وصولًا إلى حرية وعدالة
لم تكن هذه أول مرة، ولا كانت المرة العاشرة، التي وقفتُ فيها عند آيات كريمة في «سورة البلد»، مرهفًا كل ما أملك من قوة الإدراك والفهم، وفي كل مرة كنتُ أجدني أمام صورة كاملة متكاملة الأطراف لمجتمع ارتفعت ثقافته فارتفعت حياته، إلا أن الصورة كما وردت في جملة الآيات الكريمة، مكثفة تشدُّ قارئها نحو العُمق، أكثر جدًّا مما تسير به نحو الطول والعرض، ومتروك للقارئ أن يُعمق من عمقها؛ ليعود فيتَّسع بالمعنى، ليرى كيف يمتد فيشمل حياة الإنسان في مجتمع كبير، تتشابك فيه الصلات والمعاملات بين أفراده، نعم، لطالما تأمَّلتُ المعنى في هذه الآيات الكريمة من سورة «البلد»: … أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ….
ولقد كان مما دعاني إلى طول الرويَّة أمام هذه الآيات الكريمة؛ أنني رأيتُ فيها صورة لم تكن هي التي رآها المفسرون، ورأيت كذلك أن الصورة التي ارتسمت في ذهني من هذه الآيات الكريمة ترسم قواعد البنيان لحياة الإنسان في مجتمعٍ قوي سليم أوضح مما يرسُمه تفسيرها الشائع، وأستغفر الله إن كنتُ على خطأ، وربما كان محور الاختلاف في الفهم والرؤية، هو معنى كلمتي «النجدين» و«العقبة»، على نحو ما سوف أبينه.
وردت إشارة في الآيات الأولى من سورة «البلد» إلى من كثُر ماله، ولكنه لم ينفق منه بما كان ينبغي له، ومع ذلك فهو يدعي أنه أهلك مالًا كثيرًا، حاسبًا أن أحدًا لم يرَه على حقيقته، وبعد تلك الإشارة جاءت الآيات الكريمة التي ذكرناها في الفقرة السابقة، وفيها استنكار لموقف ذلك الثري المغلولة يده إلى عنقه: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ … فيقول الطبري في تفسيره: «عينين يُبصر بهما حُجج الله عليه …» و«لسانًا يُعبِّر به عن نفسه» و«شفتين نعم من الله» و«النجدين أي الطريقين؛ طريق الخير وطريق الشر» و«العقبة قيل إنها جبل في جهنم»، وأما كاتب هذه السطور، العبد الفقير لله سبحانه وتعالى، والعارف بفضل الأئمة العلماء، والطبري أحدهم بلا أدنى شكٍّ في ذلك، أقول إن كاتب هذه السطور لم يسعه إلا أن يعاود الوقوف عند هذه الآيات الكريمة؛ لعلَّه يجد في كلماتها مبررًا لمثل ما ذهب إليه الطبري، فضلًا عن قصور ما ذهب إليه، في أن تتكامل أمام الذهن صورة مترابطة الأطراف، يهتدي بها من يشاء له الله تعالى أن يهتدي؛ فلماذا يُشير الطبري إلى «العينين» بأنهما تبصران حُجَج الله على ذلك الثري المقبوض اليدين؟ وكان الأقرب أن يجعل «العينين» تبصران كما تبصر الأعين؛ فتريان خلق الله ليستمد صاحب العينين علمًا وعبرة، كما سأُبين بعد قليل، ثم لماذا لم يربط «اللسان» ﺑ «الشفتين» في جهازٍ واحدٍ — كما هما على الحقيقة — وهو جهاز النطق باللغة بكل ما يترتب على هذا المعنى من نتائج بعيدة المدى في هذا السياق الذي نحن الآن بصدده؟ وعلى أي أساس معقول ومقبول — بالنسبة إلى سياق الكلام الذي بين أيدينا — يجعل «النجدين» مجرد طريقَين ثم يجعل طريقًا منهما يشير إلى الخير وطريقًا آخر يشير إلى الشر؟! إن «النجد» هو مرتفع من الأرض وهو ما نُسميه بالمصطلح الجغرافي المعروف «هضبة»، ويقابل النجد «الوهد» الذي هو الأرض المنخفضة، فهل هو من حق المفسر أن يحذف من معنى اللفظة المُعينة أهم جانب من جوانب معناها ثم يُقيم تفسيره بعد ذلك على الجانب المُتبقي على نقصانه؟! إن من يفهم كلمة «النجدين» مطروحًا من معناها «الارتفاع» مع خشونة الحجر وغلظته؛ يكون قد فوت على نفسه مفتاحًا مهمًّا يعينه على فهم السياق كله فهمًا أصح وأنفع، وأخيرًا يجيء أعجب ما نعجب له في تفسير الطبري، وذلك عندما يقول عن «العقبة» قيل إنها جبل في جهنم! كيف ذلك والآيات الكريمة التي تلتها مباشرة قد فسَّرتها بما يقطع بالمعنى المقصود؛ إذ تقول: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ …، وهو سؤال يعقبه جوابه، الذي هو أن العقبة (التي لم يستطع ذلك الفتى البخيل اقتحامها) إنما هي أن تُفك رقاب العبيد ليصبحوا أحرارًا، وأن يُقدم العون إلى المعوزين في يوم المجاعة، ولماذا يكون هذان الأمران «عقبة» يصعُب اقتحامها على كثيرِين؟ ذلك ما أُرجئ الجواب عنه لأضعه في مكانه من الصورة المتكاملة المترابطة، التي تصورتُها للمجتمع الإنساني الكامل، بناءً على مجموعة الآيات التي ذكرناها من سورة «البلد».
والآن فلنعُد لنبدأ من البداية، فلقد أُشير إلى ذلك الثري القابض يده عن الإنفاق فيما ينفع الناس، بهذه الآيات: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ فها هنا تستطيع أن تلمح مُقدمتَين، ونتيجة تنبني على هاتين المقدمتَين، وأما المُقدمتان فهما أن وُهب الإنسان جهازين، بينهما رباط وثيق يجعل الجهاز الأول منهما مُؤديًا بالضرورة إلى الجهاز الثاني، وهما على التوالي جهاز الإبصار — بالمعنى المباشر للكلمة — وجهاز اللغة؛ فالبصر أداة بين أدوات أخرى، هي أعضاء الحس، ولعلَّ أهمها في الوظيفة التي تؤديها، وما تلك الوظيفة إلا «إدراك» الإنسان لما يُحيط به؛ فلم يكن في وسع الإنسان أن يخطو في حياته خطوة واحدة، إلا إذا كان على معرفةٍ ما، بالمُحيط الذي يتحرك فيه، وإلى هنا يتساوى إنسان وحيوان، فلكلِّ كائن حي مما له القدرة على الحركة في أرجاء المكان بمختلف اتجاهاتها (ومن هنا نستثني النبات لأنه مقيد الحركة بالنسبة إلى الحيوان والإنسان؛ إذ الغالب فيه أن تمتد جذوره إلى أسفل، وفروعه إلى أعلى، مع التزامه موضعًا بذاته)؛ أقول إن لكل كائن حي مما وُهب القدرة على الحركة في مختلف الاتجاهات؛ أدوات يدرك بها ما حوله ليعرف كيف يتجه وإلى أين يتجه، وتلك الأدوات الإدراكية هي «الحواس» التي فيها حاسة البصر.
لكن الإنسان والحيوان إذا تساويا إلى هذا الحد؛ فإن الإنسان ينفرد بعد ذلك بدرجاتٍ متصاعدة من الإدراك، يقف دونها سائر الحيوان، وتبدأ تلك الدرجات الإدراكية المُتصاعدة في حياة الإنسان بالقدرة على «النطق» مُستعينًا بجهازٍ عضوي خاص، أهم أجزائه اللسان والشفتان، وليس المراد ﺑ «النطق» هنا مجرد أصوات حيوانية، كالتي يَصيح بها الحيوان والإنسان معًا في لحظات الذُّعر أو لحظات الرضا، بل المراد هو النطق الذي صيغت أصواته في «كلمات»، وهنا تتحقَّق للإنسان المعجزة الإلهية التي صيَّرته إنسانًا، وقد أحسن من أراد تعريف الإنسان تعريفًا يُبين جوهره المميز، فقال إنه «الحيوان الناطق» بمعنى أن فيه كلَّ ما في الحيوان من صفات أساسية كالاعتدال، والنمو، والتناسُل، والحركة، ولكنه أضاف إليها جانبًا تميز به وانفرد، وذلك أنه نطق باللغة، واللغة تتعدَّد إلى لغات، إلا أن اللغات البشرية جميعًا تتلاقى في أساسٍ مُشترك هو القدرة الفطرية التي تتشكل بعد ذلك أشكالًا مختلفة هي اللغات. وقد تسأل: وما هي طبيعة تلك القدرة الفطرية في الإنسان؟ وأُجيبك بأنها القدرة على «الرمز»؛ أي أن يُنيب المُتكلم عن الشيء الغائب «رمزًا» يقوم مقامه في تبادل الحديث، وبهذه القدرة الرامزة اتسعت آفاق الحياة الإنسانية؛ فانتقلت من محدودية الحيوان في مكانه وزمانه، وفي الأشياء التي تقع في دائرة إدراكه الحسِّي، إلى انطلاق لا تحدُّه الحدود؛ إذ أصبح في مُستطاع الإنسان أن يستعين برموز اللغة، فيستحضر بين يدَيه ما ليس حاضرًا، مما كان، ومما سوف يكون، ومما هو كائن خارج دائرة إدراكه الحسي.
ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكنه يُجاوزه إلى آماد، الله أعلم بأبعادها، إذا عرفنا عن «اللغة» حقيقة أخرى جوهرية، والعجب أن نجدها إلى يومنا هذا موضع خلاف بين المُشتغلين باللغة ومنطقها وطبيعة أدائها لما تؤديه، وتلك الحقيقة هي أن اللغة هي نفسها «الفكر» فإذا تكلم إنسان فقد فكر في حدود ما تكلم، وإذا فكر — حتى وهو صامت فيما يبدو للناس — فقد تكلم بمقدار ما فكر، وحاول أن تستبطن ذاتك وأنت تفكر في «صمت» تحس بحركات في جهاز النطق، هي نفسها الحركات التي لو ارتفعت فيها الدرجة لأصبحت كلامًا مسموعًا، ولن أطيل الوقوف عند هذه النقطة رغم أهميتها البالغة؛ لأنني على شيء من العلم بما يتفرع عنها من اختلافات في الرأي.
وبعد هذا فلنقرأ معًا قول الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ … ومعناه ألم نخلقه إنسانًا مزودًا بأدوات تكشف له عما حوله ليتدبر أمره معها، كما زوَّدناه فوق ذلك بجهازٍ كامل، يحول به المادة الخامة التي جاءته عن الأشياء المحيطة به، إلى «فكر» مجسَّد في لغة؟ لكننا نلحظ في الآية الكريمة أن القول يشير إلى مفرد غائب، يدلُّ على ذلك ضمير الهاء في كلمة «له»؛ فالمقصود — إذن — هو رجل واحد ولننظر خلاله إلى النوع الإنساني كله، وهنا أجد نفسي مُضطرًّا إلى الحديث مرةً أخرى عن اللغة وأداتها هنا اللسان والشفتان، وحديثي عن اللغة هذه المرة مُنصب على خاصة من أعجب خواصِّها، ولعلها كذلك تكون من أبعدِها دلالةً ومغزى، وتلك هي أن اللغة المُعينة عند شعبٍ مُعين، وإن تكن لغة واحدة يشترك فيها كل المُتكلمين بها؛ فإن الحصيلة اللغوية التي استخدمها فردٌ مُعين في حياته يستحيل أن تتكرَّر كما هي في فردٍ آخر، وأُكرِّر كلمة «يستحيل»؛ حتى ينتبه القارئ على الفردانية اللغوية، التي كأنما هي إعجاز من الإعجاز. إن الأمر في هذا يُشبِه أن يُقيم ملايين الأفراد حول مُحيط مائي واسع، وكل فردٍ من هؤلاء الناس، يملأ إناءه من المحيط، فإن يكن المصدر واحدًا؛ فإن لكل صاحب إناءٍ نصيبَه من الماء الذي ليس هو بعينه نصيب أحد آخر سواه. وبتشبيه آخر، افرض أننا زوَّدنا كل مولودٍ بشري بشريط للتسجيل الصوتي، ليُسجل عليه كل ما ينطق به صاحبه طوال حياته — أو حتى خلال يومٍ واحد — ثم قُمنا بمقارنةٍ نُجريها بين أشرطة الأفراد، لنرى كم تتشابه وكم تختلف؛ فإننا عندئذٍ لواجدون في كل شريط فردانية، بحيث يكون محالًا أن نجد شريطَين متطابقَين؛ فاللغة عند الجميع واحدة وحياتهم مشتركة بينهم، ومع ذلك فالمُركَّب اللغوي الذي عاش به فرد معين يستحيل أن يطابق مُركَّبًا لغويًّا عاش به فرد آخر، لا في عصره فقط، بل في كل العصور التي تكلَّمت اللغة نفسها في أي مكانٍ على الأرض.
هي فردانية عجيبة، يتميَّز بها الفرد عمن سواه، ربما أكثر مما يتميز ببصمة إبهامه، ومع ذلك فاللغة المشتركة تظل لغةً واحدة وإن تعدَّدت صور تركيباتها بين الأفراد، تعددًا يبلغ عدد الأفراد، وإذا كانت لغة الإنسان هي فكره، وفكره هو لُغته التي نطق بها أو كتبها؛ فإن ذلك لا ينفي وحدة قاموسها، ووحدة قواعدها في التركيب. وعند هذا التوحُّد يجتمع أبناؤها لغةً وفكرًا، على أن التنوُّع الشديد في صور التركيبات اللغوية، عند مُستعمليها، إنما يبلُغ أبعد مداه عند مستوى التعامُل بين الناس، حتى إذا ما أخذنا في الصعود باللغة إلى مستوياتٍ أعلى، من حيث التعميم والتجريد، كمستويات التفكير العلمي بدرجاتها المتصاعدة؛ أخذ ذلك التنوع تضعف حدَّته، وتضيق زاويته لنصِل إلى درجة نجد عندها علماء الفرع الواحد، على اتفاقٍ في صيغ القول المُتصل بمجال فرعهم العلمي.
ولنعد — مرة أخرى — إلى الآية الكريمة: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ لنعلم منها مقدار ما لا بد أن يكون ذلك الغني المقبوض اليدَين على ماله، قد تفرَّد به قولًا وفكرًا، ولنعلم كذلك ما لا بد أن يكون بينه وبين غيره من أفراد الناس من نُقَط التقاء، تجعل منهم قومًا، أو قبيلة، أو أمة، وهنا ننتقل بحديثنا إلى الآية الكريمة التالية على ذكر العينَين واللسان والشفتين، وهي: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ وتذكر ما قُلناه عن «النجد» الذي هو مرتفع من الأرض، قد يصعب الصعود إليه من بطون الوهاد، والنجدان هنا هما هدفان للإنسان إذا أراد لنفسه حياة كريمة رفيعة المقام، فإن يكن في الصعود إلى ذَيْنِكَ الهدفَين مشقة؛ فهي مشقة في سبيل الصعود إلى ما هو أعلى، والسعيدة السعيدة من الأُمَم هي الأمة التي تشقُّ طريقها إلى قمة النجد، والشقي الشقي هو شعب خائر الهمَّة، يعجز دون اقتحام العقبة، ولستُ أرى كيف تكون العقبة «جبلًا في جهنم» كما ورد في تفسير الطبري، ثم ماذا يُفيدنا في حياتنا أن نجعلها كذلك، إنما العقبة هي كما جاء في الآيات التاليات: أن تفك الرقاب المغلولة بأغلال العبودية — بشتَّى صنوفها وأشكالها — وأن يتعاون الناس، قادرًا مع عاجز، وقويًّا مع ضعيف، وغنيًّا مع فقير، للتغلُّب على مَشاق الحياة وصعابها، لكن لماذا يكون هذان الهدفان الساميان «عقبة» تستعصي على الاقتحام؟ والجواب هو أن ذلك يكون إذا ما جعل الإنسان السيادة لغرائزه، وللغريزة اندفاعها الذي لا يحدُّه إلا عقل يحكم، وأخلاق تضبط، ومن تلك الغرائز الطاغية، حُب التملك، وحب المال، لِما يتضمَّنه من قوةٍ وسيادة، فمن ملك رقيقًا، وكانت السيادة في كيانه متروكة للغريزة، صعب عليه أن يُحرر عبيده، ومن امتلأت خزائنه بالمال، وأحسَّ به قوة وسيادة، صعب عليه كذلك أن يُنفقه في سبيل حياة كريمة بينه وبين آخرين.
تعالوا نستجمع معًا عناصر الصورة التي تناثرت بين أيدينا في الفقرات السابقة، لنرى كيف قدَّمت مجموعة الآيات الكريمة من «سورة البلد» لوحة متماسكة مترابطة الأجزاء واضحة الأصول والفروع لحياة الإنسان في مجتمع سليم، فقد جاءت مقدمة الصورة في إشارة إلى خللٍ في جسم المجتمع القائم، مما يستوجب التغيير في سبيل الإصلاح، وكان الخلل مُجسدًا في صورة رجل كثرت أمواله وامتدَّ ثراؤه، ولِضعفٍ في تكوينه الخلقي؛ اختار الرجل أن يعيش بين الناس منافقًا بوجهَين، يقبض يده على ماله بوجه، وبوجه آخر يعلن في الناس أنه أهلك ماله في سبيلهم، ولو أننا حدَّدنا حدود ذلك الرجل الواحد، لنجعل منه أمةً بأسرها؛ لوجدناها أمة مفككة العُرَى متناثرة الأفراد مُفرَّقة القوى.
ذلك — إذن — موضع الداء، ومن هذه النقطة تبدأ خطوط الصورة في التتابُع والتكامل، وأول خط فيها وجوب أن يجمع الإنسان من أطراف «المعرفة» بجوانب محيطه الذي يحيا فيه ويعيش فردًا من أبنائه، ولقد أمده خالقه سبحانه وتعالى بالوسيلة التي يتوسَّلها في تحصيله لِما يستطيع تحصيله من إحاطة بالكون من حوله، وما ذلك الكون إلا الدار التي خُلق الإنسان ليسكنها ما دام حيًّا، والوسيلة هي الحواس وفي مُقدمتها العينان تبصران وتعودان إلى المُبصر بهما بأنباء الدار، لكن تلك الأنباء إذ تأتي بها العينان وبقية الحواس، كل حاسة في مجالها؛ فهي تأتي انطباعات على العين المبصرة، وإلى هنا لا تكون «معرفة»؛ فلا فرق في بداية المرحلة بين أن تقع الصورة على عين إنسان، أو عين حيوان، أو على عدسة زجاجية في آلة التصوير، فلكي تُصبح الصورة المرئية «معرفة»؛ فلا بد لها أن تتحول إلى «فكرة»، وللفكرة طبيعة تختلف عن طبيعة الانطباع الضوئي على شبكية العين، والجانب الجوهري من طبيعة الأفكار، هو اصطناعها لجسمٍ لغوي؛ أي أن تتجسَّد في لفظةٍ أو في مجموعة ألفاظ، ومن هنا تظهر لنا معجزة «اللسان» مُستعينًا بشفتَين، ولكن حذارِ أن نقع في خطأ شائع عن العلاقة بين الفكرة ولفظها، وذلك أن خيال الإنسان يُصوِّر لصاحبه — على سبيل التشبيه، لا على سبيل الأمر الواقع — أن ألفاظ اللغة تُشبه الأواني الفارغة، ثم تجيء الأفكار فتُصب فيها، وذلك تصوير قد يبسط الأمر ليسهل فهمه، لكنه بعد ذلك يُضلِّل الناس ضلالًا بعيدًا … فالفكرة هي لفظها، واللفظ هو فكرته، كالشمس وضوئها، والوردة وأريجها، والزيتونة وزيتها، والسكر وحلاوته، والحنظل ومرارته، وبهذا التصوُّر الصحيح نرى معجزة «اللسان والشفتَين»؛ إذ هما ينطقان لفظًا فينطقان «فكرًا».
خطوط الصورة حتى الآن هي: خلل في البناء الاجتماعي يتطلَّب الإصلاح، فلو أراد الإنسان لنفسه صلاحًا؛ فأولى وسائله إدراك لما حوله «ليعرف»، ولكي يكمل لتلك المعرفة كيانها؛ وجب أن تتجسَّد في لفظ أُعِد له جهاز من لسان وشفتَين، ثم نستطرد في مجموعة الآيات الكريمة؛ لننتقل إلى الخط التالي من خطوط الصورة، وهو هداية الله للإنسان في استخدامه لأفكاره تلك التي حصَّلها وعبَّر عنها بلفظ اللغة. وقبل أن نمضي في سبيلنا أريد التنبيه على نقطةٍ مهمة خاصة بهداية الله، وهي نقطة برزت أهميتها وخطورتها في عصرنا هذا على وجه التحديد، وهي أنه لا جناح على الإنسان في تحصيل ما استطاع من أفكار، تُوضِّح له طبائع الأشياء من حوله؛ فالأفكار مُحايدة لا خير فيها ولا شر، وإنما تبدأ خيريتها أو شرِّيتها عند التطبيق: فماذا يصلح منها للتطبيق الفعلي في حياة الإنسان وماذا لا يصلح؟ وإذا صلحت للتطبيق فكرة ما؛ فكيف يكون تطبيقها وإلى أي مدى؟ هذه أسئلة لا تجيب عنها «المعرفة» التي حصلناها؛ فالإنسان إزاءها بحاجةٍ إلى هداية الله، ومن هنا نجد التسلسل في خطوط الصورة التي رسمتها مجموعة الآيات الكريمة التي ذكرناها من «سورة البلد» بعد أن أشارت إلى خط «المعرفة» تحصيلًا بالحواس التي في مُقدمتها حاسَّة البصر، عقبت عليها بالخطوة التي لولاها لما كانت المعرفة المُحصَّلة إلا حالة خرساء، وتلك هي مرحلة «النطق» باللغة، وأداة ذلك هي اللسان مستعينًا بالشفتين، فها هو ذا الإنسان قد حصل ما حصل من أفكار، ثم ماذا؟ إلى أين يتحرك بتلك الأفكار؟ وكيف؟ إن الأفكار المُحصَّلة في ذاتها لا تُوجِّه صاحبها فيما يختص بما «يجوز» فعله وما لا يجوز، ولذلك لا يكون للإنسان في هذا الموقف إلا هداية الله، فجاءت الآية الكريمة في موضعها لتقول: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ؛ فمن حصيلة المعرفة التي جمعها الإنسان على نحو ما أسلفنا، يهديه الله سبحانه إلى فكرتَين تستحقَّان السعي في سبيل أن تتحقَّقا، حتى لو كان ذلك السعي عسيرًا وشاقًّا، والفكرتان هما «الحرية» و«العدل»، نعم، إن دون تحقيقهما وعورة في الطريق؛ فهناك نجاد يصعد إلى أسطحها الصاعدون، وليس الطريق إلى الفكرتَين سهلًا منبسطًا منسابًا يسيرًا، بل هو هضاب في اجتيازها عناء، فكأنما لكل فكرة من الفكرتين: «الحرية» و«العدل» وعورة طريقها المؤدي إليها: فأما أصحاب النوايا الطيبة الذين آمنوا بآيات الله، فقادرون بإيمانهم ذاك على اجتياز «النجدين»، وأما من ساءت نيته وخبثت طويته، من أمثال ذلك الرجل الغني المنافق، الذي سيق في السورة مثلًا لما أصاب المجتمع من خلل وفساد؛ فيصعب عليهم اجتياز «العقبة» فلا هم راغبون في حرية يكون من شأنها أن تفك رقاب من كانت تملكه أيمانهم من عبيد، ولا هم يريدون في الناس عدلًا يقتضيهم أن يطعموا «يتيمًا ذا مقربة، أو مسكينًا ذا متربة».
هذه — إذن — صورة إسلامية لمجتمعٍ إنساني سليم، لا أظن أن امتداد الدهر يُغير منها شيئًا، كلا، ولا في وُسْع العقل أن يتصوَّر ظروفًا معيشية يمكن أن تطرأ على بلدٍ ما في ظل حضارةٍ ما، كائنًا ما كان البلد، وكائنة ما كانت صورة الحضارة، بحيث يقول الناس إنه لم يعُد يصلح لهم مجتمع يشترط على أبنائه «علمًا» بالدنيا وواقعها، وأن يتَّجه ذلك العلم بهداية الله نحو إقامة بنيانهم على دعامتي «حرية» الإنسان، و«عدالة» بين الناس؛ ومن ثَم كان من حقِّنا أن نقول إن الإسلام عقيدة تصلح لكل مكانٍ ولكل زمان، على اتِّساع رقعة المكان، وامتداد طول الزمان.
إلا أن صلاحية «الصورة» لا يلزم عنها بالضرورة أن يسير الناس دائمًا على نهجها؛ لأن في جوف الإنسان حيوانًا كامنًا، هو الغرائز، إذا رفعت عنها الشكائم جمحت، وإذا نحن حملنا بيميننا ذلك المعيار الإسلامي في بناء المجتمع، ثم رفعنا بيسارنا صورة المجتمع الراهن الذي نعيش اليوم فيه؛ وجدنا الهوة سحيقة بين المثال والمثل، ففي حياتنا مثل ذلك الخلل الذي تجسَّد في المنافق الذي أُشيرَ إليه في «سورة البلد»، والذي كان هو المناسبة التي استدعت توضيح الخطوط الرئيسية في بناء مجتمع سليم؛ فمهما يكن في مجتمعنا الحاضر من صفات — والحديث هنا منصرف إلى مصر، وإلى الوطن العربي الكبير، على حدٍّ سواء — أقول إنه مهما تكن الخصائص الأخرى التي تُميز أبناء هذا الوطن في هذا العصر؛ فهنالك صفة عمَّت وشاعت بحيث لم تعُد تُخطئها عين، وهي صفة تلتقي فيها الخطوط الرئيسية التي رسمتها مجموعة الآيات الكريمة التي ذكرناها من «سورة البلد»؛ فرغم قيام الخلل الذي يوجِب التغيير والإصلاح، فلا نحن حريصون على «علم» بالدنيا التي نعيش فيها على حقيقتها، لا تحصيلًا بمشاهدات الحواس ولا صياغة بلغة اللسان، ولا نحن على استعداد أو قدرة على تحمُّل المشاق بالنوايا الطيبة لنجتاز «العقبة» فنُحقق في الناس «حرية» صحيحة، و«عدالة» صحيحة، على أن تُقام كلتاهما على «معرفة» صحيحة بحقائق العالم.
فأما «المعرفة» الصحيحة بحقائق العالم، فتحتاج إلى نوافذ مفتوحة على الدنيا وما فيها، لكنك إذا طالبتَ بفتح النوافذ، زعق الزاعقون في فزع: بل أغلقوها حتى لا يكون علينا غزو ثقافي يُطيح برءوسنا من فوق أعناقها، وكأننا قطيع من البُلْهِ نفتح أفواهنا ليسيل لُعابها، فيملأها الغزاة ترابًا مسمومًا ونحن لا ندري! وإذا شئتَ عجبًا فاعجب لمن يصيحون صيحات مذعورة كهذه، زاعِمين لأنفسهم معرفة بما عند الآخرين من أفكار مسمومة، أليس من حقِّنا أن نسأل هؤلاء: ومن أدراكم بسمومها إلا إذا كنتم قد طالعتموها؟ وإذا كان ذلك كذلك فلماذا لا يكون لغيركم حق المطالعة كما كان لكم؟ فنتجت عن الموقف في مُجمله حياة ثقافية منقوصة ومغلوطة ومُهَوَّشة، وأصبحت صورة العالم الذي هو مُنشئ حضارة عصرنا وصانعها وناشرها، تُبَث في عقول الناس كما كانت الجدات يُصوِّرن لأحفادهن الصغار عالم العفاريت!
وأما «الحرية» فقد أشارت الآية الكريمة إلى نوع منها كانت تتطلَّبه ظروف عصر ساد فيه الرق، إذن تكون «الحرية» المطلوبة في ضرورةٍ ملحة، هي تحرُّر العبيد من أصفاد الرق التي كانت تغل رقابهم، لكن المطلب يتسع ويتنوع مع اختلاف الظروف في مختلف الظروف؛ فإنه إن لم يكن بيننا رق بذلك المعنى البدني الذي عرفه القدماء فبيننا صور أخرى تحمل جوهره وطابعه؛ إذ ماذا يكون جوهره وطابعه إلا إلغاء إرادة إنسان، ليريد له سواه؟ ومثل هذا الإلغاء لإرادات الناس؛ لتسري عليهم غصبًا وقسرًا وقهرًا إرادة صاحب الإرادة، في حكومة، أو في ميدان من ميادين العمل، أو في مجال من مجالات التفكير. وليس هذا الضرب من الطغيان بالشيء النادر في مجتمعاتنا اليوم، وحتى إذا لم يقترف مثل هذا الإثم أفراد طغاة؛ فما يُسمُّونه «بالرأي العام» كفيل بأن يهوي بضربات سياطه على كل من يُخالفه في أمر يعدُّه ذلك الرأي العام أمرًا له خطورته في حياته التي ألِفَ العيش في ظلها.
وأما فكرة «العدالة» الاجتماعية؛ فقد ركزت مجموعة الآيات الكريمة على فرع من فروعها، وهو «التعاون بين الأفراد»، تعاونًا يُضيِّق الفجوة بين غني وفقير، وإنني لأرجو في هذا الموضع من الحديث أن ألفتَ النظر إلى جانب القوة من تلك الفكرة كما صورتها الآية الكريمة، وهو أن ذلك التعاون المطلوب والمفروض، بُني على أساس حرية الأفراد. والفرق بعيد بين مجتمعٍ يتعاون أبناؤه أحرارًا وعن إيمان بما يعملون، ومجتمع آخر — كمجتمعاتنا الحاضرة — إذا ما أراد تعاونًا بين الناس صاغ له القوانين الملزمة مُهدِّدة بعقاب العصاة، إنه لا ضَير في ذلك إذا استعصى على الناس أن يَصدُروا فيما يفعلونه عن وازع الأخلاق، لكن الكرامة الإنسانية تكون أقرب إلى كمالها حين يجيء التعاون بإرادةٍ حرة من المتعاونين.
«يقول أهلكت مالًا لبدًا، أيحسب أن لم يره أحد»؛ تلك كانت العلة، وموضع من مواضع الخلل، فكان لا بد من إقامة بناء اجتماعي جديد ركائزه: معرفة صحيحة بالعالم، ولغة تصوغ تلك المعرفة علمًا، ثم هداية من الله تُوجِّه الإنسان أن يتخيَّر من ذلك العلم فكرتَين، يُقيم عليهما بناءه الجديد، هما «الحرية» و«العدالة» مُتمثلة في تعاونٍ حر، وأما عن العلَّة فما أشبه الليلة بالبارحة، وأما عن قوائم البناء الجديد فها هي تي تقدم نفسها، فهل من مريد؟!