
الفرق بعيد بين اللغة العلمية من جهة، ولغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية من جهةٍ أخرى؛ وأول فرق أُشير إليه، لنفرغ منه فروعه المهمة، هو أنه بينما اللغتان الأخيرتان، وأعني لغة الشعر والأدب ولغة الحياة الجارية، تستخدمان اللفظ بجانِبَيه: الإشاري والتعبيري؛ أي إنهما إذ تراعيان — بالطبع — أن يجيء الكلام مُشيرًا إلى الجانب المقصود من جوانب الواقع، وذلك حين يكون الحديث حديثًا عن واقع مُعين؛ فهما كذلك يستعملان اللفظ بشحنته الشعورية التي يكون ذلك اللفظ قد اكتسبها بالاستعمال على امتداد الزمن. وإن هاتَين اللغتَين: لغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية؛ لتتفاوت عند الناس درجات القوة أو الضعف فيهما بمقدار ما يَحملانه من تلك الشحنة الشعورية التي أشرْنا إليها. وأما اللغة العلمية، ولا سيما في العلوم التي تقدَّمت من حيث الدقة، كالفيزياء والكيمياء؛ فالمثل الأعلى عندها هو أن يتجرد الرمز العلمي من كل أثر للشحنة الشعورية، حتى ليفضل رجال العلوم أن يصطنعوا رموزًا يجعلونها لُغة لهم في المجال العلمي؛ لتجيء تلك الرموز خاليةً من آثار الاستعمال اليومي في حياة الناس الجارية، وإذا هم لم يستطيعوا ذلك — كما هي الحال غالبًا في العلوم الإنسانية، كعلوم الاقتصاد، والاجتماع، والنفس — فلا أقلَّ من تعريف الألفاظ الأساسية الواردة في غضون العلم المُعين، تعريفًا يُحدِّد المراد منه تحديدًا دقيقًا؛ والغاية من ذلك التحديد هي أن يخلو اللفظ مما علق به من ميراث الوجدان التي بطبيعتها قد تختلف باختلاف الأفراد؛ كي يكون الباحثون جميعًا في مجالٍ علمي مُعين على اتفاق تام بالمعاني المقصودة من مصطلحات مجالهم.
ويتفرع عن ذلك التحديد لمعاني الرموز أو الألفاظ المستخدمة في العلوم؛ فرق آخر بالِغ الأهمية في التمييز بين لُغة العلم في ناحية، ولغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية معًا، في ناحيةٍ أخرى؛ وهو أنه بينما الناس في هاتَين اللغتَين، يأخذون الكلمات بمعانيها الانطباعية، أي إنهم يكتفون بمُجمل المعنى كما يبدو في ظاهره؛ ترى العلماء في شتَّى مجالات العلوم يُحللون الأشياء المُسمَّاة بتلك الكلمات تحليلًا يدعوهم إلى أن يستبدلوا باللفظة المُعينة مما يستعمله الناس رموزًا أو ألفاظًا أخرى تتعدَّد بتعدُّد العناصر الجزئية التي انحلَّ إليها الشيء الذي أخضعوه للتحليل، فمثلًا: لا بأس في لغة الشعر والأدب، وفي لغة الحياة الجارية على السواء، في أن يُسمَّى الماء باسمه «ماء»، أما في دنيا العلم؛ فإنهم يُحللون الماء، فيجدونه مؤلفًا في كل ذرةٍ مائية منه، من ذرتَين من ذرات الهيدروجين، وذرة واحدة من ذرات الأوكسجين، فيُلخصون هذا التركيب ويقولون — بدل كلمة «ماء» — «٢ يد أ»، وتكون هذه الصيغة هي ما يَستعمله العلماء كلما أرادوا أن يقولوا «ماء».
ولعلك تلحظ أن موضع الاختلاف بين كلمة «ماء» في لغة الشعر والأدب والحياة الجارية، وبين الصيغة: «٢ يد أ» في لغة العلم؛ هو أن الاسم في الحالة الأولى يبرز «الكيف»، أي إنه يهتمُّ بوقع الشيء على الحواس، بينما هو في الحالة الثانية يبرز «الكم»؛ أي المقادير المُحددة من كل عنصر من عناصر الشيء، وواضح أن من يكفيه أن يقول عن الماء إنه «ماء» لا يهتدي بهذه التسمية إلى الطريقة التي «يصنع» بها ماء، أما الذي يشير إلى الماء يقوله «٢ يد أ» فهو في الوقت نفسه يرسم الطريق أمام من يريد صناعة الماء؛ إذ ما عليه إلا أن يحصل على الهيدروجين من مصادره، وعلى الأوكسجين من مصادره وبتجربةٍ علمية يدمج هذا بذاك فإذا بين يدَيه «ماء» بعد أن لم يكن.
إن لغة الشعر والأدب، ولغة الحياة الجارية معًا، قد درجتا على أن تُضيفا إلى التركيب اللغوي إضافاتٍ وزوائد، لها معانيها في مجرى الشعور الباطني عند الإنسان المُتكلم، ولكن ليس لها ما يقابلها في وقائع الدنيا الخارجية؛ ولذلك يستغني عنها رجال العلم عندما يصوغون علومهم في لغة علمية؛ فمثلًا، لا بأس عند الأديب، وعند الإنسان في حياته الجارية، أن يقول: ألا ما كان أسعدها من لحظة عندما التقيت صديقي! فالحالة الواقعة هنا، التي تكتفي بها الصياغة العلمية هي: «التقيت صديقي»: وأما سائر الكلمات الواردة في الجملة الأولى فلها أهميتها ولها معناها، لكنها أهمية ومعنى يتصلان بدخيلة المتكلم في ذات نفسه، لكنها بغير معنى بالنسبة إلى عالَم الواقع الذي حدث في خارج الإنسان، والذي هو مجال النظر العلمي.
ومما يترتب على الفرق بين النوعَين: لغة الشعر والأدب ولغة الحياة الجارية من جهة، ولغة العلم من جهة أخرى؛ أن الكلام في الحالة الأولى يجيء مُتداخل الأجزاء مُتشابك الخيوط، حتى لقد ترى كلامًا تظنه جملة واحدة، تقبلها معًا، أو ترفضها معًا، أما في الحالة الثانية فالأغلب أن يجيء الكلام مُفصل الأجزاء؛ حتى يمكن الحكم على كل جزء على حدة بالصواب أو بالخطأ، دون أن يمتدَّ ذلك الحكم ليشمل الأجزاء الأخرى. وأسوق لذلك مثلًا هذه العبارة: «مات ملك المدينة الفاضلة أمس»؛ فها هنا يغلب على السامع من عامة الناس أن يأخذ الجملة وكأنها خبر واحد أوردته جملة واحدة، يقبلها معًا أو يرفضها معًا؛ وأما صاحب النظرة العلمية فيحلل — أولًا — هذا المركب اللفظي إلى الجمل التي يشتمل عليها، ففيها:
(١) هنالك «مدينة فاضلة»، وقد يكون ذلك وحده زعمًا باطلًا، وقد يكون خبرًا صحيحًا و(٢) لهذه المدينة الفاضلة ملك، وقد يكون ذلك صحيحًا وقد لا يكون، فربما كان هناك بالفعل «مدينة فاضلة» لكن الذي يحكمها ليس ملكًا؛ و(٣) وهذا الملك مات، وربما صدق هذا الخبر أو كذب، و(٤) وأن موته حدث أمس، وأيضًا هنا نقول إنه ربما صح أن ملكًا كهذا كان بالفعل موجودًا، وإنه حقًّا قد مات، لكنه موت وقع في تاريخ غير الأمس.
ذلك نموذج مُصغر يُبين لك كيف يتلقَّى الخبر المُعين من لم يُدرَّب على تحليل علمي للحقائق، وكيف يتلقاه صاحب النظرة العلمية؛ فالأول متأثر بلغة الحياة الجارية والثاني متأثر بلغة العلم.
والكلام في لغة العلم يطول إذا أردنا إحاطة شاملة لكل خصائصه، وأطول منه كلام يطمع صاحبه في إحاطة شاملة لخصائص اللغة عندما تكون شعرًا، أو أدبًا من أدب النثر، وإحاطة شاملة لكل خصائص اللغة الجارية في حياة الناس اليومية. ولئن كانت «اللغة» — أيًّا كانت صورتها — في حدِّ ذاتها ظاهرة تدعو إلى العجب إذا ما تأمَّلناها؛ فلعلَّ أعجب ما فيها هو أنها تستعصي على التحليل الكامل الشامل، لأننا إذا ما حاولنا مثل ذلك التحليل، تحللت أنسجة اللغة بين أصابعنا، وفقدت الصفة التي من أجلها كانت لغة. والأمر في هذا يُشبه أن تعبر خندقًا على ألواح رقيقة من الخشب، فأنت تعبر سالمًا إذا خطوت على الألواح الخشبية في خفة، كالتي أرادها أبو العلاء المعري حين خاطب السائر على أديم الأرض بقوله: «خفف الوطء …» وأما إذا ركبتَ رأسك، وأصررتَ على أن تَخبُر طبيعة الألواح الخشبية الرقيقة على حقيقتها، فأخذت تقفز عليها بجميع ثقلك؛ فلا عبرت أنت الخندق، ولا بقِيَت الألواح.