الفكر الإسلامي وآفاقه الجديدة
أبدأ الطريق من بدايتها، وأسأل: متى يكون الفكر فكرًا أصيلًا؟ ثم متى يكون هذا الفكر فكرًا إسلاميًّا؟ وأجيب في إيجاز فأقول: إنه لا «فكر» إلا أن تكون هناك «مشكلة» حقيقية اعترضت السائر في سبيله، فأوجبت عليه أن يجد لها حلًا، ليتسنَّى له استئناف السير؛ فليس «الفكر» الأصيل، إذا استحقَّ هذا الاسم، ترفًا يلهو به الإنسان تسريةً عن همومه العابرة، أو إزجاءً لفراغ ثقُل على نفسه؛ كلَّا، ولا هو فاعلية يُبعثرها مع الهباء لا يُبالي أن تجيء له تلك الفاعلية بحاصلٍ نافع أو لا تجيء بشيء؛ فما أكثر الذين يَحيون حياة شبيهة بالحياة الفكرية في ظاهرها؛ لأنها حياة تنقضي بين الكتُب والدفاتر، وتمتلئ بأفكار تُحفظ لتُروى كلما حانت لهم فرصة لروايتها، لكن حياةً كهذه إن تكن في أغلب حالاتها وسيلة شريفة من وسائل كسب الرزق، أو المنصب، أو الشهرة وقوة الجاه؛ إلا أنها حياة قلَّما يفتح لها التاريخ صفحاته، لأنها — في الأغلب — تمضي وكأنها لم تكن؛ لأن الإنسان لا يتقدَّم بها وقد يتأخر.
وفوق هذه الدرجة تأتي درجة أعلى منها، لكنها — مع ذلك — لا تعلو حتى تبلغ أن تكون «فكرًا أصيلًا»، وتلك هي المرحلة التي تنصبُّ فيها فاعلية العقل بفكرٍ على فكر؛ بمعنى أن يقف المُفكر من مُفكر آخر موقف الشارح، أو المؤرخ، أو المؤيد، أو المعارض، أو غير ذلك من سائر الحالات، التي ينحصر فيها الفكر في حدود فكرٍ قائم. نعم، إنها ضرب من النشاط العقلي الذي قد لا يكون لنا عنه غِنى؛ إذ هو المجال الذي يجول فيه «العلماء» و«المعلمون» و«المتعلمون»، لكنه رغم ضرورته العلمية والتعليمية؛ لا يرقى إلى منزلة الفكر الأصيل، الذي يتصدَّى «للمشكلات» التي تنشأ على أرض الواقع الفعلي في حياة الناس، عصرًا بعد عصر، وكدتُ أقول يومًا بعد يوم. وإن هذه المشكلات الحية التي تلحُّ على من استشكلت عليه أن يجد لها حلًّا؛ لَتتعدَّد بتعدُّد المواقف وأصحابها من أفراد الناس، وهي من صنوفٍ تكاد تستعصي على الحصر والعدد، ومع ذلك فيمكن — بل لا بدَّ لنا — أن نُصنفها في مجموعاتٍ متجانسة، هي التي تكون عندئذٍ «قضايا» العصر المعين، التي تتحدى العقل، فيظهر لها من القادرين رجالٌ يتناولونها بفكر يُذيب عُقدتها، وينتهي بها إلى حلول تفضُّ عنها مواضع إشكالها. ومن تلك المشكلات ما يغلب عليه الجانب العملي، ومنها ما يغلب عليه الجانب النظري، إلا أن الصنفَين معًا يجتمعان في حياة الناس الفعلية على المدى القريب أو المدى البعيد.
وواضح أن مثل هذا الفكر يكون «إسلاميًّا» أو لا يكون، بمقدار ما تكون المشكلة المعروضة موصولةً «بالإسلام» عقيدة وشريعة، ولا أقول موصولة «بالمسلمين»؛ لأن حياة الإنسان كائنةً ما كانت ديانته أوسع من تلك الديانة، فله مَعِدة تهضم الطعام، ورئتان تتنفَّسان، وله بيوت يبنيها وشوارع يرصفها، وجسور يُقيمها، وغير ذلك من جوانب حياته، التي هي جوانب «محايدة» بالنسبة إلى المُعتقدات الدينية، اللهم إلا في بعض تفصيلاتها: كأن يحرم على الإنسان وضع طعامٍ محظور في معدته، لكن ذلك لا ينفي القول في جُملته أن الفكر الإسلامي إذا وجدناه يستمدُّ إسلاميته من كونه يُعالج مشكلاتٍ تبعث من أصول العقيدة وتشريعها؛ فإن التفرقة تظل قائمة، بين مفكر «أصيل» يتصدى للمشكلات الحية ذاتها، ومفكر «تابع» يجري فكره على فكرٍ أصيل، حافظًا نصوصًا، أو شارحًا لها، أو باحثًا في محتواها، أو مُعلمًا لها في عملية من عمليات التعليم.
ونسوق أمثلة نُوضِّح بها طبيعة الفكر الإسلامي الأصيل؛ وهي أمثلة نستمدُّها من الحياة الفكرية عند المسلمين الأوائل، في أول خطوة لتلك الحياة على طريقها الطويل: ومن تلك الأمثلة يتبيَّن لنا، كيف ينبع الفكر الأصيل من مشكلاتٍ حقيقية تنبض بالحياة، فلا هي مُتكلفة ولا مُتصنعة، ولا هي منقولة عن آخرين، بحيث نرى عقدتها قد استعصت على أصحابها الأصليين، فنقلَها بعد ذلك من نقلها؛ لا لأنها مُتصلة بمواقف أشكلت عليه، بل لأنه يدرس جانبًا من «تاريخ» السابقين، وهي دراسة لا نشكُّ في ضرورتها وأهميتها، لكنها ليست من جنس الموقف الأصيل، الذي تصدَّى فيها الفكر لمشكلةٍ حية تخز جلود الناس بشوكها؛ فعندما نشب قتال حول الخلافة، بين «علي» — كرم الله وجهه — و«معاوية» — رضي الله عنه — ووقعت في سبيل ذلك موقعة «الجمل» وموقعة «صفين»؛ سُفِكت دماء غزيرة من دماء المسلمين من الجانبَين، فمن هذا الموقف النابض بالحياة، تحركت الضمائر لتسأل سؤالًا نابعًا من صميم ذلك الواقع، ومُتصلًا بأوثق صِلة بالعقيدة وشريعتها؛ وذلك السؤال هو: على من تقع التبعة في تلك الدماء الطاهرة التي سفحتها سيوف المُتقاتلين وقسيُّهم ورماحهم؟ وإذا استطعنا تحديد التبعة ومن يحمل عبئها، فماذا يكون حُكم الإسلام فيه؟ لقد كان الناس أمام فريقَين من المسلمين يتقاتلان؛ ومحال أن يكون كلاهما على صواب، وإلا لما تقاتلا، فلا بدَّ أن يكون أحد الفريقَين — على الأقل — على خطأ في هذا القتال، وإذا عرفناه فقد عرفنا من كان سببًا في قتل المسلمين؛ فماذا يكون حكم الإسلام في مثل هذا الذنب الذي هو من كبائر الذنوب؟ وهنا ذهب بعضهم بهذا السؤال إلى الحسن البصري وهو في حلقة الدرس مع الدارسين، وألقوا بسؤالهم، فما هو إلا أن نطق «واصل بن عطاء» بالجواب الذي ارتآه، وهو أن من تقع عليه التبعة في ذلك القتال، لا هو مسلم خالص، ولا هو كافر خالص، وإنما هو مسلم عاصٍ وهي منزلة تقع بين المنزلتَين، فلمَّا لم يقع هذا الرأي موقع الرضا من الحسن البصري ونفرٍ من الحاضرين؛ انتحى واصل بن عطاء ناحيةً أخرى من المسجد، وتبعه بعض الدارسين، فقال الحسن البصري قولته المعروفة: «قد اعتزل عنا واصل.» وبهذا أُطلق اسم «المعتزلة» على تيار فكري إسلامي كان له قدرُه العظيم في تاريخ الفكر الإسلامي، فانظر إلى «الفكر الأصيل» كيف ينشأ؛ فهنالك المشكلة الحقيقية الني نبتت من أرض الواقع الفعلي، وهنالك القلق الذي تتأرَّق به الضمائر حتى تجد الحل الذي يزيح العبء عن الصدور، وهنالك الفكر ينفُذ بشعاعه في قلب المشكلة؛ ليجد الحل الذي يعيد الطمأنينة إلى النفوس القلقة، ولكي يزداد الوضوح وضوحًا؛ فلنُقارن وقفة واصل بن عطاء، وهو يُعمل الفكر ليجد الحل في مشكلة قائمة وحادة وشائكة، بنا نحن اليوم، حين ندرس ما قاله واصل؛ فنحن في هذه الحالة لا نُفكر، بل نقتات على فكرٍ وجدناه ودرسناه.
وإذا قرأت عن الحياة الفكرية في البصرة إبان القرن الثاني الهجري؛ لرأيت صورة رائعة للفكر الإسلامي الأصيل، بالمعنى الذي حدَّدناه لهذه العبارة فيما أسلفنا، ولستُ أريد بهذا أن أصِفه بالصواب أو بالخطأ؛ إذ هو صراع بين وجهات نظر مُتضادة، فإذا صدقَت واحدة منها؛ كان لا بدَّ لضدِّها أن يكون على غير الصواب، وإنما أردتُ القول بأن الصورة التي تشهدها تُوضح لك كيف ومتى نقول عن فكرٍ إنه أصيل، ونقول عنه فوق ذلك إنه فكر إسلامي، لارتباطه بالعقيدة وشريعتها، رغم ما تصطرع به الآراء في ذلك؛ ففي مدينة البصرة إبان القرن الثاني، نرى كيف يتشعَّب الفكر أحزابًا حول الموضوع الواحد، وكانت خلافة علي لم تزل هي رأس الموضوع. ثم كان الرأي الذي أدلى به واصل بن عطاء في من تقع عليه تبعة الدماء التي أُهدرت في موقعتي «الجمل» و«صفين» ماثلًا أمام الأذهان، بين القبول والرفض؛ فهنالك حزب أطلقوا عليه اسم «العثمانية» انتسابًا للخليفة عثمان بن عفان، وتأييدًا لوجهة النظر التي تدين عليًّا — كرم الله وجهه — في أنه تساهل عامدًا في البحث عن قتَلَة عثمان، وقام ضد ذلك الحزب العثماني حزب آخر، يُشايع عليًّا ويؤيده، ثم إلى جانب هذا وذاك، قام حزب ثالث مُحايد تميَّز أفراده بالزهد، وهو حزب الخوارج، الذي خرج على الناس برأيٍ سياسي في شروط الصلاحية للخلافة، وفي حقِّ المسلم في أن يخرج على الحاكم إذا أخطأ. وإلى جانب تلك الأحزاب الثلاثة، التي يمكن اعتبارها سياسيةً فيما أثار همَّها واهتمامها، رأينا فرقة «المعتزلة» تُعلن عن رأيها في حرية الإرادة التي على أساسها يُصبح الإنسان مسئولًا عما يفعل؛ فتقاومها فرقة «الجهمية» (سُمِّيت باسم زعيمها جهم بن صفوان) وهي جماعة أنكرت على الإنسان تلك الحرية في إرادته إنكارًا تامًّا؛ لأنه مُجبر بمشيئة الله في كل ما يفعل، ولا اختيار له في شيء.
فإذا وضعنا هذا النموذج أمام أبصارنا، ولم يَفُتنا منه جوهره، الذي هو تسليط الفكر في حرية كاملة على المشكلات التي تفرزها الحياة الواقعة، والتي تتأرَّق لها الضمائر التماسًا عند أصحاب الفكر لحلٍّ أو حلول تُزيح عبئها عن ضمائرهم، أقول؛ إذا وضعنا هذا النموذج أمام أبصارنا، وسألنا: ماذا ينبغي أن يكون عليه الفكر الإسلامي في عصرنا هذا؟ أفيكون جوابنا عن هذا السؤال هو أن نُبدي ونُعيد في تلك المسائل ذاتها التي اصطرعت حولها الآراء والمذاهب في البصرة خلال القرن الثاني الهجري؟ أم الصواب هو أن نقول: إن ما ينبغي لنا أن نفعله بفكرنا الإسلامي اليوم هو أن نصنع بمشكلات حياتنا مثل الذي صنعه الأوائل في مشكلات حياتهم فلا نتكلَّف المسائل ولا نتصنَّع الصعوبات ولا نُعيد مشكلات السلف وندعي أنها هي هي مشكلاتنا؟ إذن فالخطوة الصحيحة الأولى، على الطريق الصحيح، هي أن نسأل أنفسنا صادِقين مُخلصين: ما معوقات السير التي تُقيد خُطانا في عصرنا؟ وماذا تكون حلولها من منظور إسلامي؟ بمعنى أن تجيء تلك الحلول غير مُتعارضة ولا مُتناقضة مع العقيدة وشريعتها، وهنالك فرق بين أن نبحث عن تلك الحلول فيما بين أيدينا من كتب السلف، وبين أن نصبَّ فاعليتنا العقلية الخاصة على المشكلات التي تعترضنا، مُراعِين ألا تجيء نتائجها الفكرية غير مُتعارضة مع أصول العقيدة والشريعة، وبمِثل هذه الوقفة وحدها يمكن القول بأن لنا ما يصحُّ أن يُطلَق عليه اسم «الفكر الإسلامي»؛ لأن الفكر في هذه الحالة هو فكرنا، والمشكلة مشكلتنا، وليس للسلَف علينا درجة تُبيح أن تنقل عنهم المسائل وحلولها؛ لأن لنا مسائلنا وينبغي أن تكون لنا حلولها. إنه لمن الخير أن نرسم خطًّا فاصلًا نُفرق به بين ما نصفه بأنه «فكر إسلامي» من جهة، وبين ما يصحُّ وصفه بأنه فكر «المسلمين»؛ فالدائرتان مُتداخلتان إلى حدٍّ قد يؤدي بنا إلى شيءٍ من الغموض، فعلى الرغم من أن الفكر الإسلامي قد اضطلع بمُعظمه مسلمون؛ إلا أن المسلمين قد كان منهم إلى جانب ذلك علماء ذوو فكرٍ إنساني عام لا يتقيَّد بصفةٍ تقصره على ديانةٍ دون ديانة أخرى؛ فبينما الفكر الإسلامي، كما أسلفنا، هو الفكر المُتعلق بالعقيدة الإسلامية وشريعتها، نرى للمسلمين فكرًا في شتَّى نواحي العلم والمعرفة، مما لا يختص بالعقيدة والشريعة، وليس فيه من الإسلامية إلا إسلام صاحبه؛ فعالم الرياضة، وعالم الفلك، وعالم الكيمياء، وعالم البصريات، بل نستطيع أن نُضيف أنواعًا أخرى من ضروب الكتاب، كالرحلات، ونقد الأدب، وعلم الحيوان وعلم النبات، وغيرها، كل ذلك ضروب من العلم وضروب من المعرفة قام بها مسلمون، حتى لقد أصبحت جزءًا مُهمًّا فيما نُسميه بالتراث العربي، إلا أنه لا يندرج فيما نُسميه بالفكر الإسلامي، أو قُل إنه لا ينبغي له أن يندرج، حتى لا نتعرَّض بعد ذلك للخلط بين مجالٍ ومجال، وهو خلط يحدث فعلًا، ويسوقنا إلى مطالبة المفكر المسلم، الذي يجول بفكره في مجال علمي مُحايد، بأن يلتزم بما لا يلزَم في منهجه العلمي.
فما الموضوعات التي تناولها السلَف مما نعدُّه فكرًا إسلاميًّا؟ لعلَّنا نستضيء بهم فيما يجِب علينا فِعله اليوم إذا ما أردنا فتح آفاقٍ جديدة لفكرنا الإسلامي تتناسب مع حياتنا في هذا العصر الذي نعيش فيه. سنضرب أمثلةً لما تناوله السلف من مسائل كوَّنت ما نُسميه بالفكر الإسلامي عندهم، وأول ما نذكره من تلك الأمثلة، طائفة كبيرة من المفاهيم التي وردَت في القرآن الكريم، فكانت بمنزلة عُمُد يقوم عليها البناء الديني؛ فرأى مفكرو السلَف أن يتناولوا تلك المفاهيم بالتحليل، ليُبرزوا منها جوهر المعنى، وبالطبع لا نتوقَّع أن يتَّفقوا جميعًا على نتائج بعينها؛ إذ الأمر موكول إلى قدرة الباحث الفاحص على تحليل ما أراد تحليله من تلك المعاني، ومن هنا تفرقوا شيعًا ومذاهب في الموضوع الواحد: فهنالك — على سبيل المثال — من فِرَق «المُتكلمين»: المُعتزلة، والأشعرية، وأهل السنة، وهنالك الظاهريون والباطنية، وهنالك فروع وفروع للفروع؛ حتى لقد اقتضى الأمر من مؤرِّخي الفكر أن يؤلِّفوا كتبًا تُوضح الفوارق الدقيقة بين فرقةٍ وفرقة في فهم كلٍّ منهما للمعنى المعين الذي تناولته بالشرح والتحليل.
وفي مقدمة تلك المبادئ الأولية في الإسلام، التي وقع عليها اهتمام الفكر الإسلامي؛ «وجود الله» عز وجل، وإقامة البراهين على ذلك الوجود، والمعنى المقصود «بالوجود». ويتبع ذلك صفة «الواحدية» و«الأحدية»؛ فالله سبحانه وتعالى «واحد» «أحد» فماذا نفهم من كلٍّ من هاتين الصفتَين؟ فبينما «الواحدية» تتَّجِه إلى الجانب العددي من حيث إن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له؛ نجد «الأحدية» تتَّجه إلى ائتلاف الصفات في الذات الإلهية؛ فلله سبحانه وتعالى صفات يذكرها لنا الكتاب الكريم، منها أسماء الله الحسنى، لكن «أحدية» الله تقتضي ألا يكون بين تلك الصفات تناقُض ولا تضادٌّ ولا إلى نوع من أنواع التعارُض، ولنلحظ في هذا الصدد أن بعض تلك الصفات، التي هي مُطلقة لا تحدُّها حدود؛ حين تُنسَب إلى الله جلَّ وعلا تكون في البشر في صور مُقيدة بحدود. ثم ما هو أهم من ذلك، وهو أنها قد يتعارَض بعضها مع بعض في الذات الإنسانية الواحدة؛ كأن تتعارَض الإرادة — مثلًا — مع القدرة، فيريد الفرد الإنساني أكثر مما هو قادر عليه، أو يكون في قُدرته ما هو أكثر مما يُريده، وهكذا، وبمقدار هذا التنافر بين الصفات في الإنسان تتعرَّض أحدية التكامُل في كيانه. ولقد كانت صفات الله سبحانه وتعالى، وعلاقتها بذاته الإلهية؛ موضوعًا من أهم ما شُغل به الفكر الإسلامي عند القدماء، وكان محور الإشكال في ذلك هو صعوبة التوفيق بين واحدية الذات وتعدُّد الصفات؛ فكيف تُفهَم تلك الصفات في تعدُّدها بحيث تظلُّ «الوحدانية» على كمالها المطلق؟
ومن الصفات التي احتلَّت في الفكر الإسلامي مكانةً متميزة صفة «العدل»، وهي منسوبة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنها صفة وثيقة الصِّلة بحرية الإرادة عند الإنسان أو جبرها. ولقد تميز «المعتزلة» بالإصرار على أن يكون الإنسان حُر الاختيار فيما يفعله أو ما ينصرف عن فعله؛ لأنه إذا لم يكن كذلك تعذَّر علينا تصوُّر «العدل» في مُحاسبته على فعلٍ كان مجبرًا بمشيئة إلهية سابقة على فعله، وهو موقف عارضته «الجهمية»، الجهم بن صفوان وأتباعه، إذ الإنسان في رؤيتهم مُسيَّر في كل دقيقة وجليلة مما يقول أو يفعل، حتى إذا ما أُشير إلى «العدل» ماذا يكون معناه عندئذٍ، من حيث هو صفة لله عز وجل؛ قالت الجهمية بوجوب الفصل بين معنى العدل منسوبًا إلى الله سبحانه وتعالى، والعدل منسوبًا إلى الإنسان. وكانت صفتا «التوحيد» و«العدل» من أهم ما تَميَّز المعتزلة بوقفةٍ خاصة إزاءهما، مُختلفين في تلك الوقفة عن سائر الفِرَق، حتى لقد كانوا يقولون عن أنفسهم: «نحن أهل توحيد وعدل.»
وتعرض الفكر الإسلامي عند الأقدمين لمسائل أخرى كانت في تقديرهم من كبريات المسائل؛ من أهمها فكرة «الإمامة» ومسألة «خلق القرآن»؛ فأما «الإمامة» فقد نشأت فكرتها نابعة من ضرورات الحياة التي عاشها الأولون بالنسبة إلى دينهم، وخلاصتها هي أنهم تساءلوا، بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، من ذا يكون المرجع الحاسم الذي يُرجع إليه إذا ما استشكل عليهم أمر في فهم الكتاب الكريم؟ إنهم إذا تركوا ذلك لاجتهاد العلماء؛ جاز أن تتعدَّد وجهات النظر، فلا يدري أحد عندئذٍ من الذي وُفِّق إلى الصواب، ومن الذي فاته التوفيق؛ إذن، فلا بدَّ أن يكون للمسلمين «إمام» معصوم، يُوحى إليه بالمعنى الصحيح، ولا بدَّ كذلك أن تتسلسل هذه المنحة الإلهية في إمام جديد كلما مات إمام. ولقد تعلق شيعة «علي» — كرم الله وجهه — بفكرة الإمامة هذه؛ فوصلوها بالإمام علي وبنيه من بعده، مع اختلافهم بعد ذلك في تخصيص الفرع المُعين من أولئك البنين، الذي يختصُّ بالإمامة.
تلك مسألة، ومسألة أخرى رجَّت الفكر الإسلامي رجًّا عنيفًا عند السلَف، وأعني بها مسألة «خلق القرآن»؛ وشرح ذلك في إيجاز هو أن تساءل من تساءل عن القرآن الكريم قائلًا ما معناه في إيجاز: إن القرآن كلام الله، ولا يُعقل أن يخلو وجود الله سبحانه من كلامه إلى أن حان وقت نزوله على محمد عليه الصلاة والسلام؛ إذن تنتج لنا نتيجة ضرورية، وهي أن كلام الله أزلي مع أزلية الله سبحانه وتعالى، أو بتعبيرهم: هو «قديم» بقِدَم الله سبحانه وتعالى. وأخذ بهذا الرأي من أخذ، لكن كان هنالك من رجال الفكر الإسلامي من عارضه، وخصوصًا من فرقة «المعتزلة»؛ إذ رأوا قِدَم القرآن، أو أزليته؛ إنما تنصرف إلى «الفكرة»، ولا تنصرف إلى الحروف والكلمات والجُمَل التي نزلت بها آيات الكتاب الكريم، بل إن هذه «حادثة» — وهذه هي الكلمة التي استخدموها — أي إن اللغة المعينة التي تجسَّدت فيها «الفكرة» إنما خُلقت خلقًا عند نزول الوحي بها إلى النبي الكريم. ولقد كانت ترجح هذه الكفة مرة، وتلك الكفة مرة، مع اختلاف الرأي عند الخلفاء؛ فإذا كان الخليفة من أنصار «قِدم» القرآن أراد لهذا الرأي أن يكون له الرُّجحان، وكذلك إذا كان الخليفة مؤيدًا للمذهب الثاني، وهو أن القرآن مخلوق وحادث، أراد لمذهبه أن تكون له الصدارة.
بتلك المسائل وأمثالها نُسج مناخ الفكر الإسلامي عند الأوائل، وهنا أودُّ أن أعود بالقارئ إلى «التعريف» الذي أسلفتُ ذكره في أول هذا الحديث، وأعني تعريف المعنى المقصود بكلمة «فكر»، وكذلك تعريف المعنى المقصود بكلمة «إسلامي» حين نصف بها ذلك الفكر، ولم يكن الأمر في هذَين التعريفَين اعتسافًا، مما يسهل علينا رفضه لنُحِلَّ محله تعريفين آخرين؛ بل هما تعريفان مأخوذان من المادة اللفظية ذاتها التي صيغت بها لفظة «فكر» ولفظة «إسلامي» صفة لذلك الفكر؛ فلا بدَّ أن يكون «الفكر» بمعناه الأوفى، إيجادًا لحلٍّ تنفكُّ به عقدة استعصت بادئ ذي بدء، ثم لا بدَّ كذلك، لكي يكون ذلك الفكر «إسلاميًّا»؛ أن يكون منصبًّا على مسائل مُتصلة بعقيدة الإسلام وشريعته، فماذا نقول لزاعم منَّا إذا زعم أن المشكلات التي تعرَّض لها الفكر الإسلامي عند أسلافنا ما تزال هي هي المشكلات التي بقِيَت لتتحدَّى رجال الفكر الإسلامي في عصرنا وفيما يلي عصرنا إلى أبد الآبدين؟ وإذا كان أمرها كذلك، فما الذي أنجزه الأوَّلون إذن؟ أليست المسألة المُعينة إذا وُجد حلُّها أو حتى إذا تعدَّدت منها الحلول المُمكنة تكون قد انتقلت بذلك من دائرة المجهول إلى دائرة المعلوم؟ فإلا تكن قد بلغت الحد الحاسم من الحل؛ فلا أقلَّ من أن تكون قد خفَّ عنها بعض إشكالها، ما يستدعي أن يتَّجه الفكر الإسلامي في عصرٍ جديد إلى الانتقال نحو أفقٍ جديد من المشكلات والرؤى، ربما يكون ذلك العصر الجديد قد استحدثها للمسلم، استحداثًا يقتضيه أن يقوم بالمهمة نفسها التي اضطلع بمِثلها أسلافنا الأولون في عصرهم أو عصورهم.
وتلك هي حقيقة الواقع التاريخي كما وقع؛ فقد جاءنا عصرنا بجديدٍ يُحتم على القادرين من أبناء الأمة الإسلامية أن يُواجهوه، وماذا صنع الفلاسفة المسلمون الأوَّلون غير هذا؟ لقد وجدوا بين أيديهم «حكمة» نقلها الناقلون إلى اللغة العربية عن اليونان الأقدمين فدفعتهم طبيعة العقل دفعًا، إلى النظر فيما كان لدَيهم من «شريعة» وهذا الذي نُقل إليهم من «حكمة»؛ ليرَوا أين يكون اللقاء أو لا يكون؟ وحسبنا أن نقرأ هذا العنوان لكتابٍ من مؤلفات «ابن رشد» وهو: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال»؛ لنعرف في أي اتجاهٍ اتجهت به اهتماماته وهمومه، فما الجديد الذي جاءنا به هذا العصر؟ أو ما هي أمثلة منه ممَّا لا بدَّ لنا إزاءه أن يكون لنا فكر إسلامي في موضوعه؟
نستطيع في جُملةٍ واحدة قصيرة أن نُوجِز الجديد الذي جاء به هذا العصر، أو قُل الجديد الذي جاء له هذا العصر؛ بحيث أصبح قطبًا تدور حوله الرحى، مهما اختلف نوع الغلال التي تُوضَع فيها لتخرج طحنها، وتلك الجملة الواحدة القصيرة الشاملة، هي أن عصرنا هذا قد جاء ليقرأ كتاب الكون على نطاقٍ أوسع جدًّا وأعمق جدًّا مما فعل ذلك في كل ما عرفه التاريخ البشري قبل هذا مما يتَّجه به في هذا الاتجاه؛ وقراءة كتاب الكون مؤداها أن يكشف القارئون عن قوانين الظواهر الكونية التي تتبدَّى في كل أرجائه، وهي بالطبع لا تتبدى للإنسان دفعةً واحدة وفي واحد، كلا، ولا هو بقادر على أن يكشف عن القوانين التي تطَّرِد عليها تلك الظواهر التي يكون على وعي بوجودها؛ فالطريق إلى الغاية القصوى في هذا السبيل طريق طويل، يقترب الإنسان من غايته خطوةً قصيرة بعد خطوة قصيرة، لكنه لن يبلُغ آخِر المدى ما بقي في الكون إنسان باحث، إلا أن في هذا السير الوئيد على طريق المعرفة بقوانين الظواهر الكونية؛ ما يكفي ليجعل عصرَنا متميزًا عن كل ما سبقَه من عصور. نعم، كان للإنسان «علم» بالأشياء، يقلُّ هنا ويكثر هناك، منذ أن نشأ وعرفت له الدنيا سعيَه الحثيث في سبيل معرفته لدُنياه، إلا أن ذلك العلم السابق كله — ربما نستثني أمثلة لا تبلغ أصابع اليد الواحدة عددًا — قد وضع ثقلَه على غير الكون وقوانينه التي تسير ظواهره على مُقتضاها، وكان الجانب العلمي الذي مهر فيه السابقون هو العلوم الرياضية بشتَّى فروعها؛ وذلك لأن الفكر الرياضي لا يتطلَّب من صاحبه نظرًا إلى الكون وما فيه؛ إذ يُقام على فروضٍ يفرضها الرياضي وهو جالس في داره.
فلسْنا نبعُد عن الصواب مقدار إصبع واحدة إذا قُلنا إن العلم الطبيعي بكل فروعه — وإذا قُلنا العلم الطبيعي فقد قُلنا محاولة الكشف عن قوانين الظواهر الكونية — قد وُلد منذ أربعة قرون أو ما يزيد قليلًا، وجاءت له حصيلة في تلك الفترة الوجيزة غيَّرت حياة الإنسان على الأرض تغيُّرات لا حدود لأعماقها، ولم يكن لعلماء المسلمين — بصفة عامة — مشاركة في هذه اللفتة العلمية الجديدة من تاريخ الإنسان، لماذا؟ لأن قراءة الظواهر الكونية لاستخراج قوانينها، ثم استخدام تلك القوانين في حياة الإنسان، تحتاج إلى منهجٍ بحثي غير المنهج الذي كان قبل ذلك في النظر العلمي، عندما كان ذلك النظر مؤسَّسًا على الفكر الرياضي، الذي هو فكر يبدأ مما هو مُسلَّم به، ليستولد النتائج التي كمنت فيه، وتلك صفة لا تقتصر على علوم الرياضة وحدَها — من حساب وهندسة وجبر — بل تمتدُّ لتشمل ضروبًا أخرى من المعرفة العلمية التي إن لم تكن من تلك العلوم الرياضية في موضوعها ورموزها؛ فهي قائمة على منهجٍ واحد معها. وأما العلوم الطبيعية فشيء آخر موضوعًا ومنهجًا، ولقد كان لعلماء المسلمين الصدارة عندما كان النهج الاستنباطي لم يزل قائمًا، لا يُنافسه منهج آخر، ومن ثَم رأينا بينهم من نوابغ العلم نفرًا لمعَت نجومه وما تزال تلمع على صفحات التاريخ، سواء أكان ذلك في العلوم الرياضية بمعناها المباشر أم في العلوم الأخرى التي تصطنع المنهج الرياضي في طرائق استدلالها، كالفقه الإسلامي وغيره، فلما أن وُلد العلم الطبيعي الجديد، ليقرأ به العلماء كتاب العالَم بمنهجٍ جديد؛ قصر المسلمون دون اللَّحاق بالركب في عهده الجديد، فلم يشاركوا فيه إبداعًا وكشفًا وإنتاجًا، واكتفَوا — على أحسن الفروض — بالنقل عن أصحاب العلم الجديد نتائجهم التي يصِلون إليها ويُثبتونها في مؤلفاتهم، ثم يُجسِّدونها في صناعاتهم؛ وربما كان هذا القصور من جانب المسلمين، ليكون غير ذي وزن، لولا أن نتائج العلم الجديد أصبحت هي المصدر الأساسي للقوة والثراء والمعرفة؛ فلم يلبث تاريخ الإنسان طويلًا حتى سجَّل في كتابه أن العالم الإسلامي كله تقريبًا قد وقع في قبضة أصحاب العلم الجديد بمنهجه البحثي الجديد.
فماذا نريد للفكر الإسلامي أن يصنع إزاء هذا الموقف المرفوض؟ إننا نُريد شيئين: أولهما أن يُنصت جيدًا لصوت القرآن الكريم وهو يحثُّ المسلم على معرفة الكون، وماذا تكون تلك المعرفة في اكتمالها إلا أن تكون هي المعرفة العلمية بظواهر الكون — التي منها تُولَد العلوم التي نسمع عنها — ويدرسها أبناؤنا في الجامعات، لكننا لا نشارك في صنعها، كعلوم الفيزياء من علم للضوء وعلم للصوت وعلم للكهرباء وهكذا، كل ما يحتاجه العالم الإسلامي من علماء الفكر الإسلامي — في هذا الصدد — هو البيان بأن كتاب الله يأمر المسلمين القادِرين على العلم بالكون وظواهره، وأن طاعة المؤمن لِما قد أمر به الله هو عبادة. وأما الشيء الثاني الذي نتطلَّبه من علماء الفكر الإسلامي في هذا السبيل، فهو أن تتجه دعوتهم نحو أن يدخل المسلم عصره هذا، مقبلًا عليه بعقله وقلبه، لا رافضًا أو نافرًا، لكنه في الوقت نفسه، إذا ما دخل عصره مشاركًا في بنائه ونشاطه، سيجد ما يكمُن في أصلابه من عوامل الضعف التي تنعكس آثارها فيما نراه من ألوان الشقاء في حياة الإنسان النفسية والعملية على حدٍّ سواء؛ ما أدى إلى عِلَلٍ يعرف بوجودها وبضراوتها رجال الفكر المعاصر جميعًا، ويذكرون منها: القلق، والتمزُّق، واليأس، والعنف، والاغتراب، وما إلى ذلك من قائمةٍ طويلة. وها هنا سيجد المسلم في أجلى وضوح كيف يمكن أن يكون علاج ذلك كله في جوهر العقيدة الإسلامية، ولكن كيف؟
إن رسالة الإسلام الأولى هي «التوحيد»؛ التوحيد بجانبَيه «الواحدي» و«الأحدي» معًا؛ فأول شروط الإسلام شهادة ألا إله إلا الله، فليس لله سبحانه وتعالى شريك في ملكه.
إذن، فهذا جانب من التوحيد يُشير إلى الناحية العددية منه، وأما الجانب الآخر، الذي يتجلَّى في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ؛ فيشير إلى أحدية تظهر في اتساق الوجود الإلهي، وعدم انقسامه على نفسه، ومن ثَم كان سبحانه وتعالى هو «الله الصمد» الذي يصمد وجوده الواحدي من الأزل إلى الأبد، ذلك هو الأساس الأول في عقيدة المسلم، وهو أساس إن لم يتناوله الفكر الإسلامي بالشرح الطويل الواسع العميق، ظلَّ عقيدةً في قلب المؤمن، لا يكاد يطير لها أثر في صور الحياة العلمية التي يحياها. وأما إذا استُخرجت أعماقها ليراها من آمن بها، اختلف معه الشأن اختلافًا جوهريًّا؛ ومن تلك الأعماق، أن يشعر المُسلم المؤمن حقًّا برسالة دينه، بأن وحدانية الله وأحدِيَّته تتجلى في الكون العظيم بأجزائه وظواهره، كما تتجلَّى في الفرد الواحد من الناس إذا جاء سويًّا في تكوينه، وتتجلى — نتيجةً لتكامُل الأفراد إذا تحقق — في المجتمع الذي هم أعضاؤه، أسرة كان أم شعبًا أم أمَّة بأسرها، فأما واحدية الكون العظيم وأحديته، اللتَين هما انعكاس لصفات خالقه بديع السماوات والأرض؛ فلن يراهما إلا العلماء الدارسون؛ وإن هؤلاء ليرَونها بمقدار ما علموا ودرسوا؛ وذلك أن العين المُجردة في براءتها وسذاجتها، إذ ترى فيما حولها تلك الكثرة الهائلة من الأشياء وعناصرها، تحسب أن تلك الكثرة تعدم ما يُوحِّدها، حتى إذا ما أخذت العين تُبصر الأمر وتعلمه على حقيقته؛ وجدت كل شيءٍ مُرتبطًا بكل شيء، ولا يتَّسع مجال القول هنا لتفصيل ذلك، وهو موضوع يقع في صميم الفكر الإسلامي في آفاقه الجديدة. ولمَّا كانت تلك الوحدة الضامَّة للكائنات جميعًا في كون واحد، إنما هي وحدة تُوصَف على سبيل التقريب والتشبيه، بأنها وحدة «عضوية» بين الأجزاء؛ أي إنها وحدة تُشبه الوحدة في الكائن الحي، ثم هي وحدة تبلغ ذروة تَسامِيها في الإنسان، رغم أنه أشد الكائنات تركيبًا لعناصر وجوده، وقُل هذا — بالتالي — على صور المجتمعات التي يكون فيها الإنسان الفرد عضوًا من أعضائها.
فإذا عرفنا أن الكثرة الغالبة من عِلل العصر ومواضع قصوره، ترجع آخر أمرها إلى تفسُّخ في «وحدة» الإنسان فردًا ومجتمعًا، بحيث لم يعد الفرد الواحد متكامل الرؤية؛ لأنه لم يعد قادرًا على جمع المختلفات في كيانٍ واحد، فهو في دخيلة نفسه مُنقسم على نفسه، يعمل ما ليس يدري له أولًا من آخر، فلماذا يعمل ما يعمله؟ وإلى أي نتيجةٍ ينتهي؟ إنه يعجز عن الجواب، وهو موقف إذا اتسع؛ أصبح موقفًا يشمل الحياة بأسرها: فلماذا هو يسعى؟ وإلى أي شيء يسعى؟ إنه يعجز عن الجواب، إلا الذين آمنوا إيمانًا بصيرًا؛ فهم الذين يوحدون الأطراف التي تبدو متباعدة متنافرة، وإذا هي توحدَّت أمامهم؛ ظهر معناها، فمن ذا الذي يستطيع الوصول إلى أعماق هذه الفكرة، أكثر مما يستطيعه مُفكر إسلامي بُنِيت عقيدته الدينية أساسًا على مبدأ التوحيد؟ على أن الأمر في ذلك، إذا ما جعله الفكر الإسلامي الجديد هدفًا من أهدافه؛ فلا يقتصر على مؤلَّفاتٍ تُؤلَّف لتُوضَع في خزائن الكتاب، بل لا بدَّ أن يتسرَّب مضمونها قطرة قطرة إلى «التربية» في الأسرة، وفي المدرسة، وأن يسمع ويشاهد مجسدًا فيما يذاع في الناس من عوامل التثقيف.
لقد أدار عصرنا حياته الفكرية على محورٍ مشترك بين مختلف التيارات الثقافية في العالم، وأعني في أقطار العالم التي هي مسئولة قبل غيرها عن توجيه العصر في مساره الذي يسير فيه؛ وذلك المحور المشترك، الذي يظهر لنا واضحًا من شتَّى المذاهب الفكرية، حتى وإن بدت في ظاهرها مختلفةً بعضها عن بعض، هو أن «الإنسان» يجب أن يكون هدفًا أسمى، بإنسانيته التي هي ما هي كما يعرفها كل فرد منا في ذاته؛ ومن هذا المدخل يمكن للفكر الإسلامي أن يدخل رائدًا وهاديًا، بادئًا بسؤال عن حقيقة هذا الإنسان ما هي؟ فإذا استلهم المُفكر المسلم أصول عقيدته، وجد للإنسان صورة ينبغي أن يعرفها العصر، كلما جعل «الإنسان» هدفًا للبنيان الحضاري كله، وللأنشطة الثقافية بأسرها. ومرة أخرى نُكرر الشرط الموجب لأن يعمل الفكر الإسلامي على التسلل بنتائج فكره هذا، في مجالات التربية والتثقيف؛ ليتحول الفكر المجرد إلى عاداتٍ سلوكية في حياة الجيل الناشئ.
لقد كان محمد إقبال، بكتابه «تجديد الإسلام» نجمًا من ألمع النجوم بريقًا في سماء الفكر الإسلامي الحديث؛ ولعلَّ أبرز حقيقة مما أورده في ذلك الكتاب هي دور «العقل» في حياة المسلم، كما أرادها له القرآن الكريم؛ فلقد كان الإسلام هو الديانة الوحيدة التي أحالت الإنسان إلى «عقله» فيما تستحدِثه له الحياة من مشكلات، ومن هنا كان الإسلام آخر الرسالات الدينية؛ لأن الرسالة بعد ذلك أصبحت المنوط بها عقل الإنسان، وإذا أخذنا باحتكام الإنسان إلى عقله، فقد اعترفنا ضمنًا بضرورة احتكامه إلى «العلم» بما يكشفه عن حقائق العالم بمنهجه في البحث، وهو منهج فصَّلَتِ القول فيه الكتب المُختصة بهذا الجانب من الفكر العلمي، وحسبنا هذه اللفتة «الإقبالية»؛ لنتَّجه بالفكر الإسلامي نحو آفاقه الجديدة.