بلاغة الصمت
من المفارقات العجيبة، التي ليس في وُسْعنا إلا أن نقف أمامها حائرين، أن نجد في عصرنا هذا، الذي هو — من الناحية العقلية — عصر «التحليل» بلا مُنازع له من أي عصرٍ آخر في هذه الصفة المميزة، لأنه إذا جاز لنا أن نُلخص اتجاهات التفكير العقلي في تاريخه كله، أن نُلخصها في صفحتَين؛ لجعلنا إحداهما للكون وكائناته، والأخرى للغة التي حدث بها الإنسان نفسه عن تلك الكائنات، ففي صفحة الكائنات، لا أظنُّ أن عصرًا مضى يُنافس عصرَنا فيما بلغه من دقة التحليل لطبيعة تلك الكائنات، وذلك حين ردَّها إلى ما دون الذرة ودون الخلية، وفي صفحة اللغة، لا أظن كذلك أن عصرًا مضى يُنافس عصرنا في تحليل اللغة، لا أظن كذلك أن عصرًا مضى ينافس عصرنا في تحليل اللغة إلى جذور جذورها، وإلى أصول أصولها، من حيث هي ظاهرة عامة شملت البشر جميعًا، ومن حيث هي فروع تفرعت لتُصبح لكل جماعة لُغتها، حتى لقد بلغت تلك التحليلات من الدقة التفصيلية حدًّا جعلها تنافس الرياضة العُليا، وحتى اضطرَّت جامعات كثيرة في أنحاء العالم المُتقدم أن تجعل محور الارتكاز في دراسة اللغة، ذلك الجانب الذي يُسمونه «لغويات»، وذلك بعد أن كان «الأدب» هو محور ارتكاز في الدراسة الجامعية. أقول إنها مفارقة عجيبة؛ أن نجد نفرًا من أعلى أعلام الفكر في عصرنا قد رأوا أنفسهم بعد المُضي في تحليل الفكر الإنساني متمثلًا في لغته، أشواطًا بعيدة، رأوا أن النهاية التي لا بد أن يلوذ بها الإنسان ليعرف حقيقة نفسه — وبالتالي حقيقة الإنسان — هي «الصمت» الذي هو في هذه الحالة أبلغ من الكلام.
والحق أنك إذا تأمَّلت الموقف — بعد الدهشة التي أخذتك للوهلة الأولى — وجدتَ أن الأمر لا جديد فيه من الناحية العملية؛ إذ تجد حالات ليست بالقليلة لعمالقة من أفراد الناس أرادوا أن يتقصَّوا حقيقة ما يشعرون به، في أنفسهم وفي العالم من حولهم، ثم أرادوا أن يضعوا ما قد رأوه في لغةٍ لينقلوه إلى سائر الناس، فتبيَّنوا كم هو محال من المحال أن تُوضع تلك الرؤى في أي لفظ، كائنة ما كانت بلاغته؛ فلاذوا بالصمت، وفي مقدمة هؤلاء العمالقة الذين لاذوا بالصمت لعجز اللغة عن أداء ما أرادوا تأديته، جماعة المُتصوفة على اختلاف أوطانهم ولُغاتهم، وعلة ذلك العجز هي أن الخبرة الصوفية حالة يشعُر بها الصوفي، كشعوره بأنه من الله سبحانه وتعالى في حالة شهود، أو في حالة حُب، أو حتى في حالة حلول، وأمثال تلك الحالات هي ممَّا يُدركه صاحبها إدراكًا باطنيًّا مباشرًا، وهي فوق ذلك غير قابلة للتحليل، في حين أن اللغة أُقيمت على أساس تحليل الأشياء التي نرمُز إليها، وهي لا تستطيع غير ذلك؛ لأنها مجموعة جُمَل، وكل جملة مجموعة كلمات، وكل كلمة مجموعة حروف؛ فاللغة إذن مؤلَّفة من صور، كل صورة منها مركبة من أجزاء، فالذي يُقابلها ويُناسبها في دنيا الواقع، حقائق مركبة بدورها من أجزاء، لتأتي الصورة مُتقابلة مع الشيء، الذي تصوره، فمثلًا إذا أردتُ أن أصف لك موقفي وأنا أكتب هذه السطور، قلت لك: إنني جالس إلى مكتبي، الورقة أمامي، والقلم في يدي، فإذا أمعنتُ النظر في هذه العبارة، وجدتُ فيها عددًا من الكلمات يُقابل عددًا من الكائنات الموجودة في هذه الحالة التي أصِفها، ويُضاف إلى تلك الكائنات عدد من «العلاقات» التي تصِلها بعضًا ببعض، فهنالك من أسماء الكائنات: أنا، مكتب، ورقة، قلم، يد، وهنالك من العلاقات الرابطة بينها: إلى، أمام، في، وذلك التقابُل بين الواقع من جهة، واللغة التي تُصوره من جهة أخرى، هو الذي يجعل للجملة اللغوية معناها.
لكن ماذا أنت صانع في الحالات التي لا تقبل التحليل إلى مفردات وأجزاء؟ كيف يُمكن أن تصورها في لغةٍ يستحيل عليها بحُكم طبيعتها إلا أن تكون مُجزأة؟ فافرض — مثلًا — أنك في حالة «حب» وهي حالة تُشبه الحالة التي يكون عليها الصوفي بالنسبة إلى الله سبحانه، بدليل أن الصوفي كثيرًا ما يلجأ في التعبير عن حالته بشِعرٍ يتغزل فيه بمعشوقة بشرية، أقول: افرض أنك في حالة «حب» فكيف تضعه في مجموعة مُجزأة من كلمات وحروف في حين أنها «حالة» تسري في كيانك سريانًا لا تعرف أين أوله وأين آخره وأين أجزاؤه؟ ومن هنا كان محالًا على مَن «يعاني» حالة كهذه أن يُصورها لمن لا يُعانيها، وصدق الشاعر العربي الذي قال:
وهنا يعجز اللسان وتعجز اللغة، وتكون للصمت بلاغته.
تلك — إذن — حالة عرفها الإنسان منذ نطق باللغة، أو منذ كتبها وأدرك قصورها في الحالتَين نطقًا وكتابةً؛ فهي تصلح لمواقف مُعينة تكون التجزئة فيها أمرًا مُستطاعًا، ولا تصلح لمواقف أخرى، هي الحالات الوجدانية على اختلافها، اللهم إلا على سبيل التقريب، وتُضاف إلى الحالات الوجدانية حالات الإدراك المباشر بحاسَّةٍ من الحواس، وإلا فهل تستطيع — مثلًا — أن تصف للآخرين كيف طعم الخبز على لسانك؟ هل تستطيع أن تصف لهم كيف رائحة الوردة في أنفك؟ إنه لا بديل في وُسْعك، إلا أن تعطي لقمة خبز لمن تريد له أن يعرف طعم الخبز، وأن تعطيه وردة ليشمَّها، إذا أردت له أن يعرف شذاها، كما أنه لا بديل لمن أراد أن يعرف الحب إلا أن يحب.
لكن الجديد الذي أضافه عصرنا، إلى الحالات التي لا تجدي فيها اللغة، والتي يجب أن نركن فيها إلى الصمت وبلاغته؛ هو أمور تبدو وكأنها من قبيل الأشياء الداخلة في حدود ما تستطيعه اللغة، والتي ليست من قبيل الحب الصوفي، أو الحب البشري، أو حتى من قبيل طعم الخبز ورائحة الوردة، إنما هي أشياء من واقع الحياة العملية التي يتبادل فيها الناس كلمات اللغة مُفردة ومركبة ليتمَّ بينهم تفاهُم عليها، وإذا هي في حقيقة أمرها مُستعصية على اللغة وقُدراتها وحدودها، ومن هنا تجيء دعوة الدُّعاة في عصرنا إلى وجوب الصمت فيما لا تجدي فيه كلمات، فلا أظنُّ أني بحاجة إلى أن أعيد إلى ذاكرتك تلك الموجة الأدبية التي شُغل بها الناس منذ بضع سنوات، والتي أُطلق عليها اسم أدب «العبث» حينًا، واسم أدب «اللامعقول» حينًا آخر، وقد كان الأساس الذي جاءت تلك الموجة لتُعبر عنه؛ هو أن قنوات التفاهم بين الناس مسدودة، فالمتكلم يتكلم، ويرد عليه السامع، لكنك تحلل الموقف لترُدَّه إلى حقيقته، فإذا بك ترى متكلمًا في وادٍ من الفكر والمعنى، وسامعًا في وادٍ آخر من الفكر والمعنى، إذن فلا المتكلم يخاطب أحدًا، ولا السامع مُنْصِت إلى أحد، فأهل هذا العصر، في تبادلهم الأفكار بعض مع بعض، محمولة تلك الأفكار في بطون كلمات وجُمل، لا يفهم أحد منهم عن أحد شيئًا، وإن خُيِّل إليهم غير ذلك، ولماذا؟ وهل هو أمر مقصور على عصرنا أو أنه جزء من طبائع الأمور؟ لستُ أدري، لكن الأمر في عصرنا أوضح من أن يُغض عنه النظر، والنكبات التي تترتَّب عليه أفدح من أن يُسكتَ عنها، وربما كانت علَّة ظهور هذه الظاهرة في عصرنا بأوضح مما ظهرت به في العصور السابقة، هي أنه بينما كانت قلَّة قليلة من الناس مسموعة الكلمة في العصور السابقة، فكانت تقول كلمتَها، بأي معنى تريده لتلك الكلمة، وعلى سواد الناس بعد ذلك أن يُطيعوا، ترانا في هذا العصر، وقد زعمنا لأنفسنا حق الحرية مُتساويًا بين شعوب الدنيا وأفرادها، ولكن كلما جاء موقف للتطبيق؛ تلاعبنا بمعاني الألفاظ، كلٌّ يفسر الكلمة ذات الشأن في الموقف المُعيَّن بما يُحقق له أغراضه، ومن هنا جاء انعدام التفاهم ظاهرة من ظواهر عصرنا، تضخمت حتى استحقَّت أن ينشأ لها لون خاص من ألوان الأدب، هو أدب العبث، أو أدب اللامعقول.
ولم يقتصر الأمر على لون خاص من الأدب ينشأ بسبب انعدام التفاهم بين الناس، بل ربما كانت هناك وقفات فكرية أخرى، مما نراه في عصرنا، ذات علاقة بالظاهرة نفسها؛ فهنالك كثيرون من القادرين على تعميق أفكارهم، والوصول بها إلى درجة من الدقة لا يألفها جمهور القارئين، أرادوا أن يتعقبوا قدرة اللغة على التوصيل، ليُحدِّدوا أين يجوز الكلام وأين يجب الصمت، فتناولوا الموقف من أساس أساسه، وهو: ما حقيقة العلاقة بين اللغة من جهة والعالم من جهة أخرى؟ ولعلِّي أُحسن التصوير، إذا زعمتُ بأن هؤلاء المفكرين، الذين طرحوا على أنفسهم سؤالهم عن العلاقة بين اللغة والعالم، قد عادوا إلى الناس بإجاباتٍ ثلاث، هي نفسها التي تتحدَّد بها الفواصل الحقيقية بين ثلاثة نماذج من تيارات الفكر، في عصرنا وفي غير عصرنا على حدٍّ سواء.
كانت الإجابة الأولى هي أن الإنسان في معظم حياته الفكرية أو العقائدية، قد يظن — مخطئًا — أنه إنما يواجه عالم الأشياء ذاته مواجهة مباشرة، حين يُفكر أو حين يعتقد، وحقيقة الأمر هي أنه لا يتعامل إلا مع كلمات اللغة التي يظنُّ واهمًا أنه إنما بناها على «وقائع»، في حين أنه سجين تلك الكلمات منذ تعلَّم كيف ينطقها وكيف يكتبها ويقرؤها، فهو في حياته الفكرية ينقل لفظًا من لفظ، ويُخرج لفظًا من لفظ، وهكذا يظل يدور في دوامة اللغة كلما فكر، ظانًّا أن تلك الألفاظ التي يدور في دوامتها، إنما هي «الأشياء» أو هي «الوقائع» التي بنى عليها أفكاره وعقائده، وإذا كنتُ أنا أعيش في برج مُغلق قوامه ألفاظ وعبارات، وإذا كان جاري هو الآخر يعيش في برج مُغلق من ألفاظ وعبارات، كل منَّا ينضح من وعائه ليقول أو يكتب، فأين نلتقي؟ إنه لا لقاء، ومن ثَم كانت معارك الكلام التي لا تنتهي في الصحف وفي الكتب وفي الإذاعات، والواقع لا يتغير منه شيء، وأعني «الواقع» الذي تدور تلك المعارك الكلامية حوله، وذلك لأن الواقع إذا تغير منه شيء، فإنما يتغير بفأس تشقُّ الأرض فتنزرع قمحًا وقطنًا، ويتغير بمنشار يقطع الخشب، ومسمار يُدق لتُوصَّل قطع الخشب فتصبح مقعدًا للجلوس، ومن هنا كان هنالك فرق بعيد بين معرفة نظرية يُراد بها أن تُطبَّق على الأشياء بحيث يكون ذلك التطبيق هو معيار صدقها، ومعرفة نظرية تظلُّ طوال عمرها معرفة نظرية، هي التي تقيس صِدق نفسها بنفسها، وفي هذه الحالة يصدُق قول القائلين بأن الأمر يتحوَّل بأصحاب تلك المعرفة ليكون أبراجًا مصمتة جدرانها من ألفاظ وجُمل، ولكل برج ساكنه الذي يتوهَّم أن كلماته هي دُنيا الناس ما دامت هي دُنياه.
وكانت الإجابة الثانية عن السؤال: ما العلاقة بين اللغة والواقع؟ إجابة أكثر دقة؛ لأنها لم تُقدم نفسها إلا بعد أن تحدَّدت بدقة بالغة طبيعة «اللغة» من ناحية، وطبيعة «العالم» من ناحية أخرى، ولم يفُتها في ذلك التحديد أن تكون على بينة من نفسها، بأنها إنما تُوجِّه اهتمامها إلى مجال «العلوم» دون أي مجالٍ آخر من مجالات الحديث، وذلك لأن المعنى المراد من مفهوم كلمة «العالم» قد يختلف بين أن يكون اهتمامنا مُوجهًا نحو الفكر العلمي، وبين أن يكون اهتمامنا موجهًا نحو مجالٍ آخر مما يصحُّ الحديث عنه أو البحث فيه.
كان أصحاب هذه الإجابة الثانية على إلمامٍ تام بعلوم الطبيعة وعلوم الرياضة؛ ولذلك جاءت كتاباتهم مُركزة مكثَّفة تُحلِّلها رموز علمية كثيرة، ولذلك كله جاءت كتاباتهم عصيَّة الفهم على غير الدارسين، وسأحاول هنا أن أُقدم صورة مُصغرة وواضحة بقدْر المستطاع، لما قالوه في موضوع العلاقة بين اللغة والعالم، فأما «العالم» عندهم فهو مجموع ما هو كائن في الواقع؛ أي إنهم يحذفون منه — ما دمنا في مجال التفكير العلمي — كل المعاني والأفكار المُجردة التي لا تخضع في مراجعتنا لصدقها، للخبرة التجريبية المشتركة بين الناس، ولمَّا كان ما هو كائن في الواقع لا يكون إلا فردًا مفردًا، كهذا الرجل، وهذا النهر، وهذا القمر وتلك الشمس. أي إن أي فكرة لها تعميم في معناها، لا تُعد من نوع الكائنات الفردة المُفردة، بحكم كونها تصدُق على أفراد كثيرة في وقتٍ واحد، فإذا صادفتنا فكرة لها مثل ذلك التعميم، كقولنا «كتاب» أو «شاعر» أو «فضيلة» وأردنا البحث عن مدلولها في العالم الواقع؛ وجب علينا أولًا أن نذكُر فردًا واحدًا مُعينًا من أفرادها، ليكون هذا الفرد هو الذي نبحث عنه في عالم الواقع؛ لأن هذا العالم — كما أسلفنا — ليس فيه إلا أفراد ومفردات، فإذا قيل لك إن أي كتابٍ إنما تُطبع الكلمات عليه بالحبر، وأردت أنت أن تتثبت من صدق هذا الكلام، فلا سبيل إلا أن تتناول كتابًا واحدًا مُعينًا ليكون موضعًا للفحص، وإذا قيل لك إن الشاعر ينظم كلماته في وزنٍ مُعين، ولا يُجريها سائبة كما يفعل الناثر، فسبيلك إلى التحقُّق من هذا، هو أن تخرج من خزانة كتبك ديوانًا لشاعرٍ واحد مُعين، فتُراجع كلماته كيف نُظمت، وهكذا، فالتحقُّق من صدق المعنى العام المجرد مُحال إلا عن طريق أفراده، وإذا لم تجد فردًا مما يندرِج تحت ذلك المعنى العام وجب عليك تعليق الحُكم بصدق ذلك المعنى أو بكذبه.
ذلك هو «العالم» عند أصحاب الإجابة الثانية، وأما «الفكر» فليس سوى العبارة اللغوية التي تُشير بها إلى واقعةٍ معينة من وقائع العالم، وهذا يقتضي: أولًا أنه لا معنى لقول قائل إن لدَيه فكرة في ذهنه ولكنه عاجز عن التعبير عنها بألفاظ توضحها؛ وذلك لأن ما ليس يخرج للناس في لغة يسقط عندهم من حساب الأفكار، وثانيًا أن العبارة اللغوية التي لا تجد لها واقعةً من وقائع هذه الدنيا، بحيث يكون هنالك التماثل الكامل بين تركيبها اللفظي من جهة، وبين تركيب الواقعة المشار إليها من جهة أخرى، تُعد قولًا بغير معنى؛ تَانِك — إذن — إجابتان مما أجاب به رجال الفكر في عصرنا، حين عُرضت لهم مشكلة «اللغة» ومتى تعني شيئًا، وكيف تعنيه، كانت الإجابة الأولى تذهب بنا إلى أن الإنسان إنما هو حبيس لُغته التي صنعها، فهو يظلُّ يدور في سجنها متوهِّمًا بأنه يخترقها إلى حيث حقائق العالم، وكانت الإجابة الثانية على غير ذلك، فهي اعترفت بأن الإنسان على صلةٍ بالعالم عن طريق لغته، شريطةَ أن يجيء استخدام اللغة مقيدًا بقيود، وبعد ذلك تأتي إجابة ثالثة، لعلَّنا أشرْنا إليها عرضًا فيما أسلفناه، وهي أن حقيقة الإنسان التي يَعتد بها، ألا وهي حياته الوجدانية، بل حياته الإدراكية التي تقع فيها المُدرَكات على حواسِّه وقوعًا مباشرًا، كالذوق والشم، لا تستطيع اللغة أن تنقل إلى الآخرين شيئًا منها، إلا على سبيل التقريب والإيحاء.
ونعود بعد هذا العرض لأهم تيارات الفكر المعاصر، عن مدى قُدرة اللغة التي يتبادل بها الناس أفكارهم ومشاعرهم، مدى قُدرتها على نقل ما يُراد منها نقله، من مُتكلم إلى سامع، أو من كاتب إلى قارئ، ودع عنك أن يكون الكاتب من أبناء عصرٍ مضى منذ مئات السنين أو آلافها، وأن يكون القارئ من أبناء هذا العصر، أقول: نعود بعد هذا العرض، إلى ما بدأنا به حديثنا هذا، عندما أشرْنا إلى مفارقةٍ عجيبة تلفت النظر، وهي أنه بينما هو عصر تتدفَّق فيه الكلمات كالشلالات الهادرة، من وسائل الإعلام والإعلان، وفي أنهُر الصحف، وعلى صفحات الكتب، تتدفَّق الكلمات ملايين ملايين، من أفواه الخطباء في المحافل الدولية والمحلية، وفي أحاديث الناس التي يُلقونها في الهواء، أو يُسجلونها على أشرطة. نعم إنه بينما هو عصر لم تشهد الدنيا عصرًا قبله يُشبهه أو يقترب منه في كثرة مطبوعاته بسبب الأجهزة الكثيرة التي تساعد على الطبع والنشر، نجد من رجال الفكر فيه من يدعو إلى وجوب «الصمت» كلما وجد المُتكلم أو الكاتب أن اللغة عاجزة عن التوصيل! وإنها لعاجزة بالفعل عن التوصيل في حالات كثيرة، كما يتَّضح ذلك من الإجابات الثلاث التي أوردناها فيما أسلفناه، وهي إجابات اختلف بها أصحاب الفكر في عصرنا، عندما طرحوا على أنفسهم سؤالًا عن العلاقة بين اللغة ودنيا الأحياء والأشياء، ولم تقتصر الدعوة إلى وجوب الصمت كلما عجزت اللغة، على المُتصوفة كما كانت الحال في العصور الماضية، بل امتدَّت فشملت بعض فلاسفة العلم، فعندهم أنه إما قول علمي نقوله فيعلم الناس به ماذا يفعلون بناءً عليه، وإما الصمت عن الكلام، وهو قول قريب المعنى مما كان «هيوم» في القرن الثامن عشر قد قاله ليُميز به ماله معنى مما ليس له معنى من الكلام؛ إذ قال ما معناه: خُذ الكتب الموجودة كتابًا كتابًا، واسأل نفسك عن كل كتاب: أهو في شيء من علوم الطبيعة؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فاسأل: وهل هو في شيءٍ من علوم الرياضة؟ وإذا كان الجواب بالنفي مرة أخرى، فألقِ به في النار. وفي عصرنا أصدر فتجنشتين كتابه المُركَّز العسير، «رسالة منطقية فلسفية» وترجمه إلى العربية صديقي الأستاذ الدكتور عزمي إسلام، يُحدد فيه تحديدًا قاطعًا متى يكون للكلام معنى، وليعلم القارئ أن الرأي يكاد يُجمِع على أن فتجنشتين هذا قد جاء في عصرنا فاتحةً لفكرٍ جديد يُلائِم عصر العلم، ولقد جعل آخر سطر في كتابه ذاك يقول ما معناه: «حيثما عجزتَ عن الكلام، وجب عليك الصمت.» مُريدًا بذلك أن يقول: إنه إذا لم تكن عبارتك مشيرةً إلى شيء من واقع العالم الخارجي؛ فخير لك وللناس أن تسكت، لأن ما تقوله في مثل هذه الحالة، هو خالٍ من «المعنى» (إذ معنى الجملة المُعينة هو الواقعة التي تشير إليها تلك الجملة)، بل لا ينتهي الضرر عند خلوُّ كلامك من المعنى، وإنما يُجاوزه ليصبح مصدر تضليل للناس، حين يظنون قيام المعاني وهي غير قائمة.
وإذا نحن نظرنا إلى الحياة الفكرية في الوطن العربي اليوم، باحثين فيه عن علَّة تخلُّفه؛ فربما وجدْنا تلك العلة في حقيقة أن الفكر العربي كما نراه الآن، إنما يندرج معظمه — وأوشكت أن أقول يندرج جميعه — تحت وجهة النظر الأولى بين وجهات النظر الثلاث التي أوردناها، فوجهة النظر الأولى عندما أراد أصحابها أن يُحللوا العلاقة بين «اللغة» التي تجري بها أقلام المفكرين، وبين عالم «الواقع» تقول إن تلك العلاقة مبتورة أو تكاد، لأن هؤلاء المفكرين يدورون في دوَّامة الكلمات، لا يخترقونها إلى مواقف الحياة الفعلية كما هي واقعة في الشارع والبيت والمصنع والحقل ودواوين الحكومة، فهم يُعارضون فكرةً بفكرة، أو يردُّون فكرةً إلى فكرة، أو يَرجِعون بفكرة إلى مصدرها من الكتاب أو الكتب التي وردت فيها، وهكذا وهكذا؛ ما يجعل رجل الفكر يعطي حياته مُتنقلًا من ورقة إلى كتاب، ثم إلى شيء يكتبه أو يذيعه في الناس، فهو كمن يحيا في بيت من ورق، ولذلك فهو لا يُحسُّ الحياة الخارجية، أو ظواهر الكون، إلا عن طريق كلمات مسطورة، فإذا كانت تلك الكلمات قد كتبها في الأصل من عركوا الحياة وتأمُّلوا ظواهر الكون؛ كان الفكر العربي اليوم يقتات من موائد من حملوا عنه مَشقة الخوض في عباب الأحداث والظواهر، فلا هو مُبدع فيما يكتبه، مُقيمًا إيَّاه على أساس الخبرة الحية، ولا هو أخلَصَ لنفسه بحيث أرغم نفسه على الصمت حين لم يجد في خبرته المباشرة ما يقوله للناس.
ومأساة المآسي في حياتنا الفكرية، أننا نتصدَّى لمن يدعو إلى وجوب أن يكون لكلامنا «معنى» حين يجيء هذا الكلام في دائرة عن واقع الحياة والعالم. وقد أشرْنا إلى أن المعنى يتحقق للكلام حين يشير إلى وقائع قائمة أو ممكنة الوقوع، ولستُ أريد بهذا أن أقول إن «كل» كلام ذي قيمة يجب أن يكون من هذا الطراز، كلَّا، وألف مرة كلَّا، فلا يقول قولًا كهذا إلا مجنون، بل إن ذلك الشرط مشروط فقط، عندما يكون زعم القائل، وتوقُّع المتلقي لقوله، مؤسَّسَين على أن القول يتصل بما هو واقع، ولكن هنالك إلى جانب هذا الضرب من الكلام العلمي، أو ما هو جارٍ مجرى الكلام العلمي؛ ضروبًا أخرى من القول لها طبائعها المختلفة ومعاييرها المختلفة. ويكفي أن أسوق الشعر مثلًا، علمًا بأن الشعر الجيد، بطريقته الخاصة في استخدام اللغة، إنما هو الذي يرتفع باللغة إلى ذروة عبقريتها — كما شرحنا ذلك في موضعٍ سابق — لأن الاستخدام «العلمي للَّفظ» يُجرده من كل شحنته حتى لا يبقى منه إلا «رمز» يُشير إلى معنى مقصود، في حين أن الشعر يفعل نقيض ذلك، فهو بغض النظر عن الوظيفة الإشارية، فقد تقوم أو لا تقوم، ولكنه يُحيي من اللفظ مكنوناته الوجدانية التي حصَّلتها خبرات الإنسان من مُعاناته الحية على امتداد السنين … نريد أن نقول: إنه إذا عجز المُتحدث عن حياة الناس الواقعة أن يقول كلامًا ذا معنى؛ فللصمت بلاغته.